المكونات الأساسية للدين
إن النظرة الفاحصة إلى تاريخ وجغرافية دين الإنسان، تكشف لنا عن بنية موحدة للدين، أنى وأين التَقينا به كظاهرة ثقافية رائدة. تقوم هذه البنية على عدد من العناصر أو المكونات، بعضها أساسي لا نستطيع التعرف على الظاهرة الدينية بدونه، وآخر ثانوي لا يلعب دورًا حاسمًا في تكوين الدين، أو في تعرُّفنا على الظاهرة الدينية. وسنلتفت في هذا الفصل إلى المكونات الأساسية، وهي ثلاثة: المعتقد والطقس والأسطورة.
(١) المعتقد
هو أول أشكال التعبيرات الجمعية عن الخبرة الدينية الفردية التي خرجت من حيز الانفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني. ويبدو أن توصل الخبرة الدينية إلى تكوين معتقد هو حاجة سيكيولوجية ماسَّة؛ لأن المعتقد هو الذي يعطي للخبرة الدينية شكلها المعقول، الذي يعمل على ضبط وتقنين أحوالها. فبعد تلك المواجهة الانفعالية مع القدسي في أعماق النفس، يتدخل عقل الإنسان من أجل صياغة مفاهيم من شأنها إسقاط التجربة الداخلية على العالم الخارجي، وموضعه القدسي هناك. وهنا يتم فرز موضوعات معينة، أو خلق شخصيات وقوًى معنوية، تستقطب الإحساس بالمقدس وتجتذبه إلى خارج النفس؛ وبذلك تتكون الصيغ الأولية للمعتقدات، وندلف إلى ذلك الهيكل السامق الذي ندعوه بالدين.
والمعتقد الديني هو شأن جمعي بالضرورة. وكما أشرت منذ قليل، فإن عقول الجماعة تعمل على صياغته، كما تعمل الأجيال المتلاحقة على صقله وتطويره؛ فما من خبرٍ وصلنا عن أهل الديانات القديمة يفيد بأنهم أخذوا معتقدهم جاهزًا عن جهةٍ ما أو شخص بعينه. فشعوب سومر وأكاد مثلًا، وكنعان ومصر واليونان، قد تركت لنا مدونات عن معتقداتها وأساطيرها وصلواتها، دون أن تذكُر شيئًا عن صدور دياناتها عن كاهن أو عرَّاف أو متنبئ من أي نوع؛ وأسفار الفيدا السنسكريتية المغرِقة في القِدم ما زالت تمارس تأثيرها العميق على الطوائف الهندوسية في الهند، دون أن يعرف أحدٌ مصادرها والتواريخ الدقيقة لتدوينها؛ ومعتقدات الشعوب البدائية في أستراليا وميلانيزيا وغيرهما كانت دومًا موجودة بالنسبة لأهلها، ولا يجوز البحث عن بداية لها أو مصدر لأنها تعكس الحقائق الأزلية التي لا تجوز مناقشتها. فإذا كان لا بد من تصوُّر بداية ما للمعتقد، فإن هذه البداية توضع في الأزمنة الأسطورية السابقة لظهور الإنسان، أو الأزمنة القدسية التي رافقت ظهور الجماعات البشرية الأولى.
وهذا ما يقودنا إلى إقرار حقيقة تاريخية ثابتة، وهي أن ظاهرة مؤسسي الديانات من الأفراد هي ظاهرة حديثة نسبيًّا، ومعلوماتنا عنها لا تؤهلنا لمتابعتها إلى ما وراء القرن السادس قبل الميلاد. ففي النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد عاش زرادشت الإيراني، وبشَّر بمعتقد جديد كل الجدة على الثقافة الإيرانية. وفي النصف الثاني من القرن نفسه ظهر البوذا في الهند، ولاوتسي مؤسس التاوية في الصين. وليس من المصادفة أن يتزامن ظهور هؤلاء المفكرين الأفراد في المشرق مع ظهور نوع آخر من المفكرين الأفراد في الغرب، هم مؤسسو الفلسفات الفردية، في المناطق ذات الطابع اليوناني في غرب آسيا الصغرى، وفي أرض اليونان نفسها والجُزر المتوسطية القريبة منها. ففي أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد ظهرت المدرسة الملطية في آسيا الصغرى، وفي أواسط القرن السادس ظهر فيثاغورث أول عباقرة الفلسفة المدعوة بالإغريقية، وتبعه هرقليطس وزينوفان وبارمنديس. ومع سقراط الذي وُلد عام ٤٧٠ق.م. تدخل الفلسفة الإغريقية مرحلة نضجها وعطاءاتها الكبيرة.
والمعتقد شأنٌ جمعي لأكثر من سبب؛ فأولًا من غير الممكن أن يقوم كل فرد من أفراد الجماعة بصياغة معتقد خاص به، بما يستدعي ذلك من سلوك وأفعال سوف تتضارب حتمًا مع ما يبادر به الآخرين. وثانيًا أن دوام واستمرار أي معتقد يتطلب إيمان عدد كبير من الأفراد به، وإلا اندثر وفقد تأثيره حتى في نفس صاحبه. من هنا نفهم لماذا يسعى مؤسسو الأديان وأصحاب الفلسفات الكبرى إلى التبشير بأفكارهم بين الناس وحثهم على اعتناقها؛ ذلك أنهم يجدون في هذا السعي ضمانتهم الوحيدة لحياة معتقداتهم واستمرارها. ويتناسب سعي المُبشر طردًا مع مدى اقتناعه بأنه قد وضع يده على الحقيقة المطلقة. ولنا في سيرة «ماني» مؤسس الديانة المانوية التي انطلقت من بابل أواسط القرن الثالث الميلادي خير دليل على ذلك؛ فعندما عاود الوحي السماوي ماني (على ما يذكره أتباعه ومؤرخو سيرته) وهو في الرابعة والعشرين، هبَّ للتبشير بمعتقده مرتحلًا ما بين الهند ومصر، ولم تهدأ حركته حتى أعدمه الملك الفارسي بهرام سنة ٢٧٦ ميلادية. وهنالك وصف لماني في الكتابات المسيحية من تلك الفترة تصفه في تجواله، يرتدي سروالًا واسعًا أصفر اللون وعباءة زرقاء وبيده عصًا طويلة من الأبانوس، متأبطًا تحت ذراعه على الدوام كتابًا خطه بنفسه باللغة البابلية (وهي الآرامية المشرقية في ذلك الوقت).
إن آلهة المعتقدات بحاجة إلى البشر حاجةَ البشر إليها، وآلهة الإنسان القديم كانت تستمد حياتها من الناس الذين يحملونها في أفكارهم، كما كان الناس يستمدون منها طاقةً روحية تُعينهم على الاستمرار في الحياة. فما تحتاجه الآلهة من الناس حقًّا هو الأفكار، أفكارهم عنها، أما العبادات والطقوس فلا تُقدم للآلهة شيئًا يُذكَر إلا بمقدار ما تديم الذِّكر وتنعش الفكر الذي يحمل صورها.
يتألف المعتقد عادةً من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان، وغالبًا ما تُصاغ هذه الأفكار في شكل صلوات وتراتيل؛ فضمن هذا الشكل من الأدب الديني نستطيع البحث عن المعتقدات الأصلية والمباشرة لجماعة من الجماعات. ولسوف أسوق فيما يأتي، ولغرض التوضيح العملي، صورةً حية عن معتقد مُصاغ في ترتيلة مشهورة تُعتبر من عيون الأدب الديني القديم، وتُعرف ﺑ «الترتيلة الطويلة» للفرعون أخناتون، والمرفوعة إلى إلهه الأوحد «آتون»؛ الطاقة الكونية المتمثلة في قرص الشمس. وهذه الترتيلة هي ثانية ترتيلتين هما كل ما وصلنا من تراث الآتونية المكتوب، إضافة إلى عدد من نصوص القبور التي تركها أتباع الفرعون.
إن ابتعاد المعتقد الآتوني عن التعبير عن نفسه من خلال الميثولوجيا واضح في هذه الترتيلة، التي لم تحتوِ على أية إشارة إلى أساطير تكوين وخلق وأصول، شأنها في ذلك شأن أختها المعروفة باسم «الترتيلة القصيرة». كما نستنتج خلو الآتونية من الأساطير، من قراءتنا لنصوص القبور التي تركها الأتباع المقربون للفرعون، فهذه تبتعد بدورها عن أية إشارة إلى أساطير تتعلق بالموت والعالم الآخر، مما هو معروف في غيرها من نصوص القبور المصرية. ولعلنا واجدون في الأعمال التشكيلية التي خلقتها لنا فترة حكم أخناتون برهانًا إضافيًّا على نفور الآتونية من الميثولوجيا.
فالإله آتون لم يُصوَّر بتاتًا في هيئة مشخصة، وإنما اكتفى النحَّات أو الرسَّام بإظهار رمزه التشكيلي، وهو عبارة عن قرص الشمس الملتهب وقد انبعثت أشعته في كل اتجاه، وكل شعاع ينتهي بكفٍّ توزع الخير والبركة. وفيما عدا ذلك فإن الفن التشكيلي قد خلا من المشاهد الدينية ذات الخلفية الأسطورية، واقتصر على تصوير المشاهد الدنيوية البحتة. ويبدو لعين المتفحصين لهذه الأعمال الفنية، أنها قامت بالفعل على فلسفة جمالية أقرب ما تكون إلى فلسفة الفن الإغريقي اللاحق، الذي احتفل بالجمال الأرضي وجعل من الإنسان بؤرة اهتمامه. ولعل غياب الأسطورة في الديانة الآتونية هو أمرٌ تستدعيه طبيعة معتقدها؛ فالوظيفة الدينية للأسطورة هي توضيح صور الآلهة وتزويدها بسيرة حياة، وشجرة نسب، وتبيان دورها في عالم الإنسان، مما سوف نوضحه بعد قليل. أما إله أخناتون، فرغم مخاطبته مجازًا بالإله الواحد، فإن كل طرائق التعبير عن وجوده وطبيعته وعلاقاته بعالم الناس، لتشير إلى كونه طاقةً غفلة غير مشخَّصة، ومبدأً كامنًا عند جذور عالم الظواهر. ومثل هذه الألوهة تستبعد بطبيعتها أي نظام ميثولوجي؛ لأنها لا تتطلب التشخيص والتمثيل والتشبيه.
(٢) الطقس
تولِّد الخبرة الدينية المباشرة حالة انفعالية قد تصل في شدتها حدًّا يستدعي القيام بسلوكٍ ما، من أجل إعادة التوازن إلى النفس والجسد اللذين غيَّرت التجربة من حالتهما الاعتيادية. ولعل الإيقاع الموسيقي والرقص الحر كانا أول أشكال هذا السلوك الاندفاعي الذي تحوَّل تدريجيًّا إلى طقس مقنَّن. ويترافق تقنين الطقس وتنظيمه في أُطر محدَّدة ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية وضبطها في معتقدات واضحة يؤمن بها الجميع، ويرون فيها تعبيرًا عن تجاربهم الفردية الخاصة؛ وبذلك يتحول الطقس من أداء فردي حر إلى أداء جمعي ذي قواعد وأصول مرسومة بدقة، ويتم ربط الطقس بالمعتقد بدل ارتباطه بالخبرة الدينية المباشرة. ومع ذلك، فقد يتعايش هذان النوعان من الطقوس في الثقافة الواحدة، حيث يقوم الطقس الحر جنبًا إلى جنب مع الطقس المنظم، بسبب قصور الطقوس المنظمة عن سد حاجة نوع معين من الأفراد ذوي الحساسية الشديدة للتجربة الدينية الفردية. فإذا كانت الصلاة في المعابد وإنشاد التراتيل فيها هي النموذج الأكثر شيوعًا للطقس المنظم، فإن لنا في حلقات الصوفية وما يؤدى فيها من موسيقى إيقاعية ورقص وتواجد، خير مثال على الطقس الحر الذي لا يرتبط بالمعتقدات الجمعية المؤسسة، بل بالخبرة الدينية العميقة المباشرة. ومن الجدير بالذكر هنا، أن هذا النوع من الطقس الحر، رغم كونه قد نشأ أصلًا عن الخبرة الدينية المباشرة، إلا أنه غالبًا ما يكرر فيما بعدُ من أجل استعادة هذه الخبرة نفسها وإحداث أثرها في النفس بشكل إرادي؛ فمن خلال رقصات معينة وموسيقى إيقاعية خاصة وتَكرار صيغ كلامية ذات أثر خاص في النفوس، يمكن للأفراد المستغرِقين في الأداء الانتقال إلى مستوياتٍ غير اعتيادية للوعي، واستعادة الحالة الوجدية التي تحتل ساحة الشعور تلقائيًّا في التجربة المباشرة التي تحدث في الأصل دون استنهاض مصطنَع.
يرسم المعتقد صورًا ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم القدسية، ولكن الأفكار وحدها لا تصنع دينًا بالغةً ما بلغت من وضوحها واتساقها، بل قد تُشكل في أفضل أحوال اتساقها فلسفةً دينية. وأعُود هنا للاستشهاد بمثال الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة، التي اشتدَّ عودها في المشرق العربي إبان القرن الثالث الميلادي؛ فهذه الفلسفة قد جعلت من الإلهيات بؤرة اهتمامها، وكانت أفكارها مهيَّأة لأن تكون أساسًا مكينًا لديانةٍ كبرى في ذلك الوقت، ولكنها لم تُحقق هذه الخطوة رغم طموحها الضمني لتحقيقها؛ وذلك بسبب افتقارها إلى نظام طقسي، يضع الإنسان في علاقة مع العوالم القدسية التي صاغ المعتقد صورتها الذهنية، فبقيت هذه العوالم صورًا ذهنية باردة تعيش في عقول أتباع هذه الفلسفة لا في قلوبهم. إننا لا نتحول من الفلسفة إلى الدين (وأنا أفترض هنا أن كل تفكير متسق هو فلسفة) إلا عندما يدفعنا المعتقد إلى سلوك وإلى فعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، ومن التفكير في العوالم المقدسة إلى اتخاذ مواقف عملية منها؛ فنتقرب منها أو نسترضيها أو نُسخر قُواها لمصلحتنا أو نكف غضبها عنا … إلخ. فإذا كان المعتقد حالةً ذهنية، فإن الطقس حالة فِعل من شأنها إحداث رابطة. وإذا كان المعتقد مجموعة من الأفكار المتعلقة بعالم المقدسات، فإن الطقس مجموعة من الأفعال المتعلقة بأسلوب التعامل مع ذلك العالم، إنه اقتحام على المقدس وفتحُ قنوات اتصال دائمة معه.
وبشكلٍ عام يمكن القول بأن أية صورة ذهنية لا تخرج من عالم الفكر إلى عالم الفعل، هي صورة معرَّضة للتحجر أو التلاشي والزوال. وبما لهذا السبب يتم تذكير الجنود في ثكناتهم يوميًّا بفكرة الوطن، من خلال ممارسة يومية هي أقرب إلى الطقس الديني بشكلها ومضمونها. إن كل من مارَس أو شاهد في القطعات العسكرية الإجراء المتعلق بتحية العَلم الصباحية والمسائية، حيث يُرفع العَلم بحضور جميع أفراد القطعة صباحًا، وينزل مساءً على صوت البوق، يدرك المعاني الكبيرة التي تنمو في النفوس من جرَّاء القيام بهذا الطقس الدنيوي اليومي. ولعلنا واجدون الشيء نفسه في موقف المجتمع من فكرة الشهادة وإجلال الشهداء؛ فنحن مهما تحدَّثنا عن مكانة الشهداء في قلوبنا وتقديرنا لهم، لا نستطيع أن نفِي ذلك حقه كما يفيه طقس وضع أكاليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في مناسبات معينة. وأكثر من ذلك، فإن مفهوم الوطن القومي وصورته في عقول المواطنين، لا ترسخه الأفكار قدر ما ترسخه الطقوس. فنحن نستطيع أن نتحدث في كُتب التعليم وعبر وسائل الإعلام عن فكرة الوطن ومفهوم المواطنية، ولكن احتفالًا قوميًّا واحدًا يلتقي فيه الناس في الشوارع فيهتفون ويزغردون ويرقصون بمصاحبة الأناشيد القومية ويُلوِّحون بالأعلام والشعارات، من شأنه تثبيت فكرة الوطن القومي وإضرام نار الانتماء إليه أكثر من كل الكتب والتعاليم. ولقد أدرك المشرِفون على وسائل الإعلام في الأنظمة القومية الفاشية هذا الميل النفسي بكل دهاء. ففي ألمانيا النازية، عمد دهاقنة الإعلام إلى تصميم عدد متنوع من الطقوس لفئات الشبيبة النازية؛ فمن الألبسة والشارات المميزة لكل فصيل، ورفع اليد بالتحية المعروفة، إلى الأناشيد الحماسية تُنشد «ألمانيا فوق الجميع»، إلى موسيقى فاغنر تُعزَف في المناسبات وقد أُلبست ثوبًا قوميًّا عصريًّا، إلى احتفالات المشاعل الليلية وما إليها. وتمَّت الإفادة من هذه المظاهر والاحتفالات الجمعية إلى درجة يمكن القول معها بأن الأيديولوجية النازية لم تنتشر عن طريق التبشير النظري الساذج، قدر انتشارها عبر التصميم المتقَن لطقوس قومية لها صفة الهوس الديني.
استنادًا إلى ما تقدَّم يمكن القول بأن الطقس ليس فقط نظامًا من الإيماءات التي تُترجم إلى الخارج ما نشعر به من إيمان داخلي، بل هو أيضًا مجموعة الأسباب والوسائل التي تعيد خلق الإيمان بشكلٍ دوري؛ ذلك أن الطقس والمعتقد يتبادلان الاعتماد بعضهما على بعض؛ فرغم أن الطقس يأتي كناتج لمعتقدٍ معيَّن فيعمل على خدمته، إلا أن الطقس نفسه ما يلبث حتى يعود إلى التأثير على المعتقد فيزيد من قوته وتماسكه، بما له من طابع جمعي يعمل على تغيير الحالة الذهنية والنفسية للأفراد. وهذا الطابع هو الذي يُجدد حماس الأفراد ويعطيهم الإحساس بوحدة إيمانهم ومعتقدهم. فالطقس، رغم قيامه على مجموعة من الإجراءات المرتبة والمنسقة مسبقًا، والتي تم القيام بها مرارًا وتكرارًا، إلا أنه يبدو جديدًا كلما أكَّدت الجماعة على الأداء المشترك له. لهذه الأسباب يظهر الطقس للمراقب باعتباره أكثر عناصر الظاهرة الدينية بروزًا، ويقدم نفسه كأول معيار نُفرق بواسطته الظاهرة الدينية عن غيرها من الظواهر؛ لأن الدين لا يبدو للوهلة الأولى نظامًا من الأفكار، بل نظامًا من الأفعال والسلوكات، والمؤمن ليس إنسانًا قد أضاف إلى معارفه مجموعة من الأفكار الجديدة، بل هو إنسان يسلك ويعمل بتوجيه من هذه الأفكار.
(٣) الأسطورة
من هنا يمكن القول بأن القدماء لم يضعوا لأنفسهم تمييزًا لغويًّا دقيقًا لتلك المجموعة من الأعمال الأدبية التي نصنِّفها الآن تحت عنوان الميثولوجيا، ولا هم عُنوا بتفريقها عن بقية الأجناس الأدبية، وذلك رغم توكيدهم على اختلافها وخصوصيتها. فكيف نستطيع اليوم أن نميز بين النص الأسطوري والنص العادي، وما هي المعايير التي تساعدنا على إجراء مثل هذا التمييز؟
-
(١)
من حيث الشكل، الأسطورة هي شكل من أشكال الأدب الرفيع، فهي قصة تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها. وفي الثقافات العليا، جرت العادة أن يصاغ النص الأسطوري في قالب شعري يساعد على ترتيله وتداوله شفاهة بين الأفراد وعبر الأجيال، ويزوده بسلطان على العواطف والقلوب.
-
(٢)
وهي قصة تقليدية، بمعنى أنها تحافظ على ثبات نسبي، وتتناقلها الأجيال بنصها عبر فترة طويلة من الزمن طالما حافظت على طاقتها الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة. فأسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل، وهي أسطورة سومرية من أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، قد استمرَّت في صيغتها الأكادية المطابقة تقريبًا للأصل السومري حتى أواسط الألف الأول قبل الميلاد، حيث عُثر على نسخة منها في مكتبة آشور بانيبال.
-
(٣)
ليس للأسطورة زمن؛ أي إنها لا تقصُّ على حدث جرى في الماضي وانتهى، بل عن حدث ذي حضور دائم. فزمانها والحالة هذه زمنٌ ماثل أبدًا لا يتحول إلى ماضٍ. إن الإله تموز الذي قُتل ثم بُعث إلى الحياة، إنما يفعل ذلك في كل عام؛ إذ يُقتل في الصيف ويُبعث إلى الحياة في الربيع. والإله مردوخ، الذي خلق الكون ونظَّمه في الأزمنة المقدسة الأولى، إنما يفعل ذلك في كل عام ومع بداية السنة الجديدة، حيث يقوم بإعادة خلق الكون وتجديده. وصراع الإله بعل مع الحية لوتان ذات الرءوس السبعة وقتله لها، هو صراع دائم بين قوى الخير والحياة، وقوى الشر والموت. وعندما لا يكون للحدث الأسطوري هذا الطابع الدوري المتكرر والواضح، فإن مضمون الأسطورة يعبر عن حقيقة أزلية متخللة في حياة البشر لا يطالها تغيير؛ فأسطورة خلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدم إله قتيل، هي تأسيس لفكرة الطبيعة المزدوجة للإنسان وتكوينه من عنصر مادي وآخر روحاني. وحتى عندما تشير الأسطورة صراحةً إلى حدث مؤطر في الزمن ومحدد في التاريخ، فإن مراميها البعيدة تكمن خارج الزمن وتتخذ صفة الحضور الدائم، ونموذج هذا النوع أسطورة الطوفان الرافدية؛ فرغم أن السومريين قد اتخذوا حدث الطوفان، الذي أبلغت عنه الأسطورة، نقطة في التاريخ يؤرخون بها لما حدث قبلها في تاريخهم وما حدث بعدها، إلا أن فحوى الأسطورة لم يكن زمنيًّا بالنسبة إليهم، والطوفان الذي دمَّر الأرض من حولهم مرةً هو نذيرٌ دائم بسطوة القدر، وتحذير من الغضب الإلهي البعيد عن أفهام البشر، ومن الاطمئنان إلى استمرارية الشرط الإنساني وثبات الأحوال. إن ما يميز الحدث الأسطوري عن غيره هو ذلك الحضور الدائم للحدث أو لمراميه الحقيقية.
-
(٤)
تتميز موضوعات الأسطورة بالجدية والشمولية؛ فهي تدور حول المسائل الكبرى التي ألحَّت دومًا على عقل الإنسان، مثل الخلق والتكوين وأصول الأشياء والموت والعالم الآخر وما إلى ذلك من قضايا آلت إلى الفلسفة فيما بعد.
-
(٥)
يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة؛ فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان دوره مكملًا لا رئيسيًّا.
-
(٦)
لا يُعرَف للأسطورة مؤلف معيَّن؛ لأنها ليست نتاج خيال فردي أو حكمة شخص بعينه، بل هي ظاهرةٌ جمعية تُعبِّر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها. ولا يمنع هذا الطابع الجمعي أن يقوم الأفراد بإعادة صياغة الحكايات الأسطورية وفق صنعة أدبية تتماشى وروح عصرهم.
-
(٧)
تتمتع الأسطورة بقدسية وبسلطةٍ عظيمة على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي تمتَّعت بها الأسطورة في الماضي لا يُدانيها سوى سطوة العلم في العصر الحديث؛ فنحن نؤمن بوجود الجراثيم وبقدرتها على تسبيب المرض، سواء رأيناها تحت المجهر أم لا؛ وذلك لأن العلم قد أثبت وجودها، كما أننا نؤمن بالطريقة نفسها بأن المادة مؤلفة من جزيئات وذرَّات، وأن الكون مؤلف من مليارات المجرات … إلخ. وفي العالم القديم لم يرَ الشياطين أو الآلهة سوى قلة من الكهنة في أحلامهم أو في نوبات الوجد التي تعتريهم، ومع ذلك آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، وكان الكفر بمضامينها كفرًا بكل القيم التي تشدُّ الفرد إلى جماعته وثقافته، وفقدانًا للتوجه السليم في الحياة.
-
(٨)
ترتبط الأسطورة بنظام ديني معيَّن، وتتشابك مع معتقدات ذلك النظام وطقوسه المؤسسة، وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورة إذا انهار النظام الذي تنتمي إليه، وتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الشبيهة بالأسطورة، مثل الحكاية الخرافية والقصة البطولية، وقد تدخل بعض عناصرها في الحكاية الشعبية.
اعتمادًا على الوصف الذي قدمته أعلاه أستطيع أن أخلص إلى ما يشبه التعريف، فأقول بأن الأسطورة هي «حكاية مقدَّسة مؤيَّدة بسلطانٍ ذاتي». والسلطان الذاتي للأسطورة هنا لا يأتي من أية عوامل خارجة عنها، بل من أسلوب صياغتها وطريقة مخاطبتها للجوانب الانفعالية وغير العقلانية في الإنسان. وما زلنا حتى اليوم، نحن أهل دولة العقل العالمية هذه، نشعر بسلطان الأسطورة يغمرنا كلما وقفنا بين يديها دون أن ندري لذلك سببًا.
من هنا تأتي أهمية ميثولوجيا التكوين في أديان الشعوب، وعلو شأن أسطورة الخلق في النظم الميثولوجية. إن العمل الأول الذي يقوم به الإله الأكبر هو خلق العالم والخروج به من عماء اللاتمايز المكاني والزمن الراكد إلى الوضوح وعالم الحركة والفعل، عالم الزمن الدينامي. فهذا الإله إنما يبتكر نفسه بابتكاره للكون، ويبدأ تاريخه الخاص إذ يبتدر مظاهر هذا الكون. لذلك كانت أسطورة التكوين البابلية هي سيدة أساطير تلك الثقافة؛ فعندما «لم يكن هنالك سماء في الأعالي، ولم يكن هنالك أرض في الأسفل»، كما يقول مطلع الأسطورة، لم يكن هناك سوى آلهة العماء القابعة وراء الزمن، والمعارِضة لأية حركة أو فعل، ثم جاء الإله الخالق مردوخ ليبتدئ سيرة حياته مع سيرة حياة الكون الذي أخرجه من لجَّة العماء البدئي؛ ولذلك أيضًا تتصدر أسطورة التكوين التوراتية الصفحة الأولى من كتاب «العهد القديم». «ففي البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف فوق وجه المياه»، كما يقول مطلع سفر التكوين، أما ما كان قبل ذلك فلا نعرف عنه شيئًا، ولا عما كان يفعله «يهوه» قبل أن يشرع في خلق السموات والأرض.
«مبدأ العالم كونان؛ أحدهما نور والآخر ظلام، كلٌّ منهما منفصل عن الآخر. فالنور هو العظيم الأول — ليس بالعدد — وهو الله ملك جِنان النور، وله خمسة أعضاء هي الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وخمسة أُخر روحانية هي الحب والإيمان والوقار والمروءة والحكمة. وهو بصفاته هذه أزلي، ومع شيئين أوليين هما أرض النور وجو النور، وأعضاء جو النور خمسة هي الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وأعضاء أرض النور هي النسيم والريح والنور والماء والنار. أما الكون الآخر، وهو الظلمة، فأعضاؤه خمسة، وهي الضباب والحريق والسَّموم والسُّم والظلمة.
وحدث لما شابك إبليس القديم بالإنسان القديم بالمحاربة، أن اختلط من أجزاء النور الخمسة بأجزاء الظلمة الخمسة؛ فخالط الدخان النسيم، فمنها هذا النسيم الممزوج؛ فما فيه من اللذة والترويح عن الأنفس وحياة الحيوان فمن النسيم، وما فيه من الهلاك والإيذاء فمن الدخان. وخالط الحريق النار، فمنها هذه النار؛ فما فيها من الإحراق والهلاك والفساد فمن الحريق، وما فيها من الإضاءة والإنارة فمن النار. وخالط النور الظلمة، فمنها هذه الأجسام الكثيفة مثل الذهب والفضة وأشباه ذلك؛ فما فيها من الصفاء والحُسن والنظافة فمن النور، وما فيها من الدرن والكدر والغلظ والقساوة فمن الظلمة. وخالط السموم الريح، فمنها هذه الريح؛ فما فيها من المنفعة واللذة فمن الريح، وما فيها من الكرب والتعوير والضرر فمن السموم. وخالط الضباب الماء، فمنها هذه الماء؛ فما فيها من الصفاء والعذوبة والملاءمة للأنفس فمن الماء، وما فيها من التغريق والتخنيق والإهلاك والثقل فمن الضباب.
فلما اختلطت الأجناس الخمسة الظلمية بالأجناس النورية، نزل الإنسان القديم إلى غور العمق فقطع أصول الأجناس الظلمية لئلا تزيد، ثم انصرف إلى موضعه من الناحية الحربية، فأمر بعض الملائكة باجتذاب ذلك المزاج إلى جانب من أرض الظلمة يلي أرض النور، فعلقوهم بالعلو. وبعد ذلك أمر ملك عالم النور بعض ملائكته بخلق هذا العالم وبنائه من تلك الأجزاء الممتزجة، من أجل تخليص أجناس النور من أجناس الظلمة، فبنى عشر سموات وثماني أرضين، ووكل ملكًا بحمل السموات وآخر برفع الأرضين، وجعل حول هذا العالم خندقًا ليطرح فيه الظلام الذي يستصفى من النور، وجعل خلف ذلك الخندق سورًا لكيلا يذهب شيء من تلك الظلمة المفردة عن النور، ثم خلق الشمس والقمر لاستصفاء ما في العالم من النور، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر وسائر النجوم تستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد. وهكذا فأجزاء النور أبدًا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدًا في النزول والتسفل، حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، فيبطل الامتزاج وتنحل التراكيب، ويصل كلٌّ إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والمعاد.
قد لا تُقابل هذه الأسطورة كل المعايير التي أوردتها سابقًا، ولكنها بالتأكيد مثالٌ ناصع على ارتباط الأسطورة بالمعتقد ارتباطًا يصعب معه الفصل بينهما في بعض الأحيان.
•••
المعتقد والطقس والأسطورة، هذه هي المقومات المكونة للدين، والتي لا نستطيع التعرف على الظاهرة الدينية في تبدِّيها المجتمعي، بدون التعرف عليها مجتمعة ومتعاونة. إن الحالة المثالية هي الحالة التي لا يطغى فيها أحد هذه العناصر على العناصر الأخرى، ولكن واقع الأمور لا يضعنا إلا فيما ندر أمام مثل هذه الحالة المتوازنة، ومعظم الأديان يُبدي تفوقًا لأحد هذه العناصر على الأخرى؛ ففي تعاليم بوذا الأصلية، والتي استمرَّت فيما عُرف إلى اليوم ببوذية اﻟ «هينايانا» (ومقابلها بوذية المهايانا)، لا نواجه إلا معتقدًا خلوًا تمامًا من الميتافيزيك، ومصاغًا بطريقة مباشرة. وقد رفض البوذا في كل مناسبة التحدثَ عن الماورائيات مُنبهًا إلى أن همَّ الإنسان ينبغي أن يتركز على تحرير نفسه من عالم المظاهر والانطفاء في «النيرفانا» حالة السكون الأبدي، كما رفض حتى الدخول في شروح وتفصيلات حول حالة النيرفانا هذه، مُفضِّلًا الإشارة إلى طرق وسُبل تحقيقها. ونظرًا لغياب القوى الماورائية في المعتقدات البوذية من أي نوع، فقد حلَّت المجاهدات الروحية محل الطقوس، وانعدمت الأساطير بشكل كامل، فيما عدا سيرة البوذا نفسه، التي صارت إلى حالٍ يشبه الأسطورة. أما أديان الشرق القديم فتُقدم لنا مثالًا مغايرًا تمامًا؛ فهنا تسود الأسطورة الدينية وترتقي مراتب لم تبلغها في أية ثقافة أخرى، خصوصًا في سومر وبابل، كما يرتفع شأن الطقوس ليغلب على الأسطورة في مصر الفرعونية. وفي الديانات المدعوة بالديانات السحرية يرتفع شأن الطقوس القائمة على معتقدات غامضة وتنعدم الأساطير، ومثال هذه عبادة «الفوندو» في أفريقيا وهاييتي.
إلى جانب هذه المكونات، التي أصفها بالأساسية، هناك مكوناتٌ ثانوية لا تلعب دورًا أساسيًّا في تكوين الدين، وإنما تظهر كعوامل مساعدة، وضمن سياقات تاريخية واجتماعية معينة، وهي: الأخلاق والتشريع.
وانظر أيضًا ملاحق كتاب ماني والمانوية، ترجمة الدكتور سهيل زكار، المرجع السابق.