إله المتصوفة
ابتدأ التصوف كسلوكٍ زهدي في الثقافة الإسلامية، منذ البدايات الأولى للاحتكاك مع الثقافة المسيحية في مصر وبلاد الشام، ومع الثقافات المشرقية الأخرى فيما بين فارس وحدود الصين. أما المعتقد الصوفي، فرغم أن ملامحه الأولى قد تشكَّلت على يد متصوفة من أمثال الجنيد منذ أواخر القرن الثالث الهجري، إلا أن صياغته النظرية المتماسكة لم تكتمل حتى القرن السادس الهجري، وذلك على يد الغزالي ومحيي الدين بن عربي، ومن بعدهما عبد الكريم الجيلي في القرن السابع. ولسوف أعتمد في عرضي هذا لمعتقد المتصوفة على الجيلي وابن عربي دون سواهما؛ لأني أرى في أعمالهما خلاصة للتجربة الصوفية الإسلامية بكل أبعادها الروحية والفكرية.
يربط الفكر الصوفي بين مفهومَين للألوهة ساريَين في كتاب الله وسُنة رسوله؛ المفهوم الأول يأتي من آيات مثل: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفتح: ١٠)، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (آل عمران: ٥٤). والمفهوم الثاني يأتي من آيات مثل: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (الواقعة: ٨٥)، وإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (العنكبوت: ٦). ومن أحاديث قدسية مثل: «ما وسعَتني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن.» الذي يُذكِّرنا بقول الأوبانيشاد: «هو رب اليوم ورب الغد، ولكن القلب الذي بحجم إصبع الإبهام مقر له ومكان.» واللقاء بين هذين المفهومين في الفكر الصوفي يأتي من وحدتهما الضمنية، واختلافهما في الظهور والتجلي؛ ذلك أن الأصل في الألوهة الكُمونُ والغنى، وما درجات التشخيص التي تتجلى بها سوى أمرٍ اقتضاه ظهور الكون عنها؛ فالموجودات هي التي تتطلب من الألوهة الصفات والأسماء، وبغير الموجودات تبقى الألوهة ذاتًا مستغرِقة في نفسها. يقول عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل:
المرتبة الأولى في خروج الألوهة من كمونها وغناها، يؤشر إليها ظهور الممكنات فيها جميعًا، ولكن بحكم البطون لا بحكم الظهور؛ فكل ما سيظهر للوجود فيما بعد، كان في حيِّز الممكن الثابت في الذات الإلهية الغنية. فهنا يتجلى المطلق في نفسه ولنفسه، وتتأمل الألوهة نفسها دون أن تلحقها الاعتبارات والإضافات. ويُدعى هذا التجلي الأول للذات بالأحدية. يقول الجيلي:
والتخصص هو أن تدير الألوهة وجهها نحو الخارج وتخرج من بطونها وكمونها، فتنتقل بذلك إلى التجلي الثاني المدعو بالألوهية، وهو الذي يظهره نشوء الثنائيات ضمن الأحدية، وهنا يظهر الاسم «الله»، وهو الاسم الذي يبصر الحق به نفسه، ويتوصل الخلق به إلى معرفة الألوهية. يقول:
فالألوهية والحالة هذه هي برزخ بين الذات الكامنة والخلق الذي يصدر عنها، إنها مرتبة الذات من حيث كونها إلهًا يُعبَد ويُقدَّس، ومن خلالها يتوصل العقل إلى معرفة الألوهة. ويمكن هنا إجراء مقارنة مع التصورات التانترية الهندوسية في أيقونة جزيرة الدرر؛ فالذات المستغرقة في نفسها لنفسها في الأحدية تقابل شيفا الهاجع؛ المطلق المستغني بنفسه عن العالمين؛ أما الألوهية التي تظهر فيها التناقضات والثنائيات، فتقابل شيفا الصاحي الذي يستعد لخلق العالم بواسطة المايا؛ قوة الألوهة الخالقة. كما يمكن أيضًا إجراء مقارنة بين فلك الألوهية الذي يحيط بالوجود والعدم، بدائرة التاو التي تحيط بالضدين الأساسيين في الفكر التاوي.
عندما تدخل الألوهية طور الخلق، نأتي إلى تجلي الرحمانية. وهنا تتجلى الألوهة كقدرة خالقة لكل مظاهر الكون. إلا أن الخلق هنا ليس خلق صانع ماهر يشكل العالم بيديه، وإنما خلق ألوهة تنقسم إلى حق وخلق، دون أن تفقد وحدتها وتكاملها. وهذان المصطلحان اللذان يتكرران في الأدبيات الصوفية كلها يشيران إلى المظهر المزدوج للحقيقة الواحدة؛ فالوجود خلق من حيث مظاهره، وحق (أو ألوهة مولدة) من حيث جوهره. ويتطلب الخلق عند الجيلي، أولًا، أن تظهر الألوهية بحقائق أسمائها وصفاتها، فتظهر أولًا بالأسماء الذاتية المقتصرة على الحق، مثل الصمد والقيوم وما إليها؛ ثم تظهر بأوصافها العامة التي تشترك بها مع الخلق، مثل السميع والبصير وما إليها. يقول:
ويُشبِّه الجيلي في أكثر من موضع انقسام الألوهة إلى حق وخلق، وصدور المخلوقات عنها دون أن تفقد وحدتها وتكاملها، بالجليد أو الثلج الذي يتكوَّن على أطراف البحيرة أو سطحها؛ فهذا الثلج إذا نُظر إليه من حيث ظاهره بدا شيئًا مختلفًا عن الماء، وإذا نُظر إليه من حيث جوهره بدا عين الماء؛ فاسم الثلج والحالة هذه هو اسمٌ مؤقت لطورٍ عابر يصير إليه الماء، فإذا ذاب الثلج عاد إلى أصله واسمه. يقول:
آخر مجالي الألوهة هو الربوبية، وهو المَجلى الخارجي المختص حصرًا بعالم الخلق، والرب اسم لهذه المرتبة. ويقع تحت هذا الاسم كلُّ الأسماء التي يتطلبها وجود المخلوقات، مثل: المريد والملك والقهار والمجيب والمعز والمذل … إلخ. فإذا كانت الذات تُمثل بطون الألوهة المطلق وغناها الكامل عن العالمين، فإن الربوبية هي ظاهر الألوهة الذي يتجه نحو عالم الخلق ويتطلبه. يقول:
إن وحدة هذين التجليَين للربوبية تظهر ذوقًا لمن يُناجيهم الحق، فيسمع المناجي خطابًا لا يصدر عن جهة ولا عن جارحة:
وكما أن خروج الألوهة عن كمونها يتم عبر مجال ومراتب متدرجة متتابعة، كذلك يكتشف الإنسان عالم الألوهة من خلال هذه المراتب نفسها، وبما يتلاءم واستعداد كل فرد لوطأة الصلة مع المرتبة؛ فالصلة الأولى بين عالم الناسوت وعالم اللاهوت تُعقد مع المجلى الخارجي؛ مجلى الربوبية، ومع الاسم الرب الذي هو إله الشرائع. وعامة الناس يبقون عادةً عند هذه المرتبة ولا يستطيعون تجاوزها في معرفة الحق. يقول:
إن تنزلات الذات، كما يراها الجيلي هنا، من ظلمة العماء إلى مجالي الشهود، عبر عدد من المراتب التي تقوم الألوهة من خلالها بإطلاق الزمان ومد المكان وإظهار الموجودات فيما بينهما، وقيام الإنسان بالتعرف على الألوهة مقتديًا بتجلياتها ابتداءً من الخارج متوغلًا نحو الداخل، ليحضر في أذهاننا صورة المندالا التانترية، التي ترمز مثلثاتها الخمسة ذات الرءوس المتجه نحو الأعلى إلى التكشف التدريجي لعالم اللاهوت في عالم الناسوت، ومثلثاتها ذات الرءوس المتجهة نحو الأسفل إلى توغل العارفين في مراتب الألوهة؛ من الحد الخارجي مايا إلى النقطة المتلاشية عند المركز براهمان.
«فهو تعالى المتجلِّي في كل وجه، والمطلوب في كل آية، والمنظور إليه بكل عين، والمعبود في كل معبود، والمقصود في الغيب والشهود، لا يفقده أحد من خلقه بفطرته وجِبلته؛ فجميع العالم له مُصلٍّ وإليه ساجد.» وأيضًا: «ما ثَم إلا الله، والممكنات ثابتة» (ج٤، ٤١٠)، و(ج٣، ٤٤٩).
والمقصود بالممكنات الثابتة هو ثبوت الممكنات أو تجذُّرها في العدم؛ فهي الأعيان أو المُثل الثابتة في علم الله، المعدومة في العالم الخارجي. وهذه الأعيان رغم ظهورها في الوجود الخارجي، فإنها لم تُفارِق عالم الإمكان. يقول في الفتوحات:
«ثم لما ظهرت في أعيانها … فإن الإمكان ما فارَقها حكمه … فلما كان الإمكان لا يفارقها طرفةَ عين ولا يصحُّ خروجها منه … فما لها خروج من خزائن إمكانها، وإنما الحق سبحانه فتح أبواب هذه الخزائن حتى نظرنا إليها ونظرت إلينا، ونحن فيها وخارجون عنها» (ج٣، ١٩٣).
ذلك أن الممكنات لا تنتقل أبدًا إلى حيز الوجود الفعلي، رغم أننا نطلق عليها اسم الموجودات؛ لأن الموجود الحقيقي هو الذي يستطيع أن يسند وجوده بنفسه دون أي مدد من جهة خارجة عنه؛ وهذا مُحال بالنسبة إلى الكثرة الظاهرية؛ لأن وجودها مستمد من الذات الإلهية التي تمدها به في كل لحظة. وهذا ما يقودنا إلى مفهومَين آخرين من المفاهيم الأساسية لوحدة الوجود عند ابن عربي، وهما: الخلق الدائم، والوجود الخيال.
إن خلق الله العالم، أي إظهاره من خزائن الممكن، لم يحدث مرةً واحدة في بداية الزمن، وإنما هو خلقٌ دائم يجري في كل لحظة. فمع كل نفس من أنفاس الإنسان يعود إلى الفناء ثم يسترده الرحمن إلى الوجود ثانيةً. والإيقاع ذاته يسري على بقية الموجودات التي هي فانية فموجودة ففانية مرةً أخرى، وهكذا إلى ما شاء الله. يقول في الفتوحات:
«إن العالم الحسي والكون الثابت — أي المزروع في العدم — استحالات مع الأنفاس لا تدركها الأبصار ولا الحواس، وذلك لتغيير الأصل الذي يمده، وهو — أي الأصل — التحول الإلهي في الصور … وهو قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ … فلما كان الله كل يوم هو في شأن، كان تقليب العالم، الذي هو صورة هذا القالب، من حال إلى حال مع الأنفاس، فلا يثبت العالم قط على حال واحدة، زمانًا فردًا؛ لأن الله خلَّاق على الدوام. ولو بقي العالم على حالٍ واحد زمانَين لاتَّصف بالغنى عن الله» (ج٣، ١٩٨–١٩٩). وأيضًا: «فهو خلَّاق على الدوام، والعالم مفتقِر إليه تعالى على الدوام افتقارًا ذاتيًّا» (ج٢، ٢٠٨). وأيضًا: «واعلم أنه ليس في العالم سكونٌ البتة، وإنما هو متقلب أبدًا دائمًا من حال إلى حال، دنيا وآخرة، ظاهرًا وباطنًا» (ج٣، ٣٠٣–٣٠٤).
في كل لحظة تغيب صور المخلوقات لتحل محلها صورٌ أخرى فيما يأتي من اللحظات، ورغم أن هذه الصور الأخرى تبدو استمرارًا للصور الغائبة، إلا أنها جديدةٌ كل الجدة، وهي تحل محل سابقتها دون فاصل زمني ملحوظ؛ لأن الذهاب هو في الآن نفسه بقاء لما يُظهره التجلي الثاني. يقول في الفصوص:
«إن كل تجلٍّ يعطي خلقًا جديدًا ويذهب بخلق؛ فذهابه هو عين الفناء عن التجلي، والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر، فافهم» (الفص ١٢، فقرة ١٤ت).
لقد أدرك ابن عربي بحدسه المبدِع ما توصَّلت إليه اليوم فيزياء الكم حول طبيعة الكون والمادة؛ فالوجود عبارة عن طاقةٍ ذات ذبذبات متغيرة، وليست تبديات هذه الطاقة نفسها والظواهر المرئية التي تشكلها إلا اختلافات في درجة الذبذبة. وسواء رأينا إلى هذه الطاقة في طبيعتها الموجية أو الكمومية، فإنها تأتي دومًا على دفقات متقطعة، لا كسيَّالة مستمرة. فالوجود كله والحالة هذه يحدث بشكل متقطع رغم استمراريته الظاهرة لنا.
فإذا كان الوجود الحقيقي هو لله وحده، فإن كل وجود آخر لا يعدو أن يكون خيالًا، أو بالأحرى نتاج فِعل الخيال الخلَّاق عند الذات الإلهية؛ فالحياة حلم، وكذلك كل ما نراه من صور الوجود الخارجي، فإنها خيال في خيال. وإلى هذا يشير الحديث الشريف الذي يقول: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.» يقول في الفصوص:
«فالعالم متوهَّمٌ ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال؛ أي خُيِّل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق، وليس كذلك في نفس الأمر … فاعلم أنك خيال، وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا، خيال. فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو لله، خاصةً من حيث ذاته لا من حيث أسماؤه» (الفص ٩، فقرة ٧ و٨).
والخيال هو هذا الجريان الدائم، وما نراه عن تبدل في عالم الخلق. يقول في الفتوحات:
«وحقيقة الخيال التبدل في كل حال والظهور في كل صورة، فلا وجود حقيقي لا يقبل التبدل في كل حال والظهور في كل صورة، فلا وجود حقيقي لا يقبل التبدل إلا الله. فما في الوجود المحقق إلا الله، وأما ما سواه فهو الوجود الخيالي … فكل ما سوى ذات الحق خيالٌ حائل وظلٌّ زائل، فلا يبقى كون … ولا شيء مما سوى الله على حالة واحدة، بل تتبدل من صورة إلى صورة دائمًا وأبدًا» (ج٢، ٣١٣).
والخيال قدرة على التشكيل؛ ولذلك فإنه مُعادِل للقدرة الإلهية ذاتها. يقول في الفتوحات:
«ما أوجد الله أعظم من الخيال منزلة ولا أعم حكمًا، يسري حكمه في جميع الموجودات والمعدومات من محال وغيره؛ فليس للقدرة الإلهية فيما أوجدته أعظم وجودًا من الخيال، منه ظهرت القدرة الإلهية … وهو حضرة المجلى الإلهي في القيامة» (ج٣، ٥٠٨).
«وليس إلا الطبيعة في هذه الدار، فإنها محل الانفعال … لأنها للحق بمنزلة الأنثى للذكر، ففيها يظهر التكوين؛ أعني تكوينًا على ما سوى الله … فللطبيعة القبول … فهي الأم العالية الكبرى للعالم» (ج٤، ١٥٠).
ويلجأ ابن عربي إلى استخدام زمرة أخرى من الرموز لمعالجة مسألة تجلي الألوهة في الطبيعة؛ فالألوهة لا تفعل في الطبيعة بشكل مباشر، بل بشكل غير مباشر، وعبر مرتبتين ينتقل الفعل خلالهما من الجانب الإلهي إلى المظاهر الطبيعية، وهما العقل الكلي أو القلم، والنفس الكلية أو اللوح المحفوظ؛ فقد ورد في الحديث الشريف: «إن أول ما خلق الله العقل.» وورد أيضًا أنه: «أول ما خلق الله القلم.» فالعقل والقلم صنوان. يقول:
ويقول أيضًا:
ويتجه فعل العقل، الذي هو بمثابة القلم، إلى النفس الكلية التي هي بمثابة اللوح، فينتقش عليها ما سيَكون في العالم إلى يوم القيامة. وهذه بدورها تنقل ما حملته من القلم لتُظهره واقعًا في عالم الموجودات، فيكون لها الانفعال (عن القلم) والفعل (في الطبيعة)، أما العقل فيبقى ملتزِمًا دوره الفاعل. يقول في الفتوحات:
«وأين مرتبة الفاعل من المنفعل؟! ألا ترى النفس الكلية التي هي أهل للعقل الأول، ولما زوَّج الله بينهما لظهور العالم كان أول مولود ظهر عن النفس الكلية هو الطبيعة.» وأيضًا:
«أول متعلم قبل العلم بالتعلُّم لا بالذات: العقل الأول. فعَقِل عن الله ما علَّمه، وأمره أن يكتب ما علَّمه في اللوح المحفوظ الذي خلقه منه … واسم اللوح المحفوظ عند العقلاء: النفس الكلية. وهو أول وجود انبعاثي منفعل عن العقل، وهي (أي النفس) للعقل بمنزلة حواء لآدم.» وأيضًا: «فكان بين القلم واللوح نكاحٌ معنوي معقول، وأثرٌ حسِّي مشهود … وكان ما أُودع في اللوح من الأثر مثل الماء الدافق الحاصل في الرحم، وما حصل من تلك الحكاية من المعاني المودَعة في تلك الحروف الجرمية بمنزلة أرواح الأولاد المودعة في أجسامهم» (ج٣، ٣٩٩؛ وج١، ١٢٩).
كل هذا يصل بنا إلى نتيجةٍ مهمة في فكر ابن عربي، وفي الفكر الصوفي عامة، حول تشخيص الألوهة وتجريدها، أو بالمصطلح الصوفي تشبيهها وتنزيهها. فالتشبيه والتنزيه متلازمان؛ لأن التنزيه يتطلب التشبيه، والتشبيه لن يقود إلا إلى التنزيه. ويذهب ابن عربي في القول بتلازم التشبيه والتنزيه مذهبًا يوصله إلى القول بأن كل المعبودات التي توجَّه إليها البشر في كل مكان وزمان، لم تكن في واقع الحال إلا مجالي أسماء الله، وأن التوجه إليها بالعبادة لم يكن إلا طريقًا لمعرفة الذات الإلهية الحقة؛ لأن الله قال في كتابه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ولم يقل: وأمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه. فكل عبادة تتوجه والحالة هذه لغير الله مآلها إليه. يقول في فصوص الحكم عن قوم نوح:
«فقالوا في مكرهم: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (قرآن كريم)؛ لأنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء؛ فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله. فما عُبد غير الله في كل معبود» (الفص ٣، فقرة ٨).
وهو يجد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تقرن التنزيه بالتشبيه، ومنها: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. ففي قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تنزيه، وفي قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تشبيه. من هنا يقول الشيخ شعرًا:
والتشبيه عنده أمرٌ يتطلبه بطون الذات الإلهية؛ إذ لا بد من صلةٍ تصل هذا المحدود بذاك اللامحدود. يقول في الفصوص:
«وبالجملة، فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع إليه ويطلبه فيها. فإذا تجلى له الحق فيها أقرَّ به، وإن تجلى له في غيرها أنكره … فلا يعتقد معتقد إلهًا إلا بما جعل في نفسه. فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم وما جعلوا فيها» (الفص ١٠، الفقرة ١٣).
إلا أن من قطع شوطًا في مسار العارفين، يجب ألا يتقيد بصورة دون أخرى، بل عليه أن يقبل الصور جميعًا، وما هو فوق هذه الصور. يقول أيضًا:
«فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خيرٌ كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه؛ فكُن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها، فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (الفص ١٠، فقرة ١٣).
هذه الصورة التي يكوِّنها الإنسان عن الألوهة هي صورة مخلوقة من صنعه، ويدعوها ابن عربي بإله المعتقدات، أو الإله المجعول، أو الحق الاعتقادي. يقول:
«فلا يشهد القلب ولا العين أبدًا إلا صورة معتقده في الحق» (الفص ١٢، فقرة ٧).
وصورة المعتقد هذه هي بشكل من الأشكال وثنٌ يوضع بين الحق والخلق. يقول: «فما ثَم إلا عابد وثنًا» (الفتوحات، ١٨٦ / ٤).
•••
وهكذا نعود من رحلتنا في معتقدات الإنسان إلى نقطة المبتدى؛ فالوثن الذي يراه ابن عربي قائمًا بين الإنسان والذات الإلهية، ما هو إلا شارة القداسة التي أقامها إنسان العصر الحجري في محاريبه ورسمها على جدران كهوفه. وها نحن نقف بخشوع أمام رأس الثور في المريبط وشتال حيوك، وندلف إلى أعماق كهف لاسكو حيث الظلال تنعكس على مشهد البيسون المتحفِّز للانطلاق. فما هذا إلا ذاك. ولكم ذهب الإنسان بعيدًا ليُعيد صياغة المعتقد نفسه ولكن بأشكال جديدة. لقد قام برحلة عقلية طويلة، ولكنه لم يتحرك قيد أنملة من مكانه في رحلته النفسية.
-
الفتوحات المكية لابن عربي، دار صادر، بيروت.
-
فصوص الحِكم، لابن عربي، شرح وتقديم أبو العلا عفيفي، دار الكاتب العربي، بيروت.
-
الرسائل، لابن عربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
-
إنشاء الدوائر، لابن عربي، دار المثنى، بغداد.
-
المعجم الصوفي، للدكتورة: سعاد الحكيم، دار دندرة، بيروت.