نظريات في منشأ الدين: نقد وتأسيس
لقد قلت في بداية هذا الكتاب إن ما أهدف إليه هو التعرف على الظاهرة الدينية عند الإنسان، كما هي، وعلى حقيقتها، وذلك بوصفها وصفًا دقيقًا، وعزلها عن بقية ظواهر النشاط العقلي والنفسي المتعددة الأخرى؛ لغرض الجواب على التساؤل الأساسي: ما هو الدين؟ وقد خصَّصت القسم الأول من الدراسة لتحليل بنية الدين، فوجدت أنه يتألف من مكونات أساسية هي: المعتقد والطقس والأسطورة؛ وأخرى ثانوية هي: الأخلاق والشرائع. وبما أن كل ظاهرة يمكن تلخيصها إلى بنية الحد الأدنى التي يقودنا استقصاؤها إلى توضيح ماهية الظاهرة ومعناها، فقد وجدنا في المعتقد الديني ذلك الحد الأدنى الذي يمكن تقليص الظاهرة الدينية إليه دون المساس بأساسياتها. ثم انتقلت إلى الافتراض بأن المعتقدات الدينية قديمها وحديثها وبسيطها ومركبها، يمكن إرجاعها إلى عدد من العناصر الثابتة والمشتركة بين الأديان جميعًا. ففي القاع من كل إيمان ديني لا بد من وجود عدد من الأفكار البسيطة الأولية التي تجمعه إلى كل إيمان آخر؛ لأن الظاهرة الواحدة لا بد لها من أساس واحد تقوم عليه، رغم تنوع تبدياتها عبر الأزمان واختلاف البيئة والمكان. وبتعبير آخر، فإن بنية الحد الأدنى للدين التي وجدتها في المعتقد، إنما تقوم بدورها على بنية أخرى للحد الأدنى الاعتقادي، هي تصور إنساني واحد يقوم عليه الدين برُمَّته، وأنى التقينا به. ثم خصَّصت القسم الثاني من الدراسة لتقصِّي هذا الحد الأدنى الاعتقادي، أو التصور الإنساني المشترك، وذلك باستعراض أهم النماذج الممثلة لدين الإنسان عبر التاريخ، فاتضح أمامنا تدريجيًّا صحة فرضيتنا، وتكشَّفت كثرة المعتقدات عن وحدة صميمية:
يقوم المعتقد الديني على الإحساس بانقسام الوجود إلى مستويين، أو مجالين؛ المستوى الطبيعاني، وهو عالم الظواهر المحسوسة الذي يعانيه ويتحرك ضمنه الإنسان؛ والمستوى القدسي، وهو الغيب الذي صدرت عنه هذه الظواهر المحسوسة بما فيها الإنسان وأشكال الحياة الأخرى. يتصل المستوى القدسي بالكون من خلال حالة فعالية، هي قوته السارية، التي تجمع بين المستويين في دارة واحدة؛ باطنها الألوهة، وظاهرها ما لا يُحصى من الظواهر الحية والجامدة.
في المناهج الحديثة لدراسة أي موضوع، هنالك تمييز بين ثلاث مراحل للتقصي؛ ففي المرحلة الأولى نبحث في طبيعة الموضوع، وفي الثانية في كيفية نشأته وعن ماذا، وفي الثالثة في معناه وأهميته ودوره. تتخذ المرحلتان الأولى والثانية طابعًا معرفيًّا عمليًّا، بينما تتخذ الثالثة طابعًا قيميًّا وأخلاقيًّا وفلسفيًّا. وهنا يكمن فيصل التمييز بين المنهج الفينومينولوجي الظاهراتي الذي يقف عند المرحلة الثانية لا يتجاوزها، والمنهج الآخر الذي يستوفي المراحل الثلاث؛ لأنه يهدف منذ البداية إلى معرفة قيمة الظاهرة المدروسة وإصدار الأحكام القيمية بشأنها، استنادًا إلى معايير موضوعة وموازين منصوبة. ولقد تعرفت على طبيعة الظاهرة الدينية من خلال وصفها وصفًا شاملًا، ثم لخصتها إلى بنية الحد الأدنى التي تلخص ماهيتها وجوهرها، وذلك في القسمين الأولين من هذه الدراسة، وبقي علينا أن نتساءل عن المصدر والمنشأ، أما التقييم وإصدار الحكم فأمر لا يُعنى به منهجنا الذي التزمناه.
فعن ماذا ينشأ الاعتقاد بانقسام الوجود إلى مستويين، متمايزين ظاهرًا ومتحدين ضمنًا وباطنًا؟ وما هي بواعث ذلك الإحساس بالوحدة الشاملة التي يقوم عليها المعتقد الديني، ومن ورائه الظاهرة الدينية إجمالًا؟ وباستخدام المصطلحات والتعابير الشائعة نقول: ما هو الأصل في الدين؟ وما هي بواعث التدين؟ وهو التساؤل المعروف الذي عالجته مدارس فكرية من شتى المشارب والمذاهب. ولكن، قبل أن نشرع في بسط ما قادتنا إليه هذه الدراسة من نهايات تتعلق بهذا التساؤل، سوف نعمد إلى استعراض أهم المواقف الفكرية من المسألة، فنناقشها ونبني على دحضها نظريةً جديدة مدعَّمة. قد نعود إلى مناقشة بعض الأفكار الرئيسية لمدارس ومذاهب معينة، ولكن لا لغرض التكرار، بل لوضعها في سياق جديد.
إن البحث في منشأ الدين وأصله ليس بالأمر الجديد، كما يعرف كلٌّ منا معرفة جيدة. ولقد قادنا الاطلاع على النظريات الرئيسية في أصل الدين إلى تصنيفها في زمرتين، تؤكد الزمرة الأولى على الأصل العقلاني، بينما تؤكد الثانية على الأصل العاطفي غير العقلاني. ينتهي كلا الاتجاهين إلى نتيجة تستدعيها مقدماتهما، وهي أن الدين لا ينبع إلا عن وهمٍ خلقه خيال البشر أو عواطفهم عبر التاريخ، وأنه لا يعكس بأية حال خبرة تمُت إلى عالم الحقيقة بصلة. فإلى أي حد تتمتع هذه النتيجة بقيمة تؤهلها لأن تكون نهاية المطاف في استقصاء منشأ الدين؟
غير أن المواجهة البكر مع الطبيعة، كما يرى مولر، لا تقدم إلا الإحساس الديني في صيغته العمومية، أما الدين بشكله المنظم فلا يبتدئ بالفعل إلا عندما تخرج مظاهر الطبيعة من حالتها المجردة في الذهن إلى حالة الفعل، باعتبارها كائنات روحية تحيا وتُفكر وتؤثر من الخارج؛ ذلك أن الدين الحقيقي هو أفكار وممارسات تتمحور حول شخصيات مستقلة ذات هيئة وكيان، تنتمي إلى عالم الإعجاز الذي طرحته المواجهة البكر مع الطبيعة. أما الانتقال من الظاهرة الطبيعة نفسها إلى الإله الذي يمثلها، فيأتي من التأثير الذي تمارسه اللغة على الأفكار، أو من التباسات اللغة؛ وهذا ما يدعوه مولر بالمرض اللغوي. فلقد وجد مولر أن اللغة السنسكريتية التي اعتمدها في دراسته اللغوية-الميثولوجية، إنما تقوم على «الفعل» أكثر من قيامها على «الاسم»، وهو حال اللغات السامية إذا نظرنا إلى جذورها اللغوية. ففي العربية مثلًا، ترجع المعاجم الكلمات كلها إلى جذر الفعل الثلاثي، ومن هذا الجذر نحصل على الأسماء كلها والصيغ الناجمة عنه؛ ففعل «كتب» يعطينا «الكتاب» و«المكتبة» و«الكاتب»، وفعل «علم» يعطينا «العلم» و«العالم» … إلخ. فالأصل في اللغة إنما يقوم على الحركة و«الفعل» لا على الثبات و«الاسم»، وليست الأسماء إلا حالة معينة من حالات الفعل. من هنا يرى مولر أن قدماء الهندوأوروبيين في لغتهم السنسكريتية، قد أسمَوا قوى الطبيعة بما يدل على فعلها؛ فالصاعقة هي الشيء الذي يمزق التربة أو ينشر النار، والريح هي الشيء الذي يصفر، والشمس هي الشيء الذي يصدر السهام الذهبية، والنهر هو الشيء الذي يفيض، وما إلى ذلك، وبمرور الزمن تم تحويل هذا الشيء الذي يمارس الفعل إلى شخصية تفعل كما يفعل الإنسان، وأخذت الموضوعات الطبيعية التي أثارت في النفس الروع والإجلال تختفي وراء غلالات من الاستخدامات اللغوية، حتى انفصلت عن الإدراك المباشر بواسطة المجازات، ثم تم أخذ هذه المجازات بحرفيتها وظهرت الآلهة. وبذلك فُرضت اللغة على العالم الطبيعي، كما يتجلى للحواس، عالمًا متخيلًا من الكائنات الروحية، التي اعتُبرت منذ ذلك الوقت السبب الفاعل وراء حركة الطبيعة.
إن ما أريد قوله في التعقيب على أطروحات الاتجاه العقلاني في نشوء الدين، هو أننا إذا قبلنا جدلًا كل ما جاءت به النظرية الأرواحية والنظرية الطبيعانية، فقد نقبله كتفسير لنشوء فكرة الآلهة في تاريخ الدين، لا لتفسير نشوء الدين في حد ذاته؛ لأن الدين كان أسبق بكثير من المرحلة التي ظهرت فيها الآلهة في الحياة الدينية للإنسان، كما أوضحنا بكل جلاء عبر الفصول السابقة من هذا الكتاب. كما أريد أن أُضيف إلى هذه الملاحظة عددًا من الملاحظات الأخرى الصائبة التي أثارها إميل دوركهايم في نقده للاتجاه العقلاني.
لقد وجد العقلانيون في الدين نظامًا من الأفكار، ينطلق من واقعةٍ بيولوجية مثل الأحلام عند الأرواحيين، أو واقعة طبيعية مثل ظاهرةٍ ما من ظواهر الطبيعة المؤثرة عند الطبيعانيين. وهم يؤكدون على أن فكرة الألوهة تنشأ في الذهن نتيجة التأمل في موضوع ما، ومحاولة الإجابة على تساؤلات تدور حوله. غير أن المؤمن عندما يصف لنا حقيقة إحساسه الديني، لا نجد في وصفه موقفًا فكريًّا عقلانيًّا من أي نوع؛ فالخبرة الدينية لا تعمل على زيادة معارفه ومعلوماته بخصوص موضوعات معينة يجهلها الآخرون، بل تجعل منه إنسانًا متكاملًا مع نفسه، ومع كل ما يحيط به؛ أي إن التفكير لا يخلق الخبرة الدينية في النفس الإنسانية ولا يزرع فكرة الألوهة فيها، بل يأتي لاحقًا لهذه الخبرة التي تُداهِم الإنسان وتستولي عليه دون تفكير مسبق. والتأمل لا يسبق الإحساس بالألوهة، بل ينطلق من هذا الإحساس نفسه ويستهدف التعامل معه بما هو كذلك.
إن الملاحظات النقدية التي سُقتها أعلاه، ليست موجَّهة فقط إلى المدرستين الأرواحية والطبيعانية، بل إلى كل رأي يعزو نشأة الدين إلى موقف عقلاني تفكيري من الحياة والوجود. ولم يكن اختيارنا للمدرستين المذكورتين إلا باعتبارهما المؤسِّستين لهذا الاتجاه في العصر الحديث وأقوى المعبِّرين عنه. وسننتقل الآن إلى نقد النظرية العاطفية في نشوء الدين، وهي التي ترى في الدين انعكاسًا للعواطف الإنسانية لا استجابة لتأملات ذهنية.
يمكن تلخيص العواطف، التي يرى أهل الاتجاه العاطفي وجودها وراء الدين، إلى عاطفتين أساسيتين عند البشر، هما: الخوف والطمع. وبما أن منتهى مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت، ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، فإن هاتين العاطفتين تتعاونان على صياغة معتقد يُقسم الإنسان إلى كيانين؛ واحد مادي وآخر روحاني. فإذا كان الموت لا بد مُدرَك كيانه المادي، كما تُعلمنا الخبرة اليومية، فإن الكيان الروحاني سوف يجتاز واقعة الموت، ويترك سكنه المؤقت الذي آل إلى التلف إلى مستوًى آخر للوجود يتمتع فيه بالحياة الأبدية. وبما أننا نواجه فكرة الروح هذه، إلا ما ندر، في كل ديانة قديمة أو حديثة مما وصل إليه علمنا، كما نواجه في كلٍّ منها تصورًا ما لحالة الروح بعد واقعة الموت الفردي، فقد توصَّل أهل النظرية العاطفية إلى القول بأن الحِس الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت وعاطفة الطمع في الخلود، وأن مفهوم الألوهة لم يترسخ إلا لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصًا وبقاءً أبديًّا.
فإلى أي حد تُفلِح هذه النظرية، وما أكثر أتباعها، في تقديم تفسير يتوافق مع ما نعرفه عن تاريخ الأديان ومعتقداتها؟
في مجال العلوم الطبيعية، تقوم نظريةٌ ما من أجل تفسير عدد من الظواهر المتكررة والمتشابهة. وتبقى هذه النظرية مُجدية حتى يثبت لنا عدم مقدرتها على تفسير بعض الظواهر الداخلة في مجالها، أو حتى ظاهرة واحدة مفردة فقط؛ ذلك أن أهمَّ ما يجب أن تتَّصف به الظواهر التي تُفسرها النظرية هو تماثلها وتكرارها، وصمودها أمام التغير باختلاف المكان والزمان. فقانون الثقالة (الجاذبية) سوف يفقد قدرته على تفسير حركة الأجسام، إذا اكتشفنا جسمًا يسير بأسرع من الضوء. كما أننا سوف نضطر إلى إعادة النظر في كل قوانين الحركة (= الميكانيك) إذا خرقت كرة القدم في ملعبٍ ما أحد القوانين الرئيسية في الحركة، ولم ترتد عن عارضة المرمى بعد اصطدامها بها. ولعل الأمر لا يختلف كثيرًا في مجال العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، بخصوص صلاحية نظريةٍ ما أو بطلانها؛ فالنظرية مُطالَبة هنا أيضًا بتقديم تفسير لجميع الظواهر التي تصدَّت لتفسيرها، لا لبعضها. وبما أن معطيات تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، ومعطيات الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا، تزوِّدنا بأكثر من مثال على معتقدات دينية، من بدائية وغيرها، لا نجد فيها أثرًا لفكرة خلود الروح الفردية، ولا لعالم أفضل ترحل إليه أرواح الموتى، فإن النظرية العاطفية في تفسير نشوء الدين، أي نظرية الخوف من الموت والطمع في الخلود، تهتز أركانها أمامنا. ولسوف أعمد فيما يلي إلى تقديم البرهان على أن الخوف والطمع لا يكمنان عند جذور الدين، وذلك من خلال عرض عدد من الأمثلة الموثَّقة توثيقًا جيدًا، ومختارة من تاريخ الدين ومن ملفات الأنتروبولوجيا الميدانية.
يعطينا معتقد الإنسان الأسترالي في تناسخ الأرواح فكرةً واضحة عن نظرته إلى مسألة النفس وخلود الروح. ومعتقد التناسخ الأسترالي، كما أوضحنا سابقًا، لا يشبه أي معتقد آخر في التناسخ؛ ففي بداية الزمان عاش على الأرض فريق من الناس، هم الأسلاف الأسطوريون الذين رحلوا بعد أعمار مديدة إلى باطن الأرض، ولكن أرواحهم بقيت خالدةً تتجدد في كل جيل. وهم يدعون هؤلاء الأسلاف بأكثر من اسم وصفة، وكلها تؤدي معنى «الأسلاف غير المخلوقين»، وهؤلاء مسئولون، كما رأينا، عن تناسل الناس؛ ففي تجوال أرواحهم خارج مقرها، تجسد نفسها في أجسام؛ وبذلك يجسد السلف نفسه في أكثر من مولود، ويعيش عددًا من الحيوات في آنٍ واحد، مع احتفاظه بنواته التي تبقى خارج سلسلة التجسدات. من هنا يمكن القول بأن الأسترالي لم يؤمن قط بالروح الفردية؛ لأن روحه ليست إلا شذرة من كلٍّ، وإلى هذا الكل تعود بعد الموت. أما شخصية صاحبها المؤقت، فلا تتمتع بالخلود في حياة قادمة أخرى، وهي آيلة حتمًا إلى الفناء مع فناء شقها المادي. ومع ذلك، فقد كان الأسترالي إنسانًا متدينًا، رغم عدم إيمانه بالروح الفردية وخلودها، واحتوت ديانته على كل مقومات الدين المتكامل في صيغته البدائية. ويمكن لدارس الدين الأسترالي أن يقول بكل ثقة بأن مفهوم الروح هو ناتج ثانوي من نواتج الدين، وليس باعثه الرئيسي ولا حتى باعثًا من بواعثه.
ورغم أن مكانة سكان العالم الأسفل في المعتقد التيوتوني تختلف باختلاف المكانة التي كانت لهم في العالم الأعلى، إلا أن الفروق في شروط المعيشة في عالم هيل ليست بالقدر الذي يخفف من بؤس مصير الروح هناك. وأغرب مصير تصير إليه زمرة من الأرواح الهابطة إلى هيل، هو مصير جماعة المحاربين الذين سقطوا في ساح القتال؛ فهؤلاء يحلون ضيوفًا في قاعة شرف خاصة بهم، ولهم فيها ما يشتهون من طعام أو شراب، يطوف به عليهم عذارى حِسان، ويلبِّين لهم كل مطلب. غير أن هؤلاء المحاربين محكومون بخوض قتال لا يهدأ في كل يوم؛ فمع ابتداء اليوم الجديد يتخذ الأبطال عدتهم للحرب وينخرطون في قراعٍ يستمر إلى آخر اليوم حيث يأوون إلى أسرتهم؛ لكي يتابعوا الأمر نفسه في اليوم التالي. فأي مصير ينتظر أشجع وأقوى ما عرفته أوروبا من مقاتلين؟ وأي عزاء يحمله هذا المعتقد إلى المؤمنين؟ وكيف يكون الخوف من الموت والطمع في الخلود هنا أساسًا لنشوء معتقد ديني لا يطامن من خوف ولا يرضي طمعًا؟
فإذا عُدنا القهقرى إلى حضارات الشرق القديم، وجدنا في معتقداتها حول الروح ومآلها ما يشبه المعتقدات البدائية الأوروبية، وذلك باستثناء مصر الفرعونية التي تنفرد ديانتها بتصورات خاصة بها. ففي المعتقد السومري وصنوه البابلي، تهبط الروح إلى العالم الأسفل الذي تحكمه الإلهة إريشكيجال، الملكة المرعبة التي يخافها حتى الآلهة الأعلَون. في ذلك العالم، تتساوى مصائر الأرواح الهابطة إليه، مع فروق طفيفة تتوقف على المكانة الاجتماعية السابقة للمتوفى، وعلى مقدار التزام أهل الميت بطقوس الدفن وغيرها من الطقوس المخصصة لراحة أرواح الموتى، من تقديم أضاحٍ وما إليها. كما أن بعض الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا قد تخفِّف من وطأة العالم الأسفل على الروح. نقرأ في النص السومري المعروف بعنوان «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل»، كيف انسلَّت روح إنكيدو الميت من كوة إلى العالم الأعلى لتشرح لجلجامش أحوال عالم الموتى. وبعد أن يتعانق الصديقان:
(فصرخ جلجامش يا ويلاه، وسقط على وجهه في التراب.)
ثم يتابع النص على هذا المنوال، حتى نصل إلى استفسار جلجامش عن الموتى، الذين لا يعتني الأحياء بأرواحهم:
لذلك، عندما انقشعت الغشاوة عن بصيرة جلجامش، في الملحمة البابلية، ورأى أن كل ما يصنعه الإنسان في حياته باطل، وأن الأيام مهما امتدَّت به لا بد وأن تقوده إلى موتٍ أكيد، لم يلتفت إلى الدين البابلي يطلب العزاء عنده، ولا إلى آلهة قومه يستجدي خلاص روحه؛ لأنها لا تستطيع أن تمنح مثل هذا الخلاص، بل رام الخلود في هذه الحياة، أو راح يبحث عن خلاص لم تُبشر به ديانة وادي الرافدين، معتمدًا على نفسه فقط دون عون من إله أو بشر. ولو كان في المعتقد البابلي مفهومٌ حقيقي لخلاص الروح إلى عالم أفضل، لما طرحت مسألة الموت نفسها بهذا الإلحاح على الفكر البابلي.
فإذا انتقلنا من حضارة الهلال الخصيب في قرنه الشرقي، نحو قرنه الغربي في سوريا، لم تقدِّم لنا الوثائق الكتابية صورة واضحة عن معتقدات الموت وأحوال الروح في الدار الآخرة؛ وذلك بسبب ندرة هذه الوثائق خارج موقع أوغاريت من جهة، وعدم عناية ما عُثر عليه منها بالموضوعات الميثولوجية والدينية. ورغم أننا نعرف من ألواح أوغاريت عن وجود عالم أسفل يرعاه الإله موت، وعن هبوط الإله بعل ميتًا إليه، إلا أن التفاصيل التي أمدَّتنا بها الوثائق الكتابية عن هذا الموضوع قليلة أو شبه معدومة في سوريا. من هنا فإننا لا نستطيع إلا الاعتماد على كتاب التوراة، الذي ورث الكثير من المعتقدات الكنعانية في الروح، وأحوالها بعد الموت في الدار الآخرة.
يُظهر المعتقد التوراتي، في الروح وأحوال الدار الآخرة، شبهًا واضحًا بالمعتقد الرافدي؛ فالأرواح مُتساوية في مصيرها، وهي تهبط إلى دارٍ سفلى اسمها «شيئول»، أو «الهاوية» وفق الترجمات العربية للتوراة. وهذه الدار تقع تحت الأرض (سِفر العدد ١٦: ٣٠–٣٢)، ولها أبواب تُذكرنا ببوابات العالم السفلي الرافدي السبع (إشعيا ٣٨: ١٠)، وهي أرض ظلمة وديجور لا يرى أهلها نورًا (صموئيل الثاني ٢٢: ٦، والمزمور ٦: ٥، و٨٨: ١٢)، وإليها تذهب أرواح الموتى دون استثناء (التكوين ٣٧: ٣٥، والمزمور ٣١: ١٧، وإشعيا ٣٨: ١٠)، وهي عميقة وتبتلع (التثنية ٣: ٢٢، والأمثال ١: ١٢). والإله التوراتي لا سلطة له على العالم الأسفل: «أفلعلك يا رب للأموات تصنع عجائب؟ أم الأخيلة تقوم تمجدك؟ هل يحدث في القبر برحمتك أو بحقك في الهلاك؟ هل تعرف الظلمة عجائبك وبِرَّك في أرض النسيان؟» (المزمور ٦). والموتى قد فقدوا في الدار الآخرة السفلى كل صلة لهم بإله الأحياء، فلا بعث ولا نشور ولا حساب، نقرأ في (إشعيا ٤٣: ١٧): «يضطجعون معًا لا يقومون، قد خمدوا كفتيلةٍ انطفأت.» وفي (إرميا ٥١: ٣٩): «ينامون نومًا أبديًّا ولا يستيقظون.» وفي (أيوب ١٤: ١٠–١٢): «أما الرجل فيموت ويبلى؛ الإنسان يُسلم الروح، فأين هو؟ قد تنفد الحياة من البحيرة والنهر يجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم.»
فإذا نظرنا إلى أديان الهند والشرق الأقصى عامة، وجدنا أن معتقداتها في الروح والخلود لا تتفق وفكرة خلود الشخصية الفردية؛ فالبوذية تنفي وجود الروح الفردية، كما تنفي وجود جوهر روحي يحل في الأحياء عبر تناسخات متتالية، وما الفرد إلا حالة عابرة لا تتكرر، في سلسلة تقمُّصات الكارما التي تئول إلى الانطفاء التام في النيرفانا. أما في الهندوسية، فرغم التوكيد على وجود جوهر روحي ثابت محكوم بالتناسخ في الأجساد، وقادر على تحقيق الانعتاق النهائي، إلا أن هذا الجوهر الخالد لا يتطابق في الواقع مع أيٍّ من الشخصيات المفرَدة التي تجسَّد فيها، عبر مليارات السنين التي قضاها في الانتقال من ظهور إلى آخر. من هنا، فإني لا أرى فارقًا كبيرًا بين مفهوم النفس الهندوسي، الذي هو حالة عارضة لجوهر ثابت، ومفهوم اللانفس البوذي الذي هو حالة عارضة بلا جوهر ثابت؛ لأننا إذا جرَّدنا مفهوم الروح (أو الجوهر الثابت) في الهندوسية من كل الحالات الشخصية التي صارت إليها قبل انعتاقها، فإنها تفقد محتوياتها من الأفعال والذكريات وتغدو خاوية بلا ماهية أو قوام، لتذوب في الفراغ العظيم عقب انسلاخها عن آخر تقمصاتها. فأي فرق إذَن بين ذوبان الروح الكامل في براهمان كما يذوب النهر في المحيط، وبين انطفاء سلسلة الكارما في النيرفانا البوذية، طالما أن الروح لا تعيش استقلاليتها خارج سلسلة التناسخ إلا لتذوب في المطلق؟
إن الخوف من الموت والطمع في الخلود لا يكمُنان في أساس الدين ولا يبعثان على نشوئه، والنظرية العاطفية قاصرة على تسويغ وجود أديان لا تقدِّم لأتباعها مثل هذا العزاء، وذلك من أكثرها بدائية وبساطة إلى أكثرها تجريدًا وتفلسفًا. مما لا شك فيه أن بعض الأديان قد صاغ تصورًا بهيجًا عن خلود للشخصية الفردية في عالم مثالي قادم، وأنه قد استخدم فكرة الخلود الشخصي من أجل تثبيت مثُله الأخلاقية والتمكين لنواظمه التشريعية، إلا أن دراستنا لتاريخ الدين تُظهر بكل جلاء أن معتقدات الروح الفردية وخلود الشخصية قد بُنيت على المعتقد الديني، ولم تشكِّل في أي وقت باعثًا من بواعث الدين.
إن معارضتنا للإرجاعية، ومجالنا لا يتسع لعرض المزيد من نظرياتها، تستند إلى خصوصية التجربة الدينية، وعدم قابليتها للإرجاع إلى ظاهرة أخرى؛ لأن في هذا الإرجاع إقرارًا بأن الدين وهمٌ إنساني، وأن الخبرة الدينية هي جدلية ذاتية لا موضوع لها؛ فالدين ليس وهمًا، والمؤمن ليس واهمًا في إحساسه بوجود قوة أعظم منه تضم الوجود إلى وحدة متكاملة؛ لأن الخبرة الدينية قد ارتكزت عبر الأزمان على تجربة حقيقية صُلبة، وعلى شرط معطًى للوجود الإنساني. من هنا، فإن الأديان كلها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان حقيقية وأخرى زائفة، لأديان راقية وأخرى منحطة؛ لأنها جميعًا نتاج تلك التجربة الحقيقية الصلبة، والشرط المعطى للوجود الإنساني. فما هي هذه التجربة؟ وتحت أي شرط تتم؟
لقد توصَّلنا في بحثنا عن المعتقد الديني في بنيته الدنيا، إلى أنه يعكس إحساسًا بانقسام الوجود إلى قدسي ودنيوي، وأن القدسي يتصل بالدنيوي من خلال «حالة فعالية» هي قوته السارية التي تجمعهما إلى دارةٍ واحدة، باطنها الألوهة وظاهرها ما لا يُحصى من الظواهر الحية والجامدة. ولسوف نلتفت في الجزء الأخير من دراستنا هذه إلى البحث عن الأساس الذي يقوم عليه هذا الاعتقاد، فنجده مُتجذرًا في خبرة حقيقية طرفاها الإنسان-الوعي من جهة، والكون-المادة من جهة أخرى. أما مضمون هذه الخبرة، فاجتماع الوعي المتأمل إلى موضوعاته الخارجية، ووحدة طرفَي الحقيقة؛ الإنسان والكون.
رِحلتنا القادمة شاقَّة ومليئة بالمفاجأة، تتطلب عناءَ وصبرَ مَن قرَّر مرافقتنا حتى الآن، إنها رحلة في الفيزياء الحديثة، في ذلك الجانب الذي يُشكِّل الآن لُبابها، والذي يدعونه بالنظرية الكوانتية، أو بميكانيكا الكم. قد يبدو أن هذا الموضوع بعيد عن مسألة الدين، ولكننا واجدون في نتائجه المدهشة الصيغة الحقيقية لعلاقة الإنسان-الوعي بالكون-المادة؛ وبالتالي لمنشأ المعتقد الديني.
إن ما يعنينا هنا من فيزياء الكم هو نتائجها المعرفية، ودورها في اكتشاف الإنسان لوضعه في هذا الكون وطبيعة علاقته به، بعد أن هزَّت بعمقٍ كلَّ ما كنا نعرفه عن أنفسنا وعن الواقع الموضوعي الذي نتعامل معه، وأدَّت إلى إعادة نظر فلسفية في كل أفكارنا التقليدية المتوارَثة. ولكن، لكي نستطيع أن نفهم هذه النتائج المعرفية، لا بد لنا من عرض مقدماتها بطريقة سهلة تضع القارئ في قلب أكبر مغامرة عقلية في تاريخ الإنسان.
-
H. R. Ellis Davidson, Gods and Myths of Northern Europe, Pelican Books, 1964, pp. 35–38.
-
E. Tonnelat, Teutonic Mythology (in: Larousse Encyclopedia of Mythology, pp. 268–270. 275).
-
Civiliztion and Its Discontents.
-
Obsessive Acts and Religious Practices.
-
Moses and Monotheism, Part 3, sections 2.
-
New Introductiory Lectures on Psycho Analysis, ch. 7.