تمهيد
والعمل الأدبي الذي بين يدَيك محاولة ﻟ «قراءة» هذه الملحمة الجليلة الجميلة قراءةً جديدة. ولا بد قبل الكلام عنه من نبذةٍ مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانب مختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المشتَّتة في متاحف العالم، وقصة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكُتاب البابليون قد اعتمدوا عليها — بجانب التراث الشفاهي القديم — في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها — كتراثٍ إنساني — للوعي العربي الحاضر.
•••
تراكَم حول شخصية جلجاميش مأثورٌ ضخم من القصص والحكايات العجيبة عن استبداده بشعبه، وصداقته النادرة المؤثرة ﻟ «وحش البرية» إنكيدو، ومغامراته معه وأسفاره التي انطلق إليها بعد موته بحثًا عن سر الحياة والموت والخلود، ثم رجوعه إلى وطنه ومسقط رأسه بعد أن «تطهَّر» واقتنع بالحدود التي لا يجوز لإنسانٍ أن يتخطَّاها، مهما صوَّر له الكهنوت أن «ثُلثَيه إلهي، والثلث الباقي بشريٌّ فانٍ».
•••
تبدأ القصة الأولى — وهي جلجاميش وأرض الأحياء — بالقرار الذي اتخذه بطلنا المُغامر بالسفر إلى أرض الأحياء «ليصنع له اسمًا عظيمًا». ويحدِّث «خادمه» إنكيدو — الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه، بل صديقه الأوحد! — برغبته التي صمَّم عليها، فينصحه بأن يتوجَّه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض، وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش). ويقدِّم جلجاميش التضحية للإله، ويتضرع إليه أن يُعِينه في سفره ويشدَّ أزره في الصراع المُقبِل عليه، ويبتهل إليه أن يُساعده على أن يصنع لنفسه اسمًا يخلُد ذكره، وينتشله من الفناء المحتوم على البشر. ويُوافق «أوتو»، ويعِده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف. ويختار جلجاميش خمسين رجلًا من شباب مدينته المُتطوعين لمُرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كوَّنوا أُسرًا بعد. ويبدأ البطل مُغامرته بعد التزود بالسلاح الضروري من الحدَّاد. وبعد اجتياز سبعة جبال وَعْرة يطوقه النوم العميق فلا يُوقظه إنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويُقسِم جلجاميش بأمِّه نينسون وبأبيه لوجال بندا أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذِّره إنكيدو من سحر ذلك الرجل وقوَّته الشيطانية، ويُلحُّ عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يُصرُّ على القرار الذي صمَّم عليه. ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكَّل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المُتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره. ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ويصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه، ويُطلِق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يُبقي على حياته. ويُبدي هذا استعداده — كما في الملحمة تمامًا — للاستجابة شفقةً عليه. غير أن إنكيدو يحذِّره من شر «نمتار» — وهو شيطان، أو إله من العالم السفلي مُختص بالأوبئة — الذي يمكن أن يُصيبهم أذاه. عندئذٍ يسبُّ حواوا «الخادم» إنكيدو، ويصفه بأنه مرتزقٌ أجير، وأنه قد تكلَّم ضده بالشر. وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله إنليل الذي أقامه حارسًا على أرضه ولزوجته ننليل (وإنليل هو إله العواصف الغضوب، ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عُثِر فيها على بعض ألواح الملحمة).
هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نُقشت عليها وملأها بالثغرات والفجوات. والمُلاحَظ على وجه المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه! ولا شك أن كاتب الملحمة قد تأثَّر بهذه القصة وبغيرها، وطوَّر عناصرها في بناءٍ مُحكَم، وأبرز أهم هذه العناصر — وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم — في أكثر من وضع، كما جعله كاتب هذه السطور أحد المفاتيح الهامة لفهم شخصية البطل الأناني المُستبد، وتفسير طغيانه بشعبه وأهله، ولا سيَّما قبل موت صديقه الصدوق وانطلاقه بحثًا عن الخلود لنفسه وشعبه والإنسان بوجهٍ عام.
•••
وتأتي القصة السومرية الثانية التي يُناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية. ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوُّه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص ومن الملحمة أيضًا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدَّمت به ربَّة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المُزدانة بالذهب واللازورد. وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربَّة الحب السومرية التي سمَّاها البابليون عشتار) في وصف المِنح والهدايا التي تعِد بها جلجاميش مُقابل الزواج منها، حتى ينقطع النص مرةً أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئًا يدل دلالةً واضحة على رفض جلجاميش للعرض المُغْري؛ ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتُلحَّ عليه أن يُسلِّمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش. ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها. وعندئذٍ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة، أم على مصير الكون كله)، ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فتُرسِله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين).
وقد بقيت من النص أجزاءٌ أخرى شحيحة، من أهمها قطعةٌ تُسجل جانبًا من حديث إنكيدو مع جلجاميش. ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مَصرع الثور على يد البطلَين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرَّت في رواية الأحداث التي نعرفها. والمرجَّح أن القصة لم تذكر الشتائم المُهينة التي صبَّها كاتب الملحمة — على لسان جلجاميش — على رأس الربَّة الجميلة، كما أنها فيما يبدو لم تتطرَّق لغضب الآلهة — وبخاصةٍ إنليل — على إنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المُهلك الذي تسبَّب في موته، وعبَّر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، والباحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين.
•••
ونصِل إلى القصة الرابعة التي أثَّرت تأثيرًا واضحًا على اللوح الثاني عشر الذي يجمع العلماء، على أنه مُقحَم على الملحمة، ولا ينتمي إليها انتماء عضويًّا كما نقول اليوم. وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وإنكيدو والعالم السفلي»، وهي تبدأ — شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة — بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية؛ إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرَّق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المُخيف «كور»، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرةٍ ضخمة، لعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها. ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتُشفِق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدَّس في مدينة أوروك. وتُعْنى الإلهة العَطوف بالشجرة وتتعهَّدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرًا تنام عليه وكرسيًّا يليق بها. غير أن الأيام لم تشأ أن تُحقِّق حلمها الجميل؛ إذ نمَت الشجرة وصارت جذوعها مأوًى لحيَّةٍ عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مَسكنًا لطائر العاصفة الإلهي الذي بنى عشَّه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتًا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت. تعذَّر على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة، فراحت تبكي بكاءً مرًّا وهي تبثُّ شقيقها إله الشمس أوتو حزنها، وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها. ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرَّر أن يمدَّ لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زِنتُه خمسون رطلًا، وبلطة زِنتُها أربعمائة رطل، وهجم على الحية الجبَّارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها. وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكَّن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المُحبَّة أن تُكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدَّت له طبلة وعصًا يدقُّ بها عليها (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما — كما يُعلمنا الكاتب البابلي — في استغلال شعب أوروك في أعمال السُّخْرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر ١٤٢ وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر ١–٢٠)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشكُّ في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدَّى به إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا في العالم السفلي.»
يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمةً حرفية، وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى — العاصمة الآشورية الثانية — التي وُجدت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال). ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو الباكو والماكو)، ومحاولته استدعاء روح إنكيدو التي تخرج من ثغرة في هذا العالم لتُحدِّثه عن أهواله وظلماته، ويسألها عن مصير أرواح الموتى فيه. وهو كذلك القسم الذي حاولت استلهامه في وضع النهايتين اللتين افترضت أن الملحمة — في هذه القراءة أو الصياغة التي بين يدَيك — يمكن أن تُختم بها، بعد أن ترك الكاتب الأصلي تلك النهاية مفتوحة. والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصِل إلينا، ولم يُخبِرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد أداتَي استبداده العزيزتين على قلبه؛ ولهذا لم أستبعد أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهَّر من استبداده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المُتاح للبشر في هذا العالم، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
•••
•••
أما القصة الخامسة وهي «موت جلجاميش»، فقد وصلت إلينا في حالةٍ شديدة التشوه. ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يُبين له إلهٌ لم يُذكَر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يُقدر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرًا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلَّت تُعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يُطمئنه الإله المجهول ويؤكد له — كما سيفعل إنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة ومن هذه الصياغة — أن ذلك ليس مَدعاة للحزن أو اليأس؛ إذ ضمن له الإله المُلك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة؛ ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك، وترتفع أصوات النواح عليه؛ ثم تفغر فاها الواسع فجوةٌ كبيرة في النص، فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رُفع إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدًا من آلهته الذين يُسمَّون «الآنوناكي»، ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى. وأخيرًا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يُقدِّمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يُختتم النص بترتيلةٍ تتردَّد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه. ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور»، وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة، أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مَقرِّهم الأخير، ولا يُستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوَّعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياءً وفقًا لطقوس الموت. ومع ذلك فربَّما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المُخيف — الذي لا أُفتي فيه عن غير علم — أو تنفيه.
•••
•••
مهما يكن الأمر فقد استطاع شاعرٌ موهوب عاش حوالَي سنة ١٢٠٠ق.م. أن يُبدِع هذا العمل الأدبي الرائع الذي نُسميه جلجاميش، مُعتمدًا على ما سبق أن ذكرناه من التراث السومري والبابلي القديم ومُتحررًا منه في آنٍ واحد. وقد حفظ لنا أحد المأثورات المتأخرة التي لم تتأكد صحتها اسم هذا الشاعر، وهو «سين-ليكي-أونيني»، ولا نكاد نعرف عنه إلا أن إحدى الأسر التي كانت تشتغل بالكهنوت في وقتٍ متأخر في مدينة أوروك قد ذكرت اسمه كأحد أسلافها، ومع ذلك يظل الاسم أمرًا غير ذي بال؛ لأن الشعراء والكُتاب السومريين لم يحرصوا أبدًا على ذكر أسمائهم، ولم يهتمُّوا بأنفسهم كما نفعل اليوم للأسف إلى حدٍّ مرَضي فظيع، ولأن موهبة هذا الشاعر أقدر على التعريف به وتخليده من كل الأسماء (التي لا تعدو أن تكون ضجيجًا ودخانًا يحجب وهج السماء، على حد تعبير جوته على لسان فاوست).
•••
انتشر تأثير الملحمة منذ العصور القديمة، ولا يزال حيًّا وفعَّالًا إلى يومنا الحاضر. ولا يرجع هذا فحسب إلى القيم الجمالية والدينية والتاريخية والاجتماعية … إلخ التي تنطوي عليها، وإنما يرجع إلى أنها تُخاطب «الإنسان» فينا قبل كل شيء، وتُذْكي نِيران أسئلته الكبرى التي لا يجد عنها إجابةً شافية، ولا يملك مع ذلك — على حد تعبير كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) في مقدمته لنقد العقل الخالص — أن يتوقف عن طرحها. ولا نريد أن ندخل في تفصيلات التأثير والتأثر التي لم تزَل موضع التخمين والجدل والخلاف الشديد بين العلماء المجتهدين؛ إذ يكفي أن نُشير إلى بعض مظاهر الاهتمام بترجمتها إلى اللغات القديمة والحديثة، ومحاولات صياغتها واستلهامها، واحتمالات التشابه بين بعض «تيماتها» أو موضوعاتها الأساسية وشخصياتها وبين نظائرها في الأدب القديم والوسيط، بشرط أن نتذكر أن مكتبة جلجاميش و«الأدبيات» التي أُلِّفت عنه قد أصبحت تفُوق الحصر، وفجَّرت أمواجها المُتلاحقة كل الحدود.
وأما عن الترجمات والاستلهامات الأدبية فأكتفي بذكر ما اطَّلعت عليه منها، أو قرأت أجزاءً منه فيما قرأت من دراسات، وهو قليل من كثير؛ فمن الترجمات ما حافَظ على روح الملحمة وهيكلها دون التقيد بالترجمة الحرفية التي تشوبها كثرة الثغرات والفجوات بما يتعذر معه مُتابعة السياق، مثل ترجمة فيلهيلم فندلانت (برلين ١٩٢٧م)، وجورج بورخارت (فرانكفورت ١٩٥٨م)، والأستاذة ن. ك. ساندرز (سلسلة بنجوين ١٩٧٢م، ولها ترجمةٌ عربية للأستاذين محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي، القاهرة ١٩٧٠م)، ومنها ما التزم بالترجمة الدقيقة مع استكمال الفجوات الأصلية من الشذرات البابلية القديمة أو الترجمات الحيثية، مثل ترجمة ألبيرت شوت التي سبق ذكرها، وترجمات ألكزندر هايديل، شيكاغو ١٩٦٣م؛ وجاردنر ومير، نيويورك ١٩٨٥م؛ وي. س. طومسون، أكسفورد ١٩٣٠م؛ وأ. أ. شبايزر، ضمن كتاب بريتشارد المعروف: «نصوص من الشرق الأدنى القديم في ارتباطها بالعهد القديم»، برينستون ١٩٥٥م، ١٩٧٥م؛ والترجمتين العربيتين عن الأكدية للمرحوم الأستاذ طه باقر، بغداد ١٩٨٠م؛ والدكتور سامي سعيد الأحمد، بغداد ١٩٨٤م؛ وترجمة الأستاذ فراس السواح التي وفَّقت بين ترجماتٍ إنجليزية مختلفة، دمشق ١٩٨٧م؛ والترجمة الشعرية البديعة للشاعر العراقي الكبير عبد الحق فاضل بعنوان: «هو الذي رأى»، بيروت ١٩٧٢م؛ وكل ذلك بجانب نصوص من الملحمة وردت في دراساتٍ قيمة، من أهمها في العربية كتاب هنري فرانكفورت وزملائه: «ما قبل الفلسفة، الإنسان في مُغامرته الفكرية الأولى»، من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بيروت ١٩٨٠م؛ والأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم، دراسة في ملحمة جلجاميش، للدكتور محمد خليفة حسن أحمد، بغداد ١٩٨٨م. حتى إذا تركت حقل الدراسات العلمية والأكاديمية وبحوث علماء الآشوريات في كتبهم ومقالاتهم في مجلة «سومر» وغيرها من الدوريات المُتخصصة، أحزنك ألا تجد في العربية عملًا أدبيًّا واحدًا استوحى هذا الأثر الخالد باستثناء مسرحية شعرية مُتواضعة للشاعر العراقي يوسف أمين قصير، بعنوان: «جلجاميش في العالم السفلي»، بغداد ١٩٧٣م، ومُعالجة مسرحية شائقة من نوع «المونودراما» للعرائس التي يُحركها وينطقها مُمثلٌ واحد هو الفنان العراقي سعدي يونس (وقد أسعدني الحظ بمُشاهدتها، ولم يُسعدني بالاطلاع على نصها). ولا شك أن هذا دليل كافٍ على أن الملحمة لم تصِل بعدُ إلى الوعي العام، ولم تُحرك وجدان المُبدِع العربي، وهو أولى الناس بالاهتمام بإرثه وامتلاك ميراثه؛ لعله أن يتصرَّف فيه تصرُّف الحر، ويُدرك مدى تغلغُل «نموذجه الأصلي» في شعوره أو لاشعوره الفردي والجمعي عبر العصور والأجيال.
•••
- (أ)
إذا لم يكن جلجاميش هو أول بطل إنساني، فهو على التحقيق أول بطل مأساوي في تاريخ الأدب العالمي. وإذا كانت مأساته تكمن في فشله النهائي في التوصل للخلود الذي شقي شقاءً لا يوصف في السعي إليه، فإن هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته التي تجعله أقرب إلينا من كثير من أبطال المآسي القديمة والحديثة. ومع أن شاعر الملحمة قد جارى الكهنوت أو التقاليد الدينية والأسطورية القديمة في تصوير جماله وقوَّته في صورةٍ خارقة للمقاييس البشرية، وصرَّح أكثر من مرة بأن «ثُلثَيه إلهي والثلث الباقي بشري فانٍ»، فقد حرصت من جانبي على تأكيد إنسانيته وإبراز ضعفه وتردُّده في كثير من مواقفه وهواجس رؤاه وأحلامه، وعلى تتبُّع «تطهُّره» التدريجي من تألُّهه وتجبُّره وتسلُّطه، بل من تمرُّده المؤلم والعقيم على قوانين الموت والفراق المحتوم. والواقع أن بِنية الملحمة نفسها تُوحي بأنها نوع من القص الإنساني أو «العلماني» كما نقول اليوم؛ فلم يثبُت للعلماء أنها كانت تُتلى مع الطقوس الدينية كما كان الحال مع قصيدة الخلق البابلية «إينوما إيليش» (عندما في الأعالي)، وبقيت قصةً إنسانية على الرغم من إطارها الأسطوري وتدخُّل الآلهة — وبخاصةٍ شمش — في كثير من أحداثها. أضِف إلى هذا أن موت صديقه كان ضربةً ساحقة لأُلوهيته المزعومة، فجَرَت فيه بشريته المذعورة من «حظ البشر»، وأطلقت بحثه اللاهث وسؤاله المحموم عن الخلود لنفسه أولًا ثم لشعبه بعد ذلك. ولا ننسى أخيرًا أن مأساويته ترجع في جانب منها إلى التشاؤم القاتم الذي طبع منذ القِدم وجود الإنسان في أرض النهرين؛ بسبب قلقه الدائم من قوى الطبيعة المُدمِّرة، وهجمات المدن المُجاورة، وغزوات القبائل البدوية المُتوحشة وغاراتها المُفاجئة، وخوفه المُقيم من مصيره التعِس في عالم لا عودة منه، عالمٍ سفلي خالٍ من النور والأمل، كُتِب فيه على أرواح الموتى أن تعيش كالطيور الصامتة على التراب، وتقتات من الطين، وتتعذَّب خلف الأبواب المُغلَقة في قبضة الملكة المُخيفة أريشكيجال وزوجها نرجال وزبانيتهما الأشدَّاء.
- (ب)
وإذا كان الغربيون يؤكدون أن «أوديب» هو أول فرد حاوَل أن يستقلَّ بنفسه عن روح الجماعة ويُخلصها من نسيج تقاليدها وأساطيرها وكهنوتها، وإذا كانوا يفتخرون بأن سقراط هو أول من طبَّق حكمة معبد دلفي والحكماء السبعة «اعرف نفسك» بصورةٍ أخلاقية عقلية، وأول من تمثَّلت فيه الذاتية الوجودية الحقَّة بكل تمزُّقها بين النهائي واللانهائي، وبين المحدود والمُطلَق (على نحو ما صوَّرها كير كجارد في رسالته المُبكرة عن مفهوم الدعابة مع التركيز المستمر على سقراط)، فمن حق أبناء حضارة هذه المنطقة من العالم أن يردُّوا عليهم بأن جلجاميش قد سبق أوديب في إصراره على فرديته مهما كلَّفه ذلك من الاغتراب عن وطنه وشعبه، والمُغامرة في اقتحام المخاطر والمهالك، وأنه قد تفوَّق على سقراط في «الذاتية» التي قادته على الطريق الوعر، طريق معرفة النفس وحدودها ومكانها من العالم وعلاقتها بالآلهة والبشر، وطريق البحث الشائك عن معنى الحياة والموت والخلود. والدليل على هذا أن ملحمته التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ما زالت تُحرِّك عقولنا وقلوبنا في أواخر القرن العشرين، وما فتئت تُثيرنا ببساطتها وعفويتها، دون أن يُقلل من استمتاعنا بها أسلوب الاستطراد والتكرار والتقرير والارتجال الذي يطبع الأدب الشعبي والقصص الشعبي بوجهٍ عام.
- (جـ)
انتقد بعض فلاسفة الغرب (مثل فيلسوفَي مدرسة فرانكفورت ومؤسسي النظرية النقدية الجدلية، وهما ماكس هوركهيمر وتيودور أدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير الذي صدر عام ١٩٧١م) حركة التنوير العقلي الأوروبي، وأكَّدا أن التنوير ظل طوال تاريخه الطويل مُتداخلًا مع الأسطورة التي كان ينتزع نفسه منها لكي يرتدَّ إليها من جديد بصورةٍ أبشع (كما حدث للعقل الذي سقط في اللاعقلانية المروِّعة مع كارثة قيام الأسطورة النازية وتحطُّمها). والمعروف أن التنوير الأوروبي قد بلغ ذروته في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأن أقطابه قد أكَّدوا سلطة العقل النقدي الذي تُقاس عليه كل سلطة أخرى، بما في ذلك سلطة التراث الديني، وعرَّفه كانط — رأس المثالية الألمانية الحديثة — بأنه هو خروج الإنسان من الوصاية وبلوغه مرحلة الرشد؛ أي مرحلة معرفة الذات والتحرر من الخرافة والإقطاع والتعصب، والاتجاه — على هدى النزعة الإنسانية والفلسفة العقلانية وتطور العلوم الطبيعية — إلى توحيد البشرية العاقلة تحت لواء التسامح والتقدم والاستنارة. والذي يهمُّنا في هذا المقام أن الفيلسوفين السابقَي الذكر قد أرجعا التنوير إلى جذوره الأولى في التاريخ الغربي، وزعما أن «أوديسيوس» — بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس — هو أول «مُستنير» أوروبي استطاع بخبثه وذكائه التخلص من سحر الأسطورة ومن كيد بعض الآلهة والعمالقة له ولرفاقه في رحلته الخطرة. وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الرأي، وعن تأرجح التنوير الغربي منذ ذلك الحين بين التقدم والتراجع، ففي تقديري أن جلجاميش كان أسبق إلى التنوير أو الاستنارة من أوديسيوس بألف وخمسمائة عام على الأقل. كانت مُغامراته تحديًا مستمرًّا للأساطير المسئولة إلى حدٍّ كبير عن تألُّهه وجبروته واستعباده لشعبه ولهاثه المُضني وراء حلم الخلود المستحيل، وظل يخرج من أساطيره وأحلامه بالتدريج ويتحوَّل عنها خطوةً بعد خطوة، حتى يئس منها بعد ضياع نبتة الخلود من يدَيه، ثم تطهَّر منها — أو هذا على الأقل هو تفسيري لخاتمة الملحمة! — مع عودته إلى مسقط رأسه في أوروك، وعزمه على وضع يده في يد شعبه لتحقيق الخلود الوحيد المُتاح للبشر أثناء حياتهم على الأرض، وهو بناء الحضارة وإيثار ما ينفع الناس ويمكث في الأرض على الشهرة الكاذبة والتسلط الأناني والمجد الشخصي. ومع ذلك فربَّما ينظر إليَّ القارئ نظرة المُتشكك الساخر وهو يسأل: إلى أين أوصلهم التنوير الذي بدأ مع أوديسيوس، وإلى أين وصلنا بالتنوير الذي بدأه جلجاميش؟! وله وحده أترك الإجابة على هذا السؤال على ضوء محنتنا الراهنة، أو بالأحرى في غياهب ظلماتها.
ليس القِدم وحده هو الذي يُضفي على جلجاميش هالة الجلال والصدق والجمال؛ لأن أشعَّة هذه القيم الباقية تنبعث من تكوينها الفني ومضمونها الفكري، والدلالات التي يُوحي بها شعرها وأحداثها وشخصياتها على مأساة الإنسان في وجوده القلِق، وبحثه عن المعنى والمعرفة، وسؤاله عن سر الحياة والموت والمصير، بجانب دلالتها على النموذج الأصلي أو الأوَّلي — على حد تعبير عالم النفس كارل جوستاف يونج — للشخصية الشرقية المُستبدة في بُعدها الأسطوري والتاريخي، ومدى ما بقي منها من رواسب فاعلة في وعينا ولاوَعْينا الحاضر (وإن كان جلجاميش، في تفسير بعض الباحثين والتفسير الذي ارتضيته لنهاية هذا العمل، يقدِّم مثلًا نادرًا في تاريخ القهر والقمع الطويل لهذه المنطقة من العالم على الحاكم الذي تطهَّر من طغيانه)؛ ولذلك فإن جلجاميش وعاءٌ أثري وفني يحتوي على مزيجٍ مأساوي مُدهش من مُغامرة الإنسان بحثًا عن نفسه، وصراعه الأخلاقي مع الشر، ورؤاه ومواقفه الوجودية التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها، والتصميم على تحقيق أمل «يوتوبي» يبدو في حكم المستحيل. أضِف إلى هذا أهم ما اشتهر به جلجاميش وضمِن له الشمول والحضور وراء حدود المكان والزمان، وهو سعيه الدائب إلى الخلود الذي يُمكنه من الإفلات من «حظ البشر»، ويُعِينه على تخطِّي أسوار الفناء الذي يُحاصر حياته في كل لحظة، ويلتهم كل أعماله وأتعابه وما بنت يداه؛ ثم إنها تُخاطبنا اليوم أيضًا — كغيرها من أمهات النصوص في تراثنا الأدبي والحضاري — في سعينا الدائب لمعرفة هويتنا وتحقيقها، وفي تطلعنا لإرساء الأساس الأول المُفتقد لوجودنا وتقدُّمنا على درب التحضر والتطور، ألا وهو الحرية. وهل ثَمة سبيلٌ يُقربنا من هويتنا مثل تفهُّم نصوص تراثنا، وتجديد حضورها في وعينا، وجعلها مُعاصرةً لنفسها ولنا في وقتٍ واحد (على حد التعبير الجميل الذي يُوجه بحوث المُفكر العربي محمد عابد الجابري في التراث العربي والإسلامي)؟!
•••
وتبقى أمورٌ عديدة في هذه «القراءة» أو «المعالجة الدرامية» أو «الاستلهام» لنصٍّ قديم حاولت أن أجعله مُعاصرًا، وتحيَّرت كثيرًا في توصيفه (فلا هو مسرحيةٌ ملحمية على غِرار مسرحيات سابقة جرَّبت كتابتها، ولا هو ملحمةٌ درامية لأن التعبير يحمل تناقُضه في ذاته)، وأكتفي بالإشارة إلى هذه الأمور التي لا يتسع المجال لمُناقشتها بالتفصيل، تاركًا الحكم على العمل للقارئ الذي سيقرؤه ويُفسره ويُعِيد خلقه على طريقته؛ فالأزمنة تتداخل فيه بحيث نعيش في زمن الملحمة نفسها بأحداثها ومواقفها، وبحيث يستطيع القارئ أن يتعرَّف عليها وإن لم يسبق له الاطِّلاع على إحدى ترجماتها، كما نعيش في زمن شيوخ أوروك الذي هو في الحقيقة «لا زمن الجوقة» المُعبر عن صوت الضمير الجمعي وراء كل زمن أو مكان محدَّد، ثم في زمن الراوية الذي ينطق بصوت الحاضر ويطرح أسئلته، ويقدِّم العمل كله على هيئة «أمثولة» يمكن أن نتعلم منها. وهناك تحوُّلات جلجاميش من الأنا إلى النحن، ومن التسلط إلى التطهر، ومن الذعر من الموت إلى الإيمان بقانون اللحظة الراهنة؛ لحظة الوعي الحر والعمل الخلَّاق من أجل الآخرين؛ ومن ثَم تصبح جلجاميش على نحو من الأنحاء لونًا من ألوان «الرواية التربوية» أو التعليمية التي تتتبع تطوُّر البطل في معرفته بنفسه وبالعالم والمجتمع، وتحوُّله من الحلم المُستحيل إلى واقع المشكلات التي تؤرِّق الناس في حياتهم «هنا والآن». وتأتي بعد ذلك الشخصيات التي تعاطَفت معها، وحاولت أن أعمِّق خطوطها وظلالها وملامحها: كاهنة الحب «شمخات»، وحبها الصامت الحزين لإنكيدو الذي حوَّلته من وحش البرية إلى إنسان، ثم حوَّل موته وحش أوروك المُستبد إلى إنسان. وأورشنابي الملَّاح الخفيف الظل الذي يحيا الخلود على طريقته العدمية في اللحظة العابرة. وسيدوري الأبيقورية البابلية التي حبست بحار الأبدية والأزلية بين جدران كأسها المُتلألئة الصافية. وعشتار العاشقة المُتفانية والمُنتقمة الباكية التي تصبُّ لعناتها فوق أوروك وكل المدن التي أنكرت الحب، فحقَّ عليها القحط والجدب والجفاف. إلى آخر الشخصيات والمواقف والصور والأصوات التي أترك لك الحكم لها أو عليها، راجيًا في النهاية أن تدخل عالم جلجاميش، وتُشارك في محاكمته والحوار معه والحكم له أو عليه.
والمنطقة التي استقرَّ فيها السومريون تُعادل ثُلثَي المنطقة الواقعة جنوبيَّ بغداد، والمحصورة بين مجرى نهر الفرات ودجلة، وقد سُمِّيت سومر أو شومر. اختلط هذا الشعب الفذ بالسكان الأصليين منذ هجرته إلى أرض الرافدين حوالَي منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وبقي تأثُّره الحضاري والثقافي من حيث اللغة والدين والكتابة المسمارية (أو الأسفينية التي يرجع له الفضل في اختراعها) مُستمرًّا خلال جميع العصور التاريخية حتى ساعة انطفاء الومضة الأخيرة من حضارة الكتابة المسمارية في الشرق القديم. والمهم أن السومريين قدَّموا النموذج الحضاري والثقافي الذي بقي حيًّا مؤثِّرًا حتى بعد زوال دولهم وتخريب مدنهم وانقراض شعوبهم، وأن البابليين والآشوريين قد أخذوا عنهم — بجانب الكتابة المسمارية على الألواح الطينية — الكثير من نماذج التفكير والتدين والحكم والعمل، ومن أشكالهم الفنية وأجناسهم الأدبية، ثم طوَّروها بعد ذلك في أعمالٍ أنضج وأكمل، وأشهر الأمثلة على ذلك هي ملحمة جلجاميش نفسها التي تقوم في جزء منها على الأقل على أصولٍ قصصيةٍ سومرية سنعرفها بعد قليل.
- (١)
شذرةٌ ترجع كتابتها لحوالَي سنة ١٨٠٠ق.م. وتوجد في متحف برلين، وهي معروفة باسم شذرة ميسنر — نسبةً للعالم الذي نشرها لأول مرة سنة ١٩٠٢م — ويبدو أن القصة التي ترويها قد أُضيفت إلى اللوح العاشر من الملحمة بعد تغيير مضمونها.
- (٢)
شذرتان أحدث من السابقة بحوالَي مائة عام، وتُعرَفان باسم لوح بنسيلفانيا ولوح ييل، نسبةً إلى متحفَي الجامعتين الأمريكيتين اللتين تحتفظان بهما. ويظهر مضمونهما — بعد اختصاره وتغييره — في الأجزاء الأخيرة من اللوحين الأول والثاني وفي بداية اللوح الأول من الملحمة المُتداولة اليوم.
- (٣)
لوح في متحف بغداد يبدو أنه كان من ألواح التدريب على الكتابة التي كان يتمرَّن عليها التلاميذ، وهو يروي أحد أحلام جلجاميش التي تذكِّرنا بالأحلام الثلاثة الواردة في اللوح الخامس من الملحمة. وقد استعان المُترجم الألماني ألبيرت شوت بنص هذه الشذرة في استكمال الفجوات التي وجدها في النص الآشوري الحديث.
- (٤)
شذرةٌ نشر نصَّها العالمُ ن. باور سنة ١٩٥٧م في مجلة دراسات الشرق الأدنى، وعليها قصة قتل المارد خمبابا حارس غابة الأرز، وهي تُقابل الجزء الأخير من اللوح الخامس من الملحمة وإن لم تتطابق معه.
وتختلف نصوص الشذرات السابقة الذكر اختلافًا كبيرًا عن نصوص القصص السومرية التي لخَّصناها؛ مما يدل على أن الصياغة البابلية للملحمة كانت قد بدأت بالفعل قبل أن تكتمل وتتوحد على الصورة المعروفة. وقد عُثر بين وثائق الملوك الحيثيين التي وُجدت في أطلال عاصمتهم — التي كانت تقع في الأناضول بالقرب من قرية «بوغازي كوي» التركية في آسيا الوسطى — على شذراتٍ أخرى أحدث من السابقة بما يقرُب من أربعة قرون. وقد كُتِب أحد ألواحها باللغة الأكدية، واستكمل به العلماء نواقص العمود الثاني من اللوح الخامس للملحمة، كما ضاهَوا بعض أجزائه على اللوح السادس. وأما بقية الشذرات فقد كُتبت باللغة الحيثية، ونشر معظمَها العالمُ الألماني ج. فريدريش في مجلة الآشوريات سنة ١٩٣٠م، واستعانت بها الترجمة الألمانية التي اعتمدت عليها في تكملة فجوات النص الآشوري في بداية اللوحين الأول والسابع والأعمدة من الثالث إلى الخامس من اللوح الخامس. وأخيرًا وُجدت شذراتٌ أخرى في «سلطان تبة» بجنوب تركيا، كما وُجدت في بوغازي كوي بعض شذرات باللغة الحورية، ولم يتمكن العلماء إلى اليوم من فك جميع رموزها. وعُثر في أطلال مدينة «مجيدو» الفلسطينية القديمة على شذرةٍ تحتوي على أجزاء من اللوح السابع عن موت إنكيدو، وربما تُشير — كما تقول الأستاذة ساندرز — إلى احتمال وجود نسخة كنعانية متأخرة من الملحمة أو أجزاء منها كانت معروفة أو على الأقل قريبة من مؤلِّفي الأسفار الأولى من العهد القديم. وعلى كل حال فإن هذه الشذرة ترجع إلى نفس الفترة الزمنية التي دُوِّنت فيها الشذرات السابقة على عهد الملوك الحيثيين الذين عاصَروا الفرعون أمينوفيس الثالث من الأسرة الثامنة عشرة (١٤٠٥–١٣٨٠ق.م.)، وابنه أمينوس الرابع (وهو إخناتون الشهير من ١٣٧٠–١٣٥٢ق.م.)، وتبادلوا معهما رسائل مدوَّنة بالخط المسماري، وعُثر عليها في تل العمارنة، وسُمِّيت باسم عاصمة الموحِّد العظيم؛ أي رسائل تل العمارنة. وجدير بالذكر أن بعثة الآثار الألمانية قد عثرت في مدينة أوروك نفسها — وهي مدينة جلجاميش كما سبق القول — على شذرتين مدوَّنتين باللغة الأكدية، ويُرجَّح أنهما يرجعان للقرن السادس قبل الميلاد، ووُجدت شذراتٌ أصغر حجمًا في أطلال العاصمة الآشورية القديمة آشور على نهر ودجلة، وكذلك على تل «سلطان تبة» جنوبيَّ تركيا بالقرب من مدينة حرَّان. وقد توفَّر بعض علماء الآشوريات — مثل فلكنشتين وإيبيلنج وجورني وهايدل — على نشر هذه الشذرات، وأفاد منها مُترجمو الملحمة في إصلاح وتكملة أجزاء من بعض ألواحها (كالثاني والرابع والسابع والثامن)، ومحاولة التنسيق بين مختلف أجزائها في وحدةٍ مُتجانسة، وذلك على الرغم من الفروق الكثيرة التي تفصل بين الأصول الأكدية والترجمات الحيثية، كما تُباعد بين الأماكن والأزمان التي وُجدت فيها تلك الشذرات (راجع مقدمة ألبيرت شوت لترجمته للملحمة، ومراجعة فون زودين لها، شتوتجارت، ركلام، ص٨–١٣).