ثانيًا: أفكار موجهة لقواعد التفسير للظاهريات١
وهي قواعد تنطبق على كل عمل فلسفي، وليس على النص الظاهرياتي وحده إذا كان متشعبًا بين التطور والبنية، والنشأة والاكتمال، والنظرية والتطبيق، والفلسفة والمنهج، والرؤية والتاريخ. وظيفتها جمع المادة العلمية في آليات منهجية واحدة من أجل القراءة الدالة، والنتائج العامة بدلًا من التقسيم والتجزيء والتفتيت بدعوى التحليل العلمي ومعرفة الجزئيات.
كما تنطبق على النصوص الدينية التي تتسم بنفس طابع الشتات والتشعيب من أجل إعادة جمعها في منظور كلي واحد، وتنطبق أيضًا على النصوص القانونية خاصة في بعض حالاتها، مثل: القاعدة الرابعة عن الحرف والروح في القانون، وتنطبق كذلك على النص الأدبي لتفسير وحدة العمل الروائي أو الشعري خاصة في الدراسات البنيوية والوصفية، وقد تنطبق أخيرًا على النص التاريخي من أجل تحليل رؤية المؤرخ التي تحدد نصه؛ فالتاريخ تدوين، والتدوين رؤية وتعبير.
(١) من اللفظ إلى الشيء، ومن الشيء إلى اللفظ٣
يتم فهم الظاهريات عن طريق الانتقال من اللفظ إلى الشيء دون المرور بالمعنى أو المفهوم، وبعد تطور الظاهريات إلى الأنطولوجيا الظاهراتية فيما بعدُ بانت اللغة على أنها «منزل الوجود»، لقد استعارت لغة الظاهريات مصادرها الأولى من الرياضيات والمنطق وعلم النفس والفلسفة، ولكنها تشير إلى أشياء بسيطة في الحياة اليومية، ثم أصبحت علمية تقنية اصطلاحية للغاية يصعب استعمالها في الخبرات البسيطة في الحياة اليومية، فإذا حدث انتقال من اللفظ العلمي إلى الشيء البسيط من خلال المعنى العلمي للفظ فإنه من الصعب إدراك الشيء. ويغطي المفهوم المعتمد الشيء، ويغلفه في عديد من النظريات المستخرجة من اللفظ، وإذا توسط المفهوم بين اللفظ والشيء فإنه لن يتم الانتقال من واحد إلى آخر.
ويتم الانتقال من الشيء إلى اللفظ في الفهم التلقائي للشيء الذي تصفه الظاهريات، فإذا كانت الظاهريات، في الواقع، عودًا إلى الأشياء ذاتها، يكون من الأسهل الاتصال بالأشياء ذاتها مباشرة لإدراك ماهياتها دون المرور بالتحليل المحدد الذي قامت به الظاهريات من قبل، وبتعبير آخر يكفي لفهم الظاهريات العود إلى الأشياء ذاتها التي تتحدث عنها دون المرور بالرطانة الظاهراتية، وبعد هذا الاتصال المباشر مع الأشياء ذاتها يمكن التعبير عن الماهيات المدركة تلقائيًّا بلغة عادية مطابقة لبساطة الأشياء الموصوفة. ويتم الانتقال من الشيء إلى اللفظ تلقائيًّا وحتى دون المرور بالوصف الظاهرياتي للشيء أو باللغة التي استعملتها الظاهريات للتعبير عنه.
في الظاهر تبدو الظاهريات منهجًا معقدًا للغاية، خاصة فيما يتعلق ﺑ «الجهاز المفاهيمي»، في حين أن الظاهريات في الواقع منهج بسيط للغاية، وإذا جذب هذا التعقيد المفاهيمي عديدًا من الباحثين عن وعي، فإن بساطتها تجذبهم أيضًا عن لا وعي، فلا يوجد أبسط من الإدراك الحدسي لواقع عياني ينكشف داخل الخبرة الحية، الإغراء العقلي للأكاديميين هو إذَن المسئول عن هذه الحالة من التعقيد الذي يجد فيها المنهج الظاهرياتي نفسه الآن.
وعن طريق الفهم المباشر العميق تترك اللغة ويترك المفهوم جانبًا من أجل الذهاب إلى الأشياء ذاتها، ويمكن للغةٍ خاصة، وهي لغة الظاهريات، أن توقع في الخطأ لو أُخذ كل لفظ على أنه مفهوم أو شيء، فليست المفاهيم في الظاهريات إلا الأشياء ذاتها التي يحياها الشعور، هي دلالات تحيل إلى الأشياء ذاتها، ومن أجل اختصار الطريق، يعني الفهم ترك اللغة والمفاهيم للوصول إلى الأشياء ذاتها، يعني أخذ موقف المؤلف وهو يحفر في الأشياء ذاتها، ثم يحولها إلى دلالات، ثم يعبر عنها باللغة، يعني إذَن التحول من الشيء إلى المفهوم، ومن المفهوم إلى اللغة، وتأخذ الدراسات الثانوية الطريق الثاني، من اللفظ إلى المعنى، ومن المعنى إلى الشيء، صحيح أن اللغة منزل الوجود ولكن بعد بالتأمل في نواتها في الاشتقاق، وتصبح نزعة خارجية لو زعمت أنها تدرك الشيء ذاته عن طريق تجميع العبارات.
(٢) من اللفظ إلى المفهوم، ومن المفهوم إلى اللفظ٧
إذا تم الانتقال من اللفظ إلى الشيء أو من الشيء إلى اللفظ مباشرة دون توسط المفهوم، فما هو دور المفهوم أو المعنى أو الفكر أو الماهية؟ ما هو دور العقل نفسه كصلة بين اللغة والمواقع؟
يستطيع العقل أن يبرر كل شيء، يستطيع أن ينسب أي معنًى إلى أي نص سواء كان دالًّا أم غير دال، كما يستطيع نقد كل شيء، وليس عليه أي ضابط لو ترك على سجيته، وما يقلل من حدة العقل هذه هو الحدس؛ إذ يعطي المناسبة لصلة مباشرة مع الواقع الذي يعمل ﮐ «فرملة» لتجوال العقل، وتستطيع القصدية السارية في النص من أوله إلى آخره للتخفيف من آثار العقل باكتشاف المعنى الحال في النص وليس المعنى الذي يسقطه العقل عليه.
يستطيع العقل أن ينقد كل شيء، هو مجرد آلة للتشريح وتقليب المسألة من كل جوانبها، بل يستطيع أن يقول الشيء ونقيضه وإسقاطه على النص الظاهرياتي، يحول هذا النص إلى مادة صماء، تتغير في كل الاتجاهات الممكنة.
(٣) من المفهوم إلى الشيء، ومن الشيء إلى المفهوم١٣
وبمجرد الحصول على الفكرة فإنها تستطيع الإشارة مباشرة إلى الشيء؛ لأن الفكرة والشيء، العقل والواقع واجهتان لشيء واحد، يتم الفهم إذَن قبل أي استعمال للغة؛ فالظاهريات بعد قلب النظرة، معمل متنقل حي وصامت يستمع إلى صوته الداخلي، وينصت إلى شعوره التأملي وهو يحلل مضامين ويدرك دلالات؛ ومن ثَم تُستبعد لغة الظاهريات مؤقتًا للتحقق من مطابقة المفهوم للواقع، وأكبر عمل للظاهريات هو أن يتم بينه وبين نفسه أي بين الفكر والواقع كما يتحقق منه، فإذا استطاع أن يجد التطابق بينهما، أي إنه إذا استطاع أن يدرك دلالات الخبرات الحية وماهيات الأشياء ليرى الحقيقة في الواقع، في هذه الحالة تكتمل الظاهريات وتتحقق غايتها.
فكل محاولة لفهم الظاهريات دون إدراك مسبق للماهيات من ناحية، ودون إحالات إنسانية في الحياة اليومية من ناحية أخرى، يظل النص الظاهرياتي، كما هو الحال الآن، منطويًا على ذاته، وسجين مذهب مغلق من مصطلحات تعالمية وأفكار مركبة.
(٤) من الروح إلى الحرف، ومن الحرف إلى الروح١٤
هذه القاعدة، من الروح إلى الحرف، ومن الحرف إلى الروح، هي قاعدة انتقالية بين القواعد السابقة الخاصة باللفظ والمعنى والشيء والقواعد التالية الخاصة بالكل والجزء، الحرف هو اللفظ، والروح هي المعنى الذي يحيل إلى الشيء، الحرف هو الجزء، والروح هي الكل؛ فالقواعد تتداخل فيما بينها، وربما ترد جميعًا إلى قاعدة واحدة، الإدراك بالحدس الكلي وبالروح السابق على الأجزاء والحروف.
(٥) من الكل إلى الأجزاء، ومن الأجزاء إلى الكل١٦
(٦) من المركز إلى المحيط، ومن المحيط إلى المركز١٩
النص الظاهرياتي نص متضخم وثري، والثراء الزائد يؤدي إلى التشتت، ومع ذلك فإن له مركز، وتركيز الانتباه على المركز يمنع من التشتت، ولفهم الظاهريات ينتقل الذهن من المركز إلى المحيطة، ومن المحيط إلى المركز، وفي كل مرة يضيع الظاهرياتي في شتات المحيط فإنه سرعان ما يعود إلى وحدة المركز، يجمع الشتات، ويوحد القصد. وفي كل مرة يشعر الظاهرياتي بضيق المركز فإنه سرعان ما يعود إلى رحابة المحيط، وهي نفس القواعد السابقة ولكن بصورة أخرى؛ فالمركز هو الكل، والمحيط الأجزاء؛ المركز هو الروح، والمحيط الحرف؛ المركز هو المعنى، والمحيط اللفظ.
(٧) من الوحدة إلى الكثرة، ومن الكثرة إلى الوحدة٢١
لذلك لا ينخدع أحد بالمصطلحات والآليات الظاهراتية، فيقال نفس الشيء بطرق متعددة، مرة بلغة الرياضيات، وأخرى بلغة المنطق، وثالثة بلغة علم النفس، ورابعة بلغة الفلسفة … إلخ. لا يتم التوقف إذَن عند اللغة وأساليب التعبير وألفاظه، كانت بضاعة العصر، كما أن الجهاز المفاهيمي في الظاهريات كان عادة العصر؛ لذلك لا يشير تعدد وسائل التعبير إلى تعدد أشياء مقابلة، وهذا يفسر ظاهر التكرار في مجموع النص الظاهرياتي؛ إذ تتطلب كثرة المصطلحات استعمالها في مواطن عديدة.
الظاهريات مليئة بعدد ضخم من المفاهيم والتصورات، فكيف يمكن تذكرها؟ يستحيل إبقاؤها في الذهن بكل دقيقاتها واختلافاتها المتشعبة، مع ذلك يسهل ردها إلى مفاهيم رئيسية، وتصورات مفاتيح، فترد التقسيمات الفرعية إلى التقسيمات الرئيسية، وترد التقسيمات إلى الأشياء المقسمة، والأشياء المقسمة إلى مصادرها، ودون ذلك، تظل الظاهريات أفكارًا متناثرة، من الصعب تجميعها في منهج عام.
(٨) من التركيب إلى التحليل، ومن التحليل إلى التركيب٢٣
هذه القاعدة هي آخر صيغة لقاعدة من الكل إلى الأجزاء، ومن الأجزاء إلى الكل؛ إذ لا يمكن تحليل الجوانب المختلفة للظاهريات دون الحفاظ على اكتمال العلم، وإلا تشعَّبت الظاهريات إلى رياضيات ومنطق وعلم نفس وعلم اجتماع وفلسفة … إلخ. إن مجموع العلم هو الذي يسمح بفهمه في أحد جوانبه، كما أن التحليل يسمح ببناء العلم في كل جوانبه، وإن تحليل الرياضيات والمنطق وعلم النفس والفلسفة داخل الظاهريات يسمح بوضع قواعد المنهج الظاهرياتي المتكامل.
(٩) من الأعمال المعاصرة إلى أعمال الظاهريات، ومن أعمال الظاهريات إلى الأعمال المعاصرة٢٨
(١٠) من الحاجة إلى العمل، ومن العمل إلى الحاجة٣٣
ليس من الضروري أن يكون لكل كلمة ولكل عبارة معنًى في النص الظاهرياتي؛ فالمعنى لا يخرج قسرًا من النص بل إنه يعطي نفسه تلقائيًّا إلى شعور الظاهرياتي؛ ويعتمد فهم معنى النص دائمًا على حاجة المفسِّر وعلى النص الذي يستقبل فيه شعور الظاهرياتي انفعالًا خالصًا؛ فيتم التوقف عنده لتحليل انفعاله، ويكون هو معنى النص؛ فالمعنى علاقة متبادلة بين الشعور والنص، بين الذات والموضوع، بين الشعاع الخارج من الشعور إلى النص والشعاع المقابل الداخل من النص إلى الشعور.
يتم الفهم إذَن طبقًا لما يريد الشعور فهمه، الفهم مشروط بحاجات الشعور المفسر، لا يعطي النص معنًى قسرًا، بل إن النص نفسه هو الذي يرسِّب معناه من خلال قراءته، والشرح أسوأ فهم لأنه يريد طوعًا أو قسرًا إعطاء معنًى لنص دون أن تدعو حاجة إلى ذلك.
ولا يأتي فهم لمعنى عبارة على نحو خارجي بل على نحو داخلي؛ فالفهم مشروط بالحاجة لفهم النص، يسدُّ حاجة في الشعور المولع بالفهم رغبةً في المعرفة، فإذا ما كان الشعور في مواجهة نص دون أي توجه مسبق تكون النتيجة مجرد تكرار، وهذا لا يمنع على الإطلاق من ضرورة وجود شعور محايد أمام النص، وأقل قدرة من اليقظة ضروري للفهم، ليس الشعور فارغًا تمامًا أمام النص، إن مجرد الاهتمام بالنص الظاهرياتي يكفي لهذا الحد الأدنى، ويكفي أن يغوص الباحث في أعماق ذاته كي يرى الأشياء نفسها التي يُعبر النص عنها، وفي التطبيق ما يهم هو معرفة أين يوجد الخلط في أي علم إنساني، ثم البحث عن التمييز الجوهري في الظاهريات الذي يمكنه توضيح هذا الخلط، والخلط بين علوم الوقائع وعلوم الماهيات خلط شائع في كل العلوم، علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ، ويسود أيضًا العلوم الدينية خاصةً اللاهوت المتحدث الرسمي باسمها جميعًا، وفي اللاهوت العقائدي هناك أيضًا خلط بين التاريخ والعقيدة. وتقدم الظاهريات تمييزًا بين الواقع والماهية، بين علم الوقائع وعلم الماهيات. العقيدة هي الماهية، والتاريخ هو الوقائع. من الضروري إذَن وضعُ التاريخ كعلم وقائع بين قوسين حتى لا تبقى إلا العقائد كعلم للماهيات، تجد الظاهريات إذَن تفسيرها في تطبيقها طبقًا للحاجات.
(١١) من النهاية إلى البداية، ومن البداية إلى النهاية٣٤
تفسر الظاهريات المكتملة في النهاية الظاهريات الناشئة في البداية، فهم النهاية بالبداية، وفهم البداية بالنهاية، كما هو الحال في تسلسل الأنبياء بين آدم والمسيح أو بين إبراهيم ومحمد، لقد تجلَّت الظاهريات أولًا بأول، فلا تحتوي الأعمال الأولى على ظاهريات ضمنية بل على العكس، يمكن تفسيرها عن طريق فهم الأعمال الأخيرة، الظاهريات في مرحلتها الأخيرة تفسر مرحلتها الأولى، المنهج التراجعي هو وحده القادر على تفسير الظاهريات، والرؤية التقدمية وحدها تستطيع أن تعطيها معناها الدقيق، وفهم النهاية يساعد أكثر على فهم كل الوسائل المستخدمة للوصول إلى هذه النهاية.
(١٢) من التاريخ إلى البنية، ومن البنية إلى التاريخ٣٧
الظاهريات تحقق للمثالية الألمانية واكتمال لها، وهي أيضًا اكتمال للحقيقة وتجلٍّ نهائي لها، والتي طالما بحث عنها الوعي الأوروبي منذ العصور الحديثة، تعتبر نفسها علمًا مستقلًّا بذاته وعن التاريخ، وقد لعب التاريخ دورًا في اكتمال الحقيقة في الظاهريات؛ ومن ثَم يترك التفسير الزماني مكانه إلى التفسير البنيوي، المهم إذَن هو عرض المنهج الظاهرياتي كحقيقة مكتملة بوحدة قصد كل عمل أو بوحدة قصد مجموع الأعمال، والمهم أيضًا إيجاد تأويل للظاهريات طبقًا لهذه القواعد. البنية بلا تاريخ فارغة، والتاريخ بلا نية أعمى، والتطور بلا اكتمال نزعة تاريخية، والاكتمال بلا تطور نزعة صورية. الحقيقة المطلقة تكتمل في التاريخ، والتاريخ تحقق لها. لا فرق إذَن بين العقل والتاريخ؛ ففي كليهما تتكشف الحقيقة وتكتمل.