نشأت الظاهريات عند مؤسسها من بحوث حول موضوعات معينة في
الرياضيات واللغة وعلم النفس والفلسفة.
(أ) الرياضيات١٢٣
كانت البحوث الرياضية نقطة البداية في الظاهريات.
١٢٤ فمشاكل الرياضيات في العصر والمعارك بين
الاتجاهات المختلفة في الفلسفة الرياضية؛ النفسي،
والصوري، والحدسي … إلخ؛ كانت العناصر الأولى التي
كوَّنتها فيما بعد. كان المنطق الرياضي منذ البداية
أحد المصادر التاريخية للظاهريات، أثناء تكوينها وبعد
اكتمالها وتطبيقها في مختلف فروع العلوم الإنسانية.
ظلت البحوث الرياضية تُستخدم كأساس سواء لاستعمالها
المباشر أو من أجل إدخالها فيما بعد بالرغم من تغير
المنظور عند هوسرل من «فلسفة الحساب» إلى «بحوث
منطقية». الأول ضد النزعة المعادية للاتجاه النفساني،
والثاني مع الاتجاه المعادي للنزعة النفسانية.
١٢٥ وقد استعيرت بعض جوانب الفكر الرمزي
الحسابي مع التأكيد على أهميته.
١٢٦
وتعود البحوث الرياضية — المرحلة الأولى في تكوين
الظاهريات — إلى الظهور في البحوث المنطقية التي تحيل
مباشرة إلى البحوث الرياضية السابقة.
١٢٧ واستمر استعمال التعبيرات الرياضية للعصر.
١٢٨
وتُستخدم البحوث الرياضية كمرجعيات للبحوث المنطقية
١٢٩ وتُوجَّه من أجل الحصول على تصور دقيق
للظاهريات نفسها. وقد تم تناول نظرية الكل والأجزاء من
قبلُ في البحوث الرياضية قبل أن تتحول إلى مبحث منطقي
خاص. وقد أخذت نتائج البحوث الرياضية التي تتعلق
بالخصائص الحسية لوحدة علامات حية للكثرة من أجل توضيح
ظاهريات المعرفة.
١٣٠
وبعد اكتمال الظاهريات كمنهج استمرَّت البحوث
الرياضية؛ فقد استأنفت مشكلة الكميات الخيالية في
البحوث الرياضية ثم في البحوث المنطقية.
١٣١ وكان مفهوم المضمون الأصلي حاضرًا من قبلُ
في البحوث الرياضية وأيضًا في البحوث المنطقية.
١٣٢ وكان يحال في عديد من موضوعات الظاهريات
إلى البحوث الرياضية وعلى نحو دائم،
١٣٣ بل إن التمييز بين «الوصف النفسي للظاهرة»
و«رصيد دلالتها» من أجل الوصول إلى «مضمون منطقي»
للمضمون النفسي هو أساس علم النفس الظاهرياتي.
١٣٤ واستمرَّت البحوث الرياضية في الظهور بعد
اكتمال المنهج الظاهرياتي وتطبيقه في المنطق فيما
يتعلق بالموضوع بوجه عام والحكم والعدد؛
١٣٥ فقد ذُكرت بوضوح فيما يتعلق بموضوعية المقولات.
١٣٦ وقد تم الحصول من قبلُ على الوجود الفعلي
للموضوعات الرياضية والمقولات الصورية من البحوث الرياضية.
١٣٧
(ب) المنطق١٣٨
المنطق هو النوع الثاني من الدراسات التطبيقية التي
منها نشأت الظاهريات، ويظهر ذلك من عدد التقارير
والمقالات في المنطق وتاريخه، والذي ما زال يرتبط
بالرياضيات ويعد للأعمال النفسية،
١٣٩ ثم يأتي العمل الرئيسي «بحوث منطقية» حيث
تظهر الظاهريات خاصة في المبحث السادس، وهي ما زالت
تتلمَّس طريقها.
١٤٠
كانت الظاهريات وهي في طريق الاكتمال اتجاهًا
مضادًّا للنزعة النفسانية في تصورها للمنطق،
١٤١ وكانت ضد النزعة الأنثروبولوجية المعاصرة
باعتبارها نسبية فيما يتعلق بإمكانية تغيير قوانين الفكر.
١٤٢ ومع ذلك تستعمل بعض التحليلات التفصيلية
للنزعة النفسانية مصطلحاتها وتعبيراتها وربما أيضًا أحكامها.
١٤٣ وتنتمي النزعة التطورية، مثل النزعة
الأنثروبولوجية، إلى النزعة النفسانية في المنطق.
١٤٤ ويعبر المنطق عن عصر الحضارة ودرجتها في
الرقي، بل إنه مرتبط بتطور المخ!
ونُقدت أيضًا النزعة الأنثروبولوجية بسبب تفسيرها
لمبدأ عدم التناقض أو مبدأ الهوية، وهي مبادئ معيارية
في الظاهريات كقانون طبيعي.
١٤٥ بل إن كل القوانين المنطقية، طبقًا للنزعة
الأنثروبولوجية، ليست لها أي علاقة مع أي مَثَل منطقي
أيًّا كان. والمنطق بأجزائه الثلاثة، التحليلية
والتشريعية والتقنية، ليس إلا بحثًا في الوظائف
الرئيسية لهذه القوانين. المبادئ المنطقية مبادئ
وظيفية للأشكال التركيبية للفكر. المنطق الأنثروبولوجي
عند الظاهريات أراد إنقاذ موضوعية الحقيقة فوقع في خلط
بين المثال والواقع، بين أساس الحقيقة وأساس الحكم،
بين حقيقة العقل وحقيقة الواقعة.
١٤٦ ومن ناحية أخرى وُضع تحليل خصب للدلالة،
وهو ما تم في علم النفس دون أن ينال من استقلالها، في
إطار المنطق الخالص.
١٤٧
ومن بين التيارات النفسانية في المنطق هناك تيار
يريد إعطاء المنطق أساسًا بيولوجيًّا طبقًا لمبدأ «أقل
الجهد» أو مبدأ «اقتصاد الفكر»؛
١٤٨ ومن ثَم يتأسس المنطق على مبدأ التكيف
الغائي. وهو أساس الأنثروبولوجيا النفسانية
والأبستمولوجيا العملية. ويخلط بين المضمون القصدي
بالمعنى المثالي والموضوع القصدي بالمعنى الواقعي.
وينكر الوحدة المثالية للخبرة الحية القصدية وكأنها
مجرد اسم يجمع بين الموضوعات المتشابهة.
١٤٩
و«بحوث منطقية» على وعي تام ليس فقط بالنظريات
التقليدية القديمة حول تكوين المنطق، بل أيضًا بالعلوم
المنطقية أو التفسيرات الحديثة.
١٥٠ وفي نقد النزعة النفسانية تعتمد «بحوث
منطقية» على اعتراضات المنطق الخالص والرياضيات عليه.
١٥١ وأعيدت نفس التمييزيات مع إعطائها أبعادًا أكبر.
١٥٢
ولم تغِب البحوث اللغوية للعصر داخل «بحوث منطقية»،
وما اقترحته هذه البحوث اللغوية من تمييزيات ظهرت فيها
بعبارات أخرى.
١٥٣ كانت «بحوث منطقية» إذَن على صلة مباشرة
مع البحوث المعاصرة الأخرى، فلم تتحاور فقط مع أكثر
البحوث تمثيلًا لها بل أيضًا مع البحوث المساعدة.
١٥٤ وتصنف عادة ابتداءً من أكثر الاتجاهات
معارضة لأقرب الاتجاهات له. الأول مثل المنطق كتقنية
لأي نشاط وكتقنية للمعرفة العلمية، والثاني مثل المنطق
كنظرية في العلوم.
١٥٥
والمبدأ الرئيسي في علم النفس التطبيقي هو القانون
الأساسي للاعتماد المتبادل بين أفعال الفكر.
١٥٦ يجعل للبواعث النفسية مساحة أكبر في
المنطق النفساني.
١٥٧ ويمكن رد كل القوانين المنطقية إلى
القوانين النفسية وبالتالي إلى نظرية البداهة النفسية،
والتي تعود إليها نظرية الصدق للقوانين المنطقية.
١٥٨ تتأسس البداهة في علاقة علية خالصة
لمدلولات سابقة.
١٥٩ وهذا لا يمنع من استعمال بعض مصطلحات علم
النفس موضوع الانتقاد.
١٦٠
كان البحث المنطقي أيضًا، المرحلة الأولى للظاهريات،
حركة مناهضة للخلط بين المنطق وعلم النفس.
١٦١
وتدخل البحوث المنطقية في إطار بحوث معاصرة أخرى؛
فقد قيل نفس الشيء بتعبيرات مختلفة.
١٦٢ كانت بحوثًا مثل غيرها، وكانت تكوِّن
مرجعًا للمسائل المثارة في البحوث الأخرى، كما تُستخدم
أطرًا نظرية للبحوث الأخرى.
١٦٣
ويستعيد المنطق، وهو الصورة الأولية للظاهريات، كل
الانتقادات التي وجَّهها المنطق ضد النزعة النفسانية،
وإعطاءها صورة نظرية في المنطق كعلم معياري ويدفع
الجانب الصوري عندما ينقص منها، ويقلل من البعض الآخر
الذي يصل إلى الصورية الخالصة. واعتبرت نظرية ازدواجية
المبادئ المنطقية كقوانين معيارية وقوانين طبيعية،
مكسبًا نسبيًّا للمثالية المنطقية.
١٦٤ وعلى افتراض التركيز على الجانب الصوري
للقوانين المنطقية فإنها يمكن استنباطها، مثل الهندسة،
من حدس المكان. المنطق الذي ما زال يسلِّم بوجود ملكات
فطرية للمعرفة أو مصادر للمعرفة، حتى ولو كانت تنتمي
إلى علم النفس الترنسندنتالي، يظل أيضًا نفسانيًّا.
ومع ذلك تظل أيضًا المحاولة نفسانية؛ إذ إنها ترد
الجانب المعياري إلى الجانب التجريبي، وتخلط الاثنين
معها أو تضمهما معًا في نظرية مزدوجة. توجد الوحدة
المثالية في المنطق في هذا البحث المنطقي الذي يعلن من
قبل عن نشأة الظاهريات.
١٦٥
والمنطق القائم على علم النفس الترنسندنتالي هو
الصورة الأولى للمنطق المعياري الذي يتنبأ منذ البداية
بميلاد الظاهريات كعلم مستقل عن المنطق وعلم النفس والرياضيات.
١٦٦ وفي تطورها الأخير فإنها تنتهي إلى فكرة
الصدق المطلق للضرورة المنطقية.
تبدأ الظاهريات إذَن من بحث في المنطق كعلم معياري.
١٦٧ وكانت بحثًا مثل عديد من البحوث في نفس
المعنى بداية بالتمييز بين علم النفس والمنطق. كان
للتصور موضوعيته الخاصة خارج الزمان. وبالرغم من
الإصرار على الطابع المثالي للتصور ظل هذا المنطق،
طبقًا للظاهريات، مجرد افتراضات بسيطة ومتفرقة وغير
ناضجة وغير كاملة، ويحتوي أحيانًا على أفكار خاطئة
وتعبيرات متشابهة. كان الخطأ الرئيسي هو رؤية مثالية
التصور في معيارين، والخلط بين الصدق النوعي والمثالية
المعيارية، والفصل بين المثال والواقع.
١٦٨ ويبدو البحث المنطقي موجَّهًا في نفس
الوقت ضد النزعة النفسانية والنزعة الصورية من أجل شق
الطريق نحو الظاهريات.
وبعد كل هذه الانتقادات ضد النزعة النفسانية انضمَّت
البحوث المنطقية التي تُنبئ بالظاهريات إلى تيارات
العصر التي ترى المنطق كعلم «قانوني» على النقيض من
العلوم العيانية التي تُسمى العلوم الأنطولوجية.
١٦٩ وقد امتدت مثالية المنطق، وهو الحل الذي
تبنَّته في النهاية «بحوث منطقية»، إلى نظرية «الكثرة»
في الرياضيات الصورية.
١٧٠
وظلت العلاقة بين الرياضيات والمنطق الموضوع الرئيسي
في الظاهريات المكتملة.
١٧١ وهذا لم يمنع من نقد بحوثها في حالة
التعارض مع منطلقات الظاهريات.
١٧٢
وبعد ظهور البحوث الرياضية داخل البحوث المنطقية،
ظهرت البحوث المنطقية داخل الظاهريات المكتملة
والظاهريات التطبيقية وفي المنطق وفي علم النفس الظاهرياتي.
١٧٣ وتظهر «بحوث منطقية» بالفعل كتمهيدات للظاهريات.
١٧٤ وتُعتبر أول اختبار للظاهريات؛
١٧٥ فقد استعيدت تصوراتها،
١٧٦ كما ظهرت موضوعات مثل: الرياضيات الشاملة،
قسمة المقولات المنطقية إلى مقولات دلالية ومقولات
صورية أنطولوجية، النحو القبلي للشك، الموضوع المثالي،
المضمون القصدي، العلاقة بين الحدوس البسيطة والحدوس
المتوسِّطة، باعث فعل المضمون الأول … إلخ. وأحيانًا
تُذكر «بحوث منطقية» كإحالات بسيطة دون استعادة
الموضوعات.
وفي «علم النفس الظاهرياتي» تستعاد «بحوث منطقية»
بعد اكتمال الظاهريات.
١٧٧
وتستمر «بحوث منطقية» في الظهور في تطبيق المنهج
الظاهرياتي في المنطق، وتستمر اللغة والموضوعات
والمشروع كله.
١٧٨