رابعًا: الجانب النظري في الظاهريات الدينية١
تتكون ظاهريات الدين من مجموعة من الدراسات حول الظاهرة الدينية نفسها؛ أي ظاهريات الظاهرة الدينية، تطغى عليها إما فلسفة الدين أو نظرية المعرفة أو تنقسم إلى مجموعة من الظواهر المحددة مثل المقدس والنبوة.
(١) ظاهريات الدين؛ ماهيته وتجلياته
-
أولًا: لم يتم تأسيس ظاهريات الدين على الإطلاق
بطريقة جذرية،٢ بل قامت كفلسفة جديدة للدين
أو كلاهوت جديد أو كتاريخ جديد، لم تستعمل
الظاهريات أولًا كمعالجة جذرية للظاهرة
الدينية، وهي ملحقة كتفكير إضافي على
الظاهرة الدينية.٣ ودون أن تصاغ في منهج محكم،
استطاعت الظاهريات مع ذلك أن تكتشف
المراحل الثلاث للظواهر التي تبدو للشعور؛
الحجاب، الوحي المتدرج، والشفافية. وقد
أدت هذه المراحل الثلاث إلى اكتشاف مراحل
أخرى ثلاث تقابل تجربة الحياة؛ التجربة
الحية، الفهم، الشهادة. وهكذا مرت
الظاهريات مرور الكرام على المشكلات
الثلاث للتأويل؛ النقد التاريخي الذي يبحث
عن الصحة التاريخية، والتحليل اللغوي شرط
الفهم، والتحقق العملي ابتداءً من القصد
والعمل، فقط مع عكس الترتيب.٤ وقد انتهى التفكير في الدين
إلى جدل الإنساني والإلهي، الطريق النازل
والطريق الصاعد، الطريق الرأسي والطريق
الأفقي. ودون أي اعتماد على الظاهريات،
انفصل الإشكال الثالث في التأويل، إشكال
السلوك، عن المشكلتين الأوليين، مشكلة
التاريخ ومشكلة النظر.٥ صحيح أن ظاهريات الدين ليست
اللاهوت، ولا تاريخ الأديان، ولا فلسفة
الدين من الناحية النفسية أو الاجتماعية
وشعر الدين، ما هي إذن هذه الفلسفة للدين؟
هي ظاهريات للدين تمر بست مراحل:
- (١) اللغة من أجل إعطاء الأسماء.
- (٢) التجربة الحية من أجل إدخال الكلمات فيها.
- (٣) رد مضمون التجربة من أجل رؤية ما يظهر منها وينكشف عنها.
- (٤) إيضاح الرؤية.
- (٥) فهم ما يتجلى وما ينكشف.
- (٦) الشهادة مجابهة مع الواقع.٦
وتلامس هذه الظاهريات للدين بمراحلها ظاهريات التأويل؛ إذ تنتمي المراحل الخمس الأولى إلى الوعي النظري، والمرحلة السادسة إلى الوعي التاريخي، ويغيب الوعي العملي، وتبدأ ظاهريات التأويل بالوعي التاريخي ثم الوعي النظري، وأخيرًا الوعي العملي، تبدو ظاهريات الدين شاملة لكل تاريخ العلم في عصر التنوير، والعصر الرومانسي والنحو الرومانسي، والوضعية الرومانسية، وعلم النفس، والفهم.٧ صحيح أن تحليل البواعث يساعد على اكتشاف ظاهريات الدين كقصدية مشتركة، ويقدم كل عصر مساهمته؛ الإنسان، والوجدان، واللغة، والعيان، والفهم. ومع ذلك تظل هذه الظاهريات الحركية النشوئية للتجربة المشتركة على عتبة ظاهريات الدين في مرحلتها الأخيرة في ظاهريات التأويل.وإذا لم تعلن عن الظاهريات إلا في الخاتمة فإنه من الصحيح أيضًا أن العمل كله، على الأقل بمخططه، مقاربة تبعد أو تقترب من ظاهريات الدين. وبالرغم من أن المخطط غير متسق فله بعض الأهمية في موضوع الدين، وبالذات في الدين، كيف يتفاعل الذات والموضوع بعضهما مع بعض، وتذكر هذه العناصر الثلاثة؛ مضمون الشعور، وصورة الشعور، والبنية الصورية المادية. وتقبع الذات نفسها داخل ثلاث دوائر متداخلة؛ النفس، والإنسان، والجماعة. وهو ما يذكر بالأنا الخالص، وبالذات، وبالآخر. ويتم التفاعل المتبادل بين الذات والموضوع مرة بالعمل الداخلي، ومرة أخرى بالعمل الخارجي. هذا بالإضافة إلى أن هذا المخطط الثلاثي كلٌّ واحد، هو وحدة الشعور. ويؤخذ الشعور بهذه البنية كمركز لدائرة ثانية دائرة العالم، ولدائرة ثالثة، دائرة الأشكال؛ أي الأنواع المختلفة للدين.٨ فإذا عبَّر المخطط الأول، الموضوع، الذات، الموضوع-الذات عن ماهية الدين، فإن المخطط الثاني، المخطط السابق في العالم بالشخص، يعبر عن تجليات الدين. وقد تم اكتشاف العالم طبقًا للوجود في العالم والشخصيات، والأديان ومؤسسوها، طبقًا للصور المختلفة للحقيقة عندما تتحقق في الحضارة.وهو مخطط قوي وصلب، ولكن مضمونه خليط من دين الوحي ودين التاريخ؛ فالواقع أن دين الوحي ليس من نوع دين التاريخ؛ فالدين اليهودي المسيحي ليس على نفس مستوى ما يُسمى بالدين البدائي في أجزاء مختلفة من العالم، ويرجع هذا الخليط إلى الخلط في البحوث الدينية بين الوحي والتاريخ، ويتردد مضمون المخطط بين فهم الماهية والتجربة النشوئية؛ لذلك فإن الإدراك المباشر للماهيات مختلط بالوقائع التاريخية والأنثروبولوجية والتجريبية، يسود الفهم كثيرًا التوثيق، وأصبحت ظاهريات الدين رسالة عامة لفلسفة الدين وربما دائرة معارف للعلوم الدينية، فلا يوجد عمل واحد لم يتم ذكره، بل إن عناوين المحاولات هي نفسها عناوين الفقرات، ولا غرابة في ذلك إذا كانت، كما قيل في الخاتمة في تاريخ العلم، تتضمن كل النظريات حول الدين منذ العصور الحديثة.
-
ثانيًا: ولا تعود فقط مساهمة الظاهريات في حل
أزمة الفلسفة الدينية إلى تطبيق الحركة
الصاعدة ﻟ «بحوث منطقية» لتفنيد النزعة
النفسية، بل بتطبيق كل حركة الأعمال المنطقية.٩ لا يكفي فقط بمساعدة الحركة
الصاعدة انتشال الفلسفة الدينية من سقوطها
في علم نفس الدين، وسقوط علم نفس الدين في
النزعة النفسية، بل من الضروري أيضًا
استعمال الحركة النازلة في «المنطق الصوري
والمنطق الترنسندنتالي» لتجنب كل نزعة
صورية، وكل تنظير للظواهر الدينية خارج
إطارها الرئيسي وهو النص المقدس،١٠ ويمكن أيضًا استخدام النص
المقدس كقبلي من أجل توسيع نظرية الإدراك
المثالية للواقعة إلى كل الوقائع
المشابهة؛ فالواقع أن النص المقدس يحتوي
على ماهية النمط المثالية لحالة يمكن أن
تتكرر، ويفترض التشابه في الوجود، ويمكن
من جديد إدراكُ الماهية التي أدركت من قبل
في النمط المثالي بفضل نظرية الإدراك في
نمط واقعي مشابه أيضًا بفضل نظرية الإدراك
مرة أخرى؛ وبالتالي يظل القبلي الديني
عنصرًا محركًا لمنهجية الوحي؛ مرة في
نظرية الإدراك لنمط مثالي، ومرة أخرى في
مد ماهية النمط المثالي على أنماط واقعية
مشابهة، يمكن استعمال معطى الوحي على نحو
رائع في نظرية الإدراك؛ إذ تقدم الظاهريات
نظريات في المعرفة تقوم على شعاع مزدوج من
الذات إلى الموضوع، من صورة الشعور إلى
مضمونه، ومن الموضوع إلى الذات، من مضمون
الشعور إلى صورته. الشعاع من الذات إلى
الموضوع هو القبلي، والشعاع من الموضوع
إلى الذات هو البعدي، والعلاقة بين
الشعاعين علاقة شارط بمشروط. ويستطيع معطي
الوحي، وفي حالة ظاهريات التأويل هو نص
الوحي، أن يقوم بدور القبلي؛ أي الشعاع من
الذات إلى الموضوع، وتظل الخبرة اليومية
دائمًا الشعاع من الموضوع إلى الذات؛ ومن
ثَم يمكن تجنب القبلي الفارغ الصوري في
نظرية المعرفة؛ ولذلك أيضًا في ظاهريات
الدين يمكن إكمال نقص الظاهريات النظرية
الحالي فيما يتعلق بمصدرها القبلي.١١ ويساعد الوعي المستمر بنص
الوحي على إدراك الواقع الخارجي الذي يبدو
في الخبرة اليومية. القبلي الديني هو إذن
شرط إدراك قوانين ماهية الأنطولوجيا العيانية.١٢والمعرفة الدينية معرفة قائمة بذاتها، وموضوعها مثالي ومستقل،١٣ وليست المعرفة الفلسفية أو العلمية إلا تحولًا للمعرفة الدينية.١٤ المعرفة الدينية قائمة بذاتها في مواجهة التاريخ، وليس في علاقتها بالإيمان، فقد تم «رد» لا التاريخ من قبل. الإيمان هو النص المقدس باعتباره قبليًّا دينيًّا في نظرية الإدراك، لا يعني قيام المعرفة الدينية بذاتها أولوية «الغنوصية» لا على الإيمان وأولوية الإيمان على «الغنوصية»، وهو ما أمكن حله عن طريق نظرية المعرفة، ولكن استقلال المعرفة الدينية المستنبطة من النص المقدس فيما يتعلق بتجلياته في التاريخ. التجربة الدينية إذَن تجربةٌ أولية ومصدر سواء للتجربة الفلسفية أو للتجربة العلمية، ويمكن تجنب ماهية الذاتية بالقبلي الديني، وهو يقين مثالي للتجربة. وبسبب غياب تناول المشكلة الأولى، وهو نص الوحي، فإن مصير كل فلسفة دينية هو مد المناهج والنظريات والمذاهب والأنساق الفلسفية عليها؛ فالواقع أنه لو ندت الفلسفة الدينية عن الوقوع في النزعة النفسية، فإنها تقع من جديد في النزعات التاريخية والاجتماعية والبرجماتية والنقدية.١٥ وترجع هذه الأخطاء في الفلسفة الدينية إلى مد الأنساق الفلسفية عليها، وإهمال إشكالها الخاص وطريقة حله، وإذا ما أُخذ منطق النص كمشكلة أولية فإنه يمكن تصحيح كل هذه الأخطاء، بالإضافة إلى إدراجها داخل تكوين معنى النص ابتداءً من التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية؛ علم النفس الوضعي والخبرة الحية في الحياة اليومية، ويمكن تصحيح النزعة التاريخية بالرد ثم استرجاعها في «التاريخانية»، ويمكن تجنب النزعة السوسيولوجية وتصحيحها بحضور الآخر كطرف متضايف للشعور في الخبرة المشتركة، ويمكن استعادة البرجماتية في إشكال التحقق العملي، الإشكال الثالث في التأويل بعد النقد التاريخي والتحليل اللغوي، وتُستعمل النزعة النقدية في القضاء على اللاهوت الرسمي بالعودة من جديد إلى نواة معنى النص. وبمجرد ما تترك ظاهريات التأويل، كمنطق للنص، مكانها إلى الظاهرات الدينية، فإنه لا يضيع فقط طابع المنطق العملي التطبيقي، بل تنقص أيضًا ماهية معطى الوحي؛ فالواقع أن التأويل كمنطق للنص يضع الشعور في اتصال مباشر وحالي مع الإشكالات الرئيسية، فهو الأرضية الأولى التي منها تبدأ كل صياغة عقلية ونسقية ممكنة؛ فمثلًا في البحث عن الماهيات وفلسفة التاريخ الديني، فإن «الرد» المتوقع للتاريخ لم يتم، وكان المكسب تفكيرًا جديدًا على السؤال دون تصحيح ودون تصويب.١٦ ويرجع الفشل النسبي لكل المحاولات السابقة في ظاهريات الدين إلى سببين؛ الأول غياب صياغة مسبقة للمنهج الظاهرياتي،١٧ والثاني غياب المشكلة الأولى للتأويل كمنطق للنص؛ وبالتالي منهجية دينية تصبح بعدها ظاهريات الدين ممكنة.١٨
- ثالثًا: لم تتناول كل ظاهريات للدين إلا مشكلة خاصة لإشكال واحد دون أخذ الموضوع كله في الظاهرة الدينية في شمولها، ليست ظاهرة المقدس ظاهرة الطبيعة الفيزيقية، حادثة أو مؤسسة أو شخصًا، بل ظاهرة النص المقدس. وليست تجربة صوفية للسر، بل لسانيات تهدف إلى الفهم الدقيق لمعنى النص. ليس سرًّا يخيف، بل بداهة تعطي اليقين.