فلاسفة
(١) برنار وتييري دي شارتر
(أ) هما أخوان نبغا بمدرسة شارتر (بفرنسا) التي كان أسسها فولبير تلميذ جربير سنة ٩٩٠، وازدهرت في النصف الأول من القرن الثاني عشر، وظلت طوال القرن من أكثر المعاهد نشاطًا، كانت تعتمد في تعليم الخطابة على كبار الكتاب اللاتين، تستمد منهم الشواهد، فتربي الذوق والأسلوب، وكانت أول معهد درس منطق أرسطو كلامًا، فإن كتب التحليلات الثانية والجدل والأغاليط كانت قد عرفت أثناء النصف الأول من القرن وسميت بالمنطق الجديد، وأطلق على كتب المقولات والعبارة والتحليلات الأولى اسم المنطق القديم، يضاف إلى ذلك كتب بويس المنطقية وترجمته لإيساغوجي، وكتاب الجدل لشيشرون، وفي المجموعة الرباعية كانت تعلم كتب بويس في الحساب والموسيقا، وهي مليئة بنظريات فيثاغورية في الوحدة والعدد، وكتبًا منقولة عن العربية في الرياضيات والفلك، وكتب بقراط وجالينوس في الطب، أما في الفلسفة فكان أساتذتها أفلاطونيين خلصاء يعتبرون «تيماوس» كتابهم الأكبر، ويتبعونه دون محاولة الملاءمة بينه وبين العقيدة.
(ب) علم برنار بالمدرسة وترأسها وهو يفسر الموجودات بأصول ثلاثة: الله، والمادة خلقها الله من العدم، والمثل الأزلية دون أن تكون مساوية لله، على ما بينه جون سكوت أريجنا، على مثالها خلق الله صورًا اتحدت بالمادة الأولى التي كانت كتلة مضطربة كما صورها «تيماوس»، فبرنار يوفق بين أفلاطون وأرسطو بوضعه الصور في الجزئيات، غير أنه يجعل للصور وحدة وثباتًا ووجودًا كليًّا، بحيث يبدو من القائلين بالوجودية المسرفة، وهو يتابع أفلاطون في القول بالنفس الكلية وبأن فعل هذه النفس في الطبيعة، وفعل الصور في الجزئيات، يجريان بحسب نسب عددية.
(ﺟ) وعلم تييري بالمدرسة، وترأسها وهو يشرح سفر التكوين بالمعاني الأفلاطونية الأربعة: الصانع والمثل والنفس الكلية والعناصر، ويرد كلًّا من هذه المعاني إلى علة من العلل الأربع عند أرسطو، ويوجد مثل هذا التأويل عند سنيكا في رسالته الخامسة والستين، ويوجد في مقدمة كتاب الربوبية أو أثولوجيا أرسطوطاليس العربية، ويرد كلا من المعاني الثلاثة الأولى إلى أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس، فيقول: الله الآب العلة الفاعلية، والله الابن العلة الصورية، والروح القدس العلة الغائية، والعناصر الأربعة العلة المادية، ولكنه يجعل من الروح القدس النفس الكلية، أو قوة الصانع التي بها تصور المادة، ويقول: إن الألوهية «الصورة الجوهرية» للأشياء، فكأنه يقول بوحدة الوجود، وهو يطبق الاعتبارات الرياضية في الفلسفة كالفيثاغوريين، فيسمي الله الوحدة العظمى، ويدعي إثبات وجود الله بأدلة رياضية، ويتصور الخلق يحدث عن الله كحدوث العدد عن الواحد، وتوجد عنده الآثار الأولى لآراء أرسطوطالية في المكان وحركة السماء الدائرية وثبات الأرض في مركز العالم.
(٢) جيوم دي كونش (؟–١١٤٥)
(أ) فرنسي، تتلمذ لبرنار، وعلم بباريس، يذهب هو أيضًا إلى رأي في الثالوث الأقدس أقرب إلى «تيماوس» منه إلى المسيحية، فيقول: إن الابن أو الحكمة يولد «حين يرى الله على أي نحو سيخلق الأشياء وينظمها» وإن الروح القدس ينبثق «حين تمتد الإرادة الإلهية من القدرة والحكمة إلى خلق العالم وتدبيره» وإن الروح القدس نفس العالم «تجعل بعض الموجودات يحيا، وبعضها يحيا ويحس، وبعضًا آخر يحيا ويحس ويفكر»، فهو إذن يعتبر الثالوث الأقدس لا بالإضافة إلى ذات الله، بل بالإضافة إلى العالم، ويقول بوحدة الطبيعة، وقد أثار احتجاجًا، فلما أراد أن ينكر أقواله كررها، كأنه لم يكن يرى الفرق بينها وبين العقيدة المسيحية.
(ب) وفي تفسير الطبيعة يعوَّل على المذهب الآلي أي على نظرية الجوهر الفرد دون نظرية الهيولى والصورة، ويرى أن تضاف لجسم الإنسان جميع الوظائف النامية والحاسة المشتركة بينه وبين الحيوان، وألا تضاف للنفس سوى الأفعال الخاصة بالإنسان كالتعقل والاستدلال والتذكر، فقد كان قرأ ترجمة قسطنطين الأفريقي لكتب بقراط وجالينوس، وتأثر بما وجد فيها من وصف للوجهة الفسيولوجية في الإدراك الحسي، فهو إذن قد عمل على وضع علم طبيعي مستقل لا يستخدم سوى الجوهر الفرد والحركة، كما عرف عند ديموقريطس، فلقي معارضة شديدة، وخاصة في مدرسة شارتر نفسها، ولكنه كان يرى أن مثل هذا العلم هو الذي يظهرنا على العلل ويفسر الأشياء تفسيرًا معقولًا، فإنه يقول: إن تفسير «النحو الذي يحدث عليه الشيء» وهو التفسير الآلي ليس مخالفًا للكتاب المقدس، وإن المعارضة آتية من أناس «يجهلون قوى الطبيعة» وأنه «يجب البحث عن العلة في كل شيء، فإذا خفيت علينا لجأنا إلى الإيمان»، ويحدد موقف خصومه وموقفه في العبارة الآتية: «سيقولون: إننا لا نعلم كيف يحدث الشيء، وإننا نعلم أن الله يستطيع أن يحدثه، ولكن هل يحدث الله شيئًا دون أن يراه كيف هو، ودون أن يكون لديه سبب في كون الشيء على ما هو عليه، ودون أن يظهر منفعة الشيء؟» وتبعًا لذلك يفسر الكتاب المقدس تفسيرًا علميًّا أي «بقوى الطبيعة» أو العلل الفاعلية المادية، وكلما لم تسمح بذلك عبارة الكتاب قال إنها مجازية، مثل تكوين حواء من ضلع آدم، فهل كان أقل فهمًا لفكره «العلم» من المحدثين؟
(٣) جيوم دي شامبو (١٠٧٠–١١٢٢)
فرنسي، أستاذ نابه فأسقف جليل، مشهور بالوجودية المسرفة في مسألة الكليات، وإن يكن عاد عنها أو لطفها فيما يقال، أخذ أولًا عن روسلان ثم عارضه، ذهب إلى أن الماهية النوعية أو الجنسية موجودة حقًّا، بخلاف ما يزعمه روسلان، وأنها واحدة بعينها في جميع أفرادها، وأن الأفراد من ثمة موجود واحد ولا يختلفون إلا بالأعراض، فلزم من ذلك نتيجة، جاءت عند أرسطو في سياق مناقشته لنظرية المثل الأفلاطونية قال: إذا كان كل إنسان هو كل النوع الإنساني، كان النوع بتمامه في سقراط الذي في روما، وفي أفلاطون الذي في أثينا، ومن ثمة كان سقراط حيثما كانت الماهية الإنسانية، فيوجد في نفس الوقت في روما وفي أثينا، وهذا خلف، فعدَّل جيوم رأيه مثنى وثلاث، وكأنه ارتأى في النهاية أن الكلي ذهني مع وجود أصل له في الخارج.
(٤) بيير أبيلار (١٧٠٩–١١٤٢)
(أ) فرنسي، هو أشهر رجال القرن في علم الجدل، تلقى عن روسلان، ثم استمع إلى جيوم دي شامبو وعارضه وهو متأثر بالاسمية، ثم غادر باريس وشرع يعلم الجدل في مدن مختلفة، فأصاب نجاحًا كبيرًا، وبعد بضع سنين عاد إلى جيوم، وعاد إلى المعارضة، وصنع مثل ذلك مع أساتذة آخرين، وعلم بباريس فكان الأستاذ الذي يستبق إليه الطلاب بالمئات بل بالألوف، فيما يقول المؤرخون، وعلم في مدن أخرى والنجاح العظيم حليفه دائمًا، وقضى حياته في اضراب يَنقد ويُنقد، ويتهم في عقيدته فيرد التهم، وأنكر مجمع كنسي بعض أقواله، فاحتكم إلى البابا، فحكم عليه البابا بالصمت.
(ب) كان مؤمنًا يقدم النقل على العقل، وكان إلى جانب ذلك يحب الثقافة الوثنية لجمالها، وقد نظم قصيدة تعليمية وأناشيد تدل على ذوق وتضلع من الأدب، فكان يرى أن بين الحقيقة في صورتها القديمة والحقيقة في صورتها المسيحية اتصالًا واتفاقًا، ويعتقد أن فلاسفة اليونان قديسون، وأن سمو أخلاقهم هو الذي استحق لهم من لدن الله أن يوحي إليهم بأخفى الحقائق، وأن المعرفة الوحيدة التي فاتت أفلاطون لكي يكون مسيحيًّا كاملًا هي الأسرار المقدسة، كذلك يرى أن البراهمة وغيرهم من الحكماء كانوا ممهدين للمسيحية، ويدعوهم جميعًا مسيحيين بالطبع، فالتعاون ممكن بل ضروري بين الفلسفة والدين، الفلسفة — ولا سيما الجدل — تفيد في رفع اللاهوت إلى مقام العلم، فإن الجدل يعلم التقسيم المنطقي، ويعلم طريقة الشك المنهجي الذي يضع قضايا الإيمان موضع السؤال، ويستمد من الكتب المقدسة ومن كتب الآباء الأقوال المؤيدة والأقوال المعارضة في كل مسألة، ثم يستخلص الحل بالحجج العقلية، ويدحض الاعتراضات، أجل إن العقل لا يستطيع البرهنة على الأسرار، ولكن باستطاعته أن يقربها إلى الفهم بضروب من التشبيه والتمثيل.
(د) أما في مسألة الكليات، فبعد أن عارض جيوم دي شامبو باسمية روسلان، حتى كان معاصروه يسمونه وتلاميذه بالاسميين، تمثل مذهب أرسطو في المعرفة، كما وجده في كتب بويس، على نحو أدق مما بلغ إليه غيره في عصره، فتوصل إلى حل جعل منه طليعة «الوجودية المعتدلة»، فقد اقتنع بأن الألفاظ إنما هي كلية؛ لأننا نقصد بها إلى دلالة كلية، وأن للأنواع والأجناس مقابلًا في الخارج، خلافًا لما ارتأى روسلان، وأن هذا المقابل هو «طبيعة الجزئي» مجردة من الأعراض، وأن الطبيعة واحدة في الجزئيات الحاصلة عليها، فالأنواع والأجناس ذاتية في الجزئيات، مجردة في العقل.
(ﻫ) وكان أبيلار من أهم المشتغلين بالأخلاق في زمانه، وضع فيها كتابًا عنوانه «اعرف نفسك» هو حوار بين فيلسوف ومسيحي، يرمي به إلى استكشاف الأخلاق المسيحية بالعقل، فإنه يعتبرها مجرد «إصلاح» للأخلاق الطبيعية، وهو إذ يُرجع المسألة الخلقية إلى الضمير والنية، يرتب على ذلك أن الخطيئة شخصية، وأن لا محل لخطيئة أصلية موروثة عن أبينا آدم، وأن الخلاص أمر شخصي كذلك، وأن استحقاقات المسيح لا تعود علينا — مما كان موضعًا لاتهامه بالزيغ عن الدين، ودليلًا على ميل قوي إلى الناحية الطبيعية دون حسبان للناحية الفائقة للطبيعة.
(٥) جلبير دي لابتوري (١٠٧٦–١١٥٤)
(أ) فرنسي، تلميذ برنار دي شارتر، وأستاذ بمدرسة شارتر، ثم رئيس عليها، دون أن يصطبغ بصبغتها، فقد كان منطقيًّا بنوع خاص، ثم علم بباريس، وعين أسقفًا فشغل منصبه دون أن ينقطع عن التعليم.
(ب) وضع كتاب «المبادئ الستة» ليكمل كتاب أرسطو في المقولات، فعني بالست الأخيرة منها وكان أرسطو قد أجمل الكلام عليها في فصل واحد لا يجاوز عشرين سطرًا، قسم المقولات إلى قسمين: «الصور الذاتية» وهي الجوهر ومحمولاته الضرورية الكم والكيف والإضافة، و«الصور العرضية» وهي باقي المقولات التي تلحق الجوهر من جراء علاقاته بجواهر أخرى: الفعل، والانفعال، والمكان، والزمان، والوضع، والملك، وواضح أن هذا التقسيم غير محكم، إذ ليست الإضافة «صورة ذاتية» ولكنها نسبة بين طرفين، وما لبث الكتاب أن صار مدرسيًّا يعلم ويشرح مع كتب أرسطو وكتاب فورفوريوس «إيساغوجي» إلى نهاية العصر الوسيط، وكان من شراحه ألبرت الأكبر في القرن الثالث عشر.
(ﺟ) ويبدو استقلاله عن مدرسة شارتر في معارضته الوجودية المسرفة التي كانت مرعية فيها، فإنه يذهب إلى مثل موقف أبيلار فيقول: إن الماهيات أو الصور متحققة في الأفراد متكثرة بتكثرها، وإن أصل المعاني الكلية أن العقل يدرك المشابهات الجوهرية بين الموجودات ويكوِّن منها «وحدة ذهنية» هي الجنس أو النوع.
(٦) جون أوف سالسبوري (١١١٧–١١٨٠)
(أ) إلى جانب هؤلاء الفلاسفة الذين اتخذوا الجدل منهجًا للمعرفة، وجدت في باريس على الخصوص طائفة اشتغلت بالجدل لأجل الجدل، واصطنعت الشك على ما كان يفعل سوفسطائيو اليونان، وقد عاون على ذلك ظهور كتب «المنطق الجديد»، إذ وجدوا فيها أبوابًا للتأويل والتخريج والمغالطة، أشهر هؤلاء إنجليزي يدعى آدم، كان يعلم المجموعة الثلاثية في مدرسة بالقرب من «الجسر الصغير» على نهر السين، فسمي «أدان د بتى بون»، نشر سنة ١١٣٢ كتابًا في «الفن الجدلي» يعد آية السفسطة في عصره.
(ﺟ) كان معجبًا بشيشرون، وعنه أخذ الشك المعتدل الذي يميز بين ما يُعلم وما لا يُعلم، ووسيلة التمييز سعة الاطلاع، فإن الذي لا يعرف سوى مذهب واحد في مسألة بعينها يميل طبعًا إلى التسليم به لعدم استطاعته الاختيار، بينما المطلع يقف على آراء وحجج متعارضة فيعلق حكمه، ومما لا يُعلم جميع المسائل المتعلقة بالله، ومسألة ما إذا كان للملائكة أجسام وما هي، ومسائل الجوهر والكمية، وقوى النفس، وأصل النفس وفاعليتها، والجبر والاختيار والمصادفة، والمادة والحركة ومبادئ الأجسام، واللانهاية في العدد وفي قسمة المقدار المتصل، والزمان والمكان، والكليات، وقد أنفق الفلاسفة من الوقت في مناقشتها أكثر مما أنفق القياصرة في فتح العالم، ومسائل الفضائل والرذائل، مزاولتها، وغايتها، وأصلها، وعلل الظواهر الطبيعية كالمد والجزر وفيضان النيل، وتزايد الأخلاط وتناقصها في الحيوان تبعًا لوجوه القمر، وغير ذلك كثير من أسرار الوجود، فمجال الشك واسع كما يبدو، ولكن ليس يعني ذلك وجوب الكف عن بحث تلك المسائل والانصراف عن العلم، كلا، بل ينبغي محاولة استكشاف الحل الواضح فيها، مثال ذلك مسألة الكليات، فإن لها وجهين، أحدهما هو: على أي نحو توجد الكليات؟ وهذا ما لا نعلمه، والوجه الآخر هو: كيف نكتسب الكليات؟ وهذا نعلمه بأن العقل يميز العناصر المشتركة في موجودات عدة فيجمعها في معنى الجنس والنوع، وعلى هذا النحو يمكن الوصول إلى شيء من الحق بالتفرقة بين ما هو ميسر للعقل وما ليس بميسر، وما كان تهجم المتهجمين على الدين باسم العقل إلا نتيجة الإسراف في الثقة بالعقل!
(٧) ألان دي ليل (١١٢٥–١٢٠٣)
(أ) فرنسي، لا ينتمي لمذهب معين، ولكنه أخذ عن مدرسة شارتر أفكارها الأفلاطونية والفيثاغورية والأرسطوطالية، وعن بويس بعض تعاليم أرسطو، وكان من أوائل الغربيين الذين عرفوا كتاب العلل لأبروقلوس مترجمًا عن العربية، وقرأ بعض الكتب الفلكية المنقولة عن العربية أيضًا.
(ب) المأثور عنه فكرتان: إحداهما أن الحجة النقلية ليست قاطعة ملزمة بدليل أن المفكرين المتعارضين يلائمون بينهم وبين آرائهم، فالسلطة «صنم أنفه من شمع ينثني وفقًا لمشيئة العابد» فلا بد من التعويل على الحجة العقلية، والفكرة الأخرى أن الدليل العقلي في أكمل صوره هو الدليل الرياضي كما جاء في هندسة أقليدس وفي كتاب العلل، يسلسل القضايا والبراهين ابتداءً من حدود تعين معاني الألفاظ، مثل علة وجوهر ومادة وصورة … إلخ، ومبادئ متعارفة معلومة بداهة، وأصول موضوعة ليست معلومة بداهة ولا مبرهنة بل تسلم تسليمًا، وفي اللاهوت المبادئ الأولى أصول موضوعة مسلمة بالإيمان، ويمكن تسميتها ألغازًا أو «رموزًا» للدلالة على عمقها وخفائها، ليس الغرض التدليل عليها، بل تعقلها بقدر المستطاع، وإقناع غير المؤمنين بقبولها وهم لا يسلمون بالنقل ويضطرون المؤمن إلى الالتجاء للعقل.
(ﺟ) وفي كتاب «قواعد اللاهوت» ينهج ألان هذا المنهج فيضع مائة وخمسًا وعشرين قاعدة يبرهن على كل واحدة بالطريقة الرياضية، وهو ينبه على أن قواعد المنطق والأجرومية لا تطبق في اللاهوت، إذ ليس في الله محمول متمايز من الموضوع، فإذا تحدثنا عن صفات الله وجب أن نعلم أن المحمولات المندرجة تحت المقولات الثلاث الأولى، وهي الجوهر والكيف والكم، مثل موجود وحكيم وكبير، لا تطلق إلا على الذات، وأن المحمولات الداخلة في المقولات الباقية، مثل خالق وهو محمول داخل في مقولة الفعل، تدل على تعلق الأشياء بالله، وعلى كثرة مفعولات الله، لا على علاقة لله بالأشياء أو على كثرة قوى وأفعال فيه، ويلي ذلك معجم بمعاني الألفاظ حين تطلق على الله.
(د) ومما يذكر عنه أنه أخطأ فهم نظرية أرسطو في الهيولى والصورة، فظن الهيولى مادة قائمة ومن ثمة مصورة، وظن الصورة مجموع الخصائص بدل أن يتصورها المبدأ المكون للشيء والصادرة عنه الخصائص، ونجد عنده برهان المحرك الأول لأرسطو، ودليل الأفلاطونية الجديدة على روحانية النفس، ذلك الدليل الذي صادفناه عند القديس أوغسطين والذي سيصطنعه ديكارت، ومؤداه أنه يمكن تعقل ما يحيي الجسم دون التفكير في الجسمية، وإذن فليس مبدأ الحياة جسميًّا، وله حجة في الخلود سيتخذ بسكال حجة مثلها، يقول: إذا كانت النفس فانية واعتقدتها خالدة فلا ضير عليك، وإن كانت خالدة واعتقدتها فانية فهنالك الخسران.
(٨) مادية ووحدة وجود ومانوية وتصوف
(أ) إلى جانب من تقدم ذكرهم من الذين كانوا يعملون على تعقل دينهم بما حصلوا على الفلسفة، وجد أنصار للمادية حوالي منتصف القرن يرجعون في العلم الطبيعي والأخلاق إلى أبيقور ولوكريس، ويقولون بفناء النفس بعد الموت واستحالة البعث، ويردون على قول بعض معاصريهم (مثل جيوم دي كونش) بروحانية كل مبدأ حيوي، فيقولون إذا كان مبدأ الحياة الحيوانية يفنى كما تقرون، فلمَ لا تفنى النفس الإنسانية؟!
(ب) ووجد أنصار لمذهب وحدة الوجود، فقال أموري دي بين (؟–١٢٠٧) وكان أستاذًا للاهوت بباريس: إن الموجود الأوحد يعلن مظاهر من ذاته، وهذا معنى الخلق، وترجع الموجودات إليه، ورجوع الإنسان تأليه الإنسان، ورتب تلاميذه على هذا المبدأ نتائج دينية وخلقية، قالوا: إن الأقانيم الثلاثة الإلهية مخلوقات تتجسد جميعًا، وكل إنسان فهو عضو إلهي كالمسيح، وجميع آيات الكتب المقدسة في الألوهية تنطبق على كل واحد منا، ولما كان الإنسان عضوًا إلهيًّا فهو فوق الخطيئة، ولما كان كل فعل إنساني صادرًا عن الله الموجود الأوحد فلا تمايز بين الخير والشر، ولا موجب من ثمة لإباء أي شيء على الطبيعة، بل تمنح كل ما تشتهيه.
(ﺟ) وكذلك ذهب دافيد دي دينان البلجيكي إلى أن الوجود واحد، وله في ذلك حجة منطقية بحتة حيث يقول: لكي يختلف شيئان يجب أن يكون فيهما عنصر مشترك وعنصر فاصل أو فارق، وليس بين المادة والروح جنس مشترك، فليس هناك شيء يفصل بينهما، فهما إذن واحد بالماهية، واحد غير معين يظهر في الأجسام وفيما يسمى الأرواح.
(د) ونزح من بلغاريا مانويون يدعون الكاتار أي الأطهار باليونانية، وانتشروا في إيطاليا وفرنسا، وبخاصة في مقاطعة ألبي بجنوب فرنسا، فدعوا لذلك ألبيجوي، واستفحل أمرهم وزعزعوا أسس المجتمع بما كانوا يعلِّمون من تحريم الزواج والإنسال والتحرر من كل سلطة، وما كانوا يرتكبون من اغتيال الكاثوليك، إكليريكيين ومدنيين، ونهب الكنائس والأديرة، وقد استنفدت الكنيسة معهم جميع وسائل الإقناع طوال القرن، إلى أن اضطر البابا إلى أن يعلن عليهم حربًا صليبية، فكانت هذه الفرقة من أظهر الأمثلة على ما للأفكار من قوة الدفع إلى العمل مهما يبد العمل شاذًّا جريئًا.
(ﻫ) ونجد في هذا القرن لاهوتيين لم يأخذوا من الفلسفة بغير المنهج المنطقي، وآخرين نزعوا إلى التصوف، مع اختلاف في المزاج، إذ مال بعضهم مع العاطفة، ورمى البعض الآخر إلى التأمل العقلي، فكان من الطائفة الأولى الإيطالي بطرس اللومباردي (؟–١١٦٤) أشهر مؤلفي كتب «الأحكام» حتى سمي «أستاذ الأحكام»، رتب مسائل اللاهوت وعرض بإزاء كل مسألة حجج الإثبات ثم حجج النفي، على ما يقتضي علم الجدل، ولكنه اقتصر على هذا التنظيم، فلم يقطع برأي إلا فيما ندر، ولم يضع مذهبًا، وصار كتابه بعد وفاته وأثناء القرن الثالث عشر أساس التعليم اللاهوتي، فكان الأساتذة يشرحونه كل على حسب مذهبه.
(و) وكان أكبر ممثلي التصوف العقلي ينتمون إلى دير سان فيكتور الأوغسطيني بباريس، في مقدمتهم هوج دي سان فيكتور وتلميذه ريشار.