المرحلة الثالثة: التدين المستنير بنور العقل
إننا نريد لأمتنا أن تسير مع العلم بقوة الإيمان …
(١) الشرق الفنان
على أن ذلك لا ينفي، بالطبع، أن يكون في الشرق علماء، ولا أن يكون في الغرب رجال فنٍّ ودين، لكن مفكرنا يبرز الخصائص العامة التي تطبع بطابعها ثقافة العالمين، فضلًا عن ثقافتنا نحن. وربما كان يستهدف تفسير الأقوال التي شاعت أحيانًا عن «روحانية الشرق»، «ومادية الغرب»، ثم أراد أن يمزج الطرفين القصيين في بوتقة الشرق الأوسط.
- الأول: الانتقال من جامعة القاهرة إلى جامعة الكويت في سبتمبر ١٩٦٨م، وبعده عن مكتبته العلمية الخاصة، ووجود مكتبة جامعة الكويت التي تزخر بعيون التراث؛ مما جعله يعيش وسط تراثٍ جديدٍ بالنسبة له، لم يتعود التعامل معه من قبل فقرأه بشغفٍ.
- الثاني: أن هذا الانتقال إلى المرحلة الثالثة قد حدث، مثلما حدث لكثيرٍ من المفكرين بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م.
- الثالث: هو أن زكي نجيب محمود بعد أن تشبَّع بالفكر الغربي عامة، والفكر العلمي خاصة، شعر وكأنه مُعلَّقٌ في الهواء، معزولٌ عن الثقافة الشعبية والتراث الوطني، خاصةً وأنه لم يكن مُطَّلعًا عليه.٦
(٢) زكي نجيب محمود في الكويت١٤
-
(١)
محاضرةٌ بعنوان: «طريقنا إلى فلسفةٍ عربيةٍ» ألقاها في الموسم الثقافي لجامعة الكويت في العام الجامعي ٦٨ / ١٩٦٩م.
-
(٢)
محاضرةٌ بعنوان: «التحول العلمي وأثره في حركات الشباب وحياة القلق»، ألقاها في رابطة الاجتماعيين عام ١٩٦٩م.
-
(٣)
محاضرةٌ بعنوان: «التكنولوجيا والحريات الأساسية»، ألقاها في الموسم الثقافي لرابطة الاجتماعيين عام ١٩٧٠م.
-
(٤)
«التكنولوجيا كإحدى تحديات العصر»، محاضرةٌ ألقاها في الموسم الثقافي الثالث لرابطة الاجتماعيين عام ١٩٧٠م.
-
(٥)
«دور بعض الشخصيات العربية في زيادة الفكر الإسلامي»، ألقاها في الموسم الثقافي لعام ١٩٧١م.
-
(٦)
«الخصائص الحضارية للمجتمع المصري»، ألقاها في الموسم الثقافي الخامس لعام ١٩٧٢م.
-
(٧)
«دور المفكر المعاصر في التنمية والتطور الحضاري»، ألقاها في الموسم الثقافي لعام ١٩٧٣م.
-
(٨)
مجموعة لقاءات فكرية مع الأستاذ «رمضان لاوند» في برنامجه الإذاعي «حول الفكر العربي المعاصر» عام ١٩٧٣م.٢٣
وإذا نظرنا نظرةً فاحصةً إلى هذه المحاضرات لوجدنا أنها عرضت الكثير من أفكاره، التي ظهرت بعد ذلك في مشروعه الثقافي الذي عرضه في الثلاثية؛ فالمحاضرة الأولى «طريقنا إلى فلسفةٍ عربيةٍ» موجودة بنصِّها في ثلاثين صفحة (٢٥٧–٢٨٧)، في كتابه «تجديد الفكر العربي» تحت عنوان «ثنائية الأرض والسماء».
وقد بدأ في هذه المحاضرات بالحديث عن شيوع كلمة «الفلسفة» على ألسنة المثقفين، وطالب بتحديدها لكي نفهم بوضوحٍ ما الذي نعنيه بقولنا «فلسفة عربية»، وأوضح وسيلةٍ، في رأيه، لتحديد معنى الفلسفة أن نُفرِّق بين مستوياتٍ ثلاثة للإدراك؛ ففي المستوى الأول نعيش مع الأشياء من حولنا على نحوٍ مباشر، بحيث ندركها بحواسنا: نراها ونلمسها … إلخ، أما في المستوى الثاني فنحن نحاول الوصول إلى قوانين عامة، تضبط تلك الجزئيات التي خبرناها خبرةً مباشرةً في المستوى الأول، وتلك مرحلة العلوم المختلفة، أما في المستوى الثالث فنحن نبحث عن مبادئ مشتركةٍ بين هذه القوانين، وربما وجدنا أنها ترتدُّ كلها في آخر الأمر إلى مبدأ واحدٍ عام وشامل، وهذه العملية الفكرية هي «الفلسفة»، لكن الفلسفة لا تقتصر في عملها على استخلاص المبادئ المتضمنة في الفكر العلمي، بل يمتد هذا النشاط إلى الثقافة السائدة، فتكون مهمة الفلسفة في هذه الحالة «استخراج ما هو مضمرٌ في أحكامنا وأفكارنا واعتقاداتنا، لتنقلها من حالة الكمون إلى حالة الإيضاح والإفصاح والعلانية، لتسهِّل رؤيتها ومناقشتها»، ثم راح مفكرنا يضرب بأدواته التحليلية في ثقافتنا؛ ليستخرج لنا الأسس الكامنة في أفكارنا وسلوكنا، ثم صاغ هذه الأسس في «فلسفةٍ عربية مقترحة» سوف نعرض لها بعد قليل.
وفي محاضرته عن «التكنولوجيا والحريات الأساسية» نراه يبدأ كعادته، بتعريف هذين المصطلحين، وهو يُعرِّف التكنولوجيا بأنها امتدادٌ للجسم البشري وما فيه من أجهزة: فيه بصر، لكن البصر الإنساني محدودٌ، فأمده بأي أداةٍ أستطيع أن أصل إليها بالعلم من ميكروسكوب إلى تلسكوب … إلخ، فيه سمع، لكن السمع محدودٌ، فأمط هذا الجانب من جسم الإنسان بحيث أستطيع أن أسمع من بعد آلاف الكيلومترات عن طريق الراديو، والتليفون، والتليفزيون … إلخ، وهي كلها ضروبٌ من التطبيقات الفنية للعلم، وهي تطبيقات لم تبدأ بشكلٍ موسَّع، تقريبًا، إلا بعد الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، ومن ذلك الوقت أخذت صورة العلم تتغير من حيث أنه لم يعد علمًا نظريًّا، وإنما أصبح العلم تطبيقًا.
أما الحريات الأساسية فإنه يقول لنا أن تصبح الحرية أساسية عندما تتصل بطبيعة الإنسان اتصالًا مباشرًا. وطبيعة الإنسان في التراث الغربي منذ اليونان هي «العقل» أو «الفكر النظري» أي الفكر التأملي، ولو صحَّ ذلك لكانت الحرية الأساسية هي حرية التفكير ثم يتفرع عنها بقية الحريات. لكن مفكرنا يرفض أن تقتصر طبيعة الإنسان على «العقل» وحده: بل مدَّها لتشمل «العقل، والوجدان، والإرادة»، وبذلك تكون الحريات الأساسية هي حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية الفعل، ثم يضيف إليها حرية العقيدة لتصبح هناك أربع حريات أساسية. أما تأثير التكنولوجيا تقوِّي القوي وتضعف الضعيف؛ فالإذاعة والتليفزيون … إلخ ليست دائمًا حدًّا من الحريات، وإنما هي تزيد من حرية من يمتلكها، ومن يملك التصرف فيها، وتحدُّ من حرية من يتقبَّل تأثيرها، وقل مثل ذلك في أدوات الحرب، وأدوات الصناعة، وأدوات السفر، وأدوات السرعة وفي أي أداةٍ تكنولوجيةٍ أخرى.
وفي محاضرته عن «الخصائص الحضارية للمجتمع العصري» يبدأ بتحديد معنى «المجتمع العصري»، ويرى أن الأساس الأول المشترك في المجتمع العصري هو الحياة العلمية التكنولوجية؛ فالحياة العلمية بهذا المعنى الجديد لا فرق بين بلادٍ اشتراكيةٍ، وبلادٍ رأسمالية أو كائنة ما كانت، ولا بد لنا أن نكون نحن أبناء الأمة العربية على وعيٍ بأنفسنا، وأين نحن من عصرنا، فالعلم أصبح لغته هي الأجهزة لا الكلمات والألفاظ، وهذا يعني أن علينا أن ننتقل من حضارة اللفظ إلى حضارة الأجهزة (وهي فكرة يؤكدها مرارًا كما سبق أن رأينا، وسوف يعرض لها في «تجديد الفكر الروحي»، ص٢٢٤ وما بعدها). وينبغي علينا ألا نظن أننا دخلنا عصرنا مهما وضعنا في منازلنا أو معاملنا من أجهزةٍ؛ لأن الأجهزة ليست أجهزتنا، كل ما في الأمر أننا دفعنا فاتورة الحساب عندما اشتريناها، وهذه الفكرة ينبغي ألا تزول من أذهاننا حتى لا ننخدع في أنفسنا، فلكي نعيش الحياة المصرية لا بد أن نُشارك في صنع العلم، وأن نشارك في صنع الأجهزة التي تعمل على تقدم العلم، ولكن لا تعب ولا عناء في أن نذهب إلى مصانع أوروبا وأمريكا ونشتري، في جيوبنا المال وعندهم الأجهزة فنشتري. ومن سمات المجتمع العصري أيضًا أن تسير أموره على التخطيط المبني على العلم، ومن سماته أيضًا الحرية الإيجابية القادرة على الخلق والإبداع.
- أولًا: راح مفكرنا في هذه الحلقات يُشدِّد على
تخلُّف المجتمع العربي، وربما كان حديثه
قاسيًا بعض الشيء، لكنها «قسوة المواطن بحب
وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكَّب عن جادة
الطريق»، كما سبق أن رأينا،٢٨ فهو في هذه الأحاديث يذهب إلى
أننا نفاخر، كذبًا، بأننا في الطليعة؛ مع أننا
ينبغي ألا تخدعنا المظاهر، فلو أنني رأيت «دون
كشوت» يلبس الدروع لا أقول عنه أنه شجاعٌ
لمجرد أنه قد كسا جلده بهذه الدروع، أو أمسك
بالسيف في يده، لأنني أعلم أن وراء هذه الدروع
شخصًا هزيلًا جبانًا مترددًا، ينبغي عليَّ أن
أحكم بما هو داخل هذه الدروع، ولا أنخدع
بالمظاهر.
نحن متخلفون ويكفيك أن تنبش أي ظاهرٍ في أي قطاعٍ من قطاعات الحياة عندنا لترى ما وراءه من تخلف، خُذ مثلًا الجامعات العربية من أولها إلى آخرها تجد أنه لا شيء ينقصها من الظاهر؛ فهناك الطلاب، وقاعات الدرس، ومكتبًا وأساتذة … هناك ما تريد العين أن تراه، ومع ذلك انظر إلى الطالب بعد تخريجه، وقبل تخريجه، تجده يختلف عن الطالب في أوروبا وأمريكا؛ لأن المادة العلمية عندنا «تُحفظ» فقط، حتى ولو كانت من الفزياء أو الكيمياء … إلخ، فأنا أكسو الظاهر بلغوٍ كيميائيٍّ، وأظن أنني أصبحت من الكيميائيين، على حين أنني من الداخل لا أستطيع أن أُحرِّك ساكنًا بكل الكيمياء التي أعرفها، وعندما يجدُّ الجد نستحضر الخبراء من الخارج لوضع المشروعات الكبرى، أو للتخطيط العلمي وما إلى ذلك، ومعنى ذلك أنني تعلمت في الظاهر ولم أتعلم في الباطن.
- ثانيًا: لكل عصرٍ مشكلاته التي تختلف قليلًا أو كثيرًا عن العصور الأخرى، وبهذا المنظور أستطيع أن أقول إن مشكلاتنا اليوم تختلف عن مشكلات السلف. قد يكون هناك خيوطٌ مشتركة بيننا وبينهم، لا سيما فيما يتعلق بموضوعات التعقيد، لكن المشكلات الثقافية التي شغلتهم ليست هي نفسها مشكلاتنا الآن، خُذ مثلًا مشكلة «خلق القرآن» التي أتى بها علماء الكلام في القرن الثاني أو الثالث، نجد أنها نشأت لظروفٍ سياسيةٍ أو اجتماعية لا علاقة لنا بها الآن؛ ومن ثم فليس للمسلم الآن أن يفكر في هذا الموضوع، وإنما عليه أن يُسقطه من حسابه، أضف أن هناك مشكلاتٍ كثيرة جدَّت في ميدان الاقتصاد، وفي ميدان العلم الطبيعي وغير الطبيعي، وفي ميدان السياسة وفي ميدان الحروب … إلخ، بل حتى في ميدان الأدب نفسه، هناك أسئلةٌ جديدة مطروحة، فليس في استطاعتك أن تسأل المتنبي، مثلًا، كيف تكون المسرحة؛ أتكون تصويرًا للواقع، أو من أدب اللامعقول؟ وهل تكون المسرحية رمزيةً أم تكون واقعيةً؟! هل تكون المسرحية شعرًا أم نثرًا؟ … إلخ.
- ثالثًا: في حلقةٍ أُذيعت يوم الاثنين ٥ / ٣ / ١٩٧٣ دار الحوار حول «مشكلة الحرية»، وذهب مفكرنا إلى أن فكرة الحرية في العالم العربي، لا سيما الحرية الاجتماعية، هي فكرةٌ حديثةٌ، ظهرت وتبلورت من خلال اتصال العالم العربي بالثقافات الغربية، ثم جاء المستعمر فتحولت فكرة الحرية إلى التحرر من الاستعمار؛ إذ كان من الطبيعي أن توجه طاقتنا أولًا نحو هؤلاء المستعمرين لنتخلص من قيودهم، ثم ننصرف بعد ذلك إلى تنظيم مجتمعنا؛ ولهذا كانت المشكلة الرئيسية بعد ذلك هي مشكلة الحرية السياسية. ولن أجد في تراث الآباء والأجداد حلولًا لها؛ لأن فكرة «الحرية» عندهم كانت مختلفة تمامًا، إذ كانت تُقال في مقابل «الرق»؛ فالفرد من الناس إما أن يكون «حرًّا» أو عبدًا مملوكًا لغيره، وقد تنصبُّ على حرية الإرادة أو العلاقة بين الفعل الإلهي والفعل البشري. أما في ثقافتنا الآن فقد اكتسبت الحرية أبعادًا جديدة لم تكن لها من قبل.
- رابعًا: ويتفرع عن مشكلة الحرية الاجتماعية مشكلة أخرى مدنية هي «حرية المرأة»، فحرية المرأة في المفهوم الحديث تختلف عن مفهوم حرية المرأة في القديم الذي كان يضعها وضعًا لم يعد يصلح لها، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس؛ فهي اليوم طبيبة ومهندسة، ومدرسة، ومحاسبة … إلخ.
وهذه الأفكار التي نثرها مفكرنا في محاضراته وندواته وأحاديثه الإذاعية، تُمثل خيوطًا سوف تتجمع؛ لتنسج لنا مشروعه الثقافي في «تجديد الفكر العربي».
(٣) البحث عن صيغةٍ جديدةٍ
بدأت البذور التي تضمنتها المرحلة الأولى، وكانت في حالة كمون في المرحلة الثانية، تظهر، وتنمو، وتنضج عندما وجدت التربة الصالحة، والمناخ المناسب خلال السنوات الخمس التي قضاها في جامعة الكويت، فراح مفكرنا يبحث عن صيغةٍ جديدةٍ تجمع «التدين الخالص» مع «العقل الخالص»، في إطار مشروعٍ ثقافيٍّ يستهدف «تجديد الفكر العربي».
(٤) تطهير الأرض قبل إقامة البناء
أولًا: احتكار الحاكم لحرية الرأي
ويسوق مفكرنا الكثير من الأمثلة: الحلاج المتصوِّف، بعد بشار الشاعر، ومن الفقهاء أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد، ومن المفكرين الجعد بن درهم، وابن المقفع وغيرهم وغيرهم.
ثانيًا: سلطان الماضي على الحاضر
سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة سيطرة الأموات على الأحياء، ومهما كان إجماع السلف على صدق فكرة، فإن ذلك لا يجعلها صادقةً، أو كما قال ديكارت: «إن إجماع الكثرة الغالبة من الناس لا ينهض دليلًا يُعتدُّ به لإثبات الحقائق التي يكون اكتشافها عسيرًا»، فنحن لا نصل إلى الحقيقة بعدِّ الأصوات المؤيدة، فإن كانت كثيرة فهي حقيقةٌ وإلا فهي باطلٌ!
ثالثًا: تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات
غير أن الدكتور حسن حنفي هنا يخرج عن الموضوع تمامًا، فهو يصور «هذا العائق» على أنه كان رأيًا في الماضي، قالت به فرقةٌ من المتكلمين ورفضته أخرى …! ونُسي، أو أُهمل، ما بدأ به مفكرنا من أن هذا العامل المعوِّق ما زال قائمًا بيننا حتى اليوم، وربما يجهل أصحابه الفرق التي أيَّدت والتي عارضت في آنٍ معًا، ولو أن الأمر قد اقتصر على تراث الماضي، لما أخذنا عجب ولا كانت هناك مشكلةٌ، لكن الخطر الحقيقي في الأمر أن هذه الفكرة ما زالت متغلغلةً في ثقافتنا الحاضرة، لا فقط بين العامة، بل الأمر يجاوز هؤلاء إلى العلماء أنفسهم، وبين الأساتذة، الذين يعملون في الجامعات، ويقومون بتدريس العلوم الحديثة: الكيمياء، والفزياء، والنبات، وطبقات الأرض! فليست المشكلة «تاريخًا مضى»، ولا يجوز أن نستشهد بما قالته الأشاعرة، ونتغاضى عن اعتراضات المعتزلة، بل أن العائق قائمٌ بيننا حتى اليوم.
(٥) مشكلاتٌ متجددة
تلك كانت «عقبات» على الطريق اختصرها مفكرنا في ثلاث، تعوق نهضتنا وتشلُّ حركتنا، وتمنعنا من الانطلاق، وإن كانت العقبة الأولى هي، في تصوري أخطر العقبات جميعًا …!
(٥-١) مشكلة الحرية
والواقع أن اعتراض حسن حنفي يبعد كثيرًا، مرةً أخرى، عن الموضوع المطروح للنقاش؛ فهو مثلًا «يستخرج» فكرة الحرية من مفهومي «التوحيد والعدل»؛ أي إنه يقوم بتحليل الألفاظ، وسواء نجح فيها أم لا؛ فالحرية «المستخرجة» على هذا النحو لا علاقة لها بالحرية السياسية!
أما ثورة القرامطة فهي حركةٌ دينيةٌ لم تكن تستهدف «تحرير المواطن» بقدر ما تستهدف الاستيلاء على السلطة، ونحن عادةً لا نفرِّق كثيرًا بين الصراع على السلطة، التي ربما لو انتصرت لكانت أسوأ من السلطة القديمة، وبين الصراع من أجل تحرير المواطن؛ فالمعروف عن جماعة القرامطة أن أفرادها أخذوا بالطاعة العمياء للجماعة ولزعيمها، وعندما أسسوا دولةً في الأحساء، في شبه الجزيرة العربية، عاثوا في الأرض فسادًا، وأغاروا على قوافل الحج! أما ثورة الزنج التي قامت بمعاونة القرامطة، فهي أقرب إلى ثورة العبيد في روما، ولم يقل أحدٌ أنها قامت لتحرير المواطن، وردِّ حقوقه المسلوبة، بل إن بعض المؤرخين يُطلق عليها اسم «فتنة الزنج»، فقد أثاروا الرعب في الجزء الجنوبي من العراق خمسة عشر عامًا!
(٥-٢) حرية المرأة
(٥-٣) الدخول في عصر العلم
(٥-٤) مشكلة الوحدة
كان ذلك، بصفةٍ عامة، الجانب السلبي في مشروع زكي نجيب محمود ﻟ «تجديد الفكر العربي»، وهو جانبٌ يتمثَّل من ناحيةٍ في تطهير الأرض وإزالة العقبات التي تعرقل مسيرتنا، كما يتمثل من ناحيةٍ أخرى في رفض مشكلات الماضي وعدم العمل على إحيائها، والالتفات جيدًا إلى مشكلاتنا الجديدة.
طهَّرنا الأرض وأزحنا الألغام، وتبيَّنا المشكلات فماذا يبقى بعد ذلك؟ يبقى الجانب الإيجابي من المشروع، وهو يتمثل فيما يسمِّيه مفكرنا بالفلسفة العربية المقترحة.
- الملاحظة الأولى: أننا حين نربط الفكر باللغة فإن ذلك لا يعني أن كل ما ننطق به من ألفاظٍ يُشكِّل فكرًا، فمن النطق ما هو «هراء» وتخليط كتخليط المجانين؛ ولذلك فرَّق ابن جنى بين «القول» و«الكلام»، بحيث جعل القول ما تتحرك به الشفتان. أما الكلام فلا بد أن يحمل فكرًا ومعنى.
- الملاحظة الثانية: يعود الكلام المعبِّر عن فكرٍ فينقسم نوعين: الأول الكلام الذي يرتبط بالواقع المحسوس، كقولي مثلًا: «الكويت تقع على الخليج العربي»، فهو كلامٌ ذو علاقةٍ بأمرٍ واقع، يمكن رؤيته ورسمه على الورق، والنوع الثاني هو الكلام الذي يرتبط بكلامٍ آخر، كقولي: «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفةٍ على السرعة.» فهذا الكلام لا يشير إلى شيءٍ في دنيا الواقع، وإنما هو يُعبِّر عن نفسية المتحدث، وهذه التفرقة هي التي جاءت بها الوضعية المنطقية، وأخذ بها مفكرنا في المرحلة الثانية من تطوره الروحي، واعتبرها كشفًا هامًّا في الفلسفة المعاصرة.
(٦) إقامة البناء: فلسفةٌ عربيةٌ مقترحة
طهَّرنا الأرض قبل البناء، وفرَّقنا بين المشكلات التي عالجها الأجداد، ومشكلاتنا المعاصرة التي لا نستطيع أن نجد لها حلولًا في تراث القدماء، لكن ذلك كله يمثل الجانب السلبي من المشروع الثقافي الجديد، فما هو الجانب الإيجابي؟ بقي علينا الآن أن نعرض لهذا الجانب الإيجابي، الذي يتمثل في فلسفةٍ عربيةٍ جديدةٍ تجمع بين «الأصالة والمعاصرة»، بين «العقل والوجدان»، فلسفةٌ تخرج الأسس الكامنة في أفكارنا، ومعتقداتنا وسلوكنا، وثقافتنا بصفةٍ عامةٍ، تخرجها من حالة الكمون إلى حالة العلن والإيضاح، لتسهل رؤيتها ومناقشتها.
ومفكرنا يضرب بأدواته التحليلية؛ ليصوغ لنا فلسفةً تعبر عن جذورنا الثقافية: نقرؤها فنجد أنفسنا منعكسةً فيها، وهذا ما حاوله الإمام محمد عبده من قبل، وما حاوله طه حسين، والعقاد، والحكيم … إلخ، وإن كانت هذه الأمثلة أقرب إلى عالم الأدب والأدباء منها إلى عالم الفلسفة بمعناها الاحترافي.
- (أ)
ثنائية الأرض والسماء.
- (ب)
ثنائية الطبيعة والفن.
وسوف نتحدث عن كل ركنٍ منهما بإيجاز.
(٦-١) ثنائية الأرض والسماء
- (١) أننا لا نطمئن بالًا حين يُقال عن الإنسان إنه ظاهرةٌ تخضع كلها للقوانين العلمية، ونحرص على أن نُبقي جانبًا منه يستعصي على ذلك التقنين لأنه جانبٌ فريدٌ خلَّاق، مسئولٌ عن خلقه وإرادته.٨٠
- (٢)
كما أننا نرفض في مجال الأخلاق أن يكون مدار الفعل الأخلاقي السليم منفعةً تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها؛ ومن ثم نُقيم الأخلاق على أساس الواجب لا على أساس الفائدة، ولا ينفي ذلك أن يجيء الواجب مصحوبًا بنتائج نافعة، فوق كونه واجبًا، لكنه واجبٌ يؤدى من قبل نفكر فيما يترتب عليه من نفعٍ، وهذه الوقفة الخلقية نتيجة مباشرة للصورة الكونية التي تصورناها، إلهٌ خالق وعالمٌ مخلوق، وفي هذا العالم إنسانٌ متميزٌ دون سائر المخلوقات بالإرادة الحرة المسئولة، التي تتصرف في إطار التشريع الإلهي، لكنه مع ذلك تصرف فيه حرية الاختيار، التي من شأنها أن تجعل تبعة الفعل واقعةً على فاعله.
- (٣) ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضًا موقفٌ خاصٌّ بمعايير الجمال في الفنون والآداب، فالفن عندنا هو في هندسة تشكيلاته، هندسة يطرب لها الذهن من وراء الحاسة المدركة؛ فالفن العربي في زخارفه ورسوماته تتماثل فيه المربعات والدوائر والمثلثات وغيرها من أشكال الهندسة، بحيث يراعى أنه إذا امتدت عينا الرائي في أحد أطرافه، أحسَّ أنه يستطيع أن يمدَّ تلك التشكيلات الهندسية إلى غير نهايةٍ، وفي هذه الانطلاقة من المحسوس إلى المعقول، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن الطبيعة إلى ما وراءها، يكمن جوهر الروح العربية.٨١
- (٤) ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضًا نظرية خاصة في تحليل المعرفة الإنسانية؛ فالفلسفة الثنائية المقترحة تجعل للمعرفة نطاقين: لكلٍّ منهما وسيلةٌ خاصة به، فإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها، جاءتنا المعرفة عن طريقٍ آخر، ولا يجوز لأيٍّ من النطاقين أن يزاحم الآخر في وسائله، وبعبارةٍ أخرى علينا أن نجعل للعلوم الطبيعية منهجًا، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهج آخر. أما منهج العلوم الطبيعية فقائمٌ على مشاهدة الحواس وإجراء التجارب، وعلى سلامة التطبيق. أما منهج ما وراء الوقائع الصمَّاء من حقائق كالقيم الخلقية، مثلًا، فقد نلجأ إلى شهادة الحواس والتجارب العابرة، بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة، أو إلى إملاء الوحي أو إلى ما يسري بين الناس من عرف تقليد.٨٢ ومن الواضح أن قسمة الوضعية المنطقية تعود فتطلُّ برأسها من جديدٍ مع قدرٍ طفيفٍ جدًّا من التعديل.
(٦-٢) ثنائية الطبيعة والفن
- أولًا: الأمر الأول الذي ينبغي علينا أن نلاحظه أننا أمام ثنائيةٍ حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله.
- ثانيًا: أن العربي لم يتصور العلاقة بين الطرفين
على أنها علاقة تبادل أو أخذ وعطاء، بل هي
علاقة الحاكم والمحكوم، والحاكم هنا مطلق
السلطان، والمحكوم معدوم الحول
والحيلة.
ولا يغير من الصورة أن يكون الحاكم المطلق عادلًا، وأن يكون المحكوم ملاقيًا جزاءً وفاقًا؛ إذ ما يزال طريق السير في اتجاهٍ واحد: يهبط الأمر من أعلى فيصدع به الأسفل.
- ثالثًا: أن الصورة الموجودة في السماء انعكست على الأرض، وأصبح النظام السياسي نسخةً من النظام السماوي، فإذا كانت قوانين الطبيعة يمكن أن تتعطل أو تطرد بحسب ما يشاء الحاكم السماوي المطلق، فإن حاكم الدولة الأرضية يمكن أن يعبث بقوانين المجتمع فيطبقها أو لا يطبقها حسب مشيئته، فها هنا أيضًا في صورة حياة الإنسان في مجتمعه، نجد أن لصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا؛ ولهذا تجد أن الكلمة في مجتمعاتنا لصاحب القوة النافذة، ولصاحب الجاه، والحق مع صاحب النفوذ.
- رابعًا: سوف يترتب على ذلك أيضًا أن تكون الأخلاق هي أخلاق الواجب، والأهمُّ من ذلك أن الواجب مفروضٌ علينا من صاحب السلطان، والأصل أن يكون صاحب السلطان في عليائه من السماء، ثم جاز أن يتمثل، كما رأينا، في المتربع على كرسي الحكم من أفراد البشر؛ ولهذا فإننا لا نتصور أن تكون الأخلاق «أخلاق سعادة»، تعود علينا قيمتها بحياةٍ نافعةٍ سعيدة طيبة، بل الواجب هو الواجب لأن سلطة عليا أوجبته علينا. مهما تغيرت ظروف العيش وتطور المجتمع تبدلت أوضاعه، ونحن لا نتصور أن تتطور معايير الحكم الأخلاقي، فإذا تطور المجتمع انسلخت دنيا الحياة الواقعية عن دنيا القيم الأخلاقية، وأصبح الفعل في ناحيةٍ والعقول في ناحيةٍ أخرى.٨٤
ولا يرى مفكرنا مانعًا أن تبقى هذه الثنائية فيما يختصُّ بعلاقة الإنسان بربه، لكنه يوجب أن تُضاف إليها ثنائيةً جديدة تكفل لنا النتائج المسايرة للعصر الجديد، وهي ثنائيةُ العلم والحرية … أما «العلم فهو يعني معرفة ظواهر الطبيعة؛ أي العلم بالطبيعة وما فيها من صنوف الكائنات، غير أن ذلك يستوجب أن يكون الإنسان نفسه «ذاتًا، عارفة، عالمة، باحثة، منقبة»، فيصبح هناك ذات تعلم وموضوع يعلم: الذات العارفة، والموضوع المعروف، الإنسان والعالم.»
والنتيجة التي تلزم عن هذه القسمة هي ضرورة أن يخضع الإنسان لواقع العالم كما يثبته العلم، مع ضرورة أن تظل للذات حريتها، فترغب وترهب، وتحب وتكره وتختار وتدع، وتقبل وتدبر، وتجرؤ وتجبن … إلخ.
فالعلم بالطبيعة الخارجية قيد، وانطلاق الطبيعة الداخلية على سجيتها حرية، والجمع بين ذلك القيد وهذه الحرية هي ما تريده للمواطن العربي، وإذا تقيَّد الناس بحقائق العلم تشابهوا على اختلاف قومياتهم وتباين أجناسهم. أما الحرية نفسها انطلاق الذات وراء طبيعتها، وها هنا يختلف الناس، فردًا عن فردٍ أولًا، وأمةً عن أمةٍ ثانيًا. إنني حين أثبت حقائق الطبيعة الخارجية، فذلك «علم» والعلم واحدٌ للجميع، أما حين اتعقب حقائق الطبيعة الداخلية، فذلك «فن» و«الفن منوعٌ بتنوع الأفراد والأمم»، العلم موضوعيٌّ والفن ذاتيٌّ، وينبغي أن أحذر خلط العلم بأهواء الذات، أو أن أزيف الفن بموضوع يُملى عليه من الخارج، وبالعلم المقيد والفن الحر يتكون الإنسان المعاصر، وعند مفكرنا أن العربي متخلفٌ عن عصره؛ لأنه لم يكتسب العلم بالطبيعة. كما أنه لم يُنشئ فنًّا يُعبِّر عن ذاته؛ فهو إن عرف شيئًا عن «العلم» فقد استمدَّه من غيره ثم حفظه حفظ التلميذ لدرسه، والفن كذلك سلعةٌ منقولة عن سوانا (عن أسلافنا أو معاصرينا)، فإذا كان في المنقول فن؛ فالفن لغيرنا عبَّر به عن ذاته هو، أما نحن فذواتنا مطمورةٌ تنتظر الفنان الأصيل.
(٦-٣) قيمة العقل في تراثنا
وهكذا يعود مفكرنا إلى فكرة الجمع بين «العقل والوجدان»، وإلى تكرار فكرة «الشرق الفنان»، فلئن غلبت ثقافة الوجدان على تراث الشرق الأقصى من هند وصين، وغلبت ثقافة العقل، فلسفةً وعلمًا، في تراث أوروبا، فقد كان في شرقنا العربي ذلك الجمع المتزن بين عقلٍ ووجدان؛ فالثقافة العربية تمثَّلت منطق أرسطو بكل ما فيه من ركونٍ إلى الحدس والوجدان. وهذه المزاوجة الثقافية بين العقل والوجدان، تلائم المزاج العربي، واللغة العربية، ملائمةً كاملةً، فبحكم ذلك المزاج يفصل العربي بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا. يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكل عالمٍ من العالمين أهلًا غير أهل العالم الآخر، بل عنده أن أهل هذا هم أنفسهم أهل ذاك، غير أن الواحد تمهيد للثاني.
وإذا تساءلنا الآن كيف يُتاح للولي المعاصر أن يُتابع السير على طريق العربي القديم، كانت الإجابة: أن يكون ذلك باتخاذ الوقفة نفسها التي وقفها سلفه لينظر إلى الأمور بالعين نفسها، ألا وهي عين «العقل» ومنطقه دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة ذاتها؛ أعني أن يأخذ العربي المعاصر موقفًا من العربي القديم صورته لا مادته، فيأخذ الوقفة العاقلة المتزنة ليطبقها لا على مسألة «الكبائر ومرتكبيها»، بل فيما يعرض له هو من مشكلات عصره: كمشكلة الفرد والجماعة، ومشكلات الاقتصاد … وغيرها.
تلك كانت خلاصة سريعة للفلسفة العربية التي يقترحها مفكرنا الكبير، وعلينا قبل أن نُنهي هذا البحث أن نقف قليلًا لتقييم هذه المحاولة.
خاتمة: نقد وتقدير
-
(١)
إذا أردنا تقييم المشروع الثقافي، والفلسفة المقترحة لزكي نجيب محمود، فلا بد أن نضع ذلك كله في سياقه التاريخي لنحكم عليه حكمًا سليمًا. لو أننا تأملنا مسار نهضتنا لوجدنا أنها بدأت قبل خاتمة القرن الماضي بسنتين، وعلى وجه التحديد مع الحملة الفرنسية على مصر وسقوط الإسكندرية عام ١٧٩٨م، وما زلنا حتى يومنا الراهن نعيش هذه النهضة.
منذ ذلك التاريخ والأفكار تنهمر على تربتنا الثقافية، فقد بذر رفاعة الطهطاوي (١٨٠٠–١٧٨٣م) الكثير من البذور في المرحلة الأولى حول الحرية والمساواة، فاهتم في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» بما أسماه «بالحرية العمومية والتسوية بين أهل الجمعية»، وهو يقصد الحرية العامة والمساواة بين أبناء المجتمع.
ولقد عمل مفكرونا بعد ذلك، على نمو هذه البذور وإنضاجها، فعند قاسم أمين (١٨٦٥–١٩٠٨م) وصلت الدعوة إلى حرية المرأة إلى ذروتها، وكان أحمد لطفي السيد (١٨٧٢–١٩٦٣م) أول من بشَّر بالديمقراطية السياسية، وظهر جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩–١٨٨٩م) بدعوته إلى الاحتكام إلى العقل. وواصل الإمام محمد عبده (١٨٤٥–١٩٠٥م) النضال ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة، ولينجو بعقول الناس من ظلمة الجهل.
ثم ظهرت أبعادٌ جديدةٌ للحرية وللمساواة وللعقل، فدعا عباس العقاد (١٨٨٩–١٩٦٤م) إلى تحرير الشعر والفن بصفةٍ عامة، ودعا طلعت حرب (١٨٦٧–١٩٤٢م) إلى تحرير الاقتصاد، وكتب طه حسين (١٨٨٩–١٩٧٣م) يدعو إلى الحرية الفكرية والالتزام بالمنهج العقلي الصرف … إلخ إلخ.
هذه كلها أفكار تناثرت في طريق نهضتنا التي بدأت منذ نحو قرنين، لكنها ظلت أفكارًا مبعثرةً لا تسلك في خيطٍ واحدٍ ولا يجمعها عقدٌ، ولا تحتويها فلسفة؛ ومن هنا فقد كان مشروع زكي نجيب الثقافي، والفلسفة الثنائية المقترحة، عملًا غير مسبوقٍ، فليس ثمة، فيما أعلم، محاولة لوضع فلسفةٍ عربيةٍ قبله سوى «جوانية» عثمان أمين، وتعادلية الحكيم.
-
(٢)
أما جوانية عثمان أمين فهي ليست مذهبًا بالمعنى الدقيق ولا محاولة لإقامة مذهب، وهو نفسه يقول: «الفلسفة عندي شيءٌ آخر غير «النسق» المحكم المغلق المحيط …»٩٤ وإنما هي مجموعةٌ من الانطباعات الشخصية عن الحياة والمجتمع والثقافة، والإنسان …إلخ، كونها من مطالعاته الكثيرة متأثرًا بمجموعةٍ من الفلاسفة والمفكرين منهم ديكارت، وكانط، وفشته، وبرجسون، ومحمد عبده …إلخ، وهي ضربٌ من «التعاطف» مع الأشياء والناس لالتماس «المخبر» لا المظهر، «الباطن» لا «الظاهر»، وتفحص «الداخل» بعد ملاحظة «الخارج»، وتلتفت إلى المعنى «وإلى» القيمة وإلى «الروح» … إلخ، لكن ذلك كله مجرد انطباعات، كما قلنا، وتجارب شخصية وهذا واضحٌ من «اليوميات الجوانية»، التي يسجل فيها أستاذنا مجموعة من الخواطر والتجارب الشخصية المتصلة بقضايا وأحداث عامة فكرية وأخلاقية.٩٥
-
(٣)
أما تعادلية توفيق الحكيم التي عرضها في كتيبٍ لا تكاد صفحاته تزيد عن مائة وثلاثين صفحة من القطع الصغير؛ فهي سياحةٌ تطوف على ميادين الفكر؛ لتقف عند كل ميدانٍ منها لحظةً تعطيك جرعةً تفجِّر في نفسك بعدئذٍ تساؤلات وتأملات. إنها سياحةٌ تطوف بك إلى ميادين: الميتافيزيقا، والأخلاق، والاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والجيولوجيا، وغيرها من فروع العلم والمعرفة. لكن هذه السياحة لا يمكن اعتبارها «فلسفة مقترحة» ولا هي «مذهب» يجمع شتات الأفكار التي تبعثرت على طريق نهضتنا منذ نحو قرنين من الزمان.
غير أن الملاحظة التي تستوقف النظر حقًّا هي أن الحكيم أراد من هذه المحاولة إقامة التعادل بين «العقل والقلب»، حتى إنه ذهب إلى أن اختلال التعادل بينها «كانت له نتجته الطبيعية التي لا بد أن تُلازم كل اختلالٍ في الميزان، وهي القلق»، وفضلًا عن ذلك فهو يريد إقامة قاعدةٍ أساسيةٍ للتعادل بين «الإيمان والعقل»، بين «العمل والفكر» بين «الإرادة البشرية والإرادة الإلهية»، كما يرى أن الخير والشر كليهما ضروريٌّ ليعادل الآخر … إلخ، وكأن الأفكار التي يعرضها إرهاصات بفلسفةٍ ثنائيةٍ أو شعور منه بحاجتنا إلى مثل هذه الفلسفة.
-
(٤)
المشروع الثقافي عند زكي نجيب محمود غير مسبوقٍ والفلسفة العربية الثنائية المقترحة هي ضربٌ جديد من التفلسف، يحاول لأول مرةٍ أن يجمع شتات الأفكار التي تناثرت على طريق نهضتنا، دون أن يضمها نسقٌ أو تُسلك في عقدٍ واحد، وليكون لنا، بذلك «فلسفةٌ عربية» لا تتجاهل العصر ولا تنفصل عن الماضي.
-
(٥)
لا شك أن زكي نجيب محمود كشف لنا في مشروعه، بل في كل ما كتب، عن سمةٍ أساسية من سمات تخلفنا هي الخلط بين مجالات كان ينبغي التمييز بينها بوضوح، فنحن في كثيرٍ من الأحيان لا نفرِّق بين مجال الدين ومجال العلم، وبين مجال الوجدان (والدين وجدان) وبين مجال العقل، وتلك محمدة نحمدها له لأن إدراك الفروق والتمييزات بين المجالات المختلفة هي البداية الحقيقية للانطلاق والتقدم، فكل من أراد أن ينجز عملًا عظيمًا عليه أن يحدد نفسه كما قال هيجل بحق، في حين أن الخلط وعدم التمييز أو التحديد الواضح يؤكد التخلف ويثبت التفكير البدائي الفج.
-
(٦)
وضع مفكرنا يده على مشكلةٍ رئيسيةٍ عندنا، وهي اللحاق بركب الحضارة مع الإبقاء على هويتنا العربية، وأطلق على هذه المشكلة مرة اسم «الأصالة والمعاصرة»، ومرةً أخرى الجمع بين «العقل والوجدان» أو العلم والدين، ومن أجل الوصول إلى حلٍّ لهذه المشكلة كتب «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» و«مجتمع جديد أو الكارثة» … إلخ وهو جهدٌ لم يبذله مفكرٌ آخر في أية مشكلة.
-
(٧)
ضغط على «الدُّمل» عندنا عندما أدرك بوضوحٍ أن «أسَّ البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يدٍ واحدةٍ، وتلك كانت الحال في جزءٍ من تراثنا، هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت …!»
-
(٨)
لكن هل الصورة الكونية للعلاقة بين السماء والأرض هي التي نقلناها إلى المجتمع، فانعكست على تصورنا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما يقول مفكرنا الكبير، أم أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الواقع الماثل أمامنا هو التصور الأقوى، والصورة الحية التي ننقلها إلى السماء، وليس العلاقة «المتخيلة» بين صاحب السلطان في علياء سمائه هي التي ننقلها إلى المُتربِّع على كرسي الحكم من أفراد البشر، أيهما أقوى وأشدُّ أثرًا: دنيا الواقع التي نعيش فيها أم دنيا المثال التي نتخيلها؟
ومن هنا فلا يجوز أن نقول إن العلاقة بين الله والإنسان التي تصوَّرها العربي في تراثه، هي الشكل المستتر للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ذلك لأن العكس، في رأينا، هو الصحيح؛ فالإنسان يرتفع من الأرض إلى السماء فيتصور السماء على غرار ما هو على الأرض؛ ولهذا كان المصري القديم يُصوِّر السماء على هيئة نهرٍ عظيمٍ أشبه بنهر النيل، ولم يجد غضاضةً في تصوير السفن التي تسير في السماء بين الكواكب، وكما كان اليوناني في ديانته القديمة يُصوِّر كبير الآلهة «زيوس» على غرار الرجل اليوناني الذي يستمتع بحياته ويجري وراء النساء، ويخون زوجته المخلصة الوفيَّة، وأما زوجته «هيرا» فقد كانت راعية الزواج والأسرة تمثل المرأة اليونانية المتهورة المغلوبة على أمرها.
-
(٩)
فليس صورة السماء (أو العلاقة بين العبد وربه) هي التي انعكست في النظام السياسي، وإلا فماذا نقول في أمر الآيات القرآنية الكريمة، التي تذهب إلى أن هذه العلاقة تقوم على الحب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُم عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: ٥٤]، وفي الحديث القدسي: «لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به»، وغير ذلك كثيرٌ مما بنى عليه صوفية الإسلام مذهبهم في الحب الإلهي بنوعيه: حب الله للإنسان وحب الإنسان لله.
-
(١٠)
أما الفلسفة الثنائية المقترحة فهي ليست مستقرةً عند مفكرنا الكبير؛ فهو يعتقدُ أنها ثنائية لا تسوِّي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني (الله، الخالق، الروح … إلخ) الأولوية على الشطر المادي (الكون، المادة، الجسد … إلخ)؛ فهو الذي أوجده، وهو الذي يسير ويحدد له الأهداف «وواضحٌ أننا هنا أمام واحدية؛ إذ يمكن أن يرد الشطر المادي إلى الشطر الروحاني! ثم يقول أحيانًا أخرى أنها نظرةٌ تجمع بين الثنائية والكثرة، ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، وكثرة بالنسبة لأفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق، ثم نراه يميل، بصراحةٍ ووضوحٍ، إلى الواحدية لا سيما في المقالات التي كتبها تحت عنوان «من إشعاعات التوحيد».
-
(١١)
الفلسفة الثنائية، بصفةٍ عامةٍ، تعتمد على عنصرين لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر، وها هنا تكمن صعوبتها الرئيسية، التي تجلَّت في ثنائية ديكارت في العلاقة بين النفس والبدن، والغدة الصنوبرية الشهرية التي اتضح أنها خاطئةٌ بعد ذلك. ولقد بذلت المدرسة الديكارتية بعد ذلك جهودًا مضنيةً لحل المشكلة باءت كلها بالفشل، والصعوبات التي واجهت ثنائية القرن السابع عشر، سوف تُطلُّ برأسها من جديدٍ، مع أي ثنائيةٍ تتحدث عن «المادة والروح» أو النفس والبدن …إلخ.
-
(١٢)
في ظنِّي أن هذه الفلسفة الثنائية المتقرحة ليست فلسفة تضرب بجذورها في تراثنا، بقدر ما هي مشكلةٌ كان يعانيها زكي نجيب محمود نفسه طوال حياته: فهو يحمل في شخصه حسَّ الفنان وصرامة العالم، وهو يجمع في أعماقه بين شفافية الوجدان، وجفاف العقل الخالص … إلخ؛ ولهذا كانت المشكلة أساسًا هي مشكلة، وزكي نجيب محمود الأديب الفنان صاحب المقال الأدبي الشهير، وعالم المنطق العقلاني الجاف، فكيف يدخل الاثنان في إرهابٍ واحد؟
-
(١٣)
صيغة «الأصالة والمعاصرة» أو «العقل والوجدان» وهي الصيغة المقترحة لحل مشكلاتنا تصطدم بعقباتٍ كثيرةٍ: فهل المعاصرة «هي العقل» والأصالة هي «الوجدان»؟ في هذه الحالة نكون قد حكمنا على التراث كله، بأن أشبه ما يكون بالعمل الفني الذي لا تستطيع أن نتعامل معه إلا بوجداناتنا؛ مع أننا كثيرًا ما نعود إليه بوصفه يشتمل على نماذج كثيرة من ثنائية العقل والوجدان معًا!
-
(١٤)
كيف يستقيم القول بأن وقفة العربي من الأمور «وقفة عقلية»، وأن الشعب العربي يتميز بالنظرة العقلية، مع تأكيدنا في الجانب السلبي من المشروع أن هناك عاملًا مكبِّلًا لأرجلنا من السير «وهو ذلك الميل الشديد الذي نحسُّه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي أصحاب القلوب الورعة الطيبة» …؟٩٦ «ألم نقل أن تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات عقبةٌ بالغة الخطورة في طريقة تقدمنا، وأننا نحس بميلٍ دفين إلى الإيمان بها؟ وأن اللاعقلانية في جماهيرنا مغروزة في طبائعها كألوان جلودها، فجماهيرنا دراويش بالوراثة، ولا عجب أن تروج فيهم الخرافات والكرامات والخوارق.»٩٧
-
(١٥)
وأخيرًا مهما يكن من أمر الانتقادات التي يمكن أن توجَّه إلى هذه الفلسفة العربية الثنائية المقترحة، فسوف يبقى لمفكرنا الكبير أنها أول محاولة لإقامة «فلسفة»، ووضع نسق للأفكار المبعثرة التي اقتصرت عليها نهضتنا حتى الآن.
ولقد كان من الضروري أن تظهر فلسفة تضم شتات الأفكار الكثيرة التي ظهرت عن الحرية، والعدالة، والمساواة، والتقدم، والتراث، والمعاصرة، والعلم، والدين، والوجدان، والعقل … وعشرات غيرها امتلأت بها الساحة الثقافية منذ نحو قرنين، دون أن تسلك في عقدٍ واحد، ولن يكون في استطاعتنا أن نقول إن عندنا «فلسفةٌ عربية» ما لم تجمع هذه الأفكار في نسقٍ واحدٍ، وتفسرها فكرةً واحدة. ولقد أخذ مفكرنا بيدنا ليخطو بنا أول خطوةٍ على طريق التفلسف، ونأمل أن يتلوها خطوات.