الدكتور زكي نجيب محمود كما عرفته معلمًا … وإنسانًا
تمهيد
زكي نجيب محمود … الأستاذ
لم أكن أُدرك عن «وعي» حقيقة الدور الذي يؤدِّيه عندما ذهبنا إليه نعرض تكوين حلقة «فينا» جديدة، وقل مثل ذلك في الحوار الذي دار ذات يوم بينه وبين السيدة زوجته، التي كانت ترى أن المجرم أقل «ذكاء» من غيره، ويتجلَّى ذلك في عدم إدراكه للنتائج البعيدة المدى، التي تترتب على سلوكه الإجرامي، ومدى ما يؤدي إليه مثل هذا السلوك في مستقبل حياته، وكان رأي الأستاذ مختلفًا، وكان عليه أن يدافع عنه بقوة، فبعض المجرمين الآن، في أوروبا وأمريكا، (وكان الحوار يدور يومها بمناسبة سرقة قطار في إنجلترا، كان يحمل عدة ملايين من الجنيهات الإسترلينية)، عليهم تتبع التطورات التكنولوجية الحديثة، حتى يمكن وصفهم بأنهم «علماء» في مجالهم، بمعنى أنهم على درجةٍ عاليةٍ من المعرفة، تمكِّنهم من فهم أجهزة الإنذار الحديثة، وكيف تعمل، وكيف يمكن إبطالها. كما أن عليهم أن يعرفوا دقائق الأمور عن خزائن المال، والتعقيدات المتناهية في فتحها؛ إذ قد تحتاج بعض هذه الخزائن إلى مليون عمليةٍ حسابيةٍ لكي تُفتح. وذلك كله دليلٌ على ذكاءٍ حادٍّ وقدرةٍ عقليةٍ فائقةٍ. أما مسألة عدم تقدير المجرم للآثار والنتائج المترتبة على سلوكه الإجرامي، فقد يصدق ذلك على صغار المجرمين، أما كبارهم، وهم موضوع حديثنا الآن، فهم ينظرون إلى المسألة على أنها «مغامرة»، فإن نجحت رفعتهم إلى السماء السابعة، وعاشوا بقية عمرهم في رغدٍ (وبعضهم يغيِّر ملامح وجهه، ويذهب للحياة في مكانٍ ما بعيدًا عن وطنه)، وإن فشلت قضت عليهم؛ فالمسألة حياةٌ أو موت. ثم إنه يقول لنفسه أنها لن تفشل، إن الحالات التي فشلت فيها الجريمة من قبل (كحالات فشل بعض الانقلابات العسكرية)، كانت بسبب أخطاء وقع فيها المدبِّرون، وربما كانوا أقل ذكاء، أما هو فقد درس العملية التي سيقوم بها دراسةً جيدةً يتعذَّر معها الفشل.
زكي نجيب محمود … المُعلم
في استطاعتي أن أقول، في اطمئنانٍ وثقةٍ: إن زكي نجيب محمود ليس أستاذًا عاديًّا يُلقِّنك معلومات، أو مجموعة من المعارف وينتهي دوره، وإنما هو مُعلمٌ من الطراز الأول؛ إنه المعلم الذي يهزُّ تلاميذه هزةً عنيفةً يستحيل بعدها أن يعودوا كما كانوا؛ من هنا كان الطالب الذي تتلمذ عليه ولم يتأثر بما يقول، ولم ينفعل، سلبًا أو إيجابًا، بكلماته؛ كالصخر الأجرد الذي يسيل عليه الماء فينحسر عنه؛ لأنه مغلقٌ أصمُّ ولا رجاء فيه!
زكي نجيب محمود هو «المعلم» الذي يُثيرك بكلماته، ويدعوك إلى نزاله ومحاورته، وهو لا يشعر بضيقٍ ولا مللٍ من كثرة الأسئلة التي يطرحها عليه طلابه بالغةً ما بلغت بساطتها — وأحيانًا سذاجتها — شريطة أن يُتابعوه، وأن يفهموا عنه ما يقول، وأذكر أننا كنا نتعمد الإكثار من الأسئلة في موضوعاتٍ نظنُّ أنها «تحرجه»: «هل يمكن أن يترجم الفقر ترجمةً حسيَّةً مادية؟! وهل ينطبق المعيار الحسي نفسه على مفهوم «الحرية»؟! وماذا يكون مصير الدين وقضاياه الأساسية؟! هل أنت مؤمنٌ؟! وكيف نطبق على الإيمان معايير الوضعية المنطقية؟! وكان «المعلم» يتحمل هذه الأسئلة الساذجة جميعًا، ويُجيب عنها بهدوءٍ وبغير انفعالٍ. لم يكن ينفعل إلا عندما يشعر أن شرحه قد ضاع أدراج الرياح، وأن سؤال الطالب يكشف عن عدم فهمه لما قيل! وأَضرب مثلًا على ذلك بهذه الواقعة الطريفة التي يكشف عنها هذا الحوار الذي دار بينه وبين أحد الطلاب في قاعة الدرس:
- إن سؤالك ينمُّ عن أنك لم تفهم شيئًا مما قلتُ!
- كلا! لقد فهمتُ كل ما قلت!
- أؤكد لك أنك لم تفهم!
- أقسم بالله العظيم أنني فهمت!
- يمينٌ على يمينك أنك لم تفهم شيئًا!
وضجَّت القاعة بالضحك!
على أن أشدَّ ما أثار عجبنا وإعجابنا في هذا «المُعلم» هو وضوحه الفكري، وقدرته الفائقة والمدهشة معًا، والتي لا تخطئها العين العابرة، على طحن «جلاميد» الفلسفة من أفكارٍ معقدةٍ أو تصوراتٍ مجردةٍ أو مفاهيم عقلية جافة، وتقديمها إلى الطلاب على شكل «مسحوق» لا يُرهق الذهن كثيرًا، وإن كان يدفعه إلى التأمل والتفكير!
ويرتبط بذلك خاصية أخرى ملفتة للنظر؛ وهو أنه حاضر البديهة للغاية، قادرٌ على أن يذكر لك الأمثلة العينية الحسية لأكثر الأفكار الفلسفية تجريدًا، بقدر ما يستطيع الواقع الحسي أن يصوِّر التجريد العقلي، وبسرعةٍ مذهلةٍ! أذكر أننا، في السنوات الأولى من دراستنا الجامعية، كنا نُطالع كتابًا في الفلسفة عند صديق، واعترضتنا لأول مرةٍ فكرة الفيلسوف الألماني «فشته» عن العلاقة بين «الأنا واللاأنا»، وكان التعبير غامضًا علينا، فقال قائلٌ منهم: «ما رأيكم في الاتصال بالدكتور زكي نجيب هاتفيًّا نرجوه أن يوضح لنا العلاقة بمثال؟! فقلنا: لكنه، من ناحية، أستاذ للمنطق، ولا يدرس الفلسفة الحديثة، وهذه من ناحيةٍ ثانية فلسفة ألمانية «ميتافيزيقية»، لا يطيق أن يسأله عنها أحدٌ، ونحن من ناحيةٍ ثالثة قد بلغنا العاشرة مساء ولم نعتد محادثته في مثل هذا الوقت المتأخر … إلخ، لكن الصديق قام إلى الهاتف وهو يقول: لا أظنه يُمانع رغم ذلك كله! وطلب الرجل في منزله وسأله، وكانت إجابة «المعلم» بالبديهة الحاضرة سريعة كالعادة: «أنت الآن حين تتحدث في الهاتف خير مثال لهذه العلاقة التي تسال عنها: فشخصك هو «الأنا» والهاتف هو «اللاأنا»! فشكره الصديق وجلس، وشعرنا جميعًا بالحرج الشديد؛ لأن الفكرة لم تكن غامضةً ولا معقدة كما تخيلنا، ففيمَ كل هذا الإزعاج، ولم ندرك أن الوضوح جاء نتيجة لشرح «المعلم»!»
هذا الموقف الفلسفي الرائع، الاستقلال في الرأي، والاستقلال في التفكير، هو الذي كان يحاول زكي نجيب محمود «الأستاذ» أن يغرسه في تلاميذه، ولم يحاول قط أن يكون تلاميذه مجرد «نسخ» منه.
ومعنى ذلك كله أن إحدى الخصال الأساسية في زكي نجيب محمود «الأستاذ» نفوره من المذهبية، وإقباله على الاستقلال في الرأي، وفي استطاعتك أن تُضيف إلى ذلك خاصيةً أخرى هي أنه لا يعرف في الحق لومة لائمٍ، لا يُجامل على حساب الجانب العلمي على الإطلاق، ولا يتحاشى المواجهة الصريحة مع أي إنسانٍ كائنًا من كان تلميذًا أو صديقًا، وبالغًا ما بلغت درجة حبِّه له، ولكم شهدت مناقشات حول بعض قضايا لا تروقه في علم النفس، أو أفكار لبعض علماء النفس لا يوافق عليها؛ من ذلك مثلًا ما يقوله البعض من أن المجرم يكون، في الأعمِّ الأغلب، ضعيفًا من الناحية العقلية، أو كثيرًا ما يكون أقل، وأشهد أنه انفعل مرة انفعالًا مُلفتًا لأنني كتبت رأيًّا يُخالف رأيي ثم أردفته بعلامة تعجب (!) وثار «المعلم» ثورةً لم أكن أتوقعها قط وهو يقول: علامَ تتعجب؟! وماذا فعل بك الرجل حتى تتعجب من كلامه؟ وحتى لو افترضنا جدلًا أن فكرتك أصدق من فكرته، وهذا غير صحيح، أيجيز لك ذلك أن تتعجب منه؟ إنني أودُّ أن أُلقن كل من يستخدم علامات التعجب في صحفنا وكتبنا درسًا لا ينساه؛ أودُّ أن أقول له: يا رجل، إن علامة التعجب انفعالٌ يجوز أن نستخدمه في مجال الأدب أو الفن عمومًا، أما مجال الفكر والعقل والمنطق واختلاف الرأي، فلا يجوز لك أن تتعجب فيه أبدًا من فكرٍ يُخالف فكرك أو رأي يُعارض رأيك! إنك إذا ما تصفَّحت كتابًا باللغة الأجنبية فإنه يندر جدًّا أن تجد فيه علامة تعجب واحدة.
علمني الدكتور زكي نجيب «المُعلم» الاهتمام باللغة، وكان يقول باستمرار إن الفكرة الخصبة العميقة التي توضع في إطارٍ لغويٍّ رديء لهي أشبه بالفتاة الجميلة التي ترتدي أسمالًا بالية، وتترك شعرها أشعث أغبر، فيضيع جمالها وسط هذا الإطار القبيح! أما الفكرة الخصبة العميقة التي توضع في إطارٍ لغويٍّ سليم يُعبر عنها بوضوحٍ ناصعٍ؛ فهي أشبه بالفتاة الجميلة التي تبرز ثيابها وزينتها ما عندها من جمال!
ومن القيم التي بثُّها فينا زكي نجيب «المُعلم» قيمة «الإخلاص». ولقد رأيته مؤخرًا في حلقةٍ تليفزيونية، وهو يُجيب عن سؤالٍ للأستاذ فاروق شوشة: «وما الحل في رأيكم لكل ما نعانيه من مشاكل!» رأيته منفعلًا بعنفٍ وهو يقول: «الإخلاص! الإخلاص يا أخي!» وأخذ الرجل يكررها مِرارًا وهو يعدِّد ضروب النفاق والجهد العابث «نجلس ونجتمع، ونعقد لجانًا وراء لجان، ونكدِّس أوراقًا فوق أوراق، ونحن نعلم أن ذلك كله سوف يضيع في أدراج المكاتب، نحن ندرك مُقدمًا أن ذلك كله لن ينفذ منه شيء! إننا ينبغي أن نخلص الفكر والعمل معًا فنكتب المذكرات التي تنفذ، ونضع التقارير والاقتراحات الصالحة للتنفيذ، ثم نسعى جاهدين إلى تحويلها إلى عمل!»
ذكرتني هذه الثورة الانفعالية الشديدة بثورته عندما كان يشعر أن طالبًا يُنافقه أو يتملقه، عندئذٍ كان يشعر أنه أُهين إهانةً بالغة! أذكر أنني كنتُ في منزله في بداية عملي في رسالة الماجستير تحت إشرافه، عندما حضر أحد الطلاب الذين يعِدُّون رسالةً علميةً أيضًا تحت إشرافه، وكان الطالب قد اعتمد على كتاب «قصة الفلسفة الحديثة»، وفُوجئت بالرجل يثور بعنفٍ ويتهم الطالب بالتملق الرخيص: «أتظن أنك بذلك تُرضيني أو تجاملني؟ إذن فاعلم أنني كتبت هذا الكتاب وأنا أصغر منك سنًّا!» (أين ذلك الموقف من أساتذة اليوم الذين يقيِّمون الطلاب بمقدار اعتمادهم على كتبهم أو ذكر مؤلفاتهم في قائمة المراجع!) وعندما هممتُ بالوقوف مستأذنًا في الانصراف (وكان الموعد الذي حُدد لمناقشتي فيما كتبت قد انتهى)، حتى لا أحرج الزميل الفاضل فوجئت بالدكتور زكي يشير إليَّ بيده أن أجلس! ثم قال: «أودُّ أن تشهد ما وقع فيه زميلك من أخطاء، وما أسوقه من ملاحظات حتى لا تقع فيها، فكلكم تقريبًا تقعون في الأخطاء نفسها مع فوارق قليلة، وأنا لا أريد أن أكرر كلامي مرتين!» وهكذا أردت أن أتجنَّب إحراج الزميل فأحرجت نفسي!
زكي نجيب محمود … الإنسان
ومن المواقف الإنسانية التي لا أنساها للدكتور زكي، أنني كنت يومًا أروي له بعض المشاكل المالية التي اعترضتني بعد الزواج، فوجدته بعد أن انتهت جلستنا يأتي بمظروفٍ حكوميٍّ أصفر، وهو يقول: «إنني أُقرضك هذا المظروف!»، وشكرته شكرًا جزيلًا، وأنا في غاية الحرج، ورفضتُ أن أتناول المظروف من يده، ولا أدري حتى الآن ماذا كان بداخله على وجه التحديد! وظلت هذه الحادثة مؤثرةً في نفسي غاية التأثير، حتى إنني رويتها لصديقٍ وزميل بعد ذلك بعدة أشهر! وكم كانت دهشتي عندما قال: أنت رفضت تناول المظروف لأنك تعمل ولك دخلٌ شهريٌّ. أما أنا فقد أخذت ما قدَّمه لي عندما كنت طالبًا، وذهبت إليه في منزله أشكو ما أنا فيه من ضائقةٍ ماليةٍ، فإذا به يفعل معي ما فعله معك: يأتي «بالمظروف الحكومي الأصفر»! وأخذته شاكرًا إذ لم يكن في استطاعتي أن أرفض! وعجبتُ من هذا الأستاذ «الإنسان»، الذي اعتاد أن يُقرض تلاميذه المال «على سبيل السلف»! على حدِّ تعبيره، وكنت قد اعتدت من قبل أن أقترض منه ما أحتاج إليه من كتب، أما مسألة المال فقد كان موقفًا جديدًا بالنسبة لي!
لزكي نجيب محمود الإنسان المجامل المتواضع، الذي يُصرُّ على أن يصحبك إن كنت في زيارته حتى باب مسكنه، وهو في هذه السن المتقدمة، الكثير من المواقف الإنسانية التي تُدهشك. أذكر، مثلًا، أنني ذهبت لزيارته ذات صيفٍ، وكان عائدًا من الكويت، حيث كان يعمل أستاذًا بجامعتها في ذلك الوقت، فوجدته يومها على شيءٍ غير قليل من الضيق، ولما استفسرت عن سبب هذا الحزن البادي، أجابني بقوله: أنا الذي أودُّ أن أستفسر منك عن شيء، وأرجو أن تطلعني عليه دون أن تخبر أحدًا: «هل صحيحٌ أن فلانًا قد مات؟»
وكان يقصد واحدًا من الزملاء يعمل الآن بحقل النقد الأدبي، وسألته مندهشًا: ومن أين جئت بهذا النبأ؟» فقال: «قرأته في جريدة الأهرام وأنا في الكويت منذ أيام.»
قلت لعله مجرد تشابه في الأسماء!
- وهل أنت متأكدٌ!
- تمام التأكد! لقد التقيت به بالأمس فقط مصادفةً في أحد شوارع القاهرة!
هنا فقط تنهَّد الرجل وهو يقول: «الحمد لله!» ثم سكت برهةً وقال في أسًى: «هذا العاق! تألمت كثيرًا لهذا النبأ السيئ مع أنه لم يزرني منذ سنين!»
كان يتابع تلاميذه ويخاف عليهم كأبنائه تمامًا، يحزن إذا مسَّهم سوء، أو سمع عنهم مكروهًا، ويشعر بالأسى الشديد لغيابهم عنه، وكان وما يزال يحب أن يزوره تلاميذه، وأن يعرف أخبارهم ويسرُّه أن يعرضوا عليه مشاكلهم، فالسمر مع هؤلاء الأحباب هو عزاؤه الوحيد، بعد أن عزَّ عليه خروجه من داره …
هذه شهادة واحدٍ من الخصوم، ولستُ أجد بعدها ما يمكن أن يُقال تحيةً لهذا المفكر العملاق!