في الحروف ونقطها
حروف الخط العربي أُثِرت عن السلف مُرتبة ترتيبين: ترتيب «أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ»، وترتيب «أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن ﻫ و لا ي»، وعلى الترتيب الأول نرى عددها ٢٨ حرفًا، وعلى الثاني ٢٩ حرفًا، فإن فيه أول حرف عبارة عن الألف اليابسة وهي الهمزة التي تقبل الحركات، وأما الألف اللينة التي لا يمكن النطق بها على حدتها، فجاء بها معتمدة على اللام في «لا»، ويحقق ذلك أنه وسَّطها بين حرفي العلة الواو والياء بخلاف الترتيب الأول، فإنه أدرج قسمي الألف في أول الحروف. وإذا تأملت في الترتيب الثاني تراه في الأغلب جمع الحروف المتقاربة في الصورة الخطيَّة أو النطق بعضها بجانب بعض بخلاف الترتيب الأول، لكنهم يبنون عليه ما يسمونه بحساب الجمَّل؛ فيجعلون من الألف إلى الطاء للآحاد، ومن الياء إلى الطاء للعشرات، ومن القاف إلى الظاء للمئات، ويحسبون الغين بألف. وكلا الترتيبين مبدوء بالألف؛ قيل: لأنها من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، وقيل: لاستقامته كما أشار إلى ذلك يحيى بن زياد في قوله:
ويظهر أن تعليم الهجاء على ترتيب «أبجد» سابق على الترتيب الآخر، حُكِي عن عمر بن الخطاب أنه لقي أعرابيًّا فقال له: هل تُحسن أن تقرأ شيئًا من القرآن؟ فقال: نعم. قال: فاقرأ أُمَّ القرآن! فقال: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟ قال: فضربه ثم أسلمه إلى الكتَّاب، فمكث فيه حينًا، فهرب ثم أنشأ يقول:
وقال أحمد فارس: «أما ترتيب الحروف على أبجد فالظاهر أنه جرى على ترتيب اللغة السريانية إلى حرف التاء وهي فيها «تاو»، ثم زادوا عليها ثخذ ضظغ؛ لأن الثاء والخاء والذال ليس لها فيها شكل مخصوص، وإنما تتميز عن الثاء والكاف والدال بالنقط، وحرفا الضاد والظاء لا وجود لهما فيها لا رسمًا ولا نطقًا، والغين تتميَّز عن الجيم التي تقدم ذكرها بنقطة في جوفها.» ا.ﻫ. والمغاربة يخالفوننا في ترتيب الأبجدية؛ فهي عندهم أبجد هوز حطي كلمن صعفض قرست ثخذ ظغش؛ ولهذا يخالف حساب جُمَّلهم ما عندنا في ستة أحرف تُعلم من مقارنة الترتيبين. ويخالفوننا أيضًا في الترتيب الثاني فهو عندهم هكذا: «أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش ﻫ و لا ي»، ويُنقطون الفاء من أسفل، والقاف واحدة من فوق، ويميلون كالترك بالضاد في النطق نحو الظاء. والفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية إلا أنهم يزيدونها أربعة أحرف: (١) باءً بثلاث نقاط يُنطق بها بين الباء العربية والفاء كما في «پك» بمعنى جدًّا. (٢) وجيمًا بثلاث نقط يُنطق بها بين الشين والتاء كما في «چوق» بمعنى كثير. (٣) وزايًا بثلاث نقط يُنطق بها بين الزاي والجيم العربيتين كما في «مژدة» بمعنى بشرى. (٤) وكافًا يُنطق بها كالجيم المصرية كما في «گرد» بمعنى شجاع. وكذا الترك يكتبون لغتهم بالحروف العربية لكنهم زادوها هذه الأربعة السالفة وحرفًا خامسًا، وهو كاف يُنطق بها كالنون كما في «بيكباشي» بمعنى رئيس ألف.
(١) كتابة الألفاظ غير العربية بالخط العربي
وكُتَّاب العربية إذا عرض لهم حرف من هذه الأحرف ردُّوه إلى أقرب الحروف إليه؛ فأبدلوا الكاف الفارسية في «نركس» و«كلنار» عند التعريب بالجيم وكتبوا نرجس وجلنار. وأبدلوا باء «پالوزة» الفارسية بالفاء وكتبوا فالوذ، وعامة مصر يقولون: «بالوظة». قال ابن فارس في «فقه اللغة»: حدثني علي بن أحمد الصباحي قال: سمعت ابن دريد يقول: حروف لا تتكلم العرب بها إلا ضرورة، فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم إلى أقرب الحروف من مخارجها، كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل: پور، إذا اضطروا قالوا: فور. قال ابن فارس: وهذا صحيح؛ لأن پور ليس من كلام العرب؛ فلذا يحتاج العربي عند تعريبه إياه أن يصيِّره فاءً.
واستحسن بعض المتأخرين أن يتبع في كتابة هذه الأحرف ما يكتب عند أهلها بتعداد نقطها؛ تنبيهًا على أنها دخيلة، وأن يُلفظ بها كنطقها الأصلي، وهذا الاستحسان أتى له مما رآه ابن خلدون في مقدمته، وهو: (اعلم) أن الحروف في النطق هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع الحنك والحلق والأضراس، أو بقرع الشفتين أيضًا، فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع، وتجيء الحروف متمايزة في السمع، وتتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر. وليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف، فقد يكون لأمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى، والحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفًا، ونجد للعبرانيين حروفًا ليست في لغتنا، وفي لغتنا أيضًا حروف ليست في لغتهم، وكذا الإفرنج والترك والبربر وغير هؤلاء من العجم. ثم إن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميِّزة بأشخاصها كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثمانية والعشرين، وإذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملًا عن الدلالة الكتابية مغفلًا عن البيان، وربما يرسمه بعض الكتَّاب بشكل الحرف الذي يليه من لغتنا قبله أو بعده، وليس ذلك بكافٍ في الدلالة بل هو تغيير للحرف من أصله.
ولما كان كتابنا مشتملًا على أخبار البربر وبعض العجم، وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا؛ اضطررنا إلى بيانه ولم نكتفِ برسم الحرف الذي يليه كما قلناه؛ لأنه عندنا غير وافٍ بالدلالة عليه، فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه؛ ليتوسط القاري بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته. وإنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام؛ «كالصراط» في قراءة خلف فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد والزاي، فوضعوا الصاد ورسموا في داخلها شكل الزاي، ودلَّ ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين، فكذلك رسمتُ أنا كل حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا، كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف، مثل: اسم بلكين فأضعها كافًا وأنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل، أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين، فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف. وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر وما جاء من غيره، فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين الحرفين من لغتنا بالحرفين معًا ليعلم القارئ أنه متوسط فينطق به كذلك فيكون قد دللنا عليه، ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبيه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا وغيَّرنا لغة القوم.