في تعريف الشعر وفنونه ووجه تعلمه
(١) تعريف الشعر
الشعر لغةً: العلم والفطنة، ومنه: ليت شعري، ثم غلب على منظوم الكلام لشرفه بالوزن والقافية كما غلب الفقه على علم الشرع والنجم على الثريا، ومنه حديث: «إن من الشعر لحكمة، فإذا أُلْبَسَ عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر.» قال في «المزهر»: «وكان الكلام كله منثورًا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذِكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأنجاد وسُمحائها الأجواد؛ لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشِّيَم؛ فتوهَّموا أعاريض فعملوها موازين للكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شِعرًا؛ لأنهم شعروا به.» ا.ﻫ.
والمناطقة يشترطون في الشعر الخيال لا الوزن؛ فإنهم أطلقوه على القياس المركب من قضايا خيالية تؤثر في النفس فتصير مبدأ فعل أو ترك أو رضاء أو سخط أو بسط أو قبض أو لذَّة أو ألم، وجاءهم هذا من الشعر اليوناني فإن المنطق مأخوذ عن اليونان. والشعر بهذا المعنى يفيد عند الاستعطاف والاستقضاء وفي الإقدام على الهيجاء ونحو ذلك ما لا يفيده البرهان، فإن النفس أطوع إلى التخييل منها إلى التصديق؛ لأنه إليها ألذ وأغرب. ثم قالوا: ويزيد في تأثيره الوزن والصوت، قال عبد الغني النابلسي:
وقال طرفة:
وقال العطار: من لم يتأثر برقيق الأشعار تُتلى بلسان الأوتار على شطوط الأنهار في ظلال الأشجار؛ فذلك جلف الطبع حمار.
ونحن نشاهد أهل الصناعة الشاقة يستعينون عليها بالتغني، والإبل عند كلالها يُنشطها صوت الحادي والمغني، وشجعان العرب تتمثل بالأشعار وتُلقي نفسها عند ذلك في مهالك الأخطار، فلا تبالي بمواقع السيوف ولا بوارق الحتوف. وقال شارح «سلم العلوم»: ولا بد في الشعر من أن يكون جاريًا على قانون اللغة، وأن يكون ذا استعارات لطيفة أو تشبيهات بديعة، وأن تكون قضاياه بحيث تؤثر في النفس سواء كانت صادقة أو كاذبة، فلا يجوز فيه استعمال الأوليات الغير مؤثرة، ويجوز استعمال المخيلات ولو كاذبة مستحيلة، وقد يُستنتج منه اجتماع الضدين؛ نحو: أنا مُضمِر الشكوى باللسان مُظهرها بالدموع، وكل مضمر صامت، وكل مظهر متكلم، فأنا صامت متكلم، ويَقرُب من هذا:
ويظهر أن الاقتصار في تعريف الشعر على الوزن والتقفية آتٍ من اصطلاح العروضيين؛ فإنهم لا يبحثون عنه إلا من هذه الجهة، وأن الشعر في اعتبار الأديب يجمع بين شرطي الوزن والخيال، كقوله:
لكن ذلك يُخرج من الشعر ما هو منه؛ فإن كثيرًا من منظوم الكلام مع جودته يخلو من القضايا الخيالية، كقول زهير:
وقول لبيد:
وقول عنترة:
فمثل هذا خالٍ من الخيال، مركب من قضايا أولية، ولا يسعنا أن ننكر أنه شعر جيد في باب الحِكَم. على أن شرط الخيال مع الوزن لا يستقيم معه تقسيمهم الشعر إلى خمسة أقسام: مرقِّص، كقوله:
ومطرب كقوله:
ومقبول كقول زهير:
ومسموع مما يستقيم به الوزن، كقول ابن الرومي:
ومتروك يمجُّه الطبع كقوله:
ومع هذا فالشعر الخيالي أجذب للنفس وأشد تأثيرًا فيها من غيره، فهو الأحق بأن يسمى شعرًا. وعرَّف الشعرَ ابن خلدون بعد أن أطال فيه القول بأنه الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصَّل بأجزاء متفقة في الوزن مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة، ثم قال: «فقولنا: الكلام البليغ جنس، وقولنا: المبني على الاستعارة والأوصاف فصل عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا: المُفَصَّل بأجزاء متفقة في الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس شعرًا عند الكل، وقولنا: مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة؛ لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء، وقولنا: الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجرِ منه على أساليب العرب المعروفة، فإنه حينئذٍ لا يكون شعرًا إنما هو كلام منظوم؛ لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور، وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظومًا وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرًا. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أساليب العرب.» ا.ﻫ.
(٢) فنون الشعر
جعل أبو تمام فنون الشعر عشرة: الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسيَر، والمُلَح، ومذمة النساء، وبنى عليها كتاب «الحماسة»، ومما جاء فيه:
في باب الحماسة، قول الفِنْد الزِّمَّاني في حرب البسوس:
وفي باب المراثي قول مهلهل:
وفي باب الأدب قول مسكين الدارمي:
وفي باب النسيب قول نصيب:
وفي باب الهجاء قول آخر:
وفي باب الإضافة والمدح قول عتيبة المازني:
وفي باب الصفات قول البعيث الحنفي:
وفي باب السير والنعاس قول الخطيم:
وفي باب المُلَح قول بعض الحجازيين:
وفي باب مذمة النساء قول آخر في امرأة طلَّقها:
وقال عبد العزيز بن أبي الأصبع: «الذي وقع لي أن فنون الشعر ثمانية عشر فنًّا: غزل، ووصف، وفخر، ومدح، وهجاء، وعتاب، واعتذار، وأدب، وزهد، وخمريَّات، ومراثٍ، وبشارة، وتهانٍ، ووعيد، وتحذير، وتحريض، ومُلَح، وباب مفرد للسؤال والجواب.»
(٣) وجه تعلُّم الشعر
إذا أردت أن تقول الشعر فتخيَّر أولًا من أشعار الشعراء النوابغ الشعر الرصين ذا الخيالات والأساليب، واحفظ كثيرًا منه، وتفَهَّم معانيه، فبهذا تتكيَّف نفسك وتُشحذ قريحتك وتتهيَّأ للنظم، فأقبِل عليه وأكثِر منه تزكو فيك ملكته. قال الخوارزمي: «من روى حوليَّات زهير واعتذارات النابغة وحماسيات عنترة وأهاجي الحُطيئة وهاشميَّات الكميت ونقائض جرير وخمريات أبي نوَّاس ومراثي أبي تمَّام ومدائح البحتري وروضيَّات الصنوبري ولطائف كشاجم ولم يخرج إلى الشعر فلا أشبَّ الله قرنه!» وإذا خلوت في مكان يروق فيه نظر المياه وتزكو نفحة الأزهار ويطيب استنشاق الهواء ويستلذ المسموع أجممت فؤادك ونشَّطت القريحة إلى الشعر. قالت الحكماء: لم يُستدعَ شارد الشعر بأحسن من الماء الجاري والمكان الخالي والشرف العالي. ولقي أبو العتاهية الحسن بن هانئ، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تُؤْتى بالرياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال: وكيف ينبغي للشعر أن يُقال إلا على هكذا؟! قال: أما إني أقوله على الكنيف. قال: ولذلك توجد فيه الرائحة، ولا بد أن يكون فيك ما يبعث عليه. قال ابن رشيق: ومن بواعثه العشق والانتشاء. قيل لِكُثَيِّر عزَّة لمَ تركت الشعر؟ قال: ذهب الشباب فما أعجب، وماتت عزة فما أطرب، ومات عبد العزيز فما أرغب — يريد عبد العزيز بن مروان. وتخيَّر لعلم شعرِك باكورة نهارك عندما تهب من النوم، قال الفرزدق: من أسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكرى، وأول النهار قبل الغداء وعند مناجاة النفس واجتماع الفكر، فإذا استعصى عليك بعد هذا كله فراوضه في وقتٍ آخر. قال ابن خلدون: فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجفُّ بالترك والإهمال. قيل لكُثيِّر عزة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحبلة، والرياض المعشبة، فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني فروِّح قلبك وأجمَّ ذهنك وارتصد لقولك فراغ بالك، فإنك تجد في تلك الساعة ما يمتنع عليك يومك الأطول وليلك الأجمع. وضع قوافي قصيدتك أولًا وابنِ عليها الأبيات لئلَّا تجيء القوافي نافرة عن محالِّها، وإذا جادت قريحتك ببيت لا يناسب سابقه فاتركه إلى موضعه الألْيَق به. وليكن شعرك فصيحًا بليغًا يمضي مع النفس، تُسابق معانيه ألفاظه إلى الفهم، ذا تأثير في الطباع؛ ففي الحماس يكون مُهيِّجًا للقوى مثيرًا للخواطر باعثًا على الحميَّة، وفي العتاب يكون هاديًا للموافقة موَلِّدًا للرضا … إلى غير ذلك. وراجع شعرك بعد الفراغ منه ونقِّحه، فقد رُوي أن زهير بن أبي سلمى كان ينظم القصيدة في شهر ويُنقحها في سنة؛ ولذا كانت قصائده تُسمى بالحوليَّات.
رُوي عن البحتري أنه قال: «كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمَّام وانقطعت فيه إليه، واتَّكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال: يا أبا عُبادة، تخيَّرِ الأوقات وأنت قليل الهموم، صفرٌ من الغموم، واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيءٍ أو حفظه في وقت السَّحَر؛ وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظَّها من الراحة، وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقًا والمعنى رشيقًا، وأكثِر فيه من بيان الصبابة وتوَجُّع الكآبة، وقلق الأشواق ولوعة الفراق، فإذا أخذت في مديح سيد ذي أيادٍ فأشهِر مناقبه وأظهِر مناسبه، وأَبِنْ معالمه وشرِّف مقامه، ونضِّدِ المعاني واحذر المجهول منها. وإيَّاك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة، وكُن كأنك خيَّاط يقطع الثياب على مقادير الأجساد، وإذا عارضك الضجر فأرِح نفسك، ولا تُعمل شِعرك إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حُسن نظمه؛ فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استَحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله. قال: فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة.»