في تاريخ الشعر
الشعر قالته العرب من قديم من عهد عاد وثمود والعمالقة كما يدل على ذلك رواية بعض أخبارهم، إلا أنه لمَّا كانت أحوال الأمم في هذه الأعصر الغابرة مُدرجة تحت طي الخفاء لم تصل إلينا أشعار شعرائهم، ولا أخبارهم مُفصَّلة حتى نتعرَّف منها سير الشِّعر وترَقِّيه، ولم يزل الأمر مستورًا إلى أن جاء عصر آل المنذر ملوك الحيرة قبل الإسلام بنحو مائة سنة فأكثر، فبرح الخفاء وأخذ الشعر في الظهور والنماء. وأولع العرب به حتى صار ديدنًا لهم وسجيَّة فيهم ومبلغ علمهم وحكمتهم وأدبهم، يقولونه رجالًا ونساءً في فنون مختلفة، كالحماسة والفخر والنسيب والحكم والآداب والأخلاق والمدح والهجاء والرثاء والاعتذار والوعيد والعقاب والشكوى وذكر المنازل والطلول، ووصف الظباء والغزلان وتاريخ الوقائع وأيام الحروب وغير ذلك؛ ولذا قيل: «الشعر ديوان العرب.» قال الخطيب التبريزي: «به يحفظون المكارم والمناسب، ويقيدون به الأيام والمناقب، ويُخَلِّدون به معالم الثناء، ويبقون به مواسم الهجاء، ويضمِّنونه ذكر وقائعهم في أعدائهم، ويستودعونه حفظ صنائعهم إلى أوليائهم.» ا.ﻫ.
وكان للعرب أسواق يقيمونها يعرضون فيها أشعارهم إما ارتجالًا وإما استحضارًا، رُوي أن النابغة الذبياني كانت تُضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ، فيجلس لشعراء العرب على كرسي، وتأتيه الشعراء فتنشده أشعارها فيفضِّل من يرى تفضيله، فأنشده في بعض المواسم الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم الخنساء فأعجبه شعرها، فقال لها: «اذهبي فأنتِ أشعر من كل ذات ثديين، ولولا أن أبا بصير (يريد الأعشى) أنشدني قبلكِ لفضلتكِ على شعراء هذا الموسم، فإنكِ أشعر الإنس والجن.» فلما أن سمع حسان ذلك غضِب، وقال: أنا أشعر منكَ ومنها. فقال له: يا ابن أخي، ليس الأمر كما ظننت. ثم التفتَ إلى الخنساء وقال: خاطبيه يا خناس. فالتفَتَتْ إليه الخنساء وقالت: ما أجود بيت في قصيدتك هذه التي عرضتها آنفًا؟ قال: قَوْلِي فيها:
قالت: ضعَّفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا. قال: وكيف؟ قالت: قلت: «لنا الجفنات»، والجفنات ما دون العشر، ولو قلت: الجفان لكان أكثر. وقلت: «الغر»، والغرَّة بياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتِّساعًا. وقلت: «يلمعن»، واللمعان شيء يأتي بعد شيء، ولو قلت: يشرقن لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت: «بالضحى»، ولو قلت: بالدُّجى لكان أكثر طرَّاقًا. وقلت: «أسياف»، والأسياف ما دون العشرة، ولو قلت: سيوف لكان أكثر. وقلت: «يقطرن»، ولو قلت: يسلن لكان أكثر. وقلت: «دمًا»، والدماء أكثر من الدم. فسكت حسَّان ولم يُحِر جوابًا.
(١) المعلَّقات السبع
ومن أشهر شعر العرب القصائد السبع المشهورة بالمعلقات؛ لأنها عُلِّقت على الكعبة احترامًا لها، وأصحابها: امرؤ القيس الكندي، وطَرَفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى المزني، ولبيد بن ربيعة العامري، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شدَّاد العبسي، والحارث بن حلِّزة اليشكري.
ورأيت على هامش «شرح الزوزني» لهذه المعلقات ما نصه: «إنما سُميت المعلقات؛ لأن العرب في الجاهلية كان الرجل منهم يقول الشعر في أقصى الأرض فلا يُعبأ به ولا ينشده أحدًا، حتى يأتي مكة فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه رُوي وكان فخرًا لقائله، وإن لم يستحسنوه طُرِح ولم يُعبأ به. قال أبو عمرو بن العلاء: وكانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش. قال ابن الكلبي: فأول شعر عُلِّق في الجاهلية شعر امرئ القيس، عُلِّق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نُظر إليه فعلقت الشعراء بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية. وعدد من عُلِّق شعره سبعة آلاف، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة. ورَوى آخرون أن بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعار فسمَّاها المعلقات الثواني.»
قال حماد الراوية: كانت العرب تعرض أشعارها على قريش فما قبلوا منه كان مقبولًا، وما ردوا منه كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة الفحل، فأنشدهم قصيدته التي أولها:
فقالوا: هذه سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته التي أولها:
فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
وكان للبداوة والحضارة تأثير على الشعر؛ فكان شعر البدوي يدور بين جبل وجمل وحط وترحال ورداء وخباء وصيال ونزال وقتام وغمام، وما أشبه ذلك من مشاهده التي هو فيها، وشعر الحضري بين قصور وحور وترف وطُرَف ولهو وطرب وخلاعة وما شاكل ذلك.
وكان الشعر ذا تأثير واعتبار في النفوس؛ فكان الشاعر يرفع قومًا ويخفض آخرين بشعره. مما يرشد إلى ذلك ما جاء في ترجمة الأعشى في «الأغاني» من أنه كان لأبي المحلق شرف فمات وقد أتلف ماله، وبقي المحلق وثلاث أخوات له ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحُلَّتَي برود جيدة كان يسد بها الحقوق. فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق، فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه، فأقبلت عمة المحلق فقالت: يا ابن أخي هذا الأعشى قد نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قومًا إلا رفعهم، ولم يَهْجُ قومًا إلا وضعهم، فانظر ما أقول لك واحْتَلْ في زقٍّ من خمر من عند بعض التجار، فأرسِل إليه بهذه الناقة والزق وبردتي أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردتين لَيَقُولَنَّ فيك شعرًا يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رَسلها! فأقبل يدخل ويخرج ويهمُّ ولا يفعل، فكلما دخل على عمته حضَّته حتى دخل عليها، فقال: قد ارتحل الرجل ومضى. قالت: الآن والله أحسن ما كان القِرى تُتبعه ذلك مع غلام أبيك مولًى له أسود شيخ، فحيثما لحقه أخبره عنك أنك كنت غائبًا عن الماء عند نزوله إياه، وأنت لمَّا وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قِراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فلم تزل تَحضُّه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر، وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه، فوجَّه بالناقة والخمر والبُردين مع مولى أبيه، فخرج يتبعه فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمفتوحة اليمامة، فوجد عنده عدة من الفتيان قد غدَّاهم بغير لحم وصبَّ لهم فضيخًا فهم يشربون منه، إذ قُرع الباب، فقال: انظروا من هذا؟ فخرجوا فإذا رسول المحلق يقول كذا وكذا، فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: وَيْحكُم، أعرابي والذي أرسل إليَّ لا قدر له! والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعرًا لم أقل قط مثله. فواثبه الفتيان وقالوا: غبت عنا فأطلت الغيبة ثم أتيناك فلم تطعمنا لحمًا وسقيتنا الفضيخ واللحم والخمر ببابك لا نرضى بذا منك. فقال: ائذنوا له، فدخل فأدَّى الرسالة، وقد أناخ الجزور بالباب ووضع الزقَّ والبُردين بين يديه. قال: أقره السلام وقل له: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤنا. وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها، وجلدها عن سنامها ثم جاءوا بهما، فأقبلوا يشوون وصبوا الخمر فشربوا، وأكل معهم وشرب ولبس البُردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول:
حتى انتهى إلى قوله:
قال: فسار الشعر وشاع في العرب، فما أتت على المحلق سنة حتى زوَّج أخواته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرُف. وقال ابن رشيق: «وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشارة لذكرهم، وكانوا يُهنَّئون إما بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج.»
(٢) تأثير الإسلام على الشعر
وفي أول الإسلام انصرف العرب عن الشعر بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، ولكنهم رجعوا إليه لما علموا أن لا حظر عليه فيما أتاهم به النبي، بل رأوه — عليه الصلاة والسلام — يسمعه ويثيب عليه، فقد أجاز كعب بن زهير بُرْدًا حين مدحه بقصيدته التي أولها:
ويُروى أن كعبًا باع البردة إلى معاوية بعشرين ألف درهم. قال عمر بن الخطاب: «كان الشعر عِلم قوم لم يكن لهم علم أصحُّ منه.» فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولَهَتْ عن الشعر وروايته، فلما كثُر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنَّت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا إلى ديوان مدوَّن ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم كثير. وقد كان عند آل النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مُدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه. وبعد الإسلام بزمن لما كثُر تمدن العرب وتحضُّرهم واختلاطهم بأهل الأمصار أخذ الشعراء في التأنق في الشعر فرقَّ وحسُن ولبس صبغة غير صبغته التي كان عليها عصر الجاهلية. وبالإجمال حضارة الإسلام سلَّت عن الشعر رداء المعاظلة والحوشية، وألبسته حلل الرقة والملاحة، انظر إلى قول جرير:
ومما كان يساعد على ترقي الشعر أن الخلفاء والأمراء كان يثيبون الشعراء المُجيدين ويقربونهم من مجالسهم؛ فكان الشاعر ينفتق لسانه بالشعر المليح رغبةً في الجائزة أو طمعًا في الجاه، وقد ينتجع بشعره قاصدًا الممدوح مع بُعد المشقَّة طلبًا لنواله. وقد انتجع أبو نواس من بغداد قاصدًا الخصيب بن عبد الحميد، أمير مصر من قِبل الرشيد، ومدحه بقصيدته التي أولها:
فغمره بإحسانه وردَّه إلى أوطانه.
(٣) اعتبار الشعر بعد الإسلام
ولم تزل درجة الشعر عالية واعتباره في النفوس باقيًا عصرَ الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية، فقد رُوي أن بني عبد المدان كانوا يفخرون بطول أجسامهم، حتى قال فيهم حسَّان:
فقالوا له: يا أبا الوليد، لقد تركتنا ونحن نستحيي من ذكر أجسامنا بعد أن كنا نفخر بها! فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:
ورُوي أن الزبرقان بن بدر لما هجاه الحطيئة بشعرٍ قال فيه:
حطَّ من أمره، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب وأنشده البيت، فقال: ما أرى به بأسًا. قال الزبرقان: والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قط أشد عليَّ منه، فبعث إلى حسان بن ثابت وقال: انظر إن كان هجاه! فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه. فأمر الأمير بحبس الحطيئة، فكتب إليه وهو في الحبس:
فأمر بإطلاقه وأخذ عليه أن لا يهجو أحدًا.
وكان بنو نمير أشراف قيس وذوائبها، فلما هجا جرير راعيهم بقوله:
اتضع اسمهم وانحطَّ شأنهم.
ورُوي أن جريرًا دخل على عبد الملك بن مروان، فأنشده قصيدته التي أولها:
فلما انتهى جرير إلى هذا البيت كان عبد الملك متكئًا، فاستوى جالسًا وقال: مَن مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ثم أجاز جريرًا بمائة ناقة.
ثم أخذ اعتبار الشعر يتناقص في غضون دولة بني العباس لما كان يؤخذ به الشعراء من مس شرف ذوي المقامات.
فمن ذلك ما رُوي أن بشار بن برد في خلافة المهدي ثالث خلفاء بني العباس استنهض بني أمية في استرداد الخلافة إليهم، مدعيًا أن الخليفة مغمور في ملاهيه وأن القائم بأعباء الخلافة وزيره يعقوب بن داود، فقال في ذلك:
فضربه حتى مات. وقيل: إن بشار بن برد هجا صالح بن داود أخا يعقوب حين وُلِّيَ فقال:
فبلغ يعقوب هجاؤه فدخل على المهدي فقال: إن هذا الأعمى المشرك قد هجا الخليفة، قال: وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده، فأبى أن يعفيه، فأنشده:
فوجَّه في حمله فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه، فوجَّه إليه من يُلقيه في البطيحة.
وفي القرون الأخيرة مالت الأنظار عن الشعر وقلَّتْ جوائزه.
(٤) تقسيم الشعر إلى أربع طبقات
وقد قُسم الشعر إلى أربع طبقات: شعر جاهلي؛ وهو شعر مَن جاء قبل الإسلام كشعر امرئ القيس وزُهير بن أبي سلمى المتوفَّى قبل الإسلام بنحو سنة، وشعر مخضرم؛ وهو شعر مَن أدرك عصر الجاهلية والإسلام، كشعر الأعشى والحُطيئة، وشعر إسلامي؛ كشعر شعراء الدولة الأموية مثل الفرزدق وجرير، وشِعْر مولَّد؛ كشعر شعراء الدولة العباسية مثل أبي نواس وأبي فراس الحمداني المتوفى سنة ٣٥٧. قالوا: إن الشعر خُتم بأبي فراس كما بُدئ بامرئ القيس الكندي.
(٥) الاستشهاد بالشعر في العلوم
وشعر الطبقة الأولى والثانية يُستشهد به في اللغة وغيرها، وأما شعر الثالثة فالصحيح أنه يُستشهد به أيضًا، وأما الرابعة فالصحيح أنه لا يُستشهد بشعرها إلا في علوم المعاني والبيان والبديع؛ فإنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين الجاهلي والمولَّد. وقد زيدت طبقة خامسة وهي: شعر المتأخرين، كابن مطروح، وصَفِيِّ الدين الحِلِّي المتوفى سنة ٧٥٠. ويلحق بهذه الطبقة شعر شعراء هذا العصر؛ أي القرن الرابع عشر الهجري وما قبله، مثل الشيخ علي الليثي، والشيخ علي أبي النصر من شعراء العائلة الخديوية. ولما توفي خديوي مصر محمد باشا توفيق سنة ١٣٠٩ من الهجرة رثاه بقصائد الشعر نحو ستين شاعرًا ترى أسماءهم وقصائدهم في كتاب «القول الحقيق في رثاء وتاريخ الخديوي المغفور له محمد باشا توفيق».
ولدرك تفاوت درجات الشعر مع تقلبات العصور نذكر أشعارًا لهذه الطبقات تتوارد على باب واحد، كالمدح والنسيب والرثاء.
(٦) أشعار متواردة على المدح
قال الشاعر الجاهلي، وهو زهير بن أبي سلمى، يمدح هرم بن سنان المري:
وقال الشاعر المخضرم وهو الحطيئة يمدح آل لأي:
وقال الشاعر الإسلامي، وهو الأخطل، يمدح الحجاج بن يوسف:
وقال الشاعر المولَّد، وهو المتنبي، يمدح كافورًا الإخشيدي:
وقال شاعر العصر «حفني بك ناصف» القاضي بالمحاكم الأهلية يمدح خديوي مصر توفيق باشا، ويهنئه بالعام الجديد، ويذكر حريق قصر عابدين والخديوي في مصيفه بالإسكندرية:
وقال الشاعر المجيد أحمد بك شوقي، من موظفي المعية السَّنية، يهنِّئ الجناب العالي بعوده من دار الخلافة إلى مصر سنة ١٣١٦:
(٧) أشعار متواردة على النَّسيب
قال امرؤ القيس، وهو جاهلي:
وقال النابغة الذبياني، وهو جاهلي، يصف المتجردة، وقد دخل على النعمان، ففاجأته، فسقط نصيفها عنها، فغطَّت وجهها بمعصمها:
وقال الأعشى، وهو مخضرم:
ومنها:
وقال عمر بن أبي ربيعة، وهو إسلامي:
وقال ابن زيدون الأندلسي، وهو مولَّد:
وقال محمود باشا سامي المصري، نزيل جزيرة سيلان الآن:
(٨) أشعار متواردة على الرثاء
قال المهلهل يرثي أخاه كُليبًا، وهو جاهلي:
وقالت الخنساء، وهي مخضرمة:
وقال كعب بن سعد الغنوي، وهو إسلامي:
وقال ابن الأنباري، وهو مولَّد، يرثي ابن بقية وزير عز الدولة بُوَيه لما صلبه عضد الدولة ببغداد بعد قتل عز الدولة:
وقال الفاضل إسماعيل باشا صبري مُحافظ ثغر الإسكندرية الآن يرثي خديوِ مصر محمد توفيق باشا، المتوفَّى في أوائل جمادى الثانية سنة ١٣٠٩:
وقالت عائشة هانم التيمورية ترثي ابن تها، وهو من الشعر الجزل الرَّصين المزري بشعر الخنساء:
[بدا = ٧، توحيدة = ٤٣٣، زُفَّتْ = ٤٨٧، ومعها = ١٢٢، الحور = ٢٤٥]
-
(أ)
فترى من قصائد المدح أنَّ أغلبها مبدوءٌ بالنَّسيب وهو أسلوب غريب؛ ولعلَّ سببه أنَّ شُعراء العرب كانت أشعارهم في الغالب حكاية عن واقع، فكان الشَّاعر يقصُّ على الممدُوح في مدحته ما انتابه من فراق امرأته أو ابن ته ذات المكانة في فؤاده لِما لها من الصِّفات الحسان، ولا يأنف من ذكر اسمها ولا صفاتها، ويقص عليه أيضًا ما اعتراه وراحلته من عناء السَّفر وركوب الخطر حتى وصل إليه، ثم يمدحه فيستعظم الممدوح حال الشاعر ويُجزل له العطاء استعاضةً لما نابهُ، فلما جاء الشعراء المتأخرون أرادوا أن ينسجوا على منوال شعر العرب، فافتتحوا مدائحهم بالتشبُّب بمحبوب اخترعه وهمهم وخيالهم، وصار هذا الأمر عادة مألوفة لهم. وقال الدسوقي: إنَّ السبب في ذلك تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر والمبالغة في الوصف وترويح النفس ورياضتها. وقال أحمد فارس إنه لا شيء أفظع عند الإفرنج من أن يروا في قصائد المدح تغزُّلًا بامرأة ووصفها بكونها رقيقة الخصر ثقيلة الكفل نجلاء العينين سوداء الفرع وما أشبه ذلك، وأفظع منه التشبُّب بغلام، وأقبح من هذا وذاك نسبة شيء من صفات المؤنث إلى المذكر؛ كقول الشاعر: «كأن ثدياه حقَّان»، فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب ويجعلونه ضربًا من التاريخ، فيذكرون فيه مساعي الممدوح ومقاصده وفضله على من تقدمه من الملوك، وأنَّه لما مدح أحمد باشا والي تونس بقصيدته التي مطلعها: «زارت سعادُ وثوب الليل مسدولُ»، سُئل: هل اسم الباشا «سعاد»؟ فقال: لا، بل هو اسم امرأة. فقال السائل: وما دخل المرأة بينك وبين الباشا؟!
وأقول: إنَّ العرب ما كانت تشبب بالغلمان قط، وإنَّ هذا ما جاء إلا في شعر المتأخرين، ولم نرَ في أشعار هؤلاء وأولئك نسبة شيء من صفات المؤنث إلى المذكر، واستشهاد أحمد فارس على هذا بقول الشَّاعر: «كأنَّ ثدياه حقَّان» وهمٌ؛ فإنَّ الضَّمير في «ثدياه» لا يعود لمحبوبٍ مُذكَّر أن توهمه، بل يرجع إلى الصدر في الشطر الأول من البيت، وهو: «وصدرٌ مُشرق النَّحر كأنَّ ثدياه حقَّانِ»، ومن أنَّى جاءه أنَّ هذا الصدر صدر غلام وليس صدر فتاة ولم يُرْوَ ما قبل هذا البيت ولا ما بعده من الأبيات، وهو من شواهد سيبويه التي لا يُعلم قائلها. وكونه صدر فتاة أحقُّ وألزمُ. وقد قال الشَّيخ جمال الدِّين بن هشام: «وصدر» مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولها صدر. ولم يقل: وله صدر.
هذا وقد هجر كثير من شعراء العصر الأسلوب العربي القديم كما ترى في قصيدة حفني بك وغيره.
-
(ب)
وترى من قصائد النسيب أنهم يذكرون رحيل النساء ونأيَهن، ويخاطبون أطلالهن ويصفون محاسنهن، ويذكرون أيام شباب ولهو ولذَّات قضوها معهن، قال بعضٌ: والنَّسيب نوع من التشبَّب، وهو المعبَّر عنه بالغزل، وهو عند المحققين من أهل الأدب يشتمل على أربعة أنواع: (١) ذكر ما في المُحِبِّ من الصفات؛ كالشغف والنحول والذبول والحزن والأرق. (٢) وذكر ما في المحبوب من الصفات؛ كحُمرة الخدِّ، ورشاقة القدِّ، والملاحة والخفَر. (٣) وذكر ما يتعلق بهما من هجرٍ وصدٍّ ووصلٍ وسلُوٍّ واعتذار ووفاء وإخلاف ونحو ذلك. (٤) وذكر ما يتعلق بغيرهما بسببهما من الوشاة والرقباء ونحوهما.
-
(جـ)
وترى من قصائد الرثاء أنَّها دائرة حول الجزع على الفقيد، وفيض العبرات، والحزن والأسف عليه، ووصف مآثره ونحو ذلك.
-
(د)
وبالإجمال ترى أن كل نوع من الشعر يُناسب زمانه ومكانه، كما يعلم ذلك من التتبع.