فيما يتبع الشعر
بعد الإسلام لما رسخت أقدام الأمة العربية في الحضارة والعمران في الأندلس والعراق ولواحقهما، أُولعوا بالعلوم والفنون والآداب، وركنت نفوسهم إلى ما يُرَيِّضها ويزكيها من سماع أناشيد الشُّعراء وألحان المُغنين شأن كل أُمَّة توطدت دعائم مُلكها وتوفرَّت دواعي الرفه فيها، فكان شُعراؤهم ينظمون جيِّد الشِّعر ذي الخيالات التي لا تخطر بفكر العربي البحت، ففاقوا أسلافهم في ذلك حتى نظموا الكلام على أوزانٍ غير المأثورة عنهم في أشعارهم، واستحدثوا فُنونًا ستة ألحقها الأدباء بالشعر.
(١) أولها: الموشح
واخترعه أرباب الألحان من أهل الأندلس تطبيقًا على أصوات الموسيقى، وأول من قاله مُقَدَّم بن معافر، وقيل إنَّ بعض الألحان الموسيقية كانت تجيء إلى مصر من بلاد الرُّوم على أوزان ساذجة تُضرب على آلات الموسيقى خالية من الكلام، فكان المُغنُّون يأخذون اللحن منها ويتأملون في دوره وتوقيعه، مراعين متحركاته وسواكنه، وينظُمُون الكلام على هواه وعلى قدر ما فيه من الأغصان والسلاسل حتى يكمل توشيحًا موزونًا مُقَفًّى ويُؤخذ مثالًا لغيره.
ويجيء الموشَّح على أوزان وصور مُختلفة، منها أن تأتي ببيت تلتزم فيه التقفية في صدر الشطر الأول وعروضه وصدر الشطر الثاني وضربه، ويُسمى هذا البيت «مذهبًا»، ثم تأتي بثلاثة أشطر أخرى تلتزم فيها التقفية أيضًا، لكن على حرفٍ آخر، وتُسمَّى هذه الأشطر «دورًا»، ثم تعود وتأتي ببيتٍ مقفًّى كالأوَّل ومُتحد معه في حرف التقفية ويسمى قفلة، ثم تأتي بدور آخر وقفلة أخرى، وهكذا إلى سبعة أدوار في الأكثر، مثال هذا موشَّح ابن سناء الملك:
المذهب
دور
قفلة
دور
قفلة
دور
قفلة
دور
قفلة
دور
قفلة
دور
قفلة
دور المديح
قفلة
وشطر هذا الموشح وزنه: «فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن»، وقد يأتي فيه فاعلن على فاعلان.
وقد يكون المذهب بيتين يتفق عروضاهما في قافية ويتفق ضرباهما في أخرى. ويكون الدور خمسة أبيات، ثلاثة منها تتفق أعاريضها في قافية وأضرُبها في أخرى، والبيتان الآخران يتَّفقان مع المذهب في قافيتيه، فهما بمنزلة القفلة، كقول بعض المغاربة:
المذهب
دور
دور
وكقول الأديب أمين أفندي الخوري طبيب مستشفى دمياط يُوصي الحليلة بآداب جليلة:
مذهب
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
وشطر هذا وما قبله: «فاعلاتن فاعلاتن فاعلن»، وقد جاءت العروض والضرب على فاعلان.
وقد يكون المذهب أربعة أبيات تتحد أعاريضها في قافية وأَضْرُبها في قافية أخرى، والدور أربعة أخرى تتحد أعاريض ثلاثة منها في قافية وأضربها في أخرى، والبيت الرابع كبيت من المذهب، كقوله:
المذهب
الدور
وشطر البيت: فاعلاتن فاعلاتن، إلا أنَّ ضربه فاعلان.
وقد يكون المذهب بيتين تتَّحِد عروضاهما وضرباهما في قافية، والدور بيتين تتحد عروضاهما، وضرب البيت الأول في قافية أخرى، وضرب البيت الثاني يتحد مع المذهب في القافية وهكذا. ومنه قول الشاعر المجيد أحمد بك شوقي عند الاحتفال بفتح مدرسة في الإسكندرية من مجزوء الرجز:
(٢) وثانيها: الدوبيت
ويُؤخذ من لفظه أنَّه نشأ عند الفرس، ومعناه بيتان، ويسمونه بالرباعي، وقيل إنَّ اسمه الدوبت بحذف الياء وأنه مُركَّب من كلمتين فارسيتين: «دو» بمعنى اثنين، و«بت» بمعنى حاشية، وعندهم القافية حاشية الفن، فمعنى «دوبت»: فن ذو قافيتين، وقافيتاه تكونان محركتين على وزن «قَمَرِي»، فيمتاز عن غيره بدخول القمرية في قافيتيه، وتجيء أيضًا في دَرْجه مع الحسن. ا.ﻫ.
والشائع هو التسمية الأولى.
ووزن الشطر منه: «فَعْلن متفاعلن فعولن فعلن محركًا»، وقد يُغيَّر متفاعلن إلى متفاعيل أو متفاعيلن، وفعلن المحرك إلى فعلن الساكن أو إلى فعلان.
ومنه قول الصلاح الإربلي وهو في سجن الملك، فكان سببًا في الإفراج عنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
والدوبيت والموشَّح مُعرَّبان، وقيل إنَّ اللحن في الثَّاني ليس بعيبٍ.
(٣) وثالثها: الزجل
وأول شهرته كانت في حواضر المغرب، وأول من قاله «ابن قزمان»، وهو صبي في المكتب. وأصل الزجل رفع الصوت، ثم خُصَّ بالصوت الطرب، قال: «له زجلٌ كأنه صوت حادٍ.» وله أوزان كثيرة جدًّا حتى قيل: من لا يعرف ألف وزن ليس بزجَّال، ويجيء على أوزان الشعر والموشح إلا أنَّه يخرج من بابيهما بكونه بلسان العامَّة، حتى إنَّه يُشترط فيه اللحن.
فمنه على وزن البسيط:
ومنه على وزن مجزوء الرمل قول مدغيس الأندلسي:
ويُسمى منه ما يشبه قصيدة الشعر بالحمل.
ومنه للغباري:
دور
دور
دور
دور
دور
دور
ومنه ما قيل في مدينة سيون بعد أن تخربت بالشام:
مذهب
دور
دور
دور
دور
دور
ويقول الزجل في عصرنا هذا كثير من أدباء مصر، منهم الشيخ محمد علي أحد طلبة مدرسة دار العلوم، ومن زجله ما أنشأه حينما قطع محمود باشا الفلكي ناظر المعارف من طلبة هذه المدرسة الجنيه المرتَّب لكلٍ منهم في الشهر، وهو:
[مات = ٤٤١، الجني = ٩٤، واش = ٣٠٧، راح = ٢٠٩، يفيد = ١٠٤، العويل = ١٤٧]
ومنهم الأديب الشيخ «أحمد القوصي»، ومن زجله في حلَّاق:
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
ومنهم الأديب الشهير الشيخ محمد النجار، ومن أحماله:
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور
دور الاستغفار
دور المديح
(٤) ورابعها: كان وكان
وهو نوع من الزجل إلا أنه جُعِل فنًّا مُستقلًّا بسبب أنَّ دوره يأتي على بيتين، لكل شطرٍ منهما قافية، والشطران الأوَّلان من البيتين يتَّحِدان في وزن والأخيران منهما يختلفان بين وزنين، وإذا جاء مُركَّبًا من أدوار اتحدت ضروب الأبيات الزوجية في قافية، وأعاريض الفرد به قد تتَّحد في قافية أخرى، كقوله:
ومنه:
فترى أنَّ الشطور الأوائل على وزن مستفعلن فاعلاتن وقد يخبن فاعلاتن أو يشعث، والشطور الثواني دائرة بين وزن مستفعلن مستفعلن، ووزن مستفعلن فاعلان.
(٥) وخامسها: القومة
وهي نوع من الزجل أيضًا، إلا أنها تمتاز بمجيء دورها على بيتين شطورهما تتحد في قافية ما عدا الشطر الثالث، ووزن كل شطر منها: مستفعلن فاعلان، وقيل أول من اخترعه «ابن نقطة»، برسم الخليفة الناصر. ومن المستظرف أنَّه لما مات ابن نقطة وأراد ابنه أن يعرِّف الخليفة بموته ليأخذ مفروضه أخذ أتباع والده من المسحرين في شهر رمضان ووقف تحت القصر أول ليلة من هذا الشهر، وغنَّى القومة بصوت رقيق، وقال:
فطرب منه الخليفة وخلع عليه، وفرض له ضعف ما كان لأبيه. ا.ﻫ.
ومن قراءة هذه العبارة يخطر بالذهن أنَّ هذا الفن سُمِّي بالقومة، وهي المرَّة من القيام؛ لأنَّ المسحرين كانت تنشده في رمضان لقيام الناس للسحور، ويحرفونه بضم القاف، وبعضٌ يكتبه بالألف بدل تاء الوحدة، فليحرر.
(٦) وسادسها: المواليا
ويعرف الآن بالمواويل، جمع موَّال، فيقال إنه ظهر في بغداد بعد الفتك بالبرامكة والنهي عن رثائهم بالشعر، وإن بعض جواريهم صرن يندبنهم بكلامٍ ذي أربع قطع متفقة في الوزن والتقفية، يكثرن فيه من قولهن: يا مواليا؛ فسميَ بذلك. ومن هذا الفن ما يأتي بلسان أهل الأدب، ومنه ما يأتي بلسان العامة.
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
وبالتأمل في وزن هذا الفن نراه من بحر البسيط، مع تغيير في العروض والقافية.
ومن الأول: قول الأديب مصطفى بك نجيب:
ومنه:
ومن الثاني: