مقدمة الطبعة الثانية
هذه المقدمة القصيرة وضعتها لطبع الإلياذة في صيف ١٣٩٢ﻫ/١٩٧٢م، بطلب من شاعرنا مفدي زكريا، وموافقته على كل سطر؛ بل على كل كلمة منها، والتفاصيل عن الأناشيد زودني بها هو نفسه — رحمه الله — وصدرت هذه المقدمة مع الإلياذة كاملة سنة ١٣٩٢ﻫ/١٩٧٢م في حياة شاعرنا الذي تُوفي — خمس سنين بعد ذلك — يوم الأربعاء الثاني من رمضان المعظم ١٣٩٧ﻫ/١٧ أغسطس ١٩٧٧م.
وقد تحمَّس مفدي لفكرة نظم هذه الإلياذة بمجرَّد أن تلقَّى رسالتي، في بدء ١٣٩٢ﻫ/بدء ١٩٧٢م، وعبَّر عن استعداده المطلق لتنفيذها، وتعاونَّا نحن الثلاثة: المرحومين مفدي زكريا وعثمان الكعاك، وكاتب هذه السطور، في وضع المقاطع التاريخية، فكنَّا نتهاتف ليلًا، خاصة، وكانت البادرة في هذا الهتاف الليلي تعود غالبًا إلى مفدي، الذي كان ينظم الإلياذة ليلًا، وعندما يتوقَّف عند نقطةٍ تاريخيةٍ ما، ويود التأكد والاطمئنان، يهتف من الرباط؛ حيث كان مديرًا لجامعةٍ شعبية، إليَّ في الجزائر، وإلى الأستاذ عثمان الكعاك في تونس … وهكذا كان ذلك الحوار الثلاثي الليلي عن تاريخ الجزائر، بالذات، وبصفة أخص، وعن التاريخ المغربي عمومًا، وعن التاريخ الإسلامي بصفة أعم، بين هذه العواصم المغربية الثلاث، لتستقر النتيجة، وتتركز، وتُسجل، وتُخلد في عاصمة الجزائر، مقر الملتقى، وصاحبة البادرة في الإلياذة، كنقطة الارتكاز والمنطلق، تشع منها الإلياذة على مجموع المغرب، والأمة الإسلامية كلها، لتخلد ذات يوم في التراث البشري العام، تخلد خلود الإنسان.
هذا فضلًا عن المراسلة المستمرة، التي كنت أقترح فيها عليه بعض النقاط وأعرضها عليه لإدراجها في الإلياذة، والتي كان يرسل إليَّ في ثناياها بالمقاطع أولًا بأول، لأدفع بها إلى الخطاط الأستاذ عبد المجيد غالب الذي ينقلها بخطه الجميل الرائع؛ لأن خط مفدي، وإن كان أحسن من خطي بكثير، وبلا مقارنة، إلا أنه لم يكن في مستوى الإلياذة.
هكذا نشأت إلياذة الجزائر، إذن، ونَمَت، وترعرعت، ووصلت في ظرفِ بضعة أشهر إلى ستمائة وعشرة أبيات أنشدها مفدي، بصوته، ونبراته، وصرخاته، وإشاراته، وصيحاته، وسخرياته، وتهللاته، وغضباته، وتعجُّباته، في افتتاح الملتقى السادس للفكر الإسلامي في قاعة المؤتمرات من قصر الأمم «نادي الصنوبر» يوم ١٣ جمادى الثانية ١٣٩٢ﻫ/٢٤ يوليو ١٩٧٢م أمام أكثر من ألف طالب وأستاذ جامعي من القارات الخمس، وبحضور مسئولين كثيرين، منهم الإخوة محمد الشريف مساعدية، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، والمرحوم محمد بن يحيى، والعربي الطيبي، كما حضر جزءًا من إنشادها المرحوم الرئيس هواري بومدين، الذي استقبل مفديًّا في مكتبه بالرئاسة بعد اختتام الملتقى، وعبَّر له عن كل إعجابه بالأثر الخالد الباقي، وكنت وسيط الخير في ذلك اللقاء.
وبعد ذلك واصلت الإلياذة مسيرتها؛ أي واصل مفدي نظْمها، إلى أن بلغت الواحد بعد الألف؛ أي الألف بيت وبيتًا (١٠٠١) أو: الألف يوم ويومًا، من الأيام الخالدة، في تاريخ هذه الأمة الخالدة، وتمجيد الخلود، والخلود لله، والعرب كانت تسمي التاريخ «الأيام»!
ولئن لم ينشد مفدي زكريا بصوته الخالد إلا الستمائة والعشرة أبيات منها، سجلتها التلفزة والإذاعة حين إنشادها في القاعة المذكورة، أمام جميع الملتقين؛ فقد طُبعت الإلياذة بعد ذلك كاملة، بعد أن أتمَّها مفدي، بالألف بيت والبيت، في الجزء الأول من كتاب الملتقى السادس للفكر الإسلامي، وطُبعت ترجمتها أيضًا إلى الفرنسية في الطبعة باللغة الفرنسية التي لا تكاد تَقِلُّ في روعتها وجمالها عن الأصل (من ترجمة الأستاذ الطاهر بوشوشي، نشر وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية، طبع دار البعث بقسنطينة)، وكلٌّ من الطبعتين في خمس وعشرين ألف نسخة.
وسميناها: إلياذة الجزائر، وإن كانت تمتاز عن إلياذة هوميروس بالفارق العملاق: فبينما هذه الأخيرة؛ أي الإلياذة اليونانية، لا تروي إلا أساطير، نجد الإلياذة الجزائرية قد خلَّدت أمجادًا حقيقية، وسطَّرت تاريخ وقائع وأحداث هي من روائع الدهر، لا من خلق الجن، ولا من اصطناع شاعر، ولكن من صنع الإنسان الجزائري في الميدان!
وقد قسَّمها مفدي إلى جزأين: قسم الجمال؛ أي الجمال الطبيعي للبلاد، وقسم الجلال؛ أي المجد التاريخي، وإن تداخل القسمان أحيانًا.
والإلياذة أحسن سجل لتاريخ الجزائر حتى اليوم؛ أي أحسن كتاب فيه، وعنه، وله، وحتى إذا ما كُتب هذا التاريخ يومًا ما بصفة كاملة، شاملة، فستبقى إلياذة الجزائر أروع تاريخ للجزائر، وأكثره وقعًا في النفوس، وأسهله على الحفظ، والتذكُّر، والاستشهاد في معرض الاستشهاد والاحتجاج!
ولنكتفِ هنا بالإشارة إلى بضع مقطوعات فحسب، كالأولى التي بدأها مفدي هكذا:
ثم إلى البيتين الأولين من الثانية:
ثم إلى هذه، التي هي روعة الروائع، ومنها:
هل هناك مَن قال مثل هذا؟ ابحثوا في تاريخ الأدب العالمي!
ثم إلى هذه عن أولئك المغاوير، الطلائع، الذين مهَّدوا لفاتح نوفمبر، منذ العشرينيات واستُشهد الكثير منهم قبل فاتح نوفمبر قائلًا:
وإلى هذا عن دور أول نوفمبر، وأبعاده، ونتائجه، وما يوحي به من دروس:
إلى أن يقول:
ثم إلى هذا، بمناسبة ذكرى الملتقى السادس للفكر الإسلامي:
ولئن اضطرته ظروفٌ — تسبَّب فيها مَن تسبَّب من الزعانف — سامحها الله — إلى عدم الاستقرار في بلاده، كما كان يود، وإلى التنقُّل بينه وبين البلدين الشقيقين المجاورين، فها هو يرد عليها بهذه المقطوعة التي بدأها بالبيتين:
ويضيف:
وأخيرًا، وكأنه أحسَّ بقرب الميعاد مع خالقه — سبحانه وتعالى — إذ تُوفي بعد ذلك بقليل، فها هو يمجِّد بلاده للمرة الأخيرة، وهو يودِّعها الوداع الأخير … قبل أن يعود إليها جثمانه الهامد، وروحه تحوم عليه، وترفرف خفاقة فوق طائرة جزائرية تقله من تونس بأمر الرئيس الراحل هواري بومدين، ليُوارى في تربة بلاده، وفي وادي ميزاب بالذات، قائلًا:
وهذه البلاد، التي قضى مفدي عمره في التعبير عن كفاحها، والتغنِّي بأمجادها، وتخليد ذكراها، وكافح هو أيضًا وعانى من أجلها، ها هي تعيد إليه اعتباره كاملًا، الذي أرادت بعض تلك الزعانف — ومنها الأفاقة — أن تُفقده إياه، ظلمًا وعدوانًا، وتزييفًا للتاريخ.
فها هو المجلس الشعبي الوطني، بتوجيهٍ من الرئيس المجاهد الشاذلي بن حديد، يرسِّم نهائيًّا نشيد الثورة: «قسمًا بالنازلات الماحقات» … الذي صاغه مفدي وصبغه بصبغة كل ما سبق، صبغة الله — ومَن أحسن من الله صبغة؟ — ونفخ فيه من روحه، روح الأمة الجزائرية، وهو في زنزانة مظلمة باردة بسجن السركاجي: سجن «بربروس»، الذي كان يعرفه مفدي منذ الثلاثينيات، وعرفه قبله وبعده، كم من جزائري وجزائرية، وأُعدم فيه أكثر من بطل من أبناء هذه البلاد رمز البطولة.
وها هي الإذاعة الوطنية تبث الستمائة والعشرة أبيات التي سجلتها هي والتلفزة من الإلياذة حين إلقائها بصوته الجهوري، وكأنه واقف أمامنا الآن في منصة قصر الأمم، ذلك الصوت النابض بالحياة، صوت من جبالنا، وفداء الجزائر، واعصفي يا رياح، وقسمًا، وصوت الإِلياذة، التي هي جوف الفرا، وجمع الجوامع، ونشيد الأناشيد!
وها هي هذه الإلياذة الجزائرية العربية الإسلامية العالمية يُعاد نشرها مرارًا وبصور مختلفة: فتصدرها وزارة الثقافة والسياحة في ثلاث أسطوانات كبيرة، ويصدرها حزب جبهة التحرير الوطني — وريث وامتداد ومكمل جبهة التحرير الوطني، التي مجَّدها وخلَّدها مفدي في اللهب المقدس والإلياذة — بواسطة ودادية الجزائريين في أوروبا في ست لوحات (كاسيطات) بالعربية، وفي ستٍّ أخرى بالفرنسية، وها هي وزارة التربية تعيد طبعها وتوزيعها على المدارس وتلزم تدريسها، وها هي وزارة الشئون الدينية تعيد طبعها، وهي التي طلبت من مفدي نظمها، ثم طبعتها، ونشرتها، وتستمر في ذلك، خدمة للأدب الجزائري، العربي، العالمي، والروح الوطنية، وتاريخ الجزائر، وتاريخ الأمة الإسلامية عمومًا!
ثم ها هي المؤسسة الوطنية للكتاب تصدرها بدورها في هذه الطبعة الأنيقة، الجميلة في شكلها، لموافقة مضمونها، مع رسومٍ رمزيةٍ تبرز مغزى بعض المقطوعات المتصلة وثيق الاتصال ببعض الأحداث الرئيسية من تاريخنا.
والمؤسسة الوطنية للكتاب، بصفتها المؤسسة الأولى من نوعها في البلاد، ستضمن، لا شك، أجمل طبعة للإلياذة، وأكبر توزيع لها، حتى في الخارج؛ أي ستوصلها إلى كل مكان! نداء مدويًّا له صَداه — باسم الجزائر — عبْر الزمان والمكان!
وليس هذا من باب التغنِّي بالماضي والاكتفاء بِمَا تركه لنا الأجداد، بقدْر ما هي عملية إبراز الأسس الأصيلة للبناء عليها في انطلاقتنا الجديدة، مع الاستفادة من تجارب الأمم في جميع الأزمنة، وبأخذ ضرورات عصرنا بالاعتبار.
هذا هو مغزى إلياذة الجزائر، وهذه هي الإلياذة الخالدة، وشهادة ميلادها، ورحم الله زكريا، مفدي الفدائي، شاعر الفداء، ورحم الله جميع شهدائنا وأبطالنا عبْر العصور، وفي مختلف الأصقاع والربوع.
مولود قاسم نايت بلقاسم