الانتفاضة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي
لم تكن تلك الجيوش الجرارة من الفرنسيين الغزاة حجةً للجزائريين في الاستسلام الكامل لفرنسا. ما فتئت القوات الفرنسية الاستعمارية تستقر في العاصمة حتى بدأ التفكير في المقاومة. لم يكن لنضال حمدان خوجة السياسي أن يرقى لمستوى تحدي دولةٍ استعمارية؛ فلقد بات مؤكدًا لدى الجزائريين أن استرجاع السيادة الوطنية لا بد أن تُعَبَّأ لها التضحيات بالنفس والنفيس.
كان للدافع الديني دور إيجابي في إيقاظ همة الثورة لدى زعماء ومريدي الطرق الدينية المختلفة بالجزائر التي استطاعت أن تُشكِّل هاجسًا لفرنسا وكابوسًا نغَّص عليها استقرارها. تزعَّم الثورة في بداية الاستعمار عدد من هؤلاء الزعماء من بينهم بن زعمون، والحاج سيدي السعدي، والحاج محيي الدين بن المبارك، والأمير عبد القادر.
لم تكن استكانة الطبقة الحاكمة العثمانية في صد العدوان واستسلامها، عاملًا مشتركًا بين جميع الحكام من الأصل التركي؛ بل عمد بعض البايات والقادة الذين عملوا بالإدارة العثمانية إلى تزعُّم الثورة ضد الفرنسيين بعد استسلام الداي حسين وتسليمه العاصمة الجزائرية، نذكر منهم باي التيطري مصطفى بومرزاق، وإبراهيم باي قسنطينة السابق، والحاج أحمد باي قسنطينة.
وفي ردِّها على ثورة الجزائريين، أرادت فرنسا، أن تبلغ رسالة لكل الشعب الجزائري من خلال إقدامها على إصدارِ حكمٍ بالإعدام في حق كلٍّ من مسعود بن عبد الواد، والعربي بن موسى في فبراير ١٨٣٣م في عهد الدوق دي روفيغو، ونُفِّذ في نفس التاريخ، وكان هذا أول حكم بالإعدام في تاريخ الجزائر.
تعالت أصوات غربية وشرقية تندِّد بتدهور حقوق الإنسان في الجزائر، أوفد على إثرها لويس فيليب ملك فرنسا في ٧ يوليو ١٨٣٣م لجنةً لتقصي الحقائق، وإعداد تقرير حول الوضع العام في الجزائر، كانت نتيجة اللجنة أن سكان الجزائر «ينعمون بما تقدِّمه حضارة فرنسا» وأنَّ الوضع مستقر. اقترحت تعيين حاكم عام للجزائر، والسماح لكل الجنسيات بدخول الجزائر والاستقرار فيها، وخرجت بتوصية الحفاظ على الجزائر كممتلكة فرنسية في أفريقيا. عند احتلالها للجزائر، قامت كذلك السلطة الاستعمارية «القائمة على مبادئ الإخاء والمساواة وحقوق الإنسان» على نهب أوقاف الحرمين الشريفين — مكة والمدينة — في الجزائر. أحصت فرنسا سنة ١٨٣٧م في العاصمة وحدها ١٢٢٥٠٣ فرنكات قيمةً لتلك الأوقاف.
(١) الأمير عبد القادر يؤسِّس للدولة الجزائرية
بناءً على كِبَر سنه وعدم قدرته الصحية، اعتذر الشيخ محيي الدين بن مصطفى؛ لعدم استطاعته تلبية نداء السكان لقيادة المقاومة ضد فرنسا. واقترح عليهم تقديم ابنه عبد القادر للمبايعة. قَبِل الجزائريون اقتراح محيي الدين، فبايعوا الأمير عبد القادر يوم ٣ رجب ١٢٤٨ﻫ/٢٧ نوفمبر ١٨٣٢م.
يقول مفدي زكريا في الإلياذة:
فقام الشاب المعروف بتدينه وشاعريته وقوَّته بالعمل على تأسيس دولة جزائرية عصرية. نظَّم الجيش وأسَّس الديوان، وأقام نظام الشورى. أقام النظام الإداري على تقسيم الجزائر إلى مناطق، تنقسم إلى دوائر، وكل دائرة يرأسها «أغا»، وكل دائرة إلى وحدة يحكمها «قايد» مستعينًا بشيوخ القبائل.
-
يعيِّن الأمير عبد القادر وكلاء له في مدن مستغانم ووهران وأرزيو كما تعيِّن فرنسا وكيلًا لها في معسكر.
-
احترام الديانة الإسلامية.
-
التزام الفريقين بردِّ الأسرى.
-
إعطاء الحرية الكاملة للتجارة.
-
التزام كل طرف بإرجاع كل مَن يفر إلى الطرف الآخر.
-
لا يُسمح لأي أوروبي أن يسافر داخل البلاد إلا إذا كان يحمل رخصة من وكلاء الأمير وموافقة الجنرال الفرنسي.١
لم تلتزم فرنسا بالتزاماتها، فما كان من الأمير عبد القادر إلا أن يُعلن الحرب مرة أخرى ويستنفر الجيش يوم ٢٦ يوليو ١٨٣٥م بمعركة «المقطع» التي انتصر فيها وانهزم فيها الجنرال «تريزل» منسحبًا إلى أرزيو. في شهر ديسمبر من نفس السنة، أغار الماريشال «كلوزيل» على المنطقة التي عسكر بها جيش الأمير فانسحب منها الجيش الجزائري ليعيد حساباته وينظِّم صفوفه للمعارك القادمة.
في ١٨٣٦م تمكَّن جيش الأمير من إلحاق هزيمة كبرى بفرنسا في معركة «التافنة» الشهيرة. بدأ الجيش يستنفد طاقاته العسكرية في ظل الإمدادات التي كانت تصل إلى الجيوش الفرنسية، وخيانة بعض القبائل التي أضحى شغلها الوحيد قطع المَدد عن الجيش وتثبيط معنويات السكان في محاولات الالتحاق بجيش الأمير.
ولله در شاعر الثورة حين يقول متفاخرًا بالأمير عبد القادر:
ضاقت السبل بالأمير، ولم يكن أمام الأمير سوى قبول معاهدة التافنة في ٣٠ مايو ١٨٣٧م في ضوء معطيات خطيرة كانت تشير إلى إبادة جماعية لكل من يقف في وجه فرنسا. نصَّت المعاهدة بين الجنرال «بيجو» قائد القوات الفرنسية وبين الأمير عبد القادر على أحقية الحكم الذاتي لكلٍّ من فرنسا والأمير على الأقاليم الجزائرية، وممارسة الدين الإسلامي في أقاليم السيادة الفرنسية، والضرائب الواجب تسديدها على الأمير، وتنظيم عمليات اقتناء الأمير للبارود والكبريت من فرنسا، وممتلكات وتنقلات «الكول أوغلي»، وحرية التجارة بين فرنسا والجزائر، والتبادلات التجارية …
أعلن قائد الجيش الفرنسي «بيجو» خوضَ حرب الإبادة ضد الجزائريين. ونظرًا لعنف المواجهة وقساوة الحصار، التجأ الأمير إلى المغرب الأقصى في أكتوبر ١٨٤٣م، لكنه فوجئ بتسليمه سجينًا من قِبَل سلطان المغرب مولاي عبد الرحمن إلى القوات الفرنسية، وفرض عليه قبول شروط «لاموريسيير» سنة ١٨٤٧م.
(٢) المقاومة الشعبية تخلط الحسابات الاستعمارية
(٢-١) ثورة الحاج أحمد باي
تزعَّم أحمد باي قيادة قسنطينة، واستطاع جمع شتات الجزائريين على كلمة واحدة تقضي بالثبات وصد العدوان الفرنسي. لقي دعمًا من أهالي قسنطينة رغم أنَّه كوروغليا وحاكم في الحقبة العثمانية. حقَّقت الثورة الشعبية في الإقليم القسنطيني انتصارًا في سيدي مبروك على الجيش الفرنسي سنة ١٨٣٦م، فجهَّزت القوات الاستعمارية حملةً عسكريةً لإخضاع أحمد باي في ١ أكتوبر ١٨٣٧م بقيادة الجنرال «دامريمون» ورئيس الأركان «بيريقو».
لم تكن معركة قسنطينة سهلة المنال بالنسبة للجيش الفرنسي؛ فلقد تمكَّن الجيش الجزائري من القضاء على الجنرالين المذكورين، وعدد من ضباط وجنود الرتل الفرنسي، استعمل فيه أحمد باي المدفعية المتطورة، ولولا خيانة فرحات بن سعيد، حسب تقدير العديد من المؤرخين، لما سقطت قسنطينة في يد فرنسا، ولما أُجبر أحمد باي للانسحاب إلى الصحراء.
أمضى الحاج أحمد باي عشر سنوات في ترحال دائم إلى أن استسلم للقوات الفرنسية في ٥ يونيو ١٨٤٨م، تُوفي — رحمه الله — بالجزائر العاصمة سنة ١٨٥٠م، ودُفن بزاوية سيدي عبد الرحمن.
للتمكُّن من التقرُّب من الأهالي وتتبُّع كل حركاتهم أقبلت فرنسا على إنشاء «المكاتب العربية» في محاولة منها لمد جسرٍ يربط الجزائريين بالفرنسيين ويكسب مودة رؤساء العشائر والقبائل. ظاهر المشروع أن تقيم فرنسا جهازًا إداريًّا يسمح بالترجمة، إلا أنَّ حقيقة الأمر هو مد استعماري في كامل الأوساط الشعبية.
(٢-٢) ثورة أولاد سيدي الشيخ
قام بها الأعلى بن بوبكر بن حمزة:
(٢-٣) ثورة محمد بن تومي شوشة
مؤسِّس حركة التوارق بالصحراء، تعاون مع ثورة أولاد سيدي الشيخ في الجنوب، في ٥ مارس ١٨٧١م هاجم حامية ورقلة فهزمها، وعيَّن عليها بن ناصر بن شهرة. في ١٣ مايو ١٨٧١م هاجم توقرت، وانتصر على قوات المحتل بها. اعتُقل في معركة مارس ١٨٤٧م، حوكم وصدر في حقه حكمٌ بالإعدام ونُفِّذ فيه — رحمه الله — بتاريخ ٢٩ يونيو ١٨٧٥م بقسنطينة.
(٢-٤) ثورة الزعاطشة
بقيادة عبد الرحمن بن زيان سنة ١٨٤٦م بمنطقة بسكرة.
(٢-٥) ثورة محمد الأمجد بن عبد الملك
ابتدأت ثورة محمد الأمجد بن عبد الملك، المعروف بالشريف «بوبغلة» سنة ١٢٦٧ﻫ:
(٢-٦) انتفاضة أولاد عيدون بالمليلية
وقعت بداية من ١٥ فبراير ١٨٧١م في شمال قسنطينة.
(٢-٧) ثورة لالة فاطمة نسومر
استمرت ثورتها حتى ٢٠ ذي القعدة ١٢٧٣ﻫ/١٨٥٧م.
(٢-٨) ثورة المقراني والشيخ محمد أمزيان الحداد وبومرزاق
هاجم المقراني القوات الفرنسية المعتصمة ببرج بوعريرج في ١٦ مارس ١٨٧١م، واشترك المقراني والشيخ الحداد في معركة جبل تفارطاست في ١٢ أبريل ١٨٧١م.
في ٥ مايو ١٨٧١م أثناء خوضه لمعركة بسور الغزلان ضد الكولونيل «تروملي»، هاجمه جنود الزواف فاستُشهد رفقة ثلاثة من رفقائه، ثم دُفن في قلعة بني عباس.
خاض بعده الشيخ الحداد المقاومة في منطقة القبائل إلى أن اعتقلته القوات الفرنسية بداية يوليو ١٨٧١م بقيادة الجنرال «لالمان». في ٨ أكتوبر ١٨٧١م خاض بومرزاق معركةً ضد الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال «سوسي» في ناحية بجاية، وانهزم فيها بعد مقاومة عظيمة.
انتفاضاتٌ أخرى: الحسين بن أحمد الملقَّب بمولاي الشقفة، يحيى بن محمد، أولاد بن عاشور …
(٢-٩) ثورة الشيخ بوعمامة
الشيخ بوعمامة بن العربي بن التاج من قبيلة أولاد سيدي الشيخ التي ثارت على الاستعمار. تمكَّن رجال المقاومة في ٢٢ أبريل ١٨٨١م من إلحاق هزيمة بالقائد الفرنسي «واينبرينار» وبعدها انتصروا على بعثة الكولونيل «فلاتير». تُوفي — رحمه الله — في ٧ أكتوبر ١٩٠٨م.
(٢-١٠) ثورة الشيخ آمود
شيخ قبائل التوارق:
(٣) حملات التمسيح … الفشل في استمالة الجزائريين
عند الغزو الفرنسي، اصطحب دي بورمون ١٦ قسيسًا وعلَّق الصليب في أعلى بناية في القصبة بتاريخ ٦ يوليو ١٨٣٠م، وأُقيمت فيه الطقوس الدينية المسيحية في حفل كبير، بدأت في حينها عملية بناء الكنائس وتحويل المساجد إلى كنائس، واستقبال المبشرين المسيحيين على أرض الجزائر. قام كلوزي الذي خلَفَ دي بورمون بطلب مسجد من بلدية الجزائر لكي يُحوَّل إلى مسرحٍ، كما قام بتهديم ثلاثة مساجد، وصدر عنه قرار الاستيلاء على الأملاك الوقفية لمكة المكرمة والمدينة المنورة.
استمرَّت مظاهر التنصير وتدنيس مقدسات المسلمين، وشُيدت كنيسة نوتردام الإفريقية سنة ١٨٥٨م، وحُوِّل جامع كتشاوة الذي بُني في العهد العثماني سنة ١٠٢١ﻫ/١٦١٢م إلى كاتيدرائية؛ حيث قام الجنرال الدوق دو روفيغو قائد الحملة الفرنسية، عند قرار التحويل، بنصبِ الصليبِ، ورفعِ عَلم فرنسا المحتلة، وإحراقِ المصاحف الموجودة به في ساحة الشهداء.
لقد أبان القرآن الكريم عن تلك الكراهية الدفينة المعادية لرسالة محمد ﷺ في قوله تعالى: ولَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُو الْهُدَى ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ (سورة البقرة، الآية: ١٢٠).
يقول مفدي زكريا في الإلياذة: