مقدمة
نجاح مبهر ثم إخفاق مؤلم
في الخميس الرابع من شهر أكتوبر ٢٠٠٨، ذهب آلان جرينسبان — البالغ من العمر اثنتين وثمانين سنة — إلى مبنى الكونجرس الأمريكي ليعترف بأنه أساء فهم الكيفية التي يسير بها العالم. استهلَّ رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق — وهو جالس على طاولة الشهود في قاعة الاستماع الكائنة في الطابق الأول من مبنى رايبيرن الذي يضم مكاتب أعضاء مجلس النواب — بقراءة بيان سعى فيه إلى تفسير ما أصاب الأسواق المالية من خطب خلال السنة الماضية. وبعد أن طرح رئيس لجنة الرقابة والإصلاح الحكومي بمجلس النواب، النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا هنري واكسمان، بعض الأسئلة على جرينسبان، أوجز قائلًا: «بعبارة أخرى، أنت وجدت أن رؤيتك للعالم — أقصد أيديولوجيتك — لم تكن صحيحة، ولم تفلح.»
كانت تلك أيديولوجية جرينسبان، وكان يشترك معه فيها كثيرون في واشنطن وفي وول ستريت. كانت الأسواق المالية تعرف أكثر. كانت تنقل الأموال ممن يملكونها إلى من يحتاجون إليها. كانت توزع المخاطر. كانت تجمع المعلومات وتنشرها. كانت تنظم الشئون الاقتصادية العالمية بسرعة وحسم لم تستطع الحكومات مضارعتها فيهما.
•••
جاهد جرينسبان لتفسير سبب الإخفاق؛ لأن الصرح الفكري الذي أقام عليه فكره لم يكن ببساطة يسمح بمجال لأحداث الأربعة عشر شهرًا السابقة. كان هذا صرح نظرية السوق العقلانية. والعنصر المعروف حق المعرفة من عناصر نظرية السوق العقلانية هو فرضية كفاءة السوق التي صيغت في جامعة شيكاجو في ستينيات القرن الماضي بخصوص سوق الأسهم الأمريكية. غير أن الإيمان بما تُسَمَّى السوق العقلانية الذي ترسخ في السنوات التالية كان يُعنى بما هو أكثر من مجرد الأسهم. كان مفاده أنه كلما زاد إنشاء وتداول الأسهم والسندات وعقود الخيارات والعقود المستقبلية والأدوات المالية الأخرى، فسيجلب هذا حتمًا المزيد من العقلانية إلى النشاط الاقتصادي. فالأسواق المالية كانت تمتلك من الحكمة ما لم يكن يمتلكه الأفراد والشركات والحكومات.
أما نسخة القرن العشرين من نظرية السوق العقلانية فكانت مختلفة؛ حيث تجمع بين كونها أكثر دقة وأكثر تطرفًا. بدأت هذه النسخة بملاحظة أن تحركات أسعار الأسهم عشوائية، ولا يمكن التنبؤ بها استنادًا إلى التحركات السابقة. وتلا هذه الملاحظة ادِّعاء استحالة التنبؤ بأسعار الأسهم على أساس أية معلومات متاحة علانية (مثل الأرباح، وبيانات الميزانية العمومية، والمقالات المنشورة في الصحف). من هذين المنطلَقين — اللذين تبين فيما بعدُ أنهما ليسا صحيحين بالكلية — جاءت القناعة بأن أسعار الأسهم «صحيحة» في جوهرها.
لم يقصد معظم الباحثين الذين أيدوا هذه الفرضية في مرحلة مبكرة أن تُعامَل كوصف حرفي للواقع، فقد كانت تمثل بناءً علميًّا، أو نموذجًا للفهم من أجل اختبار أدوات جديدة وتصميمها. كل النماذج العلمية مبالغة في التبسيط. الاختبار المهم هو ما إذا كانت مفيدة أم لا. هذه المبالغة في التبسيط بعينها كانت مفيدة بكل تأكيد، مفيدة إلى حد أنها أصبحت قائمة بذاتها. وفيما أخذت تتنقل من الأحرام الجامعية في كامبريدج وماساتشوستس وشيكاجو في ستينيات القرن الماضي إلى وول ستريت وواشنطن وغرف مجالس إدارات الشركات الأمريكية، قويت فرضية السوق العقلانية وضاعت فوارقها الدقيقة.
كانت فكرة قوية؛ حيث ساعدت على استحداث أولى الصناديق المرتبطة بمؤشر، ونهج الاستثمار المسمى نظرية المحفظة الحديثة، ومقاييس الأداء المعدلة حسب المخاطر التي تشكل أعمال إدارة الأموال، وعقيدة القيمة المضافة للمساهمين التي تتبنَّاها الشركات، وظهور المشتقات المالية، ونهج الابتعاد عن التنظيم المالي الذي ساد في الولايات المتحدة بداية من سبعينيات القرن الماضي فصاعدًا.
من بعض النواحي، توازي قصة فرضية السوق العقلانية انبعاث الأيديولوجية المؤيدة للسوق الحرة بعد الحرب العالمية الثانية وتتشابك معها؛ هذا الانبعاث المسجل على نطاق واسع. لكن مالية السوق العقلانية لم تكن في صميمها حركة سياسية، بل كانت حركة علمية، أو فرضًا للحماسة التي شهدها منتصف القرن تجاه اتخاذ القرارات العقلانية الرياضية الإحصائية على الأسواق المالية. لم يكن هذا المسعى بحال كارثة تامة، فقد كان يمثل ملمحًا من ملامح التقدم. لكن الخسائر كانت كثيرة، وأهمها الفهم الشائع بين المستثمرين الناجحين — وإن كان غائبًا عن عدة عقود من الدراسة الأكاديمية المالية — بأن السوق شيطانية، وهي شيطانية إلى درجة يتعذر معها الإحاطة بها بنظرية سلوكية واحدة بسيطة، كما أن نظرية لم تسمح إلا بالعقلانية الهادئة على امتداد البصر تعجز عن تحقيق ذلك دون شك.
في سبعينيات القرن الماضي، بدأ علماء الاقتصاد وأساتذة المالية المخالفون في الرأي يشككون في نظرية السوق العقلانية هذه لكشف تناقضاتها النظرية وافتقارها إلى سند تجريبي، وبحلول نهاية القرن، كانوا قد قوَّضوا معظم دعائمها. لكن لم يكن هناك بديل مقنع؛ لذا ظلت السوق العقلانية تغلب على النقاش العام واتخاذ القرارات الحكومية وسياسة الاستثمارات الخاصة حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ أي حتى انهيار السوق سنة ٢٠٠٨.
كتب جون مينارد كينز — الذي يلعب دورًا مساندًا في القصة التالية — يقول: «أفكار الاقتصاديين والفلاسفة السياسيين، حالةَ كونِهم مصيبين ومخطئين على السواء، أقوى مما هو مفهوم عمومًا. والحقيقة أن العالم لا يحكمه شيء أكثر من ذلك. فالرجال العمليون الذين يعتقدون أنهم مبرَّءون تمامًا من أية تأثيرات فكرية هم في العادة عبيد لاقتصاديٍّ بائد.»
والاقتصادي البائد الذي تبدأ به هذه الحكاية هو إرفينج فيشر، أحد المعاصرين لكينز.