دور الموروث الثقافي في تحقيق الوفاق العربي١
أولًا: مقدمة الموضوع والمنهج
تتميز المجتمعات التراثية بأن ثقافتها ما زالت مرتبطة بتراثها، الثقافة لديها موروث ثقافي، ينهل من الماضي أكثر مما يصدر عن الحاضر، وهو ما جعل بعض الباحثين المتأثرين بالغرب أو الوطنيين المهتمين بقضايا التقدُّم يتهمونها بالماضوية أو السلفية، وجاءت معظم حركات الإصلاح فيها دينية، ترى في الماضي نموذجها المستقبلي، وفي العودة إلى الماضي تحرُّرها المستقبلي من ربقة الحاضر، هروبًا من الزمن ثم عودًا إليه ودخولًا فيه.
المجتمعات الإنسانية والتجارب البشرية فيما يتصل بالموروث الثقافي على ثلاثة أنواع؛ الأول: التجربة الغربية التي انتهَتْ إلى نموذج الانقطاع؛ إذ لا يمكن الجمع بين الماضي والحاضر، بين الكنيسة والدولة، بين أرسطو والعلم الحديث، وكلما تم الانفكاك عن الماضي تم التوجُّه نحو الحاضر والمستقبل. العلاقة بينهما علاقة تضاد وتنافر، علاقة عكسية، بقدر ما يتم الانعتاق من الماضي يتم الانطلاق نحو المستقبل، لا يمكن الجمع بين الإيمان والعقل، الدين والعلم، السلطة والحرية، الكتاب والطبيعة، الرواية والمشاهدة، القول والنظر، وانبهرت الثقافات بهذا النموذج، وأصبح رمزًا للحداثة والمدنية.
والثاني: التجربة الآسيوية في اليابان وكوريا التي انتهت إلى نموذج تجاور الجديد بجوار القديم في تآلف وانسجام، كل له ميدانه الخاص، الجديد في الحياة العامة في المصنع والمعمل والإدارة أعلى مستوى من مستويات التقدم التقني، عقل آلي مادي خالص في أيام الأسبوع، والقديم في الحياة الخاصة في الأعياد الدينية والوطنية وفي عطلة نهاية الأسبوع، التقاليد والعادات في الزي والطعام بل وممارسة الطقوس الخرافية، قراءة الكف والطالع واستدعاء روح الإمبراطور، ولا تنافر بين الاثنين، لا يتدخل العقل والعلم في الحياة الخاصة، ولا يتدخل السحر والخرافة في الحياة العامة.
والثقافة العربية لها مكونات ثلاثة، تتفاعل فيها وتشكلها بل وتتنافس فيما بينها على الأولوية والصدارة والفاعلية، الأول: التراث القديم الذي ما زال حيًّا فيها، نابعًا من الماضي ويصب في الحاضر، يجدد تصورات العالم ويضع معايير السلوك، بل لقد تحوَّل هذا التراث إلى مقدس، وعلماؤه إلى ورثة الأنبياء — أقل أو أكثر — بما في ذلك رواة الأحاديث والمفسرون والفقهاء وكتاب السير والمغازي، مع أنهم علماء عصر ولى وانقضى، اجتهدوا للإجابة عن أسئلة عصرهم وتحدياته، والزمن لا يتوقف، والتاريخ ليس مرحلة واحدة، والزمان ما زال ممتدًّا إلى يوم الدين، يغلب عليه التراث العقائدي والفقهي؛ فالإسلام عقيدة وشريعة أكثر مما يغلب عليه التراث الفلسفي أو العلمي، وهو تراث تروج له أجهزة الإعلام، وصفحات الفكر الديني في الصحف اليومية، وأحاديث الروح، ودروس التفسير، وبرامج العلم والإيمان في وسائل الإعلام المرئية، وهو مادة خصبة لمعاهد وجامعات بأكملها، وهو المورد الرئيسي لمادة الدين في المدارس، ودروس العصر والمغرب والعشاء في المساجد، وهو الذي تربي عليه الأسر العربية النشء الجديد، ومنه تخرج الشعارات السياسية للحركات الإسلامية المعاصرة «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة الإسلامية»، «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، وهو الذي ينتشر في الطرقات في أشكال الزي الإسلامي والأذان خلال مكبرات الصوت، وتقاليد الحلال والحرام، والإيمان والتقوى، والعيب والواجب، وهو تراثٌ ممتدٌّ عبر أربعة عشر قرنًا على الأقل في الموروث الإسلامي، أو عبر عشرين قرنًا في الموروث القبطي، أو ما يزيد على ثلاثين قرنًا في الموروث المصري أو البابلي أو الآشوري أو الكنعاني، وقد تزاوج كل ذلك في الموروث الشعبي العربي وأصبح أحد الروافد الرئيسية في الثقافة العربية، تتمسَّك به الحركة الإسلامية، وتود التواصل معه واستئنافه، فلا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وتريد الحركة العلمانية الانقطاع معه وتجاوزه، فلكل عصر تراثه، وقد تغير العصر، وتعمل الحركة الإصلاحية على تجديده، تنتقي منه ما يفيد، وتترك ما لا يفيد، كما تنتقي من الغرب ما ينفع وتترك ما يضر، تحقيقًا لنموذج التغير من خلال التواصل، وليس من خلال الانقطاع أو الاستقرار.
والثاني: التراث الغربي الذي بدأ يتحول من وافد غربي إلى موروث ثقافي جديد منذ مائتي عام، يزاحم الموروث القديم، ويخلق ظاهرة ازدواجية الثقافة، التي تشمل ازدواجية اللغة والتعليم والسلوك ومنظومة القيم، تمثلته التنمية وأرادت أن تقيم الدولة الحديثة عليه، وتبنته الطبقة المتوسطة وأقامت المؤسسات السياسية والتشريعية والتعليمية والاجتماعية عليه، فما نجح في الغرب ينجح عند باقي الشعوب، والتجارب الإنسانية واحدة يتحرى بعضها بعضًا، وقد كانت الثقافة العربية عبر تاريخها الطويل مفتوحة باستمرار على الوافد الغربي، اليونان والرومان أو الشرقي، فارس والهند، وأصبح الوافد القديم جزءًا من الثقافة العربية متحدًّا اتحادًا عضويًّا مع الموروث. وطالما كانت الدولة قوية، وتجربة الحداثة ناجحة سواء في الدولة الليبرالية قبل الثورات العربية الأخيرة أم في الدولة القومية الاشتراكية بعدها، كان التزاوج بين الموروث القديم والوافد الجديد قائمًا لصالح المشروع النهضوي الحديث، ليبراليًّا كان أم اشتراكيًّا، فلما صنعت الدولة وصنعت معها المشروع النهضوي ظهر التنافس والتقابل، وأحيانًا التعارض والتنافر بين عنصري الثقافة، وتحول الوافد الغربي إلى انبهار بالغرب، يصل إلى حد التغريب، وهو ما أحدث رد فعل عند الموروث القديم، فتحول إلى سلفية أصولية، الأول يخوِّن الثاني، والثاني يكفِّر الأول، ويتجاوز الأمر مستوى الثقافة إلى معترك السياسة، فكل رافد يعد نفسه الوريث الشرعي للدولة «الرخوة»، ويصل الأمر إلى حد الاقتتال العلني بين الفريقين، كما هو الحال في الجزائر، أو يتحول الموروث القديم إلى تنظيمات سرية تمارس العنف، كما هو الحال في مصر، وانتشرت مفاهيم جديدة مثل الحرية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والتقدم، وهي مفاهيم تزاحم المفاهيم القديمة مثل الإيمان والحلال والحرام والشريعة والدين والنبوة والوحي والآخرة والملائكة حتى الجن والشياطين وعذاب القبر ونعيمه، واحتار الناس بين نقلٍ من القدماء أو نقل من المحدثين، وكلاهما نقل وتقليد أما الخلاف فهو خلاف في المصدر والواقع نفسه محاصر بين النقلين، قد تكون له مقولاته الإبداعية المطمورة تحت نقل الماضي البعيد والمستقبل القريب.
والسؤال الآن: كيف يستطيع هذا الموروث الثقافي بمكوناته الثلاثة أن يسهم في تحقيق الوفاق العربي الذي عزَّ في العقدين الأخيرين حتى أصبحت مقومات الضعف في الداخل أحد أسباب قوة العدو في الخارج؟ هل في الموروث الثقافي عناصر فرقة تجعل العرب المحدثين أقرب إلى الخلاف منهم إلى الوفاق أم أن به مقومات وحدة تجعلهم أقرب إلى الوفاق منهم إلى الخلاف؟! وهل تستطيع الثقافة أن تقوم بما تعجز عنه السياسة؟ أليست هذه مثالية طوباوية، الظن بأن الثقافة تغير السياسة، وأن العقل يتحكم في القوة، وأن إنجاز الماضي قادر على حل أزمة الحاضر؟ وهل يعود صلاح الدين؟
إن الشعوب التراثية ما زالت تتأثر بموروثها الثقافي، وما زال هذا الموروث الثقافي هو الحامل لخطط تنميتها السياسية والاجتماعية، وتثبت تجربة النهضة العربية المدنية أن تغير الأبنية القومية عن طريق الوافد الغربي الذي نقلته النخبة فوق وافد موروث في وعي الجماهير لم يغير كثيرًا في البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات العربية التي ظلَّت في جوهرها إقطاعية ليبرالية في الثقافة وإقطاع في الواقع، وهو ما كان أحد أسباب الثورات العربية الأخيرة، ثم حدث أكبر تغير في الواقع الاجتماعي في تجربة العرب الثانية في النصف الثاني من هذا القرن، إصلاح زراعي، قضاء على الإقطاع، تصنيع، تنمية، تخطيط، حقوق العمال والفلاحين، تعليم، ولكن لم يحدث تغيرٌ موازٍ على مستوى الموروث الثقافي، باستثناء خطاب إعلامي عن القومية الاشتراكية، وبمجرد انتهاء التجربة القومية الاشتراكية الثانية، بوفاة زعيمها، إثر هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧، عاد الموروث التقليدي القديم مسيطرًا على ثقافة الشعب، وجهاز الدولة يريد الانتقام من تجربة الحداثة الوافدة، ويعود إلى مكانه الطبيعي، بعد أن خرج من تحت الأرض المكون الثقافي الرئيسي للبلاد الذي صب في الحركات الإسلامية الأصولية المعاصرة. يعيش العرب إذن تجربة نهضوية ثالثة، تتجاوز تجربة الباشوات الأحرار والضباط الأحرار إلى المفكرين الأحرار الذين يقومون بإعادة بناء الموروث الثقافي القديم، بحيث يكون حاملًا لمشروع النهضة العربي الجديد، وحتى يصبح أكبر دعامة له دون انتكاسة أو ردَّة أو انكسار كما حدث في التجربتين الماضيتين.
ثانيًا: موانع الوفاق العربي
هذا الموروث الثقافي القائم على أحادية الطرف هو الذي جعل الصحافة رسمية، لها رأس واحد، وصحافة المعارضة، ضعيفة، مجرحة، مشكوك فيها، عميلة، خائنة، وهو الذي جعل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية يسودها الرأي الواحد حتى في القضايا الخلافية مثل الحرب والسلام، الغنى والفقر، والقهر والحرية، التبعية والاستقلال، وهو الذي يمنع الأنظمة العربية من التفاهم وتبادل الرأي والشورى والأخذ بحكمة الشافعي القديمة: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب». الحق واحد لا تعدد فيه، والحقيقة واحدة لا تباين فيها، وتحول الرأي السياسي إلى مقدس: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، هذا هو الذي يمنع الرؤساء من الحوار وتبادل الرأي من أجل الوصول إلى رأي مشترك؛ فالحقيقة واحدة وليست متعددة، والصواب في جانب والخطأ في كل الجوانب، كل نظام سياسي يعدُّ نفسه الفرقة الناجية، وكل النظم السياسية الأخرى فرق هالكة.
كان الموروث الثقافي متعدد الاتجاهات قبل القرن الخامس الهجري، ونشأ الإسلام في بدايته مصالحًا، مؤاخيًا، مجمعًا للناس؛ فالوحي الإسلامي آخر مرحلة من مراحل الوحي منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، مراحل متتالية، وشرائع متعددة بهدف واحد، التوحيد شريعة إبراهيم الخليل، والأمة الإسلامية تجمع في داخلها أممًا أخرى، اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والبراهمة، طالما يؤمن الجميع بمبدأ واحد ويعملون عملًا صالحًا، آخى بين الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار، وجمع القبائل على شرف حمل الحجر الأسود كل بطرف العمامة، بدلًا من التناحر والفرقة والاستبعاد المتبادل، وكانت وحدة الأمة صورة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
كان الرسول يستشير الصحابة وكانوا يشيرون عليه فيما لم يأتِ فيه وحي، كان الرسول يخطئ ويصيب في أمور الدنيا، كما هو الحال في تأبير النخل، وكان الصحابة يختلفون ويتفقون بين التشدُّد واللين، بين المثال والواقع، بين عمر وأبي بكر، يا عمر اصعد قليلًا، يا أبا بكر انزل قليلًا، واستمر الصحابة في نفس الروح، واستشار الخلفاء واختلفوا فيما بينهم دون تكفير أو تخوين طالما أن الكل يبغي المصلحة العامة، يجتهد الرأي، للمخطئ أجر وللمصيب أجران ولم يكفر أحدهم أحدًا، ولم يخوِّن أحدهم أحدًا، ولم يستبعد أو يعفِ أحدهم أحدًا.
ثم وقعت الفتنة، وتحزب الناس، وتعصبت الأحزاب، وكفَّر بعضهم بعضًا، وسالت الدماء، وأصبحت المعارك الثقافية جزءًا من المعارك السياسية على مستوى العقائد والشرائع والمؤسسات، يفرز نظام التسلط والقهر عقائده التي تجعل كل ما يقع في الأمة قضاءً وقدرًا، ولا مندوحة من أمر الله، ولا فائدة في المعارضة السياسية، فقد كتب الله للأمويين الحكم منذ الأزل، وألبس الله عثمان قميصًا لا يمكن لأحد من البشر نزعه عنه، ولما استتب الأمر للمنتصر الأموي ساءت ثقافته، ولما ضعفت المعارضة، المعتزلة والخوارج والشيعة، انزوت ثقافتها، ولم يدوِّنها أحد، بينما دون فقهاء السلطان ثقافة السلطة بألفاظ «روى»، و«حدَّث»، ودونت معها المعارضة بألفاظ «ادَّعى»، و«زعم» وانقسم العلماء فريقين، فريقًا له الخلعة والمنصب، القضاء والإفتاء، وفريقًا له السجن والتعذيب والموت.
وبمرور الزمن وتوالي السلاطين، تحولت ثقافة السلطة إلى الثقافة ذاتها، وأصبحت ثقافة السلطان ثقافة الناس وتعودوا عليها، فطبعتهم بطباعها، الرأي الواحد وهو رأي القوي، والضعيف لا رأي له، ما عليه إلا الطاعة والولاء، وأساء فقهاء السلطان تأويل أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؛ لفرز الرأي الواحد ومنع المعارضة السياسية التي تبدأ بالرأي الآخر، وظل الأمر كذلك، باستثناء بعض الهبات الشعبية القديمة والحديثة حتى العصر العثماني، حيث ظهر من جديد منطق الدولة وضرورة حمايتها ضد الطامعين في الخارج، أوروبا الغربية، والانفصاليين في الداخل، الأرض والعرب دفاعًا عن مركزية الخلافة ضد لامركزية الإصلاح، وبالرغم من العصر الليبرالي الذي عاشه العرب نسبيًّا في النصف الأول من هذا القرن أتَتِ الثورات العربية لتضع حدًّا لهذه التعددية الفكرية؛ فالمشروع القومي العربي مشروع واحد، أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، ثم أتت هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧ وأصبح لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، بالرغم من هامش النقد الذاتي لمعرفة أسباب الهزيمة، تعوَّدت نظم الحكم الحالية على الرأي الواحد، وعلى أن الصواب في جانب، هو جانب الأقوى وأن الخطأ في الجانب الآخر الضعيف.
تحول الرئيس إلى زعيم ملهم مثل قدماء الأئمة، معصومًا من الخطأ لا يستشير أحدًا من أعوانه، والسلطة تبهر، والقوة غاشمة، تأتيه فكرة المصالحة مع العدو وهو في الطائرة معلقًا بين السماء والأرض في السحاب، إلهامًا من الله، والإلهام لا حوار فيه ولا مراجعة له، ويريد بناء معبد فوق جبل الطور في سيناء تشبهًا بموسى، وكان الوفاق بين الأنبياء نموذجًا للوفاق بين الأعداء العرب وإسرائيل وليس العرب والعرب أو مصر والمصريين، الإلهام اعتقاد يقيني بالصواب بلا براهين، ويتحول الإلهام إلى بطولة، بطل الحرب وبطل السلام، هذه الزعامة الكارسمية لا تقبل الحوار بل تتطلب الطاعة العمياء، وكيف يتم الوفاق بين زعامة بلا شعب وشعب بلا زعامة؟ وكيف تتم المصالحة بين جناحي حزب قومي اشتراكي وحدودي وكل عاصمة قطرية تريد الزعامة القومية، إن للبطل وابن البلد والزعيم نماذج في السير الشعبية مثل «أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة»، الجماهير سنة وثقافتها الموروثة أقرب إلى الشعبية، ثقافة الأئمة المعصومين، الحاضرين لا الغائبين، هو الوحيد المتصل بالعقل الفعال، وهو الذي يتمتع بصفات عقلية وذهنية تفوق باقي البشر، فكيف يتم الوفاق بهذا التصور للزعامة وللعلم وللقرار السياسي؟ بهذه الطريقة تتصارع الإرادات، وتتضارب الزعامات، وكما أن الله واحد فالزعيم واحد، كل زعيم يريد زحزحة باقي الزعماء، وكأن الليل المظلم لا يتسع لعدة نجوم مضيئة، كل يريد أن يكون الشمس، والقمر يستمد نوره منها.
كما وقع التشريع في حرفية النصوص بصرف النظر عن مصالح الناس، وأعطيت للنص الأولوية على الواقع، وضاع المتشابه لصالح المحكم، والمجمل لصالح المبين، والمطلق دفاعًا عن المقيد، والمجاز تمسكًا بالحقيقة، والمؤول رفعًا لشأن الظاهر، قُضي على الخلاف في الرأي، وتثبت الشريعة في زمان متغير، فنبذها البعض واستبدلوا بها القانون الوضعي المدني، وتمسك بها البعض الآخر، فضحوا بالزمن وبالتغير وبالواقع وبالمصالح العامة؛ لهذا تمسكت الأنظمة السياسية بالأيديولوجيات وبأقوال أصحابها وشعاراتهم، وضحت بمصالح الناس وربما بالغايات من أجل الوسائل، فالقومية متعصبة للقومية، ترفض أن تتجاوز حدود اللغة والثقافة والقوم، فبرزت مشكلة الأقوام داخل القومية العربية، الأكراد في العراق، والبربر في المغرب العربي، والأفارقة في جنوب السودان ومالي وتشاد، والإسلامي متعصب لإسلاميته لا يرضى بأن يكون العرب جزءًا من الأمة الإسلامية التي لا تحدها حدود اللغة والثقافة والقوم. إنما هي وحدة العقيدة، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، إنما العروبة هي اللسان، ولا فرق بين العرب ودول الجوار تركيا وإيران بدلًا من أن تتحالف إسرائيل مع تركيا، وتعقد علاقات — وغالبيتها من المسلمين — تجارية وعسكرية مع الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا أو مع الدول الأفريقية حول منابع النيل لحصار مصر في الجنوب، والماركسي أعمى لا يعترف بحدود القومية أمام اضطهاد العمال في كل مكان، يغلب الصراع الطبقي على الوحدة الوطنية والائتلاف الوطني، روسيا النموذج، وماركس المنتظر ولينين المؤسس للدولة، وستالين المدافع عن الأرض ضد النازية، ويفضل تجربة الصين وربط الماركسية بالقومية، وكذلك التجربتين الفيتنامية واليوغوسلافية. ويقع الليبرالي في حرفية الليبرالية، اقتصاد السوق، وحرية التعامل، بصرف النظر عن محدودي الدخل وقضايا العدالة الاجتماعية في هذه القطعيات المتبادلة بل والمتعارضة، يستحيل الحوار القومي، ويعز الوفاق، الكل يغلب المدخل الأيديولوجي على الصالح العام، الكل نصي عقائدي حرفي، وتكاد القدس وفلسطين تضيع والخلاف العقائدي قائم بين الأنظمة السياسية، تحيا الأيديولوجيا ويسقط الوطني.
أصبحت وظيفة العقل مجرد تبريرٍ للمعطيات السابقة، مجرد تشريع لما هو قائم أو غطاء يتم التستر وراءه للتعبير عن المصالح الشخصية وأهواء البشر، وظيفته ليست في التحليل والنقد والتجاوز بل التبرير والتنظيم لما هو موجود وتثبيت الأمر الواقع؛ لذلك كثر فقهاء السلطان، ومنظرو القرارات السياسية و«ترزية» القوانين ومفكرو النظام، وأصبح الإعلام في كل نظامٍ خير مدافع عن النظام نفسه، ولو غير النظام موقفه لتغير الإعلام معه دون مراعاة لحق مستقل عن إرادات الحكام. العقل تابع للنقل كما هو الحال في الموروث الثقافي الأشعري. العقل مجرد أداة للتشريع وليس لوضع الحقائق التي تصنعها الإرادات المستقلة، وظيفة العقل معرفة الحكمة واكتشاف الدلالة والاطمئنان إلى المشروعية، وليس النقد أو التساؤل أو الشك أو الرفض والاحتجاج، التمرد أو الغضب، ولا فرق بين أن تكون هذه المعطيات من قواعد الإيمان أو من قواعد الأيديولوجيا السياسية، فكلاهما معطى مسبق، الإيمان به أولًا ثم عقله ثانيًا، في هذه الحالة كيف يتم الوفاق العربي، وكل نظام له مسلماته القبلية ومعطياته الإيمانية التي لا نقاش حولها؟ وعقل كل نظام يبرر المسلَّمات، فترمز البراهين وتكثر الخطابة والإنشائيات والحروب الإعلامية.
ونظرًا لثقافة الرأي الواحد المسيطر في الموروث الثقافي، تحول الأمر من المعرفة إلى الوجود، ومن التراث إلى الموضوع، ومن الرائي إلى المرئي، وتصورت الثقافة العالم على نحو هرمي، من أعلى إلى أدنى، وما بينهما درجات، أكثر شرفًا أقل نقصًا إلى أعلى، وأقل شرفًا وأكثر نقصًا إلى أسفل، فالعلاقة بين الطرفين علاقة رأسية، بين الأعلى والأدنى، بين الأكثر قيمة والأقل قيمة، وليست علاقة أفقية بين الأمام والخلف، بين الأكثر تقدمًا والأقل تقدمًا، بين موقفين متساويين من حيث الشرعية، في التصور الهرمي لعالم يغيب الوفاق، ويسيطر الرأي الواحد، ويفرض الكبير رأيه على الصغير، ويفرض الأقوى سيطرته على الأضعف، علاقة الأعلى بالأدنى هي علاقة المركز بالأطراف، علاقة الإيجاب والسلبية، هنا يغيب الحوار والتفاهم والرأي والرأي الآخر؛ لأن الطرفين ليسا على المستوى نفسه من الشرعية والقيمة؛ فالحوار يعني الاستسلام أو السيطرة، استسلام الأدنى للأعلى، وسيطرة الأعلى على الأدنى، القُطرية أدنى من القومية، والقومية أعلى من القُطرية، مع أنهما دائرتان متداخلتان مشتركتان في مراكز واحد ويغذي الموروث الثقافي هذه التراتبية والتفاضل في المستويات، حتى تكونت الضغائن بين الأقطار.
وإذا كانت موانع الوفاق العربي في غالبيتها تأتي من الموروث الثقافي القديم عبر ألف عام، فإن أحد موانعه تأتي من الوافد الغربي الحديث منذ مائتي عام، وهي الدولة الوطنية التي تحولت الآن إلى دولة قُطرية، إن حب الوطن من الإيمان، وكتب أبو حيان رسالة في الجيش إلى الأوطان، وأراد الإسلام أن يجعل نفسه دينًا للعرب في شبه الجزيرة العربية، ورفع الطهطاوي شعار «فليكن هذا الوطن مكانًا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع.» وقامت حركات التحرر الوطني في هذا القرن لتحرير الأوطان من الاستعمار، ونشأت معظم الأحزاب الوطنية من ثنايا حركات الإصلاح الديني، خاصة في المغرب العربي، ووضع الأفغاني شعار «مصر للمصريين»، وصاغ محمد عبده برنامج الحزب الوطني في مصر، وعرف الإسلام الحديث بدوائر ثلاث؛ الوطن والعروبة والإسلام.
وفي غمرة الوافد الغربي، والانبهار بالنموذج الغربي تمت صياغة الدول العربية الحديثة عليه، فنشأت الدولة القطرية التي تستمد مقوماتها من الحدود الجغرافية والمصالح القطرية، والاعتماد على الذات، والانغلاق على النفس، العلاقة مع النفس قبل العلاقة مع الآخر، والدولة القطرية تسبق الدولة القومية أو الأجمعية الاشتراكية أو الإسلامية أو الليبرالية المحتلة في نهاية التاريخ، عصر انتصار الرأسمالية، وفي العولمة، اقتصاديات السوق. دافع العرب عن الأقطار أكثر مما دافعوا عن الأوطان، وتشبثوا بالحدود الجغرافية أكثر مما حرصوا على المصالح المشتركة عبر الحدود، وهي حدود مصطنعة، من آثار هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى ١٩١٤–١٩١٨ والقضاء على الخلافة في ١٩٢٣، وصنعها الاستعمار طبقًا لسياسة «فرق تسد»، وتاركًا مشاكل حدودية وهمية بين كل قطرين عربيين متجاورين، مصر والسودان، مصر وليبيا، الجزائر والمغرب وموريتانيا، العراق والكويت، اليمن والسعودية، عمان والإمارات، قطر والبحرين، وخلق نفس المشاكل العالم العربي ودول الجوار، سوريا وتركيا، الإمارات وإيران، يعز الوفاق عندما يدافع كل نظام عن قطره وحدوده وكأنها مراعي قبيلة.
ثالثًا: مقومات الوفاق العربي
لا يعني وجود موانع للوفاق العربي في الموروث الثقافي غياب مقومات الوفاق؛ فالموروث الثقافي موروثان؛ الأول أقرب إلى الموانع، والآخر أقرب إلى المقومات، ولكن الموانع أغلب نظرًا لاستقرار ثقافة الرأي الواحد والحزب الواحد عبر ألف عام، والمقومات أقل نظرًا لتهميش ثقافة الاختلاف والتعددية والرأي والرأي الآخر والحوار وتبادل الرأي والعمل الجماعي المشترك، ونظرًا لأن الأنظمة العربية توحدت مع الموروث الثقافي الأول، ولم تتوحد المعارضة السياسية مع الموروث الثقافي الثاني، ضعف الرأي الآخر وحُوصرت المعارضة.
وقام الموروث الثقافي على الاستشارة والمشورة «لا خاب من استشار»، وتحوَّلت إلى مبدأ عام في الحكم «وأمرهم شورى بينهم»، و«شاورهم في الأمر»، فالإمام ليس ملهمًا ولا معصومًا ولكن بشر يخطئ ويصيب، يتعلم ويستشير؛ لذلك يهاجم القرآن التفرد بالرأي والإكراه في الدين كما ينقد التقليد والمقلدين الذين يجدون آباءهم على أمة وهم على آثارهم مقتدون، التفرد بالرأي والتصلب للموقف يؤدي بالأمة كلها إلى التهلكة خاصة في قضايا الحرب والسلام، وعندما تكون النتيجة حياة الآلاف من البشر بلا هدف واضح وربما لمجرد الدفاع عن كرسي الحكم أمام خطر متوهم قادم؛ لذلك كان الإجماع مصدرًا من مصادر التشريع، إجماع كل عصر، استشارة أهل الاختصاص، تبادل الرأي والمشورة، فلا تجتمع الأمة على ضلالة: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وقد كان لموسى وزيره وأخوه هارون، وكان للمسيح حواريوه، ولمحمد صحابته. ولا يعني الإجماع سيطرة الأغلبية على الأقلية على مستوى عددي كمي بل أخذ الرأي الآخر في الحسبان حتى ولو كان واحدًا، وإلا كان إجماعًا ناقصًا اعتزازًا بالرأي الآخر وحرصًا على الإجماع كيفًا وكمًّا في آنٍ واحد، وقد كان للخليفة مستشاروه ووزراؤه ونصحاؤه، والدين النصيحة وليس الإجماع معرفيًّا فقط بل هو عملي أيضًا، ففيه أن الله مع الجماعة وفيه أن المؤمنين إخوة، والصلح بين الإخوة واجب ولا يجوز لمسلم مخاصمة أخيه فوق ثلاث ليالٍ، وضرورة إلقاء السلام على من نعرف وعلى من لا نعرف، بالتشاور يتم الوفاق وتتحقق المصالحة، وهو قيمة في الموروث الثقافي القديم.
والنصوص ليست قيدًا على الفكر، النص القرآني في نفسه هو إجابة عن سؤال يطرحه الواقع، وكما هو معروف في «أسباب النزول» ليس النص مجرد حكم بل هو استجابة لمتطلبات الواقع، الواقع يسأل والوحي يجيب، وكان الوحي يأتي مصدقًا لإحدى إجابات الواقع نفسه ومرجحًا إياها على غيرها، وهو في الغالب رأي عمر، فالمكان عنصر في التشريع، وإذا كانت الأسئلة القديمة عن الأهلة والأنفال والمحيض والخمر، فإن الأسئلة الجديدة عن الاستعمار والصهيونية والتخلف والتجزئة والتغريب وسلبية الجماهير والقهر والفقر والعولمة ونهاية التاريخ وصراع الحضارات والخصخصة والتبعية والاقتصاد الحر والشركات المتعددة الجنسيات، والإجابات عنها ليس في كتب أو في نصوص بل اجتهادات فكرية أولًا بناء على مصالح الأمة وظروفها المتغيرة.
ليس النص مصدر قهر أو إجبار، النص نفسه صياغة نظرية لمصلحة عامة؛ فالمصلحة أساس التشريع كما قال الطوفي في الأندلس، والقصد منه المحافظة على أكبر قدر ممكن من العموم في تحقيق المصلحة بعيدًا عن الأهواء وجماعات الضغط والمنافع الشخصية والمؤقتة، ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن، وهو ما سماه الطهطاوي المنافع العمومية كأساس العمران، ولما كانت مصالح العرب واحدة والمخاطر عليهم واحدة فإن تحقيق المصالح العامة يقتضي عدم الإضرار بالغير، وإنكار الذات في سبيل المجموع، فلا ضرر ولا ضرار، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، يمكن تحقيق الوفاق العربي بناءً على تحقيق المصالح العربية ودرء الأخطار عن العرب وهي غاية عملية صرفة، لا شأن لها بالنظم السياسية الحاكمة، ولا بالخلاف بين الزعماء؛ فالزعماء زائلون والأوطان باقية، لا يكون الحوار حول شرعية النظم بل حول مصالح الشعوب؛ فالنظم زائلة والمصالح باقية فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
والاجتهاد مصدر من مصادر التشريع، أي القدرة على التعامل مع الوقائع الجديدة التي لم ترد فيها الأحكام، صحيح أنه الاجتهاد مع النص ولكن النصوص عزيزة؛ ومن ثم فالاجتهاد بلا حدود. الاجتهاد ضد القطعية والتعصب والتمسك بالرأي والتضحية بالواقع الجديد، الاجتهاد ضد الأحكام المسبقة والتحكم بالأهواء، وإبداع حلول جديدة تتجاوز الحلول النمطية القديمة، يمكن للاجتهاد أن يكون أحد المداخل، الوفاق العربي بإبداع صياغات جديدة للتعايش والتجاور وتبادل المصالح دون تدخل في الأنظمة السياسية ومحاولة تغييرها بالغزو الخارجي أو بتأييد المعارضة الداخلية أو الخارجية المهاجرة.
والاجتهاد فيما تعم به البلوى، فيما فيه نفع لكل فرد من أفراد الأمة، مثل إشباع الحاجات الأساسية لا خلاف عليه مثل الاعتماد على النفس في توفير الغذاء بتكامل مناطق المياه والأرض والأيدي العاملة ورءوس الأموال لتحرير الإرادة العربية من ارتهانها بالخبز والقمح والمعونات الغذائية، ولا خلاف على تحقيق أكبر قدر ممكن من الاتصالات السلكية واللاسلكية والطرق والقطارات السريعة والطائرات لتحقيق أكبر قدر ممكن من المنافع التجارية وحركة الأسواق، ولا خلاف في تبادل الكتب والصحف والمجلات وكل شيء مذاع على الهواء في القنوات الفضائية؛ فلم تعد هناك إمكانية تحجب الأفكار حتى ولو كانت معارضة للنظم الثقافية والاجتماعية والسياسية القائمة، ويقوم المثقفون القوميون بذلك قبل الزعماء، ففي فكر الأمة زعامتها، ومن تعدد وجهات نظر المثقفين تأتي وحدة المصلحة العامة.
أما الوافد الغربي الحديث فيمكن أن يكون مقومًا من مقومات الثقافة العربية في مثل التنوير، العقل والحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم والعلم، وهي قيم موروثة أيضًا بأسماء أخرى، مقاصد الشريعة الكلية، الضروريات الخمس: العقل والنفس والدين والعرض والمال في تأويل جديد لها، الحسن والقبح العقليان وخلق الأفعال عند المعتزلة، كما أن حقوق الإنسان ليست غريبة على الموروث الثقافي؛ فلقد كُرم بنو آدم في البر والبحر، وحمل الإنسان الأمانة بعد أن رفضتها السموات والأرض والجبال، والإمامة عقد وبيعة واختيار، والإمام نائب عن الأمة وليس عن الله، عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم وليست كهنوتًا أو حكمًا إلهيًّا، والشريعة وضعية كما قال الشاطبي في «الموافقات»، أي تقوم على المصالح العامة، والمجتمع مدني يقوم على القضاء المستقل، صحيح أن تطبيق مثل التنوير في الغرب مزدوج المعايير، داخل الغرب شيء وخارجه شيء آخر، ومع ذلك فقد استطاعت الثقافات غير الأوروبية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إكمال مثل التنوير ونقلها من حقوق الإنسان إلى حقوق الشعوب، إنما التحدي هو كيفية إيجاد هذه المثل التي تعبر عن حاجة فعلية في الواقع الاجتماعي والسياسي من داخل الموروث الثقافي القديم وليس من مصدر خارجي وافد حتى تضيق الهوية بين السلفيين والعلمانيين تحقيقًا للوفاق داخل كل قطر عربي قبل أن يتحقق بين الأقطار العربية.
إن التحدي الكبير أمام الوفاق العربي هو التحول من ثقافة الخلاف إلى ثقافة الاختلاف، من ثقافة الرأي الواحد إلى ثقافة الآراء المتعددة، ليست السياسة حكمًا بل ثقافة سياسية تتحكم في عقول الناس، حكام ومحكومين؛ ومن ثم يكون السؤال: كيف يتم الانتقال من المعوقات الثقافية للوفاق العربي إلى المكونات الثقافية للوفاق العربي؟ قد يتطلب هذا انتقالًا من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، إنهاء ألف عام من أحادية النظرة وإحياء أربعمائة عام سابقة عليها من التعدُّدية الفكرية والمذهبية والعقائدية والفقهية حتى تنظر الثقافة العربية إلى العالم بعينين متساويتين في القوة، وتسير على قدمين متساويتين في الطول وتتنفس برئتين متعادلتين في الاتساع، طالما أن الموروث الثقافي العربي يرتكن على الأحادية أكثر مما يرتكن على التعددية، طالما أنه أحادي النظرة دون تنوعها؛ سيظل الوفاق العربي صعب المنال، عن تحقيق التعادل والمساواة بين جانبي الموروث الثقافي، السلبي والإيجابي في الوعي القومي حتى لا يظل السلب هو الطاغي على الإيجاب كما هو الحال الآن، هو القادر على تحقيق الوفاق العربي على الأمد الطويل، ويصبح الإيجاب هو الأساس. الوعي الثقافي تراكم تاريخي، والوعي السياسي في الشعوب التراثية وعي ثقافي؛ ومن ثم كانت إعادة بناء الموروث الثقافي داخل الوعي التاريخي هي المدخل المستدام للوفاق العربي.