من قيام العباسيين إلى دخول ابن طولون
- (١)
نلاحظ أولًا أن العرب الذين وفدوا على مصر في العصر السابق قد استقروا بها وعاشوا فيها مع المصريين واختلطوا مع المصريين اختلاطًا أدَّى إلى نوع من المزج بين المصريين والعرب الوافدين، فنجد في مصر في العصر العباسي عنصرًا جديدًا من السكان؛ هم نتيجة اختلاط العرب بالمصريين أولًا، وزواج العرب من نساء مصريات ثانيًا، ودخول كثير من المصريين في الدين الإسلامي رغبة أو رهبة ثالثًا، حتى هؤلاء الذين احتفظوا بدينهم من المصريين تأثروا بالعرب كما تأثر العرب بهم، وكان نتيجة ذلك كله: أن انتشرت اللغة العربية في مصر انتشارًا عظيمًا حتى إذا كان القرن الرابع لم يجد البطريق سويرس بن المقفع من يعرف اللغة القبطية أو اليونانية، واضْطُر إلى أن يكتب كتابه «سير الآباء البطاركة» باللغة العربية، نتيجة ثانية: هي أننا نجد في العصر العباسي كثيرًا من العلماء المسلمين من أصل قبطي؛ أمثال ابن القطاس سعيد بن زياد، وكان من أهل الديانة والفضل، وكانت له حلقة في المسجد يلقي فيها دروس الفقه، وسعيد بن تليد كاتب القضاء في عهد لهيعة بن عيسى، ويحيى بن بكير الفقيه المؤرخ وأحد تلاميذ الليث بن سعد ومن أساتذة عبد الرحمن بن عبد الحكم، هؤلاء وغيرهم كانوا من أصل غير عربي ولكن حسُن بلاؤهم للعربية والإسلام.
ونتيجة ثالثة لهذا المزج: أن الآثار الأدبية التي تركها الشعراء والأدباء ظهر فيها روح الشعب المصري مثل روح الدعابة والفكاهة، مما يدل على أن أثر البيئة المصرية كان قويًّا شديدًا على الأدباء والشعراء في هذا العصر.
- (٢)
نلاحظ ثانيًا أننا لا نكاد نجد في هذا العصر العباسي هجرة قبائل أو بطون عربية إلى مصر كالهجرات التي كانت في العصور السابقة، والهجرة الوحيدة التي كانت في العصر العباسي هي تلك التي كانت سنة ٢٠٠ﻫ، وهي هجرة طائفة كبيرة من الأندلسيين إلى الإسكندرية وضواحيها، وسبب هذه الهجرة هو أن أهالي قرطبة ثاروا على الحكم بن هشام؛ فأمر الخليفة بتخريب قرطبة ثم نادى في الناس بالأمان على أن يهاجروا من المدينة، فرحل منهم خمسة عشر ألفًا إلى إفريقية، أقام منهم ثمانية آلاف في المغرب، وذهب الباقون إلى مصر، وقال دوزي: إن الذين رحلوا إلى مصر كانوا خمسة عشر ألفًا خلا النساء والأطفال، فلما وصلوا الإسكندرية اعترضهم أهلها ومنعوهم من دخول المدينة، فمكثوا في سفنهم حتى أُتِيحَت لهم الفرصة فغلبوا الوالي ودخلوا المدينة، وظلُّوا بها حتى قدم عبد الله بن طاهر حوالي سنة ٢١١، فلما رأى شرَّهم حاربهم ثم اتفق معهم على الجلاء عن الإسكندرية، فرحلوا عنها إلى جزيرة كريت، وظلوا يحكمونها حتى سنة ٣١٥ﻫ/٩٦١م إذ انتزعها منهم الإمبراطور أرمانوس.
هذه هي الهجرة الوحيدة التي ذكرها لنا المؤرخون، وقد كان لهؤلاء الأندلسيين تأثير كبير في الثورات التي حدثت في هذا السنوات القليلة التي مكثوها بالإسكندرية ولا سيما في ثورة الجروي التي سنتحدث عنها بعد ذلك، وفي هذه الثورات أنشد شعراء مصر أشعارًا كثيرة ذكروا فيها وقائعهم وحوادثهم.
- (٣)
ومن ناحية ثالثة: كانت مصر طوال العصر العباسي مِرْجلًا يغلي بالفتن والثوات، وكان الحكم في مصر مضطربًا اضطرابًا شديدًا، فالولاة كانوا يُعزَلون بعد عام أو بعد بضع عام، وجرى خلفاء العباسيين على سنة تغيير الولاة في مصر فلم يتمكن الولاة من إصلاح البلاد الداخلية، وانتهز بعض الولاة فرصة ولايته فارتشى في أحكامه وشدَّد الحكم على المصريين، فثار المصريون جميعًا سواء أكانوا من العرب أو من الأقباط، وكان لهذه الثورات أثر قوي في إيقاظ روح الشعر في مصر؛ فجرى الشعر على ألسن الشعراء متحدِّثين بما كان في البلاد من حوادث حتى إن أكثر ما حُفِظ لنا من شعر هذا العصر إنما كان يتحدث عن هذه الثورات.
- (٤)
نلاحظ بعد ذلك تطورًا عظيمًا في الدراسات التي كانت بمصر في العصر العباسي، فقد عرفنا أن أكثر الدراسات التي كانت في العصر الأموي كانت دراسات دينية من قراءات وتفسير ورواية الحديث أو دراسات تتصل بالدين كالتاريخ الذي كان يقصد منه:
أولًا: تفسير الآيات التاريخية في القرآن، ولم نعرف طوال العصر الأموي اهتمام المصريين بالعلوم العربية الخالصة؛ كرواية الشعر وعلوم اللغة والنحو إلى غير ذلك، ولكن في العصر العباسي نجد أكثر العلماء يهتمون بالعلوم العربية الخالصة اهتمامًا كبيرًا بجانب اهتمامهم بالعلوم الدينية؛ فالليث بن سعد فقيه مصر كان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الحديث والشعر، وابن الوزير التجيبي كان محدِّثًا فقيهًا وكان عالمًا بالشعر والأدب، وعبد الحميد بن الوليد المصري المُتوفَّى سنة ٢٢١ﻫ كان عالمًا بالأخبار والنحو، والشاعر المصري الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل الأكبر عُرِف عنه شدة اتصاله بالإمام الشافعي وكان أحد رواته، والشاعر سعيد بن عفير كان مؤرخًا ومحدِّثًا وشاعرًا وأديبًا وإمامًا في اللغة والنحو حتى قيل: إن مصر لم تُخْرِج أجمع مَن للعلوم منه، وكان الوالي عبد الله بن طاهر يقول عنه: «رأيت بمصر من عجائب الدنيا ثلاثة أشياء: النيل، والهرمين، وابن عفير.» ولما وفد على مصر عبد الملك بن هشام صاحب السيرة وكان إمامًا في اللغة والنحو اجتمع بالإمام الشافعي وتناشدا كثيرًا من أشعار العرب، وروى عنهما المصريون الشعر، ووفد أبو نواس على مصر فلما علم المصريون بوجوده هرعوا إليه واجتمعوا حوله فأملاهم أشعاره. من هذه الأمثلة نستطيع أن ندرك هذا التطور الذي حدث في الثقافة في مصر وكيف اهتم المصريون في هذا العصر بالدراسات الأدبية اهتمامًا كبيرًا كان له أثر واضح في رُقِي الحياة الأدبية في مصر.
وكما وفد الشعراء على أمراء مصر في العصر الأموي كذلك نجد كثيرًا من الشعراء العباسيين المعروفين يفدون على مصر؛ فأبو نواس وفد على الخصيب، ودعبل الخزاعي وإبراهيم بن العباس بن الأحنف وفدا على المطلب الخزاعي، والبطين الحمامي دخل مصر مع عبد الله بن طاهر، وقال ابن منظور: إن ديك الجن جاء مصر ووجد لأبي نواس أشعارًا تُروَى في مصر لا يعرفها أهل العراق، ووفد ابن المولى وربيعة الرقي على يزيد بن حاتم، وجاء أبو تمام إلى مصر وهو صغير وتلقَّى كثيرًا من الدراسات الأدبية فيها، وفي مصر أنشد الشعر بل ذهب بعض المؤرخين إلى أن أبا تمام أنشد أول شعره بمصر حتى ذهب الكندي وابن زولاق والسيوطي إلى أن أبا تمام مصري، وقالوا إنه شاعر مصر الأكبر.
من هذه العجالة نستطيع أن ندرك أن الحياة الأدبية في مصر في العصر العباسي كانت مزدهرة، وأن الدراسات الأدبية كانت منتشرة ومع ذلك كله لا نجد بين شعراء مصر شاعرًا بلغ إلى درجة فحول الشعراء الذين عرَفتْهم الأقطار الإسلامية الأخرى، وتعليل ذلك عندي أن الرواة ومؤرخي الآداب لم يهتموا بمصر فلم يحفظوا شعر المصريين؛ ولهذا السبب لم تصلنا قصائد كاملة من شعراء مصر في هذا العصر العباسي، وأخشى أن أقول إن المصريين تنقصهم العصبية، فقد رأيناهم لا يهتمون بإمام مصر الليث بن سعد وفضَّلوا مذهب مالك والشافعي وهما من الغرباء، فالغريب عند المصريين أكرم لديهم من إخوانهم، ومن ناحية أخرى من الطبيعي أن يتأخر الإنتاج الأدبي في مصر عن نظيره في العراق والشام، فمنذ الجاهلية كانت العراق والشام تعدان من بلاد العرب وما الغساسنة والمناذرة إلا من العرب، ومنذ الجاهلية كانت القبائل العربية تسكن بلاد الشام والعراق، أما مصر فلم تكن علاقتها بالعرب بهذه القوة، ولم تفد عليها قبائل عربية كثيرة إلا بعد الفتح، فضَعُف الإنتاج الأدبي بمصر بينما قوي الإنتاج الديني والتاريخي؛ لأن النبوغ في الثقافة الدينية أسهل من النبوغ في الأدب، ولأن الذين أسلموا من المصريين ليس من السهل عليهم أن ينبغوا في الأدب بينما من السهل أن ينبغوا في العلم، وأكثر من هذا أن التحمس الديني في هذا العصر كان أقوى من التحمس للأدب؛ لذلك كله لا نجد شاعرًا مصريًّا بلغ مرتبة الفحول.
ومهما يكن من شيء فإن الشعر الذي وصلنا في هذا العصر يعطينا صورة لِما كانت عليه الحالة في مصر السياسية والاجتماعية والأدبية، ثم تدلنا على أن الشعر المصري ابتدأ ينمو ويقوى ويتأثر بالبيئة المصرية الخالصة، ويُعبِّر عما كان بمصر من اتجاهات وخواطر مختلفة وألوان الثقافات المتعددة، وضروب الحركات السياسية وغير السياسية، وليس أدل على ذلك من هذه الأشعار التي قيلت في الاضطرابات العديدة التي كانت في مصر في ذلك العصر.
(١) أثر الفتن في الشعر
نستطيع أن نقسم الفتن التي كانت بمصر في هذا العصر إلى:
ثورات سياسية
إن صحَّ هذا التعبير، كان يقوم بها قبائل العرب ضد الولاة والأمراء؛ لجور حكَّامهم، وسوء سياستهم، من ذلك ما كان في ولاية موسى بن مصعب الخثعمي الذي ولي في أواخر سنة سبع وستين ومائة من الهجرة، فقد تشدَّد الوالي في جمع الخراج، وزاد على كل فدان ضعف ما كان أولًا، وجعل خراجًا على أهل الأسواق وعلى الدواب، وعاد إلى الرشوة في الأحكام، فأظهر الجند كراهته، ولم يستطع عماله أن يدخلوا الحوف وتحالف القيسية واليمنية على قتاله، واتفق أهل الحوف أيضًا مع جند الفسطاط على الثورة ضد هذا الوالي، فخرج موسى مع جنده لقتال الثائرين، فانهزم جند الفسطاط عنه وقُتِل الوالي سنة ثمانٍ وستين ومائة من الهجرة بعد عشرة أشهر من ولايته، هذا الحادث كان له أثر في الشعر؛ إذ أنشد الشعراء في ذلك مترنِّمين بانتصار أهل الحوف، من ذلك ما قاله سعيد بن عفير:
وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف من أداء الخراج سنة إحدى وتسعين ومائة من الهجرة، وخرج أبو الندى مولى «بلي» في نحو ألف رجل يقطع الطريق وأغار على بعض قرى الشام، وساعده في ذلك رجل من جذام يُقال له المنذر بن عابس وآخر يُدعَى سلام النوى، فكثر فسادهم، وأوقعوا الرعب في نفوس المصريين جميعًا، فبعث هرون الرشيد بقائده يحيى بن معاذ لقمع هذه الحركة ولإخضاع أهل الحوف، فتم ليحيى ذلك وقدم الفسطاط ومعه أبو الندى وابن عابس فمدح الشعراء القائد يحيى، فمن ذلك ما قاله أبو عثمان السكري:
وقال أيضًا:
وتمَّ أمر مصر إلى السري في رمضان سنة مائتين من الهجرة، فطلب الوالي إلى الجروي أن يذهب لتأديب لخم بالإسكندرية، وكاد الجروي يفتح حصنها فخشي السري أن يملكها الجروي، فأوعز إلى أحد رجاله أن يخالف الجروي، فاضْطُر الجروي إلى أن يرجع إلى تنيس سنة إحدى ومائتين وفسد ما بينه وبين السري، وفي ذلك قال سعيد بن عفير:
ثم ولي سليمان بن غالب مصر في ربيع الأول سنة إحدى ومائتين، فحاربه السري بن الحكم، ولكن هُزِم السري وأسر هو وابنه ميمون وسجنا في أخميم واستقام الأمر لسليمان فقال المُعلَّى الطائي في ذلك:
ولكن أعيد السري مرة أخرى للولاية، وهرب سليمان إلى الجروي، وانتقم السري من كل أعدائه، فأخذ يقتلهم ويصلبهم، حتى قامت فتنة إبراهيم بن المهدي ببغداد، واتصل إبراهيم بالجند في مصر وأمرهم بخلع المأمون، والوثوب بالسري، فلبَّى دعوته جمع من المصريين منهم الحارث بن زرعة بالفسطاط والجروي بالوجه البحري وسلامة الطحاوي بالصعيد وعبد العزيز بن عبد الرحمن الأزدي، فحاربوا السري، وملك الجروي الإسكندرية، وأخرج الطحاوي عمال السري من الصعيد، وسار الجروي حتى التقى بجيش السري بشطنوف فهُزم السري سنة ثلاث ومائتين وقُتل ابنه ميمون بن السري، فرثاه مُعلَّى الطائي بقوله:
وقال أبو نجاد الحارثي في ذكر هذه الحروب:
وأشرف الجروي على الفسطاط وأراد أن يحرقها فخرج إليه الفقهاء وسألوه الكف عن ذلك، فانصرف عنها، ثم علم أن أهل الإسكندرية أخرجوا عامله، ودعوا للسري، فسار إليهم في رمضان سنة ثلاث ومائتين، وثار القبط بسخا فهزمهم الجروي فمدحه المُعلَّى الطائي يخاطب الخليفة المأمون:
وسار الجروي إلى الإسكندرية، فقُتل في سنة خمس ومائتين، واستطاع السري أن يهزم سلامة الطحاوي الثائر بالصعيد، وفي ذلك قال المُعلَّى:
وتُوفِّي السري بالفسطاط بعد قتل الجروي بثلاثة أشهر، وولي بعده ابنه أبو النصر بن السري، وكان علي بن عبد العزيز الجروي قد خلف أباه، فأرسل ابن السري جيشًا لمحاربة ابن الجروي ولكن هُزِم هذا الجيش، واكتفى ابن الجروي بذلك فلم يتبع الجيش المنهزم، وحنق بعض المصريين عليه لذلك، وظهر هذا في قول سعيد بن عفير يخاطب ابن الجروي:
وفي سنة سبع ومائتين أرسل المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني واليًا على مصر فامتنع ابن السري من تسليمها وحاربه، فانضم ابن الجروي إلى جيش خالد، واستمر القتال مدة طويلة، فملَّ الجيشان الحرب، وحدث أن ارتفع النيل في هذا الوقت فسار خالد إلى الحوف. فلما رأى ابن الجروي ذلك أراد أن يخرج خالد بن يزيد عن ملكه، فمكر به حتى أنزله «نهيا» وهناك تركه ابن الجروي في جهد وصفه المُعلَّى بقوله:
فلما انكشف النيل سار ابن السري إلى خالد وحاربه فأسر خالد، وفي ذلك قال المُعلَّى:
ولما رأى المأمون هذه الثورات والفتن قسم مصر بين ابن السري وابن الجروي؛ فولَّي كل واحد منهما ما في يديه، فأقبل ابن الجروي على جمع الخراج فقاومه قوم من أهل الحوف وكتبوا إلى ابن السري يستعدونه على ابن الجروي، فتقابل الجيشان في «بلقين» واستمر القتال طويلًا حتى اضْطُر ابن الجروي إلى أن يفر إلى دمياط، وفي ذلك قال المُعلَّى:
وسار ابن السري إلى تنيس ودمياط واضطر ابن الجروي إلى أن يهرب إلى الفرما والعريش فخاطبه سعيد بن عفير بقوله:
فلما سمع ذلك ابن جروي أغار على الفرما سنة تسع ومائتين وهرب أصحاب ابن السري من تنيس ودمياط، وسار ابن الجروي حتى قابل جيش ابن السري بشطنوف فهُزِم ابن الجروي ولحق بالعريش فمدح المُعلَّى الطائي ابن السري بقوله:
وعاد ابن الجروي مرة أخرى سنة عشر ومائتين فملك تنيس ودمياط وهزم جيش ابن السري، ولم تهدأ هذه الفتن حتى دخل عبد الله بن طاهر مصر سنة إحدى عشرة ومائتين وأخذها من ابن السري، كما خضع له ابن الجروي.
•••
وقامت في مصر فتن أخرى من أجل السلطان بين الأمويين والعباسيين، ويحدثنا ياقوت أنه في أيام المهدي خرج دحية الأموي بمصر ودعا لنفسه واستمر في دعوته إلى أيام الهادي، وكانت الدولة ترسل إليه الجيوش فلم تستطع قهره وكانت نعم أم ولد دحية تقاتل في طليعة الجيش لا سيما في واقعة بويط، وفي هذا قال شاعرهم:
فهذه أشعار قيلت في حروب بين جيش الثائرين وجيوش الخليفة، ولو لم تحفظ هذه الأشعار ما كنا نعلم شيئًا عن هذه الوقائع فإن كتب التاريخ التي وصلتنا لم تذكر تفاصيل هذه الحروب بل أغفلتها ولكن الشعراء يفخرون دائمًا بما يحرزه أهلهم من نصر فيسجِّلون الوقائع في أشعارهم.
ونلاحظ أن الشاعر استعمل في الأبيات السابقة كلمة أيام التي كان يستعملها العرب منذ الجاهلية.
من ذلك كله نستطيع أن نقول إن الحوادث السياسية المصرية، والحروب الداخلية التي كانت في هذا العصر؛ قد أثرت في الأدب أثرًا كبيرًا، فقد اضْطُر الشعراء إلى أن يسجلوا هذه الحروب، وأن يدافعوا عن المتحاربين، ولكن أكثر هذا الشعر فُقِد ولو قُدِّر لهذا الشعر البقاء لكان أصدق مرآة لهذه الحوادث الكثيرة المضطربة، ولكن الذي وصلنا منه قدر يسير، يعطينا صورة مصغرة مشوَّهة لهذه الحوادث.
فتنة العصبية العربية
ومن الطبيعي أن نجد شعراء آخرين دافعوا عن القاضي العمري في هذه القضية، فمن ذلك قول عبد الله بن بجيرة من ولد معاوية بن حديج يرد على الشاعر يحيى الخولاني:
فأجابه يحيى:
ومن العصبية القبلية أيضًا فخر الحضارمة إذا ولي أحدهم، ففي سنة تسع وتسعين ومائة ولي القضاء لهيعة بن عيسى الحضرمي، فقال شاعرهم:
وقال يزيد بن مقسم الصدفي:
فتن بين العرب والمصريين
ولون آخر من ألوان العصبية العربية هو سمو العرب بأنفسهم وتعاليهم على غيرهم من الشعوب، حتى على من أسلم من هذه الشعوب، فقد كوَّن العرب في مصر طبقة أرستقراطية — إن صح التعبير — لم تقبل أن يسمو إليها المصريون؛ ولذا كانت العلاقات بين العرب والمصريين سيئة في العصر العباسي وقام القبط بثورات عنيفة؛ ابتغاء طلب المساواة بالعرب، ولكن هؤلاء استطاعوا أن يخمدوا الثورات المتوالية، ونلمح من الأشعار التي وصلتنا عن هذه الاضطرابات كيف كان العرب يترفَّعون على المصريين، حتى اضطر من أسلم منهم إلى أن يتخذ لنفسه نسبًا عربيًّا حتى يتساوى بالعرب، ولكن عرب مصر رفضوا أن ينتسب غير عربي إليهم، ولعل قضية أهل الحرس تبين علاقة العرب بالمصريين؛ ذلك أن جماعة من القبط أسلموا وعُرِفوا بأهل الحرس، تحرش العرب بهؤلاء القوم وآذوهم فجمع أهل الحرس من بينهم نقودًا دفعوها إلى القاضي العمري ليثبت لهم نسبًا عربيًّا، وخرج بعضهم إلى الرشيد ببغداد يدَّعون له نسبًا، كما أتوا بجمع من أعراب الحوف الشرقي وبعض أعراب الشام ورشوهم بالمال فشهدوا أمام القاضي أن أهل الحرس من العرب وأن نسبتهم إلى بني حوتكة (من قضاعة) فقبل القاضي شهادتهم إلا شهادة حُوَيِّ بن حُوَيِّ بن معاذ العذري، وسجل لهم نسبًا بذلك؛ فثار عرب مصر، وقام الشعراء يهجون القاضي وأهل الحرس، من ذلك قول يحيى الخولاني في هجاء حُوَيٍّ:
وقول يحيى الخولاني أيضًا:
وقال مُعلَّى بن المُعلَّى الطائي في هجاء القاضي العمري:
ونلاحظ أن الشاعر هنا كنَّى القاضي بأبي الندى، وهي كنية اللص الذي ظهر سنة إحدى وتسعين ومائة، وثم تراه قد تهكَّم بالقاضي؛ إذ دعاه أن يزوج أهل الحرس من بناته، وهو حكم وضعي سار عليه المسلمون حتى أصبح من الأحكام الفقهية؛ ذلك أن المولى لا يتزوج عربية، وبعد أن عُزِل القاضي العمري أرسل عرب مصر وفدًا إلى الخليفة الأمين فذكروا له ما فعل العمري بأهل الحرس فكتب الأمين إلى القاضي البكري يأمره أن لا يمنح أحدًا من غير العرب اللحاق بالعرب، وأن يردَّ أهل الحرس إلى ما كانوا عليه من أنسابهم، فأمر البكري أهل الحرس بإقامة البيِّنة، وجمع بعض أهل القناعة والعدالة من مصر فشهدوا أن أهل الحرس من القبط الذين أسلموا، فردَّهم القاضي إلى أصلهم ومزق سجلهم، ففرح عرب مصر بذلك، وقال مُعلَّى الطائي:
وقال أبو رجب العلاء بن عاصم الخولاني:
وقال يحيى الخولاني:
كانت روح العصبية العربية ظاهرة واضحة أيام الأمويين والعباسيين؛ مما جعل القبط يثورون، وكان أشد هذه الثورات أيام المأمون؛ إذ اضطر الخليفة نفسه إلى أن يحضر إلى مصر، وأن يقمع هذه الفتن بشدة وحزم فلم يقم بعدها للمصريين قائمة، ثم إن العرب وجدوا أنفسهم في عهد المعتصم محرومين مما كان لهم من مزايا؛ فخمدت روح العصبية وصار العرب كالمصريين سواء بسواء، وبالرغم من أن بعض العلماء عطفوا على من أسلم من المصريين وعاملوهم كالعرب فولَّوا بعضهم الأعمال الهامة في الدولة، ولكن هذا لم يرض جمهور العرب فسخطوا، من ذلك ما رُوي أن بعض من أسلم من القبط وجد عطفًا من القاضي لهيعة بن عيسى، الذي ولي قضاء مصر مرتين في عهد المأمون، فقد فسَّح هذا القاضي مجلسه للمصريين، وألان جانبه لهم وألحق طائفة منهم في أعمال الدولة، فأسند كتابة القضاء إلى سعيد بن تليد — وكانت كتابة القضاء في ذلك العهد من أسمى ما يصبو إليه الفقهاء — كما اتخذ شهودًا جعلهم بطانته، منهم معاوية الأسواني وسليمان بن برد وغيرهما في نحو ثلاثين رجلًا، فتقوَّل العرب في القاضي مع علمهم بعلمه ودينه وسمو منزلته، وقد ظهر أقوال المصريين في أشعارهم من ذلك ما قاله الشاعر أبو شبيب أنيس بن دارم:
ومن ذلك أيضًا ما روي في قضية «ابن القطاس»، فقد كان سعيد بن زياد الملقَّب بابن القطاس ممن عُرِف بين المصريين بالعلم والفضل وكان أحد الشهود الذين قبل بعض القضاة أمثال لهيعة بن عيسى وابن المنكدر وغيرهما شهادته، كما كان أحد الذين يتولون التدريس في المسجد، فلما ولي محمد بن أبي الليث قضاء مصر رماه ابن القطاس بالبدعة، ودعا عليه، فنُقِل ذلك إلى القاضي، وأتى إلى القاضي من ذكر له أن ابن القطاس مولًى لم يجر عليه عتق، وشهد آخرون بأنه مولى رجل من الأزد يُقال له ابن الأبرش، وادَّعى ابن الأبرش رقبته، فأمر القاضي بحبس ابن القطاس خمسة أيام ونُودِي عليه في سوق الرقيق فاشتراه القاضي بدينار وأعتقه، وفي ذلك قال الجمل في مدح القاضي:
ومما لا شك فيه أن المصريين أنشدوا شعرًا كثيرًا جدًّا في علاقة عرب مصر بالمصريين، ولكن هذا الشعر فُقِد ولم يبق منه إلا قدر يسير قد ذكرنا أكثره.
(٢) أثر محنة خلق القرآن
أصاب مصر من فتنة خلق القرآن ما أصاب الأقطار الإسلامية الأخرى، فقد روى الكندي أن المأمون طلب إلى أخيه أبي إسحاق المعتصم أن يكتب إلى نصر بن عبد الله كيدر نائبه على مصر أن يمتحن القضاة والشهود، فمن أقرَّ منهم أن القرآن مخلوق وكان عدلًا قُبِلت شهادته وأقر بموضعه، وكان القاضي بمصر إذ ذاك هرون بن عبد الله، فامْتُحن وأقر بأن القرآن مخلوق، وتبعه عامة الشهود وبعض الفقهاء وهرب منهم من لم يوافق، وورد كتاب المعتصم على القاضي هرون بحمل الفقهاء في المحنة، فاستعفى هرون من ذلك، فكتب ابن أبي دؤاد إلى محمد بن أبي الليث بالقيام في المحنة، وذلك قبل ولايته القضاء، فحمل البويطي وخشنام المحدث في جمع كثير غيرهما، ولما ولي الواثق سنة سبع وعشرين ومائتين أمر أن يأخذ الناس بالمحنة وورد كتابه علي ابن أبي الليث الذي ولي القضاء سنة ست وعشرين ومائتين، فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث ولا معلم حتى أخذ بالمحنة وهرب كثير من الناس ومُلِئت السجون بمن أنكر المحنة، كان «مطر» غلام ابن أبي الليث يأخذ قلانس العلماء أمثال هرون بن سعيد الأيلي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيرهما ويسوقهم بعمائمهم، وفي هذا كله أنشد شعراء مصر، فمن ذلك ما قاله الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل الأكبر، وكان منقطعًا إلى مدح القاضي ابن أبي الليث في ذلك العصر:
وكان أحمد بن صالح قد هرب إلى اليمن في هذه المحنة، ولزم يوسف بن أبي طيبة منزله ولم يظهر، وحاول محمد بن سالم القطان الهرب ولكن ظفر به فحُمِل إلى العراق، وهرب ذو النون المصري ثم رأى أن يرجع فأقر بالمحنة، وإلى هذا كله أشار الجمل بقوله:
وأخذ القاضي في اضطهاد الفقهاء؛ من ذلك أن الفقهاء وشيوخ مصر إذ ذاك كانوا يرتدون القلانس الطوال ويبالغون فيها، فأمرهم ابن أبي الليث بتركها، ومنعهم من لباسها وأمرهم أن يتشبهوا بزي القاضي فلم يأبهوا بأمره، فانتظر حتى أتى إليه عدد منهم وهو في مجلس حكمه فأمر غلاميه عبد الغني ومطرًا أن يضربا رءوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم على الأرض، وأخذها الصبيان والرعاع يلعبون بها، وفي ذلك قال الجمل:
(٣) بعض أغراض الشعر
لم تكن هذه كل أغراض الشعر المصري في هذا العصر بل نجد بجانب ذلك شعرًا قيل في المدح والهجاء والرثاء؛ أي في الأغراض التي لا تتصل إلا بالشاعر وعواطفه وميوله، وليس بعجيب أن نرى هذه الأغراض في الشعر المصري، فكل الشعر العربي في جميع عصوره لم يخل منها، ففي الجاهلية نرى الشعراء يمدحون ولكن مدحهم كان أقرب إلى الواقع، وأبعد عن المبالغة، ثم أخذ المدح يزداد مبالغة بازدياد الحضارة والركون إلى الرخاء واضطر الشعراء إلى التزلف والتملق حتى ينالوا حظوة عند الأمراء والخلفاء، وفي الشعر المصري نجد بعض الشعراء يقربون من شعراء الجاهليين في صدق مدحهم ولا يسرفون في وصف الممدوح بما ليس فيه، فشِعْر سعيد بن عفير كان قريب الشبه من شعر زهير بن أبي سلمى الجاهلي كلاهما لم يمدح بقصد النوال، وكلاهما كان يمدح خصال الرجل وخلقه أكثر من أي شيء آخر ولا لشيء، ففي مدح سعيد لهبيرة بن هشام الذي عُذِّب وكاد يقتل لأنه أجار إبراهيم الطائي الثائر على الوالي المطلب الخزاعي، ولم يقبل هبيرة أن يسلِّم إبراهيم للوالي، نرى الشاعر قد شبه هبيرة بالسموأل بن عاديا في الوفاء، ومدحه بجلده على تحمل العذاب في سبيل ذلك الوفاء:
فسعيد هنا يمدح رجلًا كريمًا وفيًّا، ليس له سلطان ولا إمرة، ولم يطمع فيما كانت تصبو إليه نفوس الشعراء الآخرين، ونجد من ناحية أخرى بين الشعراء المصريين من تكسَّب بشعره كالشاعر المُعلَّى الطائي الذي اتصل بكثير من الولاة والأمراء ومدحهم، بل كان لا يتحرج من أن يمدح أحدهم ثم يمدح عدوَّه إذا صار الأمر بيد ذلك العدو، من ذلك ما قيل: إنه اتصل بالسري وابنه ومدحهما، وكانا ثائرين على الولاة، ثم وقف بين يدي عبد الله بن طاهر تحت المنبر وقال له: أصلح الله الأمير، أنا المُعلَّى الطائي، وقد بلغ مني من جفاء وغلظ فلا يغلظن عليَّ قلبك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول:
فسُرَّ الوالي وأجزل عطاءه، فالشاعر مدحه لجوده وطمعه في صلاته، ولعل أكثر شعراء هذا العصر تكسُّبًا بالشعر هو الحسين بن عبد السلام الشهير «بالجمل الأكبر» إذ اتصل بالقاضي محمد بن أبي الليث ومدحه، ولم يأبه لصوت المصريين الذين سخطوا على القاضي لسوء معاملته — وقدَّمنا مثلًا من ذلك كله في حديثنا عن محنة خلق القرآن — ثم نراه يتصل بأحمد بن المدبر والي خراج مصر، ويطلب منه العطاء كما كان يفعل مروان بن أبي حفصة مع معن بن زائدة الشيباني، فقد قيل: إن ابن المدبر كان من عادته أنه إذا مدحه شاعر ولم يرض بشعره، أمر من يحمله إلى المسجد ويأمره أن يصلي عددًا معلومًا يفرضه عليه، فعرف الشعراء ذلك فدخل عليه الجمل الأكبر وأنشده:
وظل هذا الشاعر يتكسب بالمدح حتى ولي أحمد بن طولون فآثره بمدحه وأخذ عطاءه، فاعتبره كثير من المؤرخين شاعر ابن طولون، ولكن المنية عاجلت الشاعر في أوائل حكم الطولونيين؛ أي في سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين.
لا نكاد نجد بين أيدينا من الشعر الذي بقي لنا من هذا العصر معاني جديدة في المدح، بل اتخذ شعراء مصر نفس المعاني التي اتخذها غيرهم من شعراء العرب من وصف الممدوح بالجود والكرم والشجاعة، ولا نكاد نجد إلا أثرًا قليلًا لمصر في هذا الشعر الذي رأيناه في شعر المُعلَّى من ذكر النيل، ولعل روح الفكاهة المصرية قد أثَّرت أيضًا في شعر الشعراء كالذي نراه في الأبيات التي رويناها للجمل في مدح ابن المدبر.
كذلك نستطيع أن نقول عن الهجاء نقد، رأينا كيف كان الشعراء يهجون الولاء والقضاة في مصر، ويحصون مساوئهم، وأكثر شعراء هذا العصر هجاءً هو الشاعر يحيى الخولاني الذي وقف بالمرصاد للقاضي العمري فرماه بالرشوة، وكنَّاه أبا الندى، وهي كنية مصرية خالصة لم يعرفها شعراء العرب، ولم يذكرها إلا المصريون، وهجاه أيضًا بأنه كان يحب سماع الغناء وفي ذلك يقول الشاعر يحيى:
كذلك الشاعر يحيى بن الفضيل الذي هجا الوالي عنبسة بن إسحاق الضبي، ورماه بدين الخوارج وبالجنون؛ لأن الوالي كان يذهب إلى المسجد وهو ينادي في شهر رمضان بالسحور، فلم يعجب الشاعر ذلك وأرسل إلى الخليفة يقول:
والشاعر إسحاق بن معاذ بن مجاهد هجا القاضي المفضل بن فضالة فقال:
وقول سعيد بن عفير في هجاء الوالي الحسين بن جميل سنة تسعين ومائة:
ولم يصلنا شيء من الهجاء بين الشعراء كالذي نراه بين شعراء الأقطار الإسلامية الأخرى، والهجاء الذي وصلنا يكاد يكون ذمًّا للمهجوِّ دون تعريض بأسرته، فلم يسرفوا في الهجاء كما لم يسرفوا في المدح.
أما الرثاء، فالمعروف أن من عادة المصريين منذ القدم الإسراف في البكاء والنحيب والعويل حزنًا لوفاة قريب أو صديق، وشعراء العرب كانوا يسرفون في الرثاء ويبكون، ولكن ما وصلنا من الشعر المصري في الرثاء يختلف تمام الاختلاف عن عادة المصريين وشعراء العرب، فقد قصر شعراء مصر رثاءهم على سرد مناقب الميت، وكيف لاقى الموت بشجاعة وجلد، ويتلقى الشاعر نعي الميت بصبر، عالمًا أن هذا مصير كل حي، كقول الشاعر سعيد بن عفير:
وقول سعيد أيضًا في رثاء هبيرة بن هشام بن حديج الذي قُتل في حروبه مع السري سنة مائتين:
أخذ الشاعر يناجي الموت ويعاتبه كأنه شخص ماثل أمام عينيه، ويتحدث إليه كما يتحدث إلى شخصٍ يعرفه، فهو يلوم الموت؛ لأنه اقتنص جاريته التي عبَّر عنها بشق نفسه، فهو لا يستطيع أن يهنأ بالنصف فقط، وهو يلوم الموت ويستعطفه استعطافًا أملاه عليه حزنه لفقدها وحبه لها، فقال إن الموت لم يرحم شبابها، ثم يأخذ في وصف عظامها اللينة، وشعرها وعينيها ومِشيتها، ويترحم على ذلك كله وأخيرًا يعاتب الموت أخرى؛ لأنه ترك حبيبته في قبرٍ تلعب الريح بترابه، وتمتد إليه يد البلى، وأن أحدًا لا يستطيع زيارة هذا القبر؛ لأن في زيارته الهلاك ثم يناشد القبر أن يُبْقِي على محاسنها، ويحفظ برَّها وظرفها. فالشاعر في هذه القصيدة حزين حقًّا، متألم أشد الألم لفراق جاريته، ولكنه حِزْن هادئ — إن صحَّ هذا التعبير — لم يرسل الدمع، ولم ينتحب، وهو في هذا الحزن يَذْكُر أنه سيلتقي بها يوم القيامة:
فأنت ترى الشاعر عميقًا في حزنه، مستسلمًا لما رُزِئ به، ولكنه لم يذكر بكاءه كغيره من الشعراء؛ إذ لا نكاد نجد قصيدة في الرثاء بدون دمع منهمر، فالبكاء عند الشعراء مظهر من مظاهر الحزن، وهو أيضًا يدل على بساطة في الحياة وسذاجة في الشعور؛ فكما أن الطفل الصغير يبكي إذا تألم، والمرأة تبكي إذا أغضبها شيء، كذلك شعراء العرب كانوا يبكون إذا رثوا، ولا أدري لمَ لم يتبع شعراء مصر في هذا العصر سنة شعراء العرب أو طريقة المصريين في المآتم، ومن يدري لعل للمصريين في الرثاء أشعارًا كثيرة فيها هذا اللون من البكاء والنحيب ولكن الشعر فُقِد.
نستطيع أن ندرك كيف أخذ المصريون على القاضي كَلَفه بالغناء وإعجابه بسماع العود والمزمار، وشرب الخمر، في حين أن خلفاء العباسيين في بغداد كانوا يلهون ويمجنون، ويظهرون اللهو والمجون ويشاركهم في هذه الحياة الشعراء والندماء.
(٤) الشعراء الوافدون
لم ينقطع في هذا العصر أيضًا وفود الشعراء على مصر لمدح الولاة والأمراء، بل كان بين الولاة أنفسهم من أنشد الشعر، كالوالي الفضل بن صالح المُتوفَّى سنة ١٧٢ﻫ، فقد كان شاعرًا فصيحًا أديبًا، ومن شعره:
فبلغ هذا القول يزيد، فأرسل في استدعاء الشاعر ورده إلى مصر، فلما دخل عليه قال له: أأنت القائل: «أراني، ولا كفران؟» قال: نعم. قال: هل قلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله، لترجعن بخفي حنين مملوءة مالًا. فأمر بخلع خفيه، وأن تملأ له مالًا، ثم قال له: أصلح ما أفسدت من قولك. فمما قاله الشاعر في مدح يزيد لمَّا عُزِل عن مصر:
ويذكر السمعاني أن المسهر التميمي الشاعر وفد أيضًا على ابن حاتم ومدحه وأجزل الأمير عطاءه، كما قصده الشاعر محمد بن عبد الله بن مسلم المعروف بابن المولى ومدحه بقصيدة طويلة منها:
ومن قوله أيضًا في مدح يزيد:
أبو نواس في مصر
وفي هذا العصر وفد أبو نواس على مصر، ولمكانة أبي نواس في الشعر، ولكثرة ما حُفِظ لنا من شعره في مصر رأينا أن نطيل بعض الشيء في حديثنا عن وفوده على مصر.
تكاد تجمع الروايات على أن أول قصيدة أنشدها أبو نواس في مصر هي قصيدته الرائية:
وفيها يقول:
وهو في هذه القصيدة يصف رحلته من العراق، ويذكر المدن التي مرَّ بها، ثم يحدثنا عن طمعه في نوال الخصيب، بل هو في كل شعره الذي أنشده في مدح الخصيب كان يتحدث دائمًا عن أمله في العطاء الجزيل، ويمني نفسه بالمال الكثير:
وقوله أيضًا:
وفي قصيدة أخرى قال:
فلولا هذا الطمع في المال ما أتى أبو نواس من بغداد إلى مصر، وقد ولد الأمل في نفسه ثقة بأن الخصيب سيغدق عليه العطاء، فإذا الشاعر صادق في مدحه للخصيب مغتبط بحضوره إلى مصر، عظيم الأمل في الثروة، والخصيب كان يعطف على الشاعر ويعطيه، حتى قال ابن منظور: إن الخصيب أعطاه أول يوم ألف دينار، وأعطاه مثلها ثاني يوم، وأعطاه أخرى ثالث يوم، وقرَّبه الخصيب إليه ونادمه.
وهذا المدح الذي أنشده أبو نواس للخصيب يشبه مدح المتنبي لكافور الإخشيدي، فكلاهما وفد على مصر بسبب النوال والغنى، وإن كان المتنبي قد طمع أكثر مما طمع فيه أبو نواس، وكانت نهاية أيام الشاعرين في مصر تكاد تكون واحدة، إذا اضْطُر أبو نواس أخيرًا إلى أن يهجو الخصيب، وأن يرميه بالبخل، وقيل إن سبب هذا الهجاء هو أن أبا نواس كان يكره شراب مصر، وكان الخصيب يخص نفسه بشراب يُحمَل إليه؛ فغضب أبو نواس وهجاه بقوله:
وهجاه مرة أخرى بقوله:
وقال مرة أخرى:
وهكذا انتقل أبو نواس من مدح الخصيب إلى هجائه، ويغلب على ظني أن الخصيب لم يف بوعده لأبي نواس، أو أن أبا نواس كان يطمع في أضعاف ما ناله من الخصيب، كما كان الحال يبن كافور والمتنبي بعد ذلك بقرن ونصف تقريبًا.
ونجد في ديوان أبي نواس بعض قصائد في هجاء هاشم بن حديج الكندي، وفي كتاب أخبار أبي نواس عدة أبيات في هجاء معاوية بن حديج الفيلسوف، مما يدل على أن أبا نواس كان في صلة ببني حديج الذين كان لهم شأن كبير في تاريخ مصر الإسلامية، ومؤسس هذه الأسرة في مصر هو معاوية بن حديج التجيبي الكندي، وفد على مصر في جيش الفتح، وكان رسول عمرو بن العاص إلى الخليفة يبشره بفتح الإسكندرية، وكان رابع أربعة عينهم عمرو على خطط الفسطاط، وبعد مقتل الخليفة الثالث كان ابن حديج زعيم العثمانية بمصر؛ إذ بايعه المصريون على الطلب بدم الخليفة المقتول، فقام محمد بن أبي حذيفة ولكن ابن حديج اضْطُر إلى أن يهرب إلى دمشق، ثم عاد إلى مصر لانتزاعها من أيدي العلويين، وهو الذي قتل محمد بن أبي بكر وألقاه في جيفة حمار وأحرقه. كان هذا الرجل رأس أسرة بني حديج الذين أصبح منهم بعض الأمراء والقضاة كعبد الرحمن بن معاوية بن حديج الذي خرج ببيعة أهل مصر للوليد بن عبد الملك الأموي وعبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية الذي ولي مصر من قبل أبي جعفر المنصور سنة ١٥٢، وفي سنة ١٩٠ — وهي السنة التي فيها كان أبو نواس في مصر كما رجحت — صرف عبد الله بن محمد العباسي عن ولاية مصر، فخرج واستخلف عليها هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن، وهو الذي هجاه أبو نواس.
أما سبب هذا الهجاء فقد ذكر جامع ديوان أبي نواس أن الشاعر مدح هاشمًا فلم يعطه شيئًا فهجاه، ونقل عن كتاب الروضة للمبرد أن هاشمًا أراد أن يستبقي أبا نواس عنده في مصر فرفض هذا البقاء وخرج من مصر يهجو هاشمًا ويهجو المصريين:
ونراه في هذا الهجاء يعيِّر بني حديج بقتل محمد بن أبي بكر الصديق:
وقوله:
ولكن يُخيَّل إلي أن هناك سببًا آخر لهجائه بني حديج يُضاف إلى ما يذكره جامع ديوان أبي نواس، فقد كانت المنافسة التي بين أحمد بن حوي العذري وهاشم بن حديج شديدة جدًّا، وتجلت هذه المنافسة في قضية أهل الحرس التي تحدثنا عنها، وكان أبو نواس شديد الصلة بابن حوي حتى إن الشاعر هجا كل المصريين إلا ابن حوي:
وفي قصيدته السينية التي هجا بها هاشم بن حديج قال:
ومع ذلك كله فقد عاد أبو نواس إلى نفسه، وذكر نسبه في اليمنية، وأن اليمنية تجمع بينه وبين هاشم بن حديج، فعاتب نفسه واعتذر إلى هاشم عن هذا الهجاء:
أما صلة أبي نواس بشعراء مصر، فحدثنا السيوطي أن أدباء مصر وشعراءها تسابقوا لمصاحبة أبي نواس، وكتابة شعره، وكان بينهم رجل يُعرَف بالحسن بن عمر الأجهري، كان شاعرًا ضعيف الشأن فأراد أن يُعْلِي شأنه، فهجا أبا نواس بقوله:
وكان هذا الشاعر من أوحش الناس صورة، فنظر إليه النواسي وقال: بماذا أهجوك؟ وبأي شيء أصفك؟ وقد سبقني الله تعالى إلى توحيش منظرك، وتقبيح مخبرك، وهل أكون إن قلت شيئًا إلا سارقًا من ربي، ومتكلِّفًا ما قد كفاني. فقال له بعض من معه من المصريين: اهجه على كل حال، لا يقول هذا إلا إنه أفحمك. فقال النواسي:
وحدثنا صاحب أخبار أبي نواس قصة دعابة أبي نواس ولهوه مع الفتيان الثلاثة، وهذا الشعر الذي أنشده في أصحابه هؤلاء، كل هذا يدلنا على أن أبا نواس اشترك مع الشعب المصري في لهوه ومجونه.
لأبي نواس أشعار كثيرة قيلت في مصر ولكنها لم تصل إلينا، فيقول جامع شعره: إن لأبي نواس بمصر قصائد لا يعرفها أهل العراق، ويروي ديك الجن وقد دخل مصر بعد أن تركها أبو نواس: أنه وجد للنواسي أشعارًا كثيرة منها:
وروى حمزة الأصفهاني أنه وجد رسالة في شعر أبي نواس وقد سقط منها الشعر الذي قاله بالشام ومصر، مع أن المصريين يروون للنواسي أشعارًا كثيرة لم تقع إلى أهل العراق، قال: وقدم علينا رجل من حمص حافظ لشعر أبي نواس وزعم أن أباه كان قد لقي أبا نواس بحمص فكتب عنه قصائد له أنشدها في مصر.
وفي كتاب أخبار الحسن بن هانئ لابن منظور نجد روايات كثيرة تدلنا على أن أبا نواس كان صديقًا لأحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، ولكني أعتقد أن أحمد بن يوسف هذا لم يقابل أبا نواس؛ لأن ابن الداية تُوفِّي بمصر بعد وفاة أبي نواس بنحو قرن؛ أي بعد انتهاء الدولة الطولونية. فقد وهم إذن ابن منظور حين روى عن ابن الداية أنه كان صديقًا لأبي نواس، وربما كان أحمد بن يوسف كاتب العباسيين المعروف هو صاحب أبي نواس، فوهم ابن منظور وظنه ابن الداية؛ لتشابه اسميهما.
خرج أبو نواس من مصر بعد أن مكث فيها سنة كما ذكر صاحب أخباره، وقد هجا مصر والمصريين بالأبيات التي ذكرتها سابقًا، ثم نراه يهجو النيل أيضًا:
وفي شعر أبي نواس في مصر، نجد أثر مصر واضحًا قويًّا، فمثلًا هو يذكر دائمًا قصة «موسى وفرعون» التي كانت في مصر، فنراه قد شبه شعره بعصا موسى تلقف ما يقول غيره من الشعراء. فقد قيل: إن أبا نواس لما دخل لأول مرة عند الخصيب رأى جماعة من الشعراء أسن منه، فطلب من الخصيب أن ينشدوا قبله، فلما أنشدوا تبسَّم أبو نواس وقال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصى موسى تلقف ما يأفكون، ثم أنشده قصيدته الرائية، وفيها يقول:
ومدح الخصيب مرة أخرى بقوله:
وحذر المصريين من الاستمرار في الفتنة والثورة بقوله:
ولا أكاد أعرف لأبي نواس شعرًا في هذا المعنى أنشده في غير مصر، مما يدل على أن هذا المعنى من أثر مصر في شعر أبي نواس، ثم ذكر النيل مرارًا وما به من التماسيح، وهو معنى مصري لا يتأتى لشاعر لم ير النيل، وما به من التماسيح.
•••
ووفد على مصر أيضًا الشاعر الهجَّاء دعبل بن علي الخزاعي طمعًا في نوال أحد أقاربه المطلب بن عبد الله الخزاعي والي مصر، ومدحه دعبل أولًا بقصيدته التي فيها:
فولاه المطلب إقليم أسوان فمكث به أيامًا ولعله لم يرض بما ناله فغضب، ولم ينج المطلب من هجائه؛ إذ قال فيه:
وحدث أنه عُزِل المطلب عن مصر، فلم يقبل أن يسلمها لمن خلفه؛ فتحاربا، فانهزم المطلب واضْطُر إلى أن يفر إلى مكة، فقال دعبل في ذلك:
كان مجيء هؤلاء الشعراء إلى مصر من العوامل التي ساعدت روح الشاعرية المصرية وأيقظت ما كمن منها، ومن الجائز أن بعض الشعراء المصريين كانوا يحاولون تقليد الشعراء الوافدين، وقد رأينا كيف كان يجتمع المصريون في المسجد الجامع؛ لاستماع شعر أبي نواس، وكيف اهتموا به، فهذا يدل على نمو الروح الأدبية في مصر وتطورها.
(٥) شعراء مصريون راحلون
يمتاز هذا العصر أيضًا بظهور شعراء مصريين، أو ممن أخذوا بحظ من الثقافة في مصر، وقضوا فيها شطرًا من حياتهم الأولى، ثم غادروها إلى مقر الخلافة؛ حيث اتصلوا بالخليفة ورجاله، ومع أننا نستطيع أن نسمي هؤلاء الشعراء مصريين أو متمصرين — إن صح هذا التعبير — فإن شعرهم اصطبغ بصبغة البلاد التي حلوا بها فلم يعد لهم أية صلة بمصر؛ ولذلك لا يعدهم الأدباء من المصريين.
أبي تمام
وحياة أبي تمام في مصر غامضة أشد الغموض فلم تصلنا أخباره ولا نعرف شيئًا عن أساتذته الذين أخذ عنهم، ويغلب على ظني أن أبا تمام قد استمع إلى هذه الدروس التي كانت تُلقَى في حلقات المسجد الجامع بالفسطاط، وكان في ذلك الوقت الشافعي وابن هشام راوي السيرة وابن عبد الحكم والليث بن سعد، ممن يلقون علومهم في هذه الحلقات، ولعل أبا تمام قد أدرك سعيد بن عفير والمُعلَّى الطائي ويحيى الخولاني والحسين بن الجمل الأكبر ويوسف السراج وغيرهم من شعراء مصر في هذه الفترة، فاستفاد مما سمعه من علوم أولئك وشِعْر هؤلاء حتى نمت ملكة الشعر عنده فأنشد هذا الشعر الذي استطاع به أن يُخْمِل شعراء عصره.
وأول ما نعرفه عن تكسبه بالشعر في مصر فهو اتصاله بعياش بن لهيعة، والتاريخ لا يذكر عياشًا إلا أنه كان صاحب الشرطة في مصر سنة ٢٠١ﻫ، وأن أباه هو القاضي لهيعة بن عيسى الحضرمي الذي ولي القضاء مرتين؛ الأولى سنة ١٩٦ﻫ إلى أن عزل سنة ١٩٨ﻫ، ثم وليها مرة أخرى في المحرم سنة ١٩٩، وظل في منصبه إلى أن تُوفِّي سنة ٢٠٤ﻫ، أما ابنه عياش فقد انقطعت أخباره ولا نعلم عنها شيئًا، ويذكر الرواة أن أبا تمام أول ما قال الشعر فهو في عياش:
إلى أن يقول:
والتي يقول فيها:
ويفهم من شعر أبي تمام أن بعض القوم سعوا به عند عياش، ومن يدري لعل بعض شعراء مصر حسدوا هذا الشاب على صلته بالأمير؛ فأوقعوا بينهما مما أدى الشاعر إلى أن يقول:
ولكن العلاقة بين عياش وأبي تمام فسدت نهائيًّا، فهجاه الشاعر بعدة قصائد منها قوله:
ويتوعده مرة أخرى بقوله:
وظل يهجو عياشًا إلى أن مات عياش فلم يتورع أمام الموت بل هجاه بقصيدة منها:
ويُفهَم من هذا أنه كانت هناك منافسة فنية في الشعر بين شاعر مصر يوسف السراج وبين أبي تمام، وأن أبا تمام كان يعيب على السراج فنه وشعره، فهو يأخذ على شاعر مصر معانيه الفلسفية التي لم تُعرَف عند زهير؛ أي عند القدماء كما يأخذ عليه الغريب والتعقيد في شعره بينما الشعر في نظر أبي تمام يجري كالماء السلس الذي يرف عليه ريحان القلوب، والغريب أن أبا تمام الذي ينقد شاعر مصر على هذا النحو هو نفسه من أشد الشعراء إغراقًا في التعقيد المعنوي واللفظي، ومن أكثر الشعراء استعمالًا للغريب، فهل نستطيع أن نقول: إن فن أبي تمام هو أثر من آثار مصر؟
ونرى أبا تمام يتصل بالأمير عبد الله بن طاهر حين قدم مصر وهزم عبيد الله بن السري الثائر بمصر سنة ٢٢١ﻫ، ومدحه بقصيدة منها:
وأنشد أبو تمام شعرًا في الحروب التي كانت بمصر في هذا العهد، من ذلك قصيدته في رثاء عمير بن الوليد الذي قُتِل يوم الثلاثاء لثلاث عشرة من ربيع الآخر عام أربعة ومائتين، وقد قُتِل في حرب بينه وبين أهل الحوف، وفي هذه قصيدة ظهر أثر حفظه للأشعار ولعادات الجاهلية من بكاء على الميت ولَطْم الخدود، وهي نفس عادات المصريين التي لم يشر إليها الشعراء المصريون وإنما تشاهد كل يوم.
واستمر في بكائه ونحيبه ثم انتقل إلى ذكر الميت فوصفه بالشجاعة في القتال والجود والسخاء:
وضاق أبو تمام ذرعًا بما هو فيه من فقر وإملاق وكان يطمع في المال الكثير:
واضطر إلى أن يرحل من مصر غير آسفٍ على فراقها وإن حنَّ إليها بعد خورجه منها، فذكر إخوانه بالفسطاط:
ماني الموسوس
إلى آخر القصيدة، فسألته أن يمليها عليَّ ففعل، ثم قال: اكتب. فعارضه أبو الحسين المصري يعني مانا نفسه، فقال:
وتُوفِّي هذا الرجل سنة خمس وأربعين ومائتين.
(٦) لمحة عن أشهر الشعراء في ذلك العصر
سعيد بن عفير
اتصل ابن عفير بالحوادث التي كانت في عهده، وأنشد الشعر في كل الاضطرابات التي كانت في مصر إذ ذاك، لا سيما ما كان منها بين سنة ثمانٍ وستين ومائة وسنة تسع ومائتين، وقد ظهر في شعره روح العصبية العربية، وقد ذكرنا صورًا من شعره في ذلك.
ومهما يكن من شيء فإن ابن عفير لم يكن شاعرًا فحسب، فقد كان عالمًا محدِّثًا وفقيهًا، وأظن أن علم الرجل يُفْسِد في كثير من الأحيان شعرَه إذا أخضع فنه لعلمه، ويخرجه من الشعر الطبيعي إلى الشعر القريب من النظم؛ لأن الشاعر العالم يخضع لعقله أكثر مما يخضع لعواطفه وشعوره، أما إذا استطاع أن يُخْضِع علمه لفنه فهنا نستطيع أن نتذوق الشعر الفني القوي الذي لا يدانيه شعر آخر.
المُعلَّى الطائي
ويُخيَّل إليَّ أن المُعلَّى الطائي كان صاحب لهوٍ ومجون، ولعل هذه الأبيات القليلة التي رواها أبو الفرج في الأغاني تؤيد أن المُعلَّى كان يشرب الخمر كما كان يشربها كثير من الشعراء فهو يذكر الخمر بقوله:
الجمل الأكبر
وكما عرف الجمل بالمدح فقد عرف بالهجاء، فقد روي أن الحسين بن عبد السلام بكَّر إلى سليمان بن وهب عامل الخراج بمصر، فلم يمكنه الحاجب من الدخول، وأدخل شاعرين آخرين هما ابن شعوة وحمدويه، فلم يستطع الجمل صبرًا، وأرسل إلى سليمان أبياتًا منها:
وقد روينا له أبياتًا كثيرة عن الحوادث التي كانت بمصر في ذلك العصر، وتُوفِّي هذا الشاعر سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين من الهجرة.