كلمةٌ للمترجم
وإذا استبدلتَ «اللغة العربية وآدابها» بما يقوله في ذلك الموضوع وجدتَ انطباقًا شِبه كامل على ما حدث ويحدث لدينا في الحياة الجامعية العربية؛ فلقد تلاطمت الأفكار في القرن العشرين في وطننا العربي حول جدوى دراسة الأدب ومناهجه، ومدى قبول المناهج البينية الحديثة في دراسته، وحول إمكان التزاوج أو الترابط بين الدراسات الثقافية الحديثة النشأة، والبحوثِ العلمية المنتمية (رسميًّا) إلى مجالات أخرى؛ اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية وفلسفية، إلى الحد الذي يستطيع القارئ معه أن يدرك أن حديث المؤلف عن هذا التلاطم والتضارب مقصود به دراسة أيَّة لغة قومية وآدابها، لا اللغة الإنجليزية وآدابها وحدها.
ولقد خصَصتُ بالذِّكر اللغةَ العربية وآدابها لأن دارسيها في الوطن العربي، وفي مصر خصوصًا، كانوا سبَّاقين إلى الأخذ بالبينية منهجًا يوازي أو يشتبك مع المناهج التقليدية، وربما يدهش القارئ حين يرى كيف تزامن الكفاح في سبيل الاعتراف بدراسة اللغة وآدابها بالمناهج الحديثة في مصر مع الكفاح المماثل في انجلترا، وكيف يتشابه الصراع حول مفهوم الأدب ودراسته عندنا وعندهم، بل كيف كُتب للمناهج التقليدية البقاء جنبًا إلى جنب مع المناهج البينية الحديثة (والثقافية خصوصًا) أيضًا عندنا وعندهم، وأنا لا أعزو هذا التزامن إلى التأثير أو التأثر وحده؛ إذ لا يزيد التأثير عن كونه عاملًا من بين عدد من العوامل، أظن من بينها التطور الطبيعي للأدب العربي في ظل الحياة الحديثة، وهو تطور تولَّى تغيير بعض الأنساق الفنية في الشعر والنثر، أقصد الأنساق التراثية الراسخة في نفس كل عربي وإحساسه، مثلما طوَّر اللغة أولًا بفضل الصحافة والإذاعة، ثم بفضل الأعمال الأدبية المرموقة، وكان بعضها يحاكي الأشكال الأجنبية العامة، من دون أن يفقد خصائص العربية الجَزْلة، ثم تطور من داخله فأبدع أشكالًا فنية جديدة، استَتْبعتْ نظراتٍ نقديةً جديدة، وسرعان ما أدى الانفتاح الثقافي إلى وضع مناهج بينية لم يعد يرى أحد فيها تناقضًا مع المذاهب التقليدية في دراسة اللغة والأدب، وهو ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب، ولو كان يتحدث عما حدث في دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها.
وأهم ما يضيفه المؤلف في رصده لتطور مناهج البحث في اللغة والأدب، أو أهم ما يؤكده في الفصل الأخير الذي أضافه إلى الطبعة الثانية للكتاب (٢٠١٠م)؛ أن البينية أو المنهج البيني، أي المشترك بين أكثر من تخصص علمي، لا يلغي وجود المباحث العلمية المستقلة أو شِبه المستقلة. فدراسة الشعر باعتباره مرآة لحياة الشاعر، أو تعبيرًا عن إشكالية فلسفية أو نفسية أو اجتماعية، أو كونه ذا دلالة اقتصادية أو سياسية؛ ينبغي ألا تنفي كونه شعرًا، أي إن التركيز على الاستفادة من المباحث العلمية في الإنسانيات في تناول العمل الأدبي ينبغي ألا يُنسيِنا أنه أدب أولًا وقبل كل شيء، وهو يستشهد في إقامة حُجته بكتاب حديث للناقد الماركسي تيري إيجيلتون عن مَغبَّة الجور على الطابع الأدبي للأدب. وهنا أيضًا أجد التزامن بين المدخلين الرئيسيين في تناول الأدب نقديًّا، حسبما حددهما فريدريك جيمسون، في تذييل كتابٍ عنوانُه «المادية عند شيكسبير»، وهما النقد التحليلي للنصوص الأدبية، والدراسة الثقافية لها، سواء من جانب التاريخية الجديدة، أو المذاهب الفلسفية المنوَّعة، مثل الماركسية أو النقد النِّسْوي. وجيمسون يقول إن التيارين يتنافسان في أواخر القرن العشرين، وأما موران مؤلف هذا الكتاب فيبيِّن بوضوح أن المداخل العلمية لا يلغي بعضها بعضًا، بل إن المباحث العلمية قد تجتمع في صورة بينية، أو في صورٍ أعمَّ لتزيد من وعينا، وتفتح آفاقًا أوسع للمعرفة والتذوق، والإحساس بوحدة المعرفة الإنسانية آخر الأمر.
القاهرة، ٢٠١٨م