الخاتمة
نقد المنهج البيني
كانت لدينا، قبل عقدين فقط، تقاليد مباحث علمية بالغة الصرامة، لم نكن نرى غير رجال شرطة علمية! لم يعد الحال اليوم كما كان؛ إذ إن جانبًا كبيرًا من العمل الذي يُزعَم اليوم أنه من المباحث العلمية البينية لا ينتمي في نظري إلى المباحث العلمية على الإطلاق، فتحقيق المبحث العلمي البيني يتطلب تحقيق خصائص المبحث العلمي أولًا، أي التركيز على أسس مبحث علمي واحد، وحبذا لو كانت أسس مبحثين، كي يحيط المرء بالطابع التاريخي للخطاب الخاص بكلٍّ منهما قبل أن يختبر أحدهما بمقياس الآخر. ولكن عددًا كبيرًا من الشباب يُقبِل اليوم على المبحث البيني قبل ممارسة أي مبحث علمي. وكثيرًا ما يقعون بسبب ذلك في فخ الانتقائية، أي عدم القيام بعمل يُذكَر في أي مبحث علمي واحد، وذلك أَدعَى إلى إهدار طاقة مجال معين، لا تمكينها من تجاوزه.
أي إن ريدنجز وفوستر لا يهاجمان المنهج البيني في ذاته، بقدر ما يهاجمان الزعم بأنه راديكالي أو تجديدي في ذاته، وقادر على تجاوز طبيعة الجامعة باعتبارها مؤسسة اقتصادية وسياسية. ووَفْق الحجة التي أسعى إلى تقديمها في هذا الكتاب، لا يوجد ما يُسمى المعرفة غير المنضبطة أو التي لا هيكل لها، ولا شك في فائدة إشارة ريدنجز وفوستر إلى الاستثمارات المؤسسية للمنهج البيني، أي كيف يشارك في بناء المراتبيات الأكاديمية التي يهدف إلى نقدها.
يقول ريدنجز وفوستر إن الدراسة البينية تمثل مستقبل الجامعة. ويقول ريدنجز إن البينية قد انتصرت فعلًا في معاركها الفكرية والمؤسسية نصرًا حاسمًا، وإن «هيكل المباحث العلمية المستقلة قد بدأ يتشقق تحت ضغط مقتضيات الأسواق»، وإن المستقبل المباشر للجامعة سيتمثل في «إنشاء قسم عام للإنسانيات يزداد طابعه البيني، وسط عنقود من المدارس المهنية الفرعية» (ريدنجز ١٩٩٦م: ١٧٤). ويُعتبر هذا أيضًا جزءًا من حجة ريدنجز الشاملة عن الدور الذي يلعبه السوق في الجامعة المعاصرة من حيث هدم الأبنية المؤسسية والحكومية القائمة.
وأما حجج ريدنجز بشأن ما يسميه انهيار الجامعة «القومية» في عصر الرأسمالية الاحتكارية العالمية، فقد تنطبق بدقة أكبر على النظام الجامعي الأمريكي منها على نُظم الجامعات القومية في بعض البلدان مثل بريطانيا وأستراليا، حيث لا تزال الروابط بالشركات التجارية أقل أهمية من التمويل الحكومي. ويشير كل من ريدنجز وفوستر إلى عامل مهم كان هذا الكتاب يدور حوله وحسب إلى الآن، ألا وهو وجود طابع سياسي للمنهج البيني لا يقتصر على الجانب الفكري؛ فالتدريس والبحث الأكاديمي لا يحدثان في فراغ سياسي، والجامعات مؤسسات إقليمية، والأكاديميون العاملون فيها كثيرًا ما يشتبكون في «صراعات حول مناطق النفوذ» مع زملائهم في الأقسام الأخرى. كما تندلع المعارك في أحيان كثيرة بين الأكاديميين المنتمين لأقسام معينة والمؤمنين بمباحث علمية متخصصة، وبين أهل الإدارة الذين يشرفون على المؤسسات، والذين يقوم عملهم على ضرورة ضبط الميزانيات، وتوليد دخل للجامعة كلها.
وهكذا فإن المرامي الرئيسية لسهام غضب دوكرتي مجالسُ البحوث التي تموِّلها حكومة المملكة المتحدة، وهي التي تحدد مخصصات الإنفاق على مشروعات البحوث الأكاديمية، وتعلي بانتظام من مزايا «البينية». فعلى سبيل المثال، يخصص مجلس البحوث في الفنون والإنسانيات منح البحوث الواسعة النطاق من خلال المناقصات لإجراء سلسلة من الموضوعات البينية، مثل «الدين والمجتمع»، و«العلم والتراث»، و«صور الشتات والهجرة والهوية»، و«المناظر الطبيعية والبيئة»، ويغلب أن تُفهَم قيمة التعاون والإخصاب المتبادل بين المباحث العلمية فهمًا حرفيًّا داخل إطار هذه الموضوعات الواسعة النطاق.
وفي هذا السياق الجديد يتضح أن دوكرتي محقٌّ في تذكيرنا بأن فكرةَ وجود مباحث علمية متخصصة لا تشوبها في ذاتها أية شائبة — سواء بمعناها المذكور أو بمعنى الانضباط العام للكلمة — فكرةٌ صائبة، فلا شك أن الانضباط أمر أساسي في كل ما يتسم بالجودة من كتابة أو بحث أو فكر، وأما الخطر فهو أن العمل البيني الذي يفتقر إلى وضوح التبرير أو سبب القيام به، لن يؤدي إلا إلى نتائج غامضة تقوم على انتقائية لا طعم لها، كما ينبغي أن ندرك أيضًا وجود حدود بشرية فكرية للمنهج البيني، ما دامت معظم البحوث في الإنسانيات (حتى البحوث القائمة على التعاون، مثل كتب المنتخبات التي يحررها محرر) لا يزال يضطلع بها باحثون يعمل كل منهم في مجاله الخاص، وقد يتعذر على هؤلاء الأشخاص الإلمامُ بالنظريات والمناهج والمواد الخاصة بمبحثين أو أكثر من المباحث العلمية، من دون ظهور فجوات مهمة في معارفهم. وقد تكون بعض المباحث العلمية أبنية مصطنَعة، ولكن الاصطناع له سبب، ما دام من المحال أن يحيط المرء بكل شيء.
ربما يتبيَّن مَن يقومون مِن بيننا بتدريس الأدب أننا نتمتع بخبرة أكبر كثيرًا مما نتصور أنه لدينا، ولقد آن الوقت للثقة في الغريزة الأدبية التي أتت بنا إلى هذا الميدان أصلًا، وإدراك أننا يجب ألا نشتهي المباحث العلمية الأخرى التي تبدو بالغة الطرافة والغرابة لأننا، أساسًا، لا نمارسها في الواقع، بل أن ندرك أن ما نحتاجه هو التبحُّر في الدراسة النظرية والتاريخية والنقدية لمبحثنا العلمي الخاص.
إنهم يقدمون صورًا للأعمال الأدبية تصف ما يجري داخل هذه الأعمال، وقد يضيفون بعض التعليقات التي تمثل تقييمًا من نوع ما. فإذا استعرت من علم اللغة مصطلحًا تقنيًّا للتمييز بين ما يفعلونه وبين غيره، قلت إنهم يتعاملون مع القصيدة باعتبارها لغة لا باعتبارها خطابًا … ومن العسير أن يدرك المرء من قراءة معظم هذه التحليلات للمضمون إن كانت تدور حول قصائد أو روايات لا حول أحداث في الحياة الواقعية. وأما الذي يتجاهلونه فهو الطابع الأدبي للعمل … إنهم يعالجون القصيدة كأنما اختار مؤلفها، لسبب غريب عجيب، أن يسجل آراءه في الحرب أو الحياة الجنسية في سطور لا تصل إلى نهاية الصفحة، ربما تعطل الحاسوب!
وينبغي أن نقول إن إيجيلتون لا يعتبر المنهج البيني مسئولًا عن هذه الحال، فهو مثل أي ماركسي صالح، يلوم الرأسمالية؛ إذ تقول حجته «المذنب هنا أسلوب حياة معين، لا مجموعة من الأفكار المجردة، فالذي يهدد بطمس الحساسية اللفظية هو عالم الرأسمالية المتقدمة السطحي المُسلَّع اليسير القراءة، بأسلوبه المنفلت في استخدام العلامات، والاتصال بالحاسوب، وتغليف «الخبرة» في عُلَب برَّاقة» (إيجيلتون ٢٠٠٧م: ١٧). ولكن إذا كان إيجيلتون لا يذكر «المنهج البيني» هنا، فإن لموقفه روابط بحجة دوكرتي، فهما يقولان إن ضرورات السوق الحديثة تشجِّع على خَلق خليط مشوَّش من المعارف التي لا ضابط لها ولا رابط، وإذا كانت الرأسمالية السِّلعية عالمًا «ينصهر فيه كل شيء صلب ويغدو هواءً»، وفق العبارة المشهورة عند كارل ماركس وفريدريش إنجلز (ماركس وإنجلز [١٨٤٨م] ٢٠٠٢م: ٢٢٣)، فربما أمسينا نحتاج الآن، أكثر من حاجتنا في أي وقت مضى، إلى بعض الصلابة في التفكير، وبعض الصرامة، وبعض الانضباط.
بقاء المباحث العلمية [المستقلة]
ولكن إذا كانت هذه النظرات النقدية المنوعة في المناهج البينية تتضمن بعض الآراء الصحيحة، فإنها تتسم في نظري بالمغالاة، وهي لا تقدِّر التقدير اللازم نجاح المباحث العلمية المستقلة في البقاء داخل الجامعات المعاصرة؛ فلا يزال من بالغ الصعوبة، على سبيل المثال، أن يحصل المرء على وظيفة التدريس في جامعة ما إلا إذا كان ذا أقدام راسخة في مبحث علمي ما، بل ويتمتع بتخصص معترَف به فيه. ويغلب أن يُعلَن عن وظائف أكاديمية في مجالات مثل «أدب القرن الثامن عشر»، أو «الدراسات الفكتورية»، وإن كان من المفيد أيضًا أن يضيف المرء قدرته على تدريس مواد أخرى. ويبدو بقاء المباحث العلمية بوضوح وجلاء في المملكة المتحدة، حيث تخضع الميزانيات للتمويل المركزي، فالهيئات القومية، مثل هيئة ضمان الجودة في التعليم العالي، ومثل مجلس تمويل التعليم العالي في إنجلترا، وهي التي تقيِّم أداء الجامعات، وتقدم لها التمويل وفق ذلك التقييم؛ تفرض قيودًا مؤسسية على المنهج البيني. والمطالب الناجمة عن إجراءات تقييم البحوث، ومراجعات جودة التدريس، تساهم في تدعيم حدود المباحث العلمية من خلال مراقبة المعايير داخل الوحدات التي يمكن قياسها، وكثيرًا ما يُستعان في ذلك بخبراء متخصصين في التقييم، أو بلجان من الخبراء في موضوعات معينة. وهذه الجهود تؤدي إلى وضع جداول مجمَّعة وغيرها من «مؤشرات الأداء»، وهي التي يُسترشَد بها في اتخاذ قرارات التمويل، كما تنشر في الصحف وغيرها من أجهزة الإعلام، فتساهم في تسويق الدرجات والأقسام العلمية في علاقتها بالمباحث العلمية المعترَف بها. أضف إلى هذا بوجه خاص أن «هيئة تقييم البحوث» التي أنشأتها الحكومة، والهيئة التي خَلَفتْها، وهي إطار التميز البحثي؛ لا تزالان تخضعان لإدارة مباحث علمية مُفرَدة وسيطرتها. وعلى الرغم من الجهود الجهيدة التي تبذلها الحكومة لإضافة عنصر الربح الاقتصادي وغير ذلك من أشكال «نقل المعرفة» إلى عناصر التقييم، فإن أهم عامل من عوامل التقييم «مراجعة الأقران»، أي التقييم الذي تصدره هيئة تُسمى «الكلية الخفية» الخاصة بمبحث علمي معين، وهي في الحقيقة شبكة قومية ودولية من الباحثين العاملين في مجال محدد، وتتجاوز في اتساعها أية جامعة أو مؤسسة.
ومما يساعد على تدعيم المباحث العلمية المستقلة أيضًا وجودُ حاجة إلى بيع الدرجات العلمية للطلاب في سوق الدرجات الجامعية الأولى المتَّسمة بالمنافسة الشديدة، والحاجة إلى بيع الدرجات إلى أصحاب العمل في سوق الدراسات العليا المتَّسمة بمنافسة مماثلة. والتركيز الحالي على «التخرج»، أي على المهارات والمعارف التي يجب أن يكتسبها الفرد، ويثبت تمتعه بها عند التخرج، كثيرًا ما يرتبط بموضوعات خاصة. ويزداد توكيد أهمية التعليم المتخصص والمهني، وما يقدمه من خبرة، وهو ما يتولى تدعيم المراتبية الفكرية التقليدية ما دام يستوجب تحديد المهارات المناسبة لكل مبحث علمي. والطلاب الذين يتحملون نفقات التعليم (وآباؤهم الذين قد يدعمونهم ماديًّا) يريدون، كما هو مفهوم، أن يعرفوا قيمة درجتهم العلمية في السوق خارج الجامعة. وهكذا فإن بعض المباحث العلمية، مثل اللغة الإنجليزية وآدابها، تضع لنفسها «اسمًا تصنيفيًّا» مودَعًا في مَصرِف معترَف به للرأسمال الثقافي، بحيث يستطيع أن يجتذب الطلاب وأصحاب العمل في المستقبل في آن واحد. ولأضربْ مثلًا واحدًا من القسم الذي أنتمي إليه، إذ اضطُر إلى تغيير اسمه من الأدب والحياة والفكر (وهو، كما ذكرت في الفصل الثاني، كان أيضًا اسم أول درجة جامعية تمنحها جامعة كيمبريدج في اللغة الإنجليزية وآدابها) إلى الأدب والتاريخ الثقافي، ثم أخيرًا، وربما لأسباب براجماطية، إلى اللغة الإنجليزية وآدابها فقط. وعلى من يحتاج من طلاب المستقبل أن يعرف مقررات مناهجنا البينية أن يطلع عليها في دليل عنوانه شروط الالتحاق بالجامعات والكليات، إلى جانب جميع الدرجات الأخرى في اللغة الإنجليزية وآدابها.
وربما يتمثل أهم تطور في استمرار مراجعة الأدب المعتمد والتوسع فيه، وهو ما يرجع في جانب منه إلى ما يُسمى «الحروب الثقافية» في الولايات المتحدة الأمريكية، والمقصود بها اندلاع معارك تنم على ضيق الصدر أحيانًا حول إدراج المزيد من التنوع في القضايا العرقية والنسوية في المقررات التي تُدرس للحصول على درجة جامعية في اللغة الإنجليزية وآدابها. وأما التوسع في الأدب المعتمد في إطار البحوث الأكاديمية فمن المحتمل أن يكون من ورائه دافع لا يقل أهميةً، ويتمثل في النوازع البينية، خصوصًا نازع استكمال الكتابة الإبداعية الممثِّلة للثقافة الرفيعة التي تمثِّل المادة التقليدية للدراسات الأدبية، بأنواع أخرى من النصوص، مثل القصص الجماهيرية، وأدب الرحلات، وأدب الأطفال، والسير الذاتية، بل والنصوص العلمية والطبية. وكثيرًا ما يكون الابتعاد عن النصوص الأدبية المعتمدة إلى النصوص الهامشية أو غير الأدبية قائمًا على الظن بأن النصوص المعتمدة قد حَظِيت بقدر أكثر مما ينبغي من البحوث فيها والكتابة عنها، بحيث لم تعد تتيح تقديم القدر نفسه من النظرات النقدية الجديدة.
ولقد شهدت ساحة الدراسات الأدبية البينية أيضًا تحولًا يبتعد بها عن الفلسفة، ويعيدها إلى الشريك التقليدي للغة الإنجليزية وآدابها، ألا وهو التاريخ، وكما رأينا، بصفة خاصة، حدث الابتعاد عن «النظرية الكبرى» التي ناقشتها في الفصل الثالث. فالنقاد المنتمون إلى ما بعد البنيوية، مثل دريدا، ولاكان، وفوكوه، وبارت، الذين كان عملهم يقوم بدور أساسي في فهم المنهج البيني في الدراسات الأدبية في نهاية القرن الماضي، لم يعد الدارسون يستشهدون بهم على نطاق بالغ الاتساع اليوم، كما قلَّ شيوع اعتماد دراسات اللغة الإنجليزية وآدابها على نماذج «نظرية» نوعية أو محددة. ويرجع سبب هذا، في جانب منه، إلى أن هذه النظريات قد أُدرِجت وأُدمِجت إدماجًا تامًّا في الموضوع المدروس إلى الحد الذي لم تعد تحتاج فيه إلى رفع راياتها بصورة مباشرة، كما يرجع في جانب آخر منه إلى أن «الموضات» الفكرية تغيرت، وإلى ظهور الرغبة في العودة إلى [الأدب] «الحقيقي»، مهما يتِّسمْ تعريفه بالتعقيد، بعد سنوات من التعامل مع النظريات التجريدية. وأكثر ما يشيع اليوم في الدراسات الأدبية الناطقة باللغة الإنجليزية هو تجاوز النظرية الرفيعة، والاستعاضة عنها بما يُسمى أحيانًا «التاريخية الجديدة»، التي تُعتبر إدماجًا للأدب في التاريخ الثقافي، والتي نشهد تطبيقات متعددة لها. وأود أن أختتم كلامى بإلقاء نظرة موجزة على الطريقة التي برز بها هذا النمط الجديد من المنهج البيني في مجالين؛ الأول هو الدراسات الفكتورية، والثاني هو الدراسات الثقافية المعاصرة.
دراسات العصر الفكتوري – الدراسات الثقافية
إذا أرادت الدراسات الفكتورية أن تتجاوز أوجُه قصورها الحالية، وأن تزدهر باعتبارها مجالًا بينيًّا حقيقيًّا يستند إلى التآلف لا العدوان، فينبغي أن تنشئ لنفسها تكاملًا بحثيًّا جديدًا، أي الإحساس بوجود كتابات مشتركة، وبؤرة بحثية مشتركة، ومجموعة مقبولة على نطاق واسع من طرائق البحث والفرضيات النظرية، والإقرار أخيرًا بجدوى صفة «الفكتورية» باعتبارها إطارًا للتحليل. لن تنهار الجدران المحيطة بالمباحث العلمية التخصصية وحدها وحسب، بل لا بد من تقويضها عمدًا وبصورة منهجية؛ فالإحساس بالتواصل البيني لا ينشأ ويرتقي وحده، بل لا بد أن تبنيه الأيادي.
قد تبدو دعوة هيوويت إلى المنهج البيني من خلال «بؤرة بحثية مشتركة» قائمة على مفارقة؛ إذ تشبه الدعوة إلى خلق مبحث علمي جديد، لكنني أتفق مع هيوويت في أن العمل البيني كثيرًا ما يحتاج إلى الأمن النابع من كونه يجري في إطار مبحث متخصص معترَف به، ويرجع جانب من السبب في ذلك إلى أن جميع الأنشطة الفكرية التجديدية تتضمن مخاطرة شخصية، بمعنى أنها يمكن أن تكون ذات نهاية مفتوحة تفوق انفتاح العمل البيني، وأن تكون «نواتجها» المنشورة (الاسم الذي يحب رجال الإدارة في الجامعة إطلاقه عليها) غير مؤكَّدة بالدرجة نفسها. ومن طرائق مواجهة هذه المخاطرة حصول الأنشطة المذكورة على نوع من القواعد المؤسسية، بمعنى الحصول على منافذ النشر المحتملة لعملك، وشبكة من المؤتمرات والجمعيات التخصصية حيث تستطيع اللقاء بباحثين يشاركونك آراءك. وهكذا بدت الدراسات الفكرية، على امتداد العقد المنصرم تقريبًا، كأنما هي مبحث علمي مستقل يمثل التلاقي بين الأدب والتاريخ والثقافة البصرية، وذلك بإنشاء مجلات مكرَّسة لها، مثل مجلة الثقافة الفكتورية، وتشكيل منظمات، مثل الجمعية البريطانية للدراسات الفكتورية، التي تأسست عام ٢٠٠٠م، ومثل جمعية الدراسات الفكتورية في أمريكا الشمالية، التي أُنشئت عام ٢٠٠٢م. وعندما يحدث مثل هذا التشكيل المؤسسي المحتوم، في مجال نامٍ مزدهر، يبرز دائمًا خطر مَيل البحوث إلى أن تتصف بقدر أكبر من الحذر، وبروح تقليدية أشد مما ينبغي، وتشابُه زائد عن الحد، ولكن ذلك يتيح الفرصة أيضًا للعمل البيني حتى يزداد طابعه الابتكاري، ما دام المرفأ الفكري الآمن نسبيًّا للمجال الفرعي يخلق الساحة اللازمة لاستكشاف الآراء الجديدة.
ويكمن جانب آخر من المشكلة، حسبما يقول ريتشارد جونسون، في الإحساس بانقطاع الحوار بين التاريخ والدراسات الثقافية؛ ففي الفترة من منتصف السبعينيات إلى آخرها، كان العمل الذي يقوم به مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في بيرمنجهام قد بدأ في وضع وصف للتحول في نظام الهيمنة الثقافية والسياسية بعد الحرب، وبدايات تحدي نظام ثاتشر له [رئيسة الوزراء آنذاك]، وكذلك جوانب الانتفاع السياسي بالتاريخ فيما يُسمى صناعة التراث وغيرها من الطرائق المعاصرة لتصوير الماضي (جونسون ٢٠٠١م: ٢٦٦-٢٦٧). ولكن إذا كان التاريخ المعاصر قد تجاهل في الآونة الأخيرة الانتباه إلى الثقافة انتباهًا كافيًا، فإن الدراسات الثقافية قد ابتعدت عن المعالجة التاريخية للماضي القريب، وأدى تدعيمها باعتبارها مبحثًا علميًّا إلى مداخل إثنوغرافية بحتة، أو مداخل نصية ترتكز حول الاستهلاك الجماهيري، وأسلوب الحياة في إطار الثقافة الفرعية، ووسائط الاتصال والتكنولوجيات التجديدية أو الناشئة. لقد أصبحت الدراسات الثقافية إلى حد كبير دراسة للثقافة الشعبية.
إذا كانت الدراسات الثقافية قد بدأت تظهر خارجة مما يسميه توني بينيت «استحياء المبحث العلمي» (انظر الفصل الثاني) — وقد يقول بينيت إن ذلك ليس بالضرورة شيئًا يُؤسَف له — فإن روابطها قد وهنتْ حتمًا بقسمَي اللغة الإنجليزية وآدابها والتاريخ. ومن نتائج ذلك عدم وجود كيان يُعتبر في الحقيقة «دراسات معاصرة»، بحيث يستطيع الجمع بين الباحثين في الأدب والتاريخ والمباحث المتصلة بهما بطريقة مماثلة للدراسات الفكتورية. ولكن الافتقار المذكور إلى قاعدة مؤسسية يمكن أن يكون مصدر قوة مثلما يُعتبر مصدر ضعف للقائمين بأبحاث بينية في هذا المجال، ويجدر بنا أن نتذكر أن جانبًا كبيرًا من العمل البيني الذي شق طرقًا جديدة، وسبقت لي مناقشته في هذا الكتاب، قام به باحثون مثل رولان بارت، وريموند ويليامز، وستيوارت هول، وريتشارد هوجار، وهم الذين كانوا يعملون بصورة ما على هامش الحياة الأكاديمية أو المباحث العلمية المعترَف بها، فالوجود على الهامش المذكور به مشكلات، ولكن به أيضًا فرص سانحة.
كلمة ختامية
ربما يكون لنا أن نقول إن الجِدَّة النسبية لطرائق التفكير البينية، وطابعها الاستكشافي يجعلانها تميل إلى عدم التنظيم والتشتُّت بدرجة تفوق أشكال المعرفة الراسخة. ولكن إذا كانت الأرض البينية تتسم ببعض الفوضى، فإن ذلك أيضًا يجعل تلك الأرض جديرة بالاحتلال. ولنا أن ننظر إلى المنهج البيني نظرة كاثي ن. ديفيدسون وثيو جولدبرج إليه، أي باعتباره «دالة على استحالة احتواء ما يُعتبر «حقيقيًّا» في تاريخ الأفكار»؛ فالبينية تنبع من الإحساس بأن الأشياء (والموضوعات) في الحياة الاجتماعية والثقافية (الحياة الواقعية، والظروف الفعلية، والعلاقات الحقيقية) تتمتع بوجود يتجاوز قيود التفرد التحليلي، والقواعد المنهجية» (ديفيدسون وجولدبرج ٢٠٠٤م: ٥٠). فالبينية تستطيع، في بحثها الدائم عن «الحقيقة» التي يستحيل احتواؤها، أن تكسر السلاسة والانسيابية الخادعتين للمباحث العلمية، وأن تطعن في منزلتها باعتبارها قنوات لتوصيل المعرفة الموضوعية، بتِبيان الطبيعة الإشكالية لجميع مزاعم الموضوعية والحياد العلميَّين. وإذا كان من الصحيح، على نحو ما حاولتُ إثباته في هذا الكتاب، أن البينية قد أثمرت عددًا من أهم التطورات الفكرية في الإنسانيات على مدى العقود القليلة الماضية، فقد يكون السبب في ذلك على وجه الدقة أن مشكلاتها وأوجُه قصورها لم تحجبها الأبنية أو التقاليد الراسخة.
ويقول ريدنجز في كتابه أطلال الجامعة: لما كانت محاولات التعاون البيني دائمًا ما تتعرض للإخفاق بسبب سياقاتها المؤسسية، فينبغي لنا أن نحاول خلق شكل انعكاسي من المنهج البيني، يدرك حدوده وطابعه المصطنع، «لا ساحة بينية عامة، بل إيقاع معين من الارتباط والانفصال، هدفها عدم السماح لمسألة التخصص في المباحث العلمية بالاختفاء، أو بالهبوط في دَرْك المسالك الروتينية». وعلى المباحث العلمية المنوعة في داخل هذا الإطار أن «تنصاع لما يفرضه الفكر، أي أن تتصور أنواع التفكير التي تجعلها ممكنة، وأنواع التفكير التي تستبعدها» (ريدنجز ١٩٩٦م: ١٧٦). وأعتقد أن ريدنجز على حق؛ إذ إن علينا أن نقوم بتحويل المباحث العلمية، وتشجيع التواصل بينها، أو استخدامها في خلق تشكيلات أو أحلاف فكرية جديدة، ولكننا من المحال أن نستغني عنها بصورة كاملة باعتبارها وسيلة لتنظيم المعرفة. ويمكننا من ثم أن ننظر إلى البينية باعتبارها أسلوبًا للتعايش مع المباحث العلمية تعايشًا يتسم بالمزيد من النظرة النقدية والوعي الذاتي، مدركين أن أهم فرضياتها الأساسية تقبل الطعن فيها، أو إعادة بث الحيوية فيها من خلال طرائق تفكير جديدة من خارجها. وتمثل الدراسة البينية، أولًا وقبل كل شيء، تخليص المعرفة من الإيحاء بأنها تمثل الحال الطبيعية، بمعنى أن العاملين في داخل طرائق فكرية راسخة عليهم ألا يغفلوا في أية لحظة عن القيود الفكرية والمؤسسية التي يعملون داخلها، وأن ينفتحوا على طرائق أخرى لبناء فهمهم للعالم، وتمثيلهم لهذا الفهم.