مقدمة
حياة همنجواي وفنِّه
لعل أحدًا من الروائيين الذين يكتبون بالإنجليزية لم يحْظَ من الشهرة وسَعة الانتشار في العصر الحديث قدْرَ ما حظِي الكاتب الأمريكي العظيم إرنست همنجواي. فبالإضافة إلى المحصول الوافر من الروايات والقصص التي تركها همنجواي وراءه عند مماته في ١٩٦١م، فإن حياته تُشكِّل جانبًا مستقِلًّا، له من الأهمية ما لأدبه بالنسبة لقُرَّائه ولدارسيه، وهذا ما حدا بالنُّقاد إلى الاهتمام بحياته والأحداث الكثيرة التي تزاحمت فيها قدْرَ اهتمامهم بنصوصه الأدبية. وعلاوةً على ذلك فإن أدب همنجواي وكتاباته مغموسةٌ كلها بدم الحياة التي عاشها، فهو يستمدُّ أدبه من تجاريب حياته، وتدفعه هذه الحياة إلى تطوير أدبه ومزجه بتجاربه. وقد دفعَت الحياة الغريبة التي عاشها هذا الكاتب العظيم بعض النقاد إلى الحديث عن الرغبة في الموت التي تتحكم في لا وعي همنجواي وأعماله، وطبَّقوها على انغماسه الغريب في الحروب والمعارك، وفي رحلات الصيد الخطرة، ومصارعات الثيران الدموية. وقالوا أيضًا: إن همنجواي كان يُريد قهر الخوف من الموت، ولذلك لم يكن يحب انتظار الموت بل يبحث عنه في مكمنه.
حياته وأعماله الأدبية
وُلِد إرنست ميلر همنجواي، مغامر عصْره، في يوم ٢١ يوليو ١٨٩٩م، في مدينةٍ يُطلَق عليها عادةً اسم عاصمة الطبقة الوُسطى وهي «أوك بارك» من ضواحي شيكاغو. وكانت أمه من النساء ذوات النشاط الديني الفعَّال، شغلَت وقت فراغها بالعزف في الكنائس وفي المحافل الدينية. أما أبوه فهو الدكتور كلارنس إدموندز همنجواي، وكان طبيبًا محليًّا معروفًا، يُفضِّل الذهاب للقنْص وصيد السمك في منزل العائلة الصيفي بجانب خليج «هورتون» على الاشتغال بمهنته، وعكَف والده منذ صِغره على تلقينه فنون الهوايات التي شُغِف بها هو نفسه، فأهداه في عيد ميلاده الثالث قصبةً للصيد، كما كان يُعلِّمه فنون الرماية منذ كان في المهد صبيًّا. ومما يُروى عنه: أنه اشترك وهو في هذه السن في الاستعراض العسكري في المدينة، وسار وقد علَّق مسدس جده إلى جانبه وهو يختال وسط الجنود في مشيةٍ عسكريةٍ صارمة. ولكن والدته لم تكن راضيةً عن تلك التنشئة المبكرة، وكانت تُعِدُّ لابنها مشروعاتٍ مخالفةً بالنسبة لمستقبَله، مما جعلها تُعارض والده على طول الخَطِّ وتسخط على ما يفعله مع ابنهما … ويبدو أن همنجواي لم يغفر لها بعد ذلك هذا الموقف إطلاقًا، كما يبدو أن ضِيقه منها قد انعكس في كل ما كان يكتبه ويخلقه من الشخصيات النسائية في رواياته وقِصصه.
وفي العاشرة من عمره، أهداه والده بندقية، وأهدَته والدته آلة تشيللو للعزف، ولكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يكن يميل لعزف الموسيقى، وكان يهرب من دروس العزف ليصطاد السمك، وكان من نتيجة هذا الشدِّ والجذب للصبي بين عالَم والده وعالم والدته أن أصبح همنجواي شابًّا عاكفًا على التفكير، شديد الحساسية في نفس الوقت. وقد قال مرةً بعد ذلك عن أيام حياته الأولى: «إن أفضل مدرسة للكاتب هي طفولةٌ شقيَّة» وقد تسببَت هذه الأيام في إصابته ببعض «التهْتَهة الخفيفة» في كلامه، لازمَته طوال حياته.
وتلقَّى همنجواي تعليمه في مدرسة «أوك بارك»، حيث الْتحق بفريق كرة القدم بها. وفيها ظهر مَيله للكتابة لأول مرة، فكان يكتب بعض القصص القصيرة على الآلة الكاتبة، عن تجاربه في الصيد وعن الهنود الحمر، وينشرها في المجلة الأدبية للمدرسة. وقد اشتغل وقت فراغه في هذه الأيام والْتحق بمدرسةٍ لتعليم الملاكمة.
وبعد أن حصل على شهادته الثانوية من المدرسة عام ١٩١٧م، كانت الولايات المتحدة قد دخلَت الحرب العالمية الأولى التي اندلعَت نيرانها منذ سنواتٍ ثلاث في أوروبا، وهجر همنجواي كل مشروعاته بشأن الجامعة وبشأن المستقبَل وتطوَّع في الجيش، ولكنه رسب في الكشف الطبي بسبب عيبٍ كان قد أصاب عينه في إحدى مباريات الملاكمة. وفشلَت محاولات همنجواي في الالتحاق بأي سلاحٍ من أسلحة الجيش، وبعدها نجحَت مجموعةٌ من الأكاذيب، ونقْص في الموظفين إبَّان الحرب، ونفوذ أحد أعمامه في حصوله على عملٍ في صحيفة «كانساس سيتي ستار» التي كانت تُعتَبر أيامَها أكبر مدرسة للصحافة في الغرب الأمريكي. وقد تعلم فيها كيف يقصُّ الخبر بأسلوب الصحيفة المعروف عنها: الأحدوثة المباشَرةً المقتضبَة والفقرات القصيرة واللغة القوية. وقد قال همنجواي بعد ذلك عن هذه الفترة من حياته: إنه قد تعلَّم في هذه الشهور عن الكتابة وعن الصحافة أكثر مما تعلمه في أي فترةٍ أخرى من فترات حياته. وبعدها قرأ عن حاجة الصليب الأحمر العاجلة لمتطوِّعين للعمل على الجبهة الإيطالية، فتقدَّم لهذا العمل وقُبِل فيه في أبريل ١٩١٨م كسائقٍ لعربة إسعاف، وكان أصغرَ المتطوِّعين سِنًّا فلم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من عمره. وارتحل من نيويورك إلى باريس عن طريق البحر، ثم أرسلوا به إلى ميلانو حيث عمِل في خط النار. وبعد أسبوعٍ من الأحداث المثيرة، أصابَته قنبلةٌ من مدفع مورتار نمسوي حين كان يحاول إنقاذ أحد الضباط الإيطاليين الجرحى، وأطاحت بطاسة ركبته وجرحَته في رأسه. وفي مستشفى «ماجيوري» بميلانو، أجرَوا له سلسلةً من العمليات أخرجوا بها ٢٢٧ شظية من ساقه. ولم يخرجوا كل الشظايا رغم ذلك، فقد أجرَوا له عمليةً أخرى عام ١٩٥٩م أخرجوا بها من ساقه شظيةً أخرى استقرَّت فيها منذ ذلك الوقت. وفي مستشفى ميلانو تعرَّف على ممرضةٍ إنجليزيةٍ حسناء من ممرضات الصليب الأحمر، عقَد معها علاقةً عاطفيةً ألهمَته فيما بعدُ حبكة روايته المشهورة «وداعًا للسلاح». وقد طاف همنجواي بعد شفائه بصفوف القتال على الجبهة الإيطالية مرتديًا سترةً عسكريةً أمريكية ليبعث الحماس في قلوب المحاربين ويقصَّ عليهم قصة بطولته في الحرب، وكان نتيجة هذا أن أنعمَت عليه السلطات الإيطالية بالميدالية الفضية للشجاعة العسكرية ووسام الاستحقاق الحربي.
وعاد همنجواي في ٢١ يناير ١٩١٩م إلى نيويورك واستُقبِل فيها استقبال الفاتحين، فقد كان من أوائل العائدين الذين اشتركوا في الحرب العالمية الأولى من الأمريكيين. ولكن جوُّ بلدته «أوك بارك» بدا له خانقًا قاتلًا، خاصةً الآن بعد أن ذاق طعم الحرية والإثارة، فدفعه ذلك إلى الاستقلال بحياته عن والديه، وعاش وحدَه في شيكاغو بعد أن حصل على عملٍ يُقيم به أوده عن طريق كتابة بعض القِطع الصحفية لجريدتَي «تورنتو ديلي ستار»، «وتورنتو ستار ويكلي». وكان يُقسِّم وقت فراغه ما بين صالة الألعاب الرياضية، والتمرُّس على فنون الكتابة. وفي أثناء رحلةٍ له إلى «ميتشجان» في هذا الوقت، تعرَّف على فتاةٍ أمريكية ذات موهبةٍ في العزف على البيانو تُدعَى «هادلي ريتشاردسون» تزوَّجها أخيرًا في سبتمبر ١٩٢١م. واقترح همنجواي على أصحاب الصحيفتين اللتين يعمل فيهما أن يُعيِّنوه مُراسلًا لهما في باريس، حيث يوافيهم بمقالاته وقِصصه من هناك، ووافقوا على ذلك. وحمَّله صديقُه شرود أندرسون، بخطابات توصيةٍ إلى معارفه الأدبيين في باريس، أمثال جرترودشتاين وعزرا باوند، وتُعَدُّ سنواته الأولى هذه في باريس من أخصب أيام عمره، قضاها طوَّافًا في البلاد والمدن الأوروبية، يعقِد الصداقات مع شخصيات الأدب والفن المشهورين. وفي باريس تعلَّم همنجواي التمييز بين الأصل والمزيَّف، بين العبقرية والتصنُّع، وتعلم كما قال بنفسه: «كيف يكتب القِصص بالتطلُّع إلى اللوحات في متحف اللوكسمبرج في باريس»، وعندما ألمح له الرسَّام بيكاسو عن مصارعات الثيران في مدريد، صمَّم همنجواي على خوض هذه التجارب الفريدة، فشدَّ رحاله على الفور هو وزوجته إلى إسبانيا حيث شهد أول عرض لمصارعات الثيران في حياته، وقضى بها عدة أسابيع قبل أن يعود إلى باريس. وكانت هذه نقطة البداية في حُبِّه العريض للبلاد الإسبانية ولمصارعة الثيران التي لازمته طوال حياته ولم يكد يخلو كتابٌ من كتبه من أيٍّ منهما.
وبعد ذلك أبرقَت له الصحيفة بالتوجُّه إلى إيطاليا لتغطية أخبار المؤتمَر الاقتصادي في «جنوه»، وبعدها طار إلى القسطنطينية ليُغطِّي أحداث الحرب التركية اليونانية التي استعر أوارها في تلك الأثناء. وفي القسطنطينية شهِد فظائع انسحاب الجيش اليوناني من المدن التركية وتقدُّم الجيوش التركية للاستيلاء على هذه المدن؛ وقد ألهمه هذا الانسحاب الوصْفَ الذي ورد بعد ذلك في مشهد انسحابٍ من «كابريتو» في «وداعًا للسلاح» … وبعد عودته من تلك المهمة بقليلٍ طار إلى لوزان لتغطية مؤتمر السلام هناك. وهكذا تحقق حلم همنجواي بأن أصبح مراسلًا أمريكيًّا جوَّالًا في البلاد الأوروبية.
وحصل همنجواي على الطلاق من هادلي في عام ١٩٢٧م، وتزوج بعدها حبيبته الجديدة بولين. وقد اضطُر لإتمام هذا الزواج أن يتحوَّل من المذهب البروتستانتي إلى الكاثوليكية؛ لأن بولين كانت من هذا المذهب. وبدأ بعد ذلك مباشرةً في الإعداد لأقرب المشروعات حبًّا لفؤاده، وهو كتابة روايةٍ عن تجاربه في الحرب العالمية الأولى.
وحرص همنجواي على أن يكون في وسط المعارك التي تدور بين الملكيين والجمهوريين، وكم من مرة تحطَّم زجاج نافذة الغرفة التي يُقيم فيها في فندق فلوريدا بمدريد؛ نتيجة قنبلةٍ تقع على مقربةٍ منه، ولكنه كان يتحمل كل ذلك ويختزن في ذهنه تجارب الأهوال التي يراها والتي اقترنَت بهذه الحرب البشعة التي مات في العام الأول لها ما يزيد على نصف مليون إسباني. وتعرَّف في مدريد على مراسلةٍ صحفيةٍ شقراء صغيرة السن تُدعَى «مارتا جلهورن»، كانت قد برزت في عملها ونجحت فيه نجاحًا ملحوظًا، وتوثَّقَت عُرى المودة بينهما في هذه الفترة، بحيث لم يكونا يكادان يفترقان.
وبعد طلاق همنجواي من بولين بسبعة عشر يومًا، تزوج مارتا، وكان في الثانية والأربعين من عمره، بينما كانت مارتا في الثامنة والعشرين. وطارا بعد الزواج إلى الشرق الأقصى ليُغطِّيا أنباء الحرب اليابانية الصينية لصالح صحيفتَين مختلفتَين. وكانت رحلةً شاقَّةً إلى مناطق القتال. وقضيا أربعة شهور في الصين، لمَس همنجواي فيها مدى الصَّدع الذي حدَث بين شيانج كاي شيك وبين الشيوعيين الصينيين وحذَّر من نتائجه المرتقَبة على مستقبَل الصين. وبعد شهر العسل هذا، الذي استطال إلى أربعة شهور وسط جبهة القتال، عاد العروسان إلى ضيعة الزوج في كوبا، حيث اعتزم همنجواي العزوف عن خوض غِمار الحروب بعد ذلك، رغم أن بلاده كانت قد دخلَتها رسميًّا آنذاك بعد واقعة بيرول هاربور المشهورة.
وكان هذا هو الوقت الذي بدأ همنجواي فيه يُطلِق لحيته التي اشتُهر بها، وكان يزعم أنه اضطُر إلى ذلك من جرَّاء مرضٍ جلديٍّ أصاب وجهه وجعل من حلاقة ذقنه أمرًا عسيرًا.
وبدأت زوجته الجديدة تشعر بالملل، ووجدَت أن مثل هذا الزواج لن يتفق مع طموحها الواسع في التقدُّم في عملها الصحفي، فكان أن طارت بمفردها إلى أوروبا لتغطِّي أنباء الحرب العالمية لصالح مجلة كوليير. وبعد سفَرها بستة أشهرٍ طار همنجواي إلى خطوط القتال في أوروبا ليوافي مجلة كوليير هو الآخر بالتحقيقات الصحفية عن الحرب، ولكنه لم يكن مع زوجته، بل قضى معظم وقته مع مراسلةٍ صحفية تُدعَى «ماري ولش». وقد اشترك همنجواي في القتال فعلًا على الجبهة الفرنسية حين كان الحلفاء يُعِدُّون العُدَّة للغزو النورماندي، وكوَّن فرقةً من الفدائيين ترأَّسهم وكانوا ينادونه بلقب «بابا همنجواي»، وقد شاعت هذه التسمية بعد ذلك بين أصدقائه ومحبيه. وكانت هذه الفرقة هي أول جنود من صفِّ الحلفاء تدخل باريس، وكان أول شيء فعله همنجواي بعد دخوله العاصمة الفرنسية أن حرَّر فندقه الأثير «الريتز»، وعبَّ من خموره المعتَّقة. وقد حُوكِم همنجواي أمام محكمةٍ عسكريةٍ بعد ذلك لتخطِّيه حدود قوانين المراسلين الصحفيين باشتراكه الفعلي في القتال، ولكن لم يتقدَّم أحدٌ للشهادة على تلك الجريمة، فسقطَت عنه، كما مُنِح ميداليةً برونزية تقديرًا لشجاعته.
ولكن انهماك همنجواي في العمل والكتابة إبَّان هذه السنوات لم يمنعه من القيام بالرحلات التي يحبها، فجال في إيطاليا، وعاد ثانيةً إلى إسبانيا بعد أن سمحت له السلطات بذلك، وشهد مصارعات الثيران مرةً أخرى، وطاف بمسارح شبابه فيها وفي الأماكن التي كتب عنها أحداث روايته «وتشرق الشمس ثانيةً». وحنَّ ثانيةً إلى أفريقيا، فاصطحب مس ماري في رحلة صيد إلى أفريقيا موَّلتها مجلة «لوك». وكانت الرحلة موفَّقةً في قسمها الأول، فطاف همنجواي وماري في أدغال كينيا وتوجَّها مرةً إلى الكونغو. ولكن حدث أن سقطَت بهم الطائرة التي كانت تُقلُّهم فوق شلالات «مورشيون» ونجا من فيها بأعجوبة. وقضوا ليلتهم بين الوحوش الهائمة إلى أن أنقذهم قارب الاستطلاع الذي يجوب هذه المنطقة. وفي هذه الأثناء، طيَّرَت وكالات الأنباء خبر فقدان همنجواي، وصدرَت الصحف وفيها نعي الكاتب الكبير، وهزَّ الواثقون من وجود رغبةٍ خفية في الموت لدى همنجواي رءوسهم في عرفان.
وجاءت طائرةٌ لتُقل آل همنجواي بعد الحادثة إلى «عنتيبي» ولكن سوء الحظ لازمهم، فاصطدمَت بالأرض وشبَّت فيها النيران، وقد سببَت هذه الحادثة إصابات خطيرةً لهمنجواي في الكليتَين والكبد وحروقًا في الرأس والساعدَين والساقَين لازمَته آثارها بقيَّة حياته.
وعاد همنجواي بعد رحلته المشئومة تلك إلى «فينكا فيخيا» مع مس ماري. ووصلَته الأنباء بعدها من «استكهلم» بقرار الأكاديمية السويدية: منْحه جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٥٥م؛ لسيطرته القوية على أسلوب فن الرواية، التي تبدَّت أخيرًا في «العجوز والبحر». وقد قَبِل همنجواي الجائزة شاكرًا وإن اعتذَر عن عدم استطاعته الذهاب إلى السويد لحضور حفل استلامها، وأرسل خطابًا ألقاه نيابةً عنه هناك سفير الولايات المتحدة في السويد.
وحين عاد همنجواي في أواخر عام ١٩٦٠م إلى منزله بكيتشوم في ولاية «آيداهو»، بدأ الأصدقاء المقربون منه يلاحظون عليه تغيُّرًا كبيرًا. كان المرح والانطلاق قد زايَلاه، وبدأت تهاجمه الشكوك والريب في استمراره ككاتب، وفي مستقبَله في مهنته، كما بدأ يجد صعوبةً وثقلًا في الكتابة. وسِرُّ ذلك أنه كان قد تعوَّد أن يعيش على مستوًى معيَّن من القوة والنشاط والإقدام في كل شيء، في ممارسة الرياضة، وفي الصيد، وفي الكتابة وفي الشراب، وفي الرحلات، وفي كل أوجُه الحياة، فلمَّا بدأت هذه القوة تضعف فيه، فقدَ الثقة في نفسه وفي فنِّه.
وهكذا لاقى همنجواي الموت الذي طالما كتب عنه ودارت معظم رواياته وقصصه حوله.
مجموعة القصص القصيرة
تم اختيار المجموعة التي يجدها القارئ بين يديه بحيث تُقدِّم له صورةً كاملةً لفن القصة القصيرة لدى همنجواي. ورغم أن الكاتب قد اشتُهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تُقدِّم هي الأخرى نماذج قصصيةً ذات معمارٍ فنيٍّ مُحكَم مما يجعل من معظم تلك القصص أعمالًا خالدة ضمن إنتاج الكاتب.
وقد صدرَت قصص همنجواي القصيرة أول ما صدرَت في مجموعاتٍ هي: في زماننا (١٩٢٥م)، رجال بلا نساء (١٩٢٧م)، المنتصر لا يربح شيئًا (١٩٣٣م). كما نشر الكاتب عددًا آخر من قصصه في الصحف والمجلات بخلاف تلك الكتب الثلاثة. وتُقدِّم المجموعة الحالية عدة قصصٍ تُنشَر لأول مرةٍ باللغة العربية.
وكان همنجواي يُحب أن يكتب عن موضوعاتٍ وتجارب مرَّ بها بالفعل؛ نجد ذلك في رواياته كما نجده في قصصه. وضمن مجموعة قصصه القصيرة — التي بلغَت في مُجمَلها حوالي الثمانين — نجد سلسلة قصص «نك آدمز» التي تُصوِّره صبيًّا وشابًّا ورجلًا يتعرض لمواقف مختلفة تزيد من تجاربه بالحياة والطبيعة الإنسانية، وهو يظهر هنا في قصص: المخيم الهندي، الطبيب وزوجة الطبيب، قصة أفريقية، عشرة هنود.
وكتب همنجواي عن إسبانيا، البلد الذي أحبَّه وعشِق رياضته الشهيرة وهي مُصارَعة الثيران، وتعاطَف مع أهله إلى درجة أنه شارك في الحرب الأهلية التي نشبَت هناك لمدة أعوامٍ ثلاثة. وتُقدِّم المجموعة الحالية إسبانيا في قصص: الفراشة والدبابة، حاضرة الدنيا، مكانٌ نظيفٌ حسن الإضاءة.
أما عن القصص الأفريقية فنُقدِّم منها هنا: ثلوج كليمنجارو، وقصة أفريقية.
والقصة القصيرة عند همنجواي تتصف بالتركيز الشديد، وتُشرك القارئ في مطالعة تجربةٍ إنسانيةٍ. وأسلوب الكاتب هنا يمثل رأيه في فكرة جبل الثلج العائم الذي لا يظهر للعيان منه سوى ثُمن حجمه فقط، بينما بقيَّته مختفية تحت الماء. فالرواية عنده يمكن أن تُظهِر من ذلك الجبل الثلجي الكثير مما هو مختف، فطبيعتها تسمح بوجود التفاصيل الضرورية التي تكتمل معها الصورة الشاملة التي تقدمها الرواية. أما القصة القصيرة فهي تُقدِّم الجزء الظاهر فحسب، وتترك للقارئ تشرُّب البقية وفقًا لإحساسه ودرجة تجاربه في الحياة.
والقصة القصيرة على ذلك الوجه قد سمحَت لهمنجواي — أكثر مما سمحَت له الرواية — أن يتجلَّى في أسلوبه اللغوي المشهور القائم على التركيز والتخلِّي عن المحسِّنات اللفظية والصفات التي لا تخدم الحدث أو الشخصيات، مما سمَّاه النقاد بأسلوب الاقتصاد في التعبير. وهو أيضًا يستخدم الحوار على نحوٍ خاصٍّ به، يتصف بالإيجاز، والتكرار المقصود، واستخدام المفردات الشائعة المعروفة لدى من يتحدث من شخصيات القصة. وينجح كل ذلك في نقل اللمحات الإنسانية التي يحاول المؤلف أن ينقلها إلى القارئ كما شعر هو بها وهو يكتب القصة (انظر قصة قطة تحت المطر). وهو ينجح في ذلك إلى درجةٍ جعلَته واحدًا من كبار مؤلفي القصة القصيرة، مثلما هو من كبار مؤلفي الرواية.