رفاعة رافع الطهطاوي (١٢١٦–١٢٩٠ﻫ)
(١) حق الفرنساوية المنصوب لهم١
(٢) حقوق الناس التي يضمنها الديوان (البرلمان)
قوله في المادة الأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدَّام الشريعة، معناه سائرُ من يُوجد في بلاد فرنسا من رفيعٍ ووضيعٍ لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تُقام على المَلِك ويُنفَّذ عليه الحكمُ كغيره. فانظر إلى هذه المادَّة الأولى فإنها لها تسلُّطٌ عظيمٌ على إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم؛ نظرًا إلى إجراء الأحكام. ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجةٍ عالية وتقدُّمهم في الآداب الحضَرية، وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يُطلق عليه عندنا العدل والإنصاف؛ وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكَّمة والمعتبَرة؛ فهذه البلاد حَرية بقول الشاعر:
وبالجملة إذا وُجِد العدل في قطر من الأقطار فهو نسبيٌّ إضافي، لا عدل كلِّي حقيقي؛ فإنه لا وجود له الآن في بلدةٍ من البلدان؛ فإنه كالإيمان الكامل والحلال الصرف وأمثال ذلك ونظائره؛ فلا معنى لحصر المستحيل في الغول والعنقاء والخِلِّ الوفي كما هو مذكور في قوله:
وقال الشاعر:
ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلًا عظيمًا أو رديئًا، وكان من الأمور المهمة، كتبه أهل الجرنال ليكون معلومًا للخاص والعام، لترغيب صاحب العمل الطيِّب، ويرتدع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلومًا من إنسان كتب مظلمته في هذه الورقات فيطَّلع عليها الخاص والعام فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدولٍ عما وقع فيها ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم ويُحكم فيها بحسب القوانين المُقرَّرة، فيكون مثل هذا الأمر عبرةً لمن يعتبر. وأمَّا المادة التاسعة فإنها عين العدل والإنصاف، وهي واجبة لضبط جَورِ الأقوياء على الضعفاء، وتعقيبها بما في العاشرة من باب اللياقة الظاهرة. وفي المادة الخامسة عشرة نكتةٌ لطيفة وهي أن تدبير أمر المُعامَلات لثلاثة مراتب: المرتبة الأُولى الملك مع وزرائه، والثانية مرتبة البيريه المحابية للملك، والثالثة مرتبة رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية والمحابون عنهم حتى لا تُظلم من أحد، وحيثما كانت رسلُ العمالات قائمةً مقام الرعية ومتكلمةً على لسانها كانت الرعية كأنها حاكمةٌ نفسها، وعلى كلِّ حال فهي مانعةٌ للظلم عن نفسها وهي آمنة منه بالكلِّية. ولا يخفى عليك حكمةُ باقي المواد.
(٣) ثورة السنة ١٨٣٠ في ذكر التغييرات التي حصلت ما ترتَّب عليها من الفتنة
وقد سبق لنا من القوانين السالفة في الكلام على حقوق الفرنساوية في المادة الثامنة، أنه لا يُمنع إنسان في فرنسا من أن يُظهر رأيه ويطبعه، بشرطِ ألا يضُر ما في القوانين، فإن أضرَّ به أُزيل؛ فما كانت سنة ١٨٣٠ وإذا بالملك قد أظهر عدة أوامر منها النهي عن أن يُظهر الإنسان رأيه وأن يكتبه أو يطبعه بشروطٍ معيَّنة خصوصًا الكازيطات اليومية؛ فإنه لا بد في طبعها من أن يطَّلع عليها أحدٌ من طرف الدولة فلا يظهر منها إلا ما يُريد إظهاره، مع أن ذلك ليس حق الملك وحده فكان لا يمكنه عمله إلا بقانون، والقانون لا يُصنَع إلا باجتماع آراءٍ ثلاثة: رأي الملك ورأي أهل ديوانَي المشورة، يعني: ديوان البيريه وديوان رسل العمالات؛ فصنع وحده ما لا يُنفَّذ إلا إذا كان صنعه مع غيره. وغيَّر أيضًا في هذه الأوامر شيئًا في مجمع اختيار رسل العمالات يعني في الذين يختارون رسل العمالات ليبعثوها في باريس، وفتَح ديوان العمالات قبل أن يجتمع مع أنه كان حقه ألا يفتحه إلا بعد اجتماعهم كما فعله في المرة السابقة، وهذا كلُّه على خلافِ القوانين. ثم إن الملك لما أظهر هذه الأوامر كأنه أحسَّ في نفسه بحصول مخالفةٍ فأعطى المناصب العسكرية لعدة رؤساءَ مشهورِين بأنهم أعداءٌ للحرية التي هي مقصدُ رعية الفرنساوية. وقد ظهرت هذه الأوامر بغتةً حتى ظهر أن الفرنساوية كانوا غير مُستعدِّين لها. وبمجرد حصول هذه الأوامر قال غالب العارفِين بالسياسات إنه يحصل في المدينة محنةٌ عظيمة يترتب عليها ما يترتب كما قال الشاعر:
فعاد عليه ما فعله بنقيض مراده، وبنظير ما نواه لأضداده؛ فلو أنعم في إعطاء الحرية لفرقةٍ بهذه الصفة حَرية، لَما وقع في مثل هذه الحَيرة ونزل عن كرسيه في هذه المحنة الأخيرة، سيما وقد عَهِد الفرنساوية بصفة الحرية وألِفوها واعتادوا عليها وصارت عندهم من الصفات النفسية، وما أحسنَ قولَ الشاعر:
وأما أحسنَ قولَ الشاعر: