اكتشاف عالمين جديدين
البوصلة فَتَحت العالم من بعض الوجوه، فوُجِدت آسية وإفريقية اللتان كان لا يُعرَف غير أطراف منهما، ووُجدت أمريكة التي كان لا يُعرف منها شيء مطلقًا.
ويُبحِر الپرتغاليون فوق المحيط الأطلنطي ويكتشفون أبعد طرف في جنوب إفريقية، ويُبصرون بحرًا واسعًا، ويحمل هذا البحر إلى بلاد الهند الشرقية، وما كان من مخاطرهم فوق هذا البحر واكتشاف موزنبيق ومِلَنْدَة وكَلْكتَّة تُغَنِّيَ به من قِبل كامُوينْس الذي تُشعِر قصيدته بشيء من سِحر الأُوذِيسَّة وفخامة الإنئيد.
وكان البندقيون يقومون بتجارة الهند بطريق بلاد تركية حتى ذلك الحين، وكانوا يسعَون وراءها بين الإعنَات والإهانات، فلما وقع اكتشاف رأس الرجاء الصالح، وَوَقَع غيره من الاكتشافات بُعَيْد ذلك، عادت إيطالية لا تكون في مركز العالم التجاري، وغدت إيطالية في زاوية من العالم، ولا تزال كذلك. وبما أن تجارة المشرق نفسها تتبع اليوم ما تقوم به الأمم العظمى في الهندَيْن فإن إيطالية عادت لا تقوم بها إلا لحَاقًا.
ونال آلُ المُلك في النمسة ثراء عجيبًا، وجمع شارلْكِن وِراثة بورغونية وقشتالة وأَرغُونة، وانتهى إلى الإمبراطورية، واتسع العالم ليُنْعم عليه بنوع جديد من العظمة، ورُئِى ظهور عالَم جديد خاضع له.
واكتشف كريستوف كُولُنْبُس أمريكة، ومع أن إسپانية لم ترسِل إلى هناك من القُوى غير ما يستطيع أن يرسله أمير صغير من أوربة فقد أخضعت إمبراطوريتين عظيمتين ودولًا كبيرة أخرى.
وبينا كان الإسپان يكتشفون ويفتتحون من ناحية الغرب كان الپرتغاليون يتقدمون في فتوحهم واكتشافاتهم إلى ناحية الشرق، وتلتقي هاتان الأمتان، وتعوذان بالبابا إسكندر السادس الذي وضع الخط الفاصل المشهور، وحكم في قضية كبيرة.
غير أن أمم أوربة الأخرى لم تدعهما تتمتعان بقسمتهما هادئتين، فطرد الهولنديون الپرتغاليين من جميع الهند الشرقية تقريبًا، وأقامت أمم كثيرة مؤسسات في أمريكة.
وفي البُداءة عد الإسپان ما اكتُشف من الأرضين مواضِع فتحٍ، ووجدتها شعوب أوسع حيلة منهم محال تجارة، وهذا ما وَجهت إليه أبصارها، وبلغ كثير من الشعوب من السَّير بحكمة ما أنعمت معه بالإمبراطورية على شركات تجارية سيطرت على تلك الدول القاصية في سبيل التجارة فقط فنالت سلطانًا عظيمًا لاحقًا من غير أن تضايق الدولة الرئيسة.
وما أُنشئ هنالك من المستعمرات هو من الاتِّباع ما لا يوجد معه غير قليل من الأمثلة في المستعمرات القديمة، سواء على المستعمرات الحاضرة أكانت تابعة لذات الدولة أم لشركات تجارية قائمة في هذه الدولة.
وغاية هذه المستعمرات أن تزاوِل التجارة في أحوال بالغة من الحسن ما لا يكون في الاتِّجار مع الشعوب المجاورة التي لا يُتَاجَر معها إلا ضمن منافع متبادلة، ومما اصطُلح عليه هو أن الوطن الأم وحدَه هو الذي يستطيع الاتجار في المستعمرة، وهذا لداعٍ كبير، وهذا لأن غاية المؤسسة قامت على توسيع التجارة، لا على إنشاء مدينة أو إمبراطورية جديدة.
ومما اصطُلح عليه أيضًا أن التجارة بين الأوطان الأُمَّات لا توجِب إجازةً للمستعمرات التي تَظَل في حال الحَجْر دائمًا.
ويَتْبَع ذلك قانون أوربي ثالث، وهو أن التجارة الأجنبية مع المستعمرة إذا ما حُظِرَت لم تُمْكِن الملاحة في بحارها في غير الأحوال المنصوص عليها في المعاهدات.
ولا ينطوي بُعْدُ مستعمراتنا المتناهي على محذور لسلامتها، وذلك لأن الوطن الأم إذا كان من البُعْدِ ما لا يدافع معه عنها فإن الأمم المنافسة للوطن الأم ليست أقل بُعدًا حتى تفتَحها.
وأسفر اكتشاف أمريكة عن ربط آسية وإفريقية بأوربة، وتجهَّز أمريكة أوربة بمادة تجارتها مع ذلك بذلك القسم الواسع من آسية الذي يُسمى الهند الشرقية، فالفضة، هذا المعدن النافع جدًّا في التجارة كرَمزٍ. هي قاعدة أعظم تجارة في العالم كسلعة أيضًا، ثم إن ملاحة إفريقية أصبحت ضرورة، فهي تُزوِّد بالرجال عمل المناجم والأرضين بأمريكة.
وبلغت أوربة من رِفعة السلطان ما لا يوجد في التاريخ ما يقاس به إذا ما نُظر إلى اتساع النفقات وعظم الالتزامات وعدد الكتائب ودوام مَيْرِها وإن كانت أكثر الأشياء عدم فائدة ولم تُقْتَن إلا للافتخار.