طراز تفكير آبائنا
من أغرب ما يُرَى أن يَربِط آباؤنا شرف أبناء الوطن وغِناهم وحياتهم بأمور أقل اتِّباعًا للعقل مما للمصادفة، وأن يتخذوا، بلا انقطاع، بينات لا تُثبِت شيئًا ولا تَمُتُّ إلى البراءة، ولا إلى الجريمة برابطة.
وكما أن الترك في الوقت الحاضر يَعُدُّون أول نصر يُنال في حروبهم الأهلية حُكْمًا من الله الذي يقضي كانت شعوب الجرمان تَعُد المبارزة في خصوماتها الخاصة من أحكام الرب الذي يُعنَى دائمًا بمجازاة المجرم أو الغاصب.
ويروي تاسيت أن أحد شعوب الجرمان إذا ما أراد محاربة شعب آخر حاول أن يكون عنده أسير قادر على مبارزة أحد أبنائه فيُحكم بهذه المبارزة فيمن يُعَدُّ منصورًا في الحرب، فشعوب تعتقد أن المبارزة القضائية تُسوِّي الخصومات العامة يمكنها أن ترى إمكان تسويتها خصومات الأفراد أيضًا.
ولبينة المبارزة القضائية سبب قائم على التجربة، وذلك أن الجُبن في الأمة المحاربة، حصرًا، يفترض معايب أخرى، فيثبت مقاومة الرجل للتربية التي تلقَّاها وكونه لم يبالِ بأمور الشرف ولم يُسَيَّر بالمبادئ المسيطرة على الرجال الآخرين، ويدل على أنه لا يُخشَى ازدراؤها ولا يُكتَرَث لاحترامها، أي أن الرجل، مهما قَلَّ حُسنُ مَنْبَتِهِ، لم يُعْوِزْه، عادة، شيء من الحذق الذي يقترن بالقوة، ولم تُعوِزه القوة التي تتفق مع الشجاعة، فهو إذا ما اكترث للشرف مارَسَ في جميع حياته أمورًا يتعذر عليه أن يناله بغيرها، ثم إن الجرائم الفظيعة في الأمة المحاربة، حيث تكون القوة والشجاعة والمروءة أمورًا مكرَّمة، تنشأ عن الخداع والمكر والحيلة، أي عن الجُبن.
ولذا أقول إنه كان يوجد في أحوال الأزمنة التي اتُّخذت فيها عادة البينة بالمبارزة والبينة بالحديد المحمَى والماء الحميم من توافق هذه القوانين والطبائع ما كانت هذه القوانين تؤدي معه إلى مظالم أقل من جَورها وما كانت المعلولات معه أزكى من العلل وما كانت القوانين تصدِم معه الإنصاف أكثر من خَرقها الحقوق، وما كانت معه أكثر عدم صواب من كونها ذات طغيان.