مقدمة
إن سُنَّةَ الفنون جميعها أن يؤثر بعضها في بعض، وأن تتوارث وتتبادل الأساليب الفنية المختلفة. وقد وجد علماء الفنون والآثار أن العناصر الزخرفية في كل فن من الفنون مشتقة من عناصر زخرفية في فن أعرق منه في القدم، وأن هذه السلسلة الراجعة تعود بنا إلى أقدم مراحل الفن التي نعرفها في مصر، وبلاد الجزيرة، والصين، والهند، وبلاد الإغريق.
ومهما يكن من الأمر فإن الذي يعنينا الآن هو أن الفن الصيني فن عريق في القِدم، احتفظ بكثير من أساليبه الفنية على كر العصور، وازدهر في محيط اجتماعي واسع، وكانت له وحدة فنية منذ الألف الثالثة قبل المسيح إلى العصر الحاضر، وقد عرف المسلمون هذا الفن منذ فجر الإسلام، وأُعجبوا بمنتجاته فتأثروا بها.
فموضوع البحث الذي نحن بصدده هنا يشمل بيان العلاقة بين الصين والشرق الأدنى في العصر الإسلامي، ثم التحدث عن وجود التحف الصينية في المدن الإسلامية في العصور الوسطى، وعن إعجاب المسلمين بتلك التحف، وعن تقليدهم إياها، ومحاكاتهم بعض الأساليب الفنية فيها، وعن أوجه الشبه بين فنون الشرقين الأدنى والأقصى، تلك الأوجه التي مهدت السبيل لهذا التبادل الفني، وجعلته سهلًا ميسورًا.
ولا ننسى في هذه المناسبة أن من فضل العرب في ميدان الحضارة معرفتهم أن قصب السبق في الفنون حازته الأمم الحضرية القديمة، فلما وَحَّدَ الإسلام كلمتهم، وعظم به شأنهم، فامتدت فتوحاتهم، وأخضعوا الإيرانيين، ودانت لهم مستعمرات بيزنطة في آسيا وأفريقية، أتيح لهم الاتصال بالحضارات القديمة، وتركوا قسطًا وافرًا من حياتهم البدوية، وشملوا برعايتهم الصناع والفنانين من أهل البلاد المغلوبة على أمرها؛ فقام للإسلام فن جميل على أنقاض الأساليب الفنية التي كانت سائدة في الأقاليم التي فتحها العرب، وجعلوها قوامًا لعاهليتهم الواسعة الأطراف. وقد جمع الإسلام شتات هذه الأساليب الفنية المختلفة، وطبعها بطابعه، ولكن أتيح لها بعد ذلك أن تتأثر بفنون الشرق الأقصى، وسنرى في الصفحات التالية أن هذا الأثر كان واضحًا في القسم الشرقي من العالم الإسلامي.