من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

أولًا: الأخلاق النفسية (الكِندي)

(١) من الحكمة النظرية إلى الحكمة العملية

إذا كانت الحكمة النظرية تشمل المنطق ثم الطبيعيات والإلهيات ثم النفس، فإن الحكمة العملية تَضمُّ الأخلاق ثم الاجتماع والسياسة ثم التاريخ؛ فالعلم يَسبِق العمل، والعمل مثال للعلم. العلم مقدمة، والعمل نتيجة. العلم بداية، والعمل نهاية.

وترتبط الأخلاق بالنفس، والفضائل بقُواها، حتى إنه ليصعب الفصل بينهما، ثم تتحول الأخلاق الفردية إلى أخلاقٍ اجتماعية وسياسية، كما ضمَّت الحكمة النظرية الطبيعيات الإلهية أو الإلهيات الطبيعية معًا. أما التاريخ فهي الإضافة الجديدة التي لها جذورها في الحكمة العملية القديمة من أجل تحويل المِحور الرأسي الغالب على علوم الحكمة إلى المحور الأفقي، من أجل إعادة صياغة النُّزوع نحو الله إلى تقدُّم في التاريخ. صحيحٌ أن القسمة الثلاثية عند القدماء الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل أي الاقتصاد، والحقيقة أن السياسة والاقتصاد والاجتماع علمٌ واحد في علم الاقتصاد السياسي أو علم الاجتماع السياسي، والناقص هو فلسفة التاريخ.

والحكمة العملية تعبيرٌ قديم للإنسانيات كتعبيرٍ حديث، وهي ما سمَّاه إخوان الصَّفا العلوم الإلهية الناموسية والشرعية، والفارابي العلم المدني، ومسكويه «تهذيب الأخلاق». ويختلف الحكماء فيما بينهم على درجة التركيز عليها، بدرجةٍ أقل عند الكِندي والرازي، وبدرجةٍ أكبر عند إخوان الصفا والفارابي وابن سينا ومسكويه. والعلم المدني عند ابن باجه موضوع للطبيعيات نظرًا لوحدة العلوم. الفعل الطبيعي في الطبيعيات، والفعل الإرادي في العمليات، الأخلاق والاجتماع. والمنطق رئيسها؛ لأن البرهان رئيس على سائر الصنائع بما هو هيئتها، وأن كلها تُستنبط منه.١

(٢) تطهير النفس

يتوجه الكِندي بخطابه الأخلاقي إلى النفس؛ فالشقيُّ المغرور الجاهل من رضِي لنفسه بلذَّات الحس، وكانت هي أكثر أغراضه ومنتهى غايته. فالبكاء على من يُهمل نفسه، وينهمك في ارتكاب الشهوات التي تتنزل به إلى طبع البهائم، وتُبعده عن الأمر الشريف. عليه الإخلاص له، وتطهير النفس حسب الطاقة. الطُّهر طُهْر النفس؛ فإن الحكيم المُتعبد لباريه إذا كان ملطَّخ البدن فهو أشرف من الجاهل بالمِسك والعنبر. يعترف بفضل المُتعبد الذي هجر الدنيا وكل الناس بما في ذلك الجُهال؛ فالإنسان عابر سبيل إلى إرادة الباري. لا فرق إذن في الخطاب الأخلاق بين النظر والعمل، بين التحليل النظري والنصائح العملية، بين الفهم والسلوك.٢

(٣) دفع الأحزان

وإذا كانت الغاية من الأخلاق السعادة، فقد عبَّر الكِندي عن هذا التيَّار في رسالته «الحيلة لدفع الأحزان»، واستمرَّ فيه الرازي في «كتاب اللذَّة»، وابن سينا في «دفع الغم من الموت»، ثم تحوَّل إلى علمٍ مستقل عند مسكويه. وبالرغم من الأسس النفسية لهذه الرسائل إلا أنها تتجاوز النفس إلى الأخلاق، أي إلى السلوك، كما يتجاوز الاجتماع الأخلاق، والسياسة الاجتماع، والتاريخ السياسة. تناولته باقي العلوم مثل التصوف، مثل الغزالي في «كيمياء السعادة».

يَجمع الكِندي في الرسالة بين الطب والأخلاق والإشراق، ويستعمل لغة الملوك وأخلاقهم ضربًا للأمثال. أفضل تشبيه للجهاد جهاد النفس كما يُجاهد الملك الأعداء، والحذر والحيطة من العدو والاستعداد له، بصرف النظر عما يُعبر هذا المثل عن واقعٍ فِعلي، ثقافة الرئيس والمرءوس.

ويرتبط الحزن بالملكية في تعريفه؛ فالحزن ألمٌ نفسي يَعرض لفقد محبوب أو فوت مطلوب. والحيلة تعني الوسيلة، وكما هو معروف في علم الحيل. ونظرًا لثنائية النفس والبدن المُتطهرة فإن العلاج يكون محاولةً ذاتية للاستثناء عن طريق العمل العقلي والتغير الداخلي دون الواقع الخارجي، شرب دواء أو بألم حديد ونار أو بإنفاق مال، نوع من رياضة النفس الباطنية كما هو الحال في النزعة المثالية في الأخلاق، اعتمادًا على النفس والعزيمة بالإضافة إلى العادة، والالتزام بالعادة المحمودة في الأمر الأصغر يُسهل الالتزام بها فيما هو أكبر. هناك تشابهٌ بين الطب البدني والطب الروحاني كما هو الحال عند إخوان الصفا والرازي والفارابي وابن سينا في «رسالة الطير». الطب لعلاج الأبدان والحيلة لدفع الأحزان لعلاج النفوس. وإصلاح النفس أولى من إصلاح البدن؛ فالإنسان بنفسه لا ببدنه. النفس ذات وغاية، والبدن موضوع وآلة. وإصلاح الذات سابق على إصلاح الموضوع.٣
ويمكن القضاء على الحزن حتى يمكن تجنُّب الخِداع في الأرض بعد معرفة أقسامه. فالحزن قسمان؛ من فِعلنا، ومن فِعل غيرنا. والحزن من فِعلنا قسمان؛ ما لا نريد ويكون في مقدورنا، وما نريد فنرضى. والحزن من فِعل غيرنا قسمان؛ ما يمكن مقاومته لأنه يدفعنا إليه، وما يمكن تجنُّبه لأننا لم ندفع إليه.٤ الحزن هنا فعلٌ حرٌّ يرضى به الإنسان، وهو في مقدوره، يمكن مقاومته أو تجنُّبه إذا كان دفعه إلينا ندفعه ولا نحزن، وإن كان دفعه ليس إلينا فلا نحزن قبل وقوعه. ويمكن تذكُّر الأحزان القديمة ومُحزِنات الغير، وسلوتنا وسلوتهم عنها، والتأسِّي بالماضي عندنا وعند الغير عن طريق الذاكرة الحية، ونذكُر أن ما فقدناه أو ما فاتنا حدث لغيرنا، وكلهم قنعوا وانتهى حزنهم؛ أي العِبرة بالغير. والمصائب جزء من الموقف الإنساني نظرًا للوضع الهش للإنسان.٥ والأشياء مشتركة بيننا وبين الناس، فلا نحزن على ما يؤخذ إلا عَنوةً. يقع الحسد إذن نظرًا لوجود الاشتراك في الأشياء مع الآخرين. والعالم ليس ملكنا وحدنا، والشيء مرةً لنا ومرةً لغيرنا؛ أي الإحساس بالعدل، والحب لأنفسنا وللآخرين. ولما كانت القُنية المشتركة عارية لمُعِير هو مُبدِعها، وهو الله، فإن استردَّها فلا حزن عليها. الله أعطى وهو الذي أخذ. وهنا تبرُز أهمية العقائد في دفع الأحزان. ولما وقع التناقض بين عدم وجوب الحزن على الغائب والمفقود وضرورة الحزن عليه يكون الحزن أمرًا مُشتبهًا لا حكم ولا أساس له، حال بين الوجود والعدم. وهناك تناقضٌ آخر بين عدم كره ما ليس برديء، وكره الرديء، مثل الموت ليس برديء، والخوف منه رديء. الموت في الطبع، والوجود من أجل الموت؛ أي عدم كراهية ما ليس برديء، وكراهية الرديء.٦ وإن عدم الاشتغال بالقُنية الحسية الضائعة بل بالوجود يؤدي إلى السُّلو عن الضائع؛ فالوجود دائم لا يضيع؛ لذلك كان الإيمان بالله مُخففًا للأحزان، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. وكل حزن على فائت أو مفقود يُسقط عنا بعض المحرَّمات، ويحمي النفس من الغواية، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وكأن الوجود محرَّم من البداية وليس حلالًا، مع أن الأشياء في الأصل على الإباحة.
وهو موضوعٌ قرآني، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ،٧ والحمد لله الذي يُذهب الحزن، الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، والمؤمنون لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، عكس الصوفية في إثبات الحزن كأحد المقامات. ولا يمكن دفع الأحزان عن طريق إثبات التناقض المنطقي في الحزن. ليس الحزن موضوعًا كميًّا، ما دامت المصائب قد وقعت فيمكن التخفيف من دفعها كمًّا، وكأنَّ كمَّ المصائب في تزايد باستمرار. وليس في الموجود غنًى وتعويض عن المفقود. وهل البشر أعداد على البدل؟ قد يؤدي دفع الأحزان إلى نهاية الغضب والتمرُّد والثورة، ويصبح «أفيون الشعب»، كما هو الحال في المثل الشعبي «الله جاب، الله خد، الله عليه العوض». ليس الآخر مِقياسًا للسلوك والعِبرة بالآخرين؛ فالأمر ذاتيٌّ فرديٌّ خالص. وقد لا تكون الطبيعة العربية في حاجة إلى دفع الأحزان لأنها مرِحة تعرف النِّكات. ولا يستطيع الإنسان تطبيق هذه الوصايا واحدةً وراء الأخرى؛ لأن الحياة تيَّارٌ جارف، ومُغامرة لا يمكن التحكم فيها عقلًا. الحزن طبيعي في الإنسان، وجزء من نسيج وجوده، والتخفيف عنه عمليةٌ نفسية، ولكن لا يمكن القضاء عليها، وإلا فقد الإنسان وجوده. ويمكن طرح نفس التساؤلات حول الفرح، وليس حول الحزن وحده.
وتكثُر طُرُق دفع الأحزان عن طريق الوصايا المُتداخلة، واعتمادًا على الذات دون العِبرة بالغير؛ إذ يمكن مشاهدة العالم العقلي تعويضًا عن المُتغير بالثبات، والفناء بالبقاء، والزوال بالدوام، وعدم الرضا بأن نكون أجهل الجاهلين، وأفظِّ الأفظِّين، وأجْوَر الجائرين؛ ومن ثَم يكون العلم طريقًا لدفع الأحزان. ولما كان عدم العقل خسَّةً لزِم التخلِّي عن مرتبة الجهل، فالجهل شفاء. وإذا كان عدم الحزن على المفقود والغائب ممكنًا، فعدم الحزن على الإطلاق ضروري، وتذكُّر الباقي سلوى عن فقدان المعدود حسيًّا كان أم عقليًّا، وتوقُّع الخير في المستقبل خيرٌ من التأسِّي على الماضي؛ فتتحوَّل العادة إلى خُلقٍ مُستفاد، والتعوُّد على تربيةٍ دائمة، والسرور بالشاهد، والسلوى عمَّا فات. ولا نضع لأنفسنا شيئًا رديئًا؛ أي تصوُّر العالم على أنه خير، وأن الأفضل عدم وقوع المصائب البتَّة، وهو مُستحيل؛ فالمصائب جزء من الحياة، والحزن أفضل من عدم الحزن. ويتحمل المؤمن في إصلاح النفس ومن جرَّاء صعوبة العلاج أضعاف ما يتحمَّله آخر في علاج البدن. والشر جزء من الخير، ولو لم يكن هناك شرٌّ لما كان هناك خير، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.٨
والحقيقة أن هذه ليست وسائل، بل تربيةٌ نفسية واستعداداتٌ عقلية، تقوم على استدعاء الذكريات، واسترجاع الماضي، واستخراج مكنونات النفس؛ أي العلاج عن طريق السيرة الذاتية والتأمل الباطني، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل. ويستعمل الكِندي لغة التقنين والواجب وعبارات «المايَنْبغيَّات»؛ مما يدل على التوجه العملي. و«ينبغي» تتضمَّن «لا ينبغي»، والإيجاب يتضمَّن السلب، وكما هو الحال في الأمر والنهي عند الأصوليين. والحديث بلغة «النَّحن»؛ أي الجماعة والأمَّة.٩ وأسلوب الوصايا والتذكير أسلوبٌ قرآني، أسلوب لقمان لابنه وهو يعظه، والذي ظهر في الخطاب السياسي إلى أدبيات نصائح الملوك، وليس بالضرورة اختفاء أثر وصايا أرسطو للإسكندر.

وواضحٌ أن الباعث وراء كل هذه الوصايا هو الدين المئوَّل؛ أي الدين المقنَّع، الدين غير المباشر بفعل التشكُّل الكاذب؛ فعالم العقل عالم الثبات والدوام الذي لا يضيع فيه شيء، وهو التصوُّر الفلسفي للملكوت الأعلى كما هو الحال في الأخلاق المثالية. الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد الذي يعيش فيه الإنسان، وموجودان اضطرارًا في عالم العقل الذي يمكن مشاهدته، والذي يبقى فيه كل مفقود ومعدوم ومحبوب ومطلوب؛ ففي عالم العقل لا يُفقَد ولا يُعدَم أي شيء، لا يوجد حزن في عالم العقل بل في عالم الجهل، عالم الزوال والتغيُّر، يحزن الإنسان للفراق في عالم الدنيا، ولا يحزن في عالم الوصال الذي تغيب فيه الآلام النفسية والقُنيات الحسية. ولو قيل له أنْ تُرَد إلى عالم الدنيا الفسيح لكان جزعه أكثر. في عالم العقل لا يضيع شيء، كل شيء في موضعه. وفي عالم الدنيا يضيع الشيء لأنه يصبح في غير موضعه، فيكون مَنبع الآلام والرذائل والأسقام والغضب والشهوة. ويضرب الكِندي المَثل بحكايةٍ رمزية؛ مَركب نزل منها الرُّكاب ليحمل كلٌّ منهم شيئًا من الجزيرة، وعادوا وغرقت، وضاع كل شيء إلا من حمل الحكمة. وهي تُشابه حكاية الصوفية عن الخضر والسفينة التي خرقت وغرقت طبقًا لأصل الحكاية في القرآن، ومثل رسالة الطير لابن سينا، والغزالي عن هجرة الروح.

وهناك أيضًا الدين الصريح، الدين المباشر، ذكر الله، المبدع، جلَّ ثناؤه، والحكمة الإلهية في الكون، وعدم الحزن لمخالفة هيئة الرسول لنا؛ لأنه ليس واجبًا أن تكون الصورة كما نهوى في الزمان والخلق، تكفيه المحبَّة منَّا، وهو ما قد يُخالف صورة الرسول البشري في القرآن الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.

١  ابن باجه، النفس، ص٢٨٤.
٢  «فيأيها الإنسان الجاهل، ألا تعلم أن مَقامك في هذا العالم إنما هو كلمحة، ثم تصير إلى العالم الحقيقي فتبقى فيه إلى أبد الآبدين؟ وإنما أنت عابر سبيل في هذا الأمر، إرادة باريك عزَّ وجل. فقد علَّمت جلَّة الفلاسفة، واختصرناه من قولهم إن النفس جوهرٌ بسيط. فقط افهمْ ما كتبت به إليك تكُن به سعيدًا، أسعدك الله في دنياك وآخرتك» (الكندي، القول في النفس، ص٢٧٩-٢٨٠).
٣  الكندي، رسائل، ص١–٣٢، خاصةً ص٦، ١١-١٢، ٣١. وهي نفس النزعة المثالية التي عبَّر عنها توفيق الطويل في فكرنا المعاصر، وقبل ديكارت وكانط وفشته في المثالية الغربية.
٥  هذا هو أيضًا موقف الوجوديين.
٦  وهو ما تقوله سيمون دي بوفوار في «كل البشر فانون»، والوجود من أجل الموت عند هيدجر، والوجود الهش عند مارسل، ونفيه كظاهرةٍ موضع اهتمام عند برنشفيج.
٧  وذلك مثل رهان بسكال وأفضلية حال المؤمن على حال الكافر.
٨  الكندي، الحيلة لدفع الأحزان، ص١٧-١٨.
٩  «فمثِّلْ أيها الأخ المحمود هذه الوصايا مثالًا ثابتًا في نفسك تنجُ بها من آفات الحزن، وتبلغ بها إلى أفضل وطن من دار القرار ومحل الأبرار، كمَّل الله لك السعادة في دارَيك، وجلَّل الإحسان فيها إليك، وجعلك من المُقتدين والمُتنعمين بجنى ثمر العقل، وباعدك عن ذل خساسة الجهل» (الكندي، الحيلة لدفع الأحزان، ص٧-٨، ١٨، ٢٢، ٣١؛ النفس، ص٣١).