أولًا: الأخلاق النفسية (الكِندي)
(١) من الحكمة النظرية إلى الحكمة العملية
إذا كانت الحكمة النظرية تشمل المنطق ثم الطبيعيات والإلهيات ثم النفس، فإن الحكمة العملية تَضمُّ الأخلاق ثم الاجتماع والسياسة ثم التاريخ؛ فالعلم يَسبِق العمل، والعمل مثال للعلم. العلم مقدمة، والعمل نتيجة. العلم بداية، والعمل نهاية.
وترتبط الأخلاق بالنفس، والفضائل بقُواها، حتى إنه ليصعب الفصل بينهما، ثم تتحول الأخلاق الفردية إلى أخلاقٍ اجتماعية وسياسية، كما ضمَّت الحكمة النظرية الطبيعيات الإلهية أو الإلهيات الطبيعية معًا. أما التاريخ فهي الإضافة الجديدة التي لها جذورها في الحكمة العملية القديمة من أجل تحويل المِحور الرأسي الغالب على علوم الحكمة إلى المحور الأفقي، من أجل إعادة صياغة النُّزوع نحو الله إلى تقدُّم في التاريخ. صحيحٌ أن القسمة الثلاثية عند القدماء الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل أي الاقتصاد، والحقيقة أن السياسة والاقتصاد والاجتماع علمٌ واحد في علم الاقتصاد السياسي أو علم الاجتماع السياسي، والناقص هو فلسفة التاريخ.
(٢) تطهير النفس
(٣) دفع الأحزان
وإذا كانت الغاية من الأخلاق السعادة، فقد عبَّر الكِندي عن هذا التيَّار في رسالته «الحيلة لدفع الأحزان»، واستمرَّ فيه الرازي في «كتاب اللذَّة»، وابن سينا في «دفع الغم من الموت»، ثم تحوَّل إلى علمٍ مستقل عند مسكويه. وبالرغم من الأسس النفسية لهذه الرسائل إلا أنها تتجاوز النفس إلى الأخلاق، أي إلى السلوك، كما يتجاوز الاجتماع الأخلاق، والسياسة الاجتماع، والتاريخ السياسة. تناولته باقي العلوم مثل التصوف، مثل الغزالي في «كيمياء السعادة».
يَجمع الكِندي في الرسالة بين الطب والأخلاق والإشراق، ويستعمل لغة الملوك وأخلاقهم ضربًا للأمثال. أفضل تشبيه للجهاد جهاد النفس كما يُجاهد الملك الأعداء، والحذر والحيطة من العدو والاستعداد له، بصرف النظر عما يُعبر هذا المثل عن واقعٍ فِعلي، ثقافة الرئيس والمرءوس.
وواضحٌ أن الباعث وراء كل هذه الوصايا هو الدين المئوَّل؛ أي الدين المقنَّع، الدين غير المباشر بفعل التشكُّل الكاذب؛ فعالم العقل عالم الثبات والدوام الذي لا يضيع فيه شيء، وهو التصوُّر الفلسفي للملكوت الأعلى كما هو الحال في الأخلاق المثالية. الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد الذي يعيش فيه الإنسان، وموجودان اضطرارًا في عالم العقل الذي يمكن مشاهدته، والذي يبقى فيه كل مفقود ومعدوم ومحبوب ومطلوب؛ ففي عالم العقل لا يُفقَد ولا يُعدَم أي شيء، لا يوجد حزن في عالم العقل بل في عالم الجهل، عالم الزوال والتغيُّر، يحزن الإنسان للفراق في عالم الدنيا، ولا يحزن في عالم الوصال الذي تغيب فيه الآلام النفسية والقُنيات الحسية. ولو قيل له أنْ تُرَد إلى عالم الدنيا الفسيح لكان جزعه أكثر. في عالم العقل لا يضيع شيء، كل شيء في موضعه. وفي عالم الدنيا يضيع الشيء لأنه يصبح في غير موضعه، فيكون مَنبع الآلام والرذائل والأسقام والغضب والشهوة. ويضرب الكِندي المَثل بحكايةٍ رمزية؛ مَركب نزل منها الرُّكاب ليحمل كلٌّ منهم شيئًا من الجزيرة، وعادوا وغرقت، وضاع كل شيء إلا من حمل الحكمة. وهي تُشابه حكاية الصوفية عن الخضر والسفينة التي خرقت وغرقت طبقًا لأصل الحكاية في القرآن، ومثل رسالة الطير لابن سينا، والغزالي عن هجرة الروح.
وهناك أيضًا الدين الصريح، الدين المباشر، ذكر الله، المبدع، جلَّ ثناؤه، والحكمة الإلهية في الكون، وعدم الحزن لمخالفة هيئة الرسول لنا؛ لأنه ليس واجبًا أن تكون الصورة كما نهوى في الزمان والخلق، تكفيه المحبَّة منَّا، وهو ما قد يُخالف صورة الرسول البشري في القرآن الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.