من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

رابعًا: السلطة السياسية

والسلطة السياسية هي قلب علم السياسة الذي قارَب تجاوُز الأخلاق السياسية إلى السلطة في المجتمع ورئاسة المدينة، سواءٌ الملك الفيلسوف أو الخليفة أو الإمام أو النبوة في المجتمع كوظيفةٍ تشريعية.

الرئاسة في الفضيلة تُشخَّص وتُصبح رئاسة في المدن. والبنية واحدة؛ القمة والقاعدة. ولما كانت الفضائل الفكرية أكمل الفضائل الخلقية، كانت أعظم رئاسة وقوة؛ لأنها أعمُّ للبشر جميعًا وأبقى في التاريخ، وهي الفضيلة الرئاسية. والفضائل الأعم والأبقى أعظم رياسة. وكلما كانت الفضائل المشتركة بين الأمم أو أمة أو مدينة في مدةٍ أطول كانت أكمل رياسة وأعظم قوة، تتلوها الفضائل في مدةٍ أقصر. فهل تعظُم الرئاسة وتشد قوة بالفضائل الخاصة أم بالفضائل العامة، بالدفاع عن المصلحة الخاصة أم عن المصلحة العامة؟ هل الرياسة أنانية بالضرورة تعتني بمصالح المجموع من أجل مصلحة الفرد؟ وكما أن للفضائل ترتيبًا ابتداءً من الفضيلة الكاملة إلى ما هو أقل منها، كذلك الصناعات لها رئاسة في الصناعة الرئيسية وغيرها أقل منها. ويكون السؤال: هل الرياسة استنباط الفضيلة من النفس؟

وتختلف الموازين باختلاف الموقع من السلطة رئيسًا ومرءوسًا؛ فالتحليل السياسي أساس التحليل الأخلاقي؛ إذ يختلف صاحب الخلق المحمود والضابط لنفسه حيث الاستحقاق. الأول أفضل من الثاني إذا كان مدبِّرًا للمدينة؛ أي الرئيس. أما الإنسان فهو أفضل من الطبيعي لأنه يستحقُّ فضيلة الاجتهاد، وإن هفا هفوة فإن الرئيس يؤمه ولا يعدو إثمه. أما صلاح الرئيس فعامٌّ إن هفا فسد الناس؛ فيجب أن تكون الفضائل في طباعها، ويكفيه ثواب التقويم. وينتهي الفارابي إلى أن الناس على دين ملوكهم، وأن الرئيس لا يحتاج إلى ضبط النفس لأنه فاضل بالطبع، وأن ضبط النفس والصراع معها للعامة، وأن الرئيس يقوِّم العامة وله ثواب على ذلك، وأن على الشعوب وصايا، وما أسهل على الطاغية أن يدَّعي الكمال.١

والقياس بين العامة والخاصة هي الرئاسة، الرياسة الفكرية أو الرياسة الصناعية. الرئيس هو أخص الخواص، وهو ليس فقط، بل كل من يقوم مقامه، غاية أو فضيلة. قد يقوم مقامَ الرئيس من ينوب عنه ويُفوَّض بدلًا منه، وذلك بشرطَين؛ الأول أن يكون علمه من تلقاء نفسه، وهنا يتم تغليب الطبيعة على الإرادة، والاكتساب على الإلهام. والثاني أن يكون الرئيس أرشده إليه وحمله عليه، وهنا يتم تغليب التعليم والإرشاد من الخارج.

وقد يوجد ملوك ورؤساء في وقتٍ واحد في جماعة أو في مدينةٍ واحدة أو في أمةٍ واحدة أو في أممٍ كثيرة، تكون جماعتهم لملكٍ واحد نظرًا لوحدة الهدف والغرض والإرادة والسيرة؛ فالكثرة في الوحدة.

والسؤال هو: هل يمكن أن يعرف الإنسان من تلقاء نفسه أنه نائب الرئيس، أو أن يرشد نائبه كي ينوب عنه، أم إن الواقع يفرض عادةً أن ينقلب نائب الرئيس على الرئيس ويُزحزحه بانقلاب وسفك دماء حتى يصبح هو الرئيس الأول، أو سلمًا بعد وفاة الرئيس وتغيير سياسته من نائب الرئيس بعد أن أصبح رئيسًا؟

الرياسة ضرورة للجماعة، قد تكون فردية أو جماعية. وقد ترجع ضرورتها لتنظير الموروث «لو كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم واحدًا». يركِّز أهل السنة على المؤسَّسات، في حين يركِّز الشيعة على الإمام، وكلاهما سواء في السلطة.

وهي نوعان؛ الأول جسداني، مثل رياسة الملوك والجبابرة الذين ليس لهم سلطان إلا على الأجسام بالقهر والغلبة والجور والظلم استعبادًا للناس، واستخدامهم قهرًا في إصلاح أمور الدنيا وشهواتها والغرور بلذَّاتها. والثاني روحاني، رياسة أصحاب الشرائع الذين يملكون النفوس والأرواح بالعدل والإحسان، ويستخدمونها في المِلل والشرائع لحفظها، وإقامة السنن، والتعبد بالإخلاص، والتألُّه برقَّة القلوب، واليقين بنيل الثواب والفوز والسعادة في المعاد.٢ وهل الرياسة الجسمانية تقوم بالضرورة على القهر والغلبة والتسلط والجور وتنتهي إلى السقوط، في حين أن السياسة الروحانية تنتهي بالضرورة إلى المعاد؛ أي إلى القيام والنهوض؟

(١) الأخلاق الرئاسية

والعلاقة مع الآخر جزء من العلاقة مع النفس ومع الله، الآخر المطلق؛ لذلك ميَّز الفارابي بين خمس علاقات مع الآخر ابتداءً من معرفة الخالق، ونهايةً بمعرفة النفس، وتوسطًا بالعلاقة بين الرئيس والند والمرءوس. وهو ما يبدو غريبًا بالنسبة للفلسفة الإشراقية التي تبدأ بمعرفة النفس ثم معرفة الله؛ فالله رئيس الرؤساء. ولما كان الله والنفس يُمثلان الأعلى والأدنى فقد تمَّت صياغة العلاقات مع الآخر على هذا النحو:٣

وتغيب علاقة النفس مع البدن ومع العالم؛ فالإنسان موجود في العالم. كما تغيب علاقة النفس مع التاريخ والماضي؛ وبالتالي مع المستقبل؛ فالإنسان أيضًا موجودٌ تاريخي.

  • أولًا: لمعرفة الخالق، أي علاقة النفس مع الله، الأولوية على باقي العلاقات الأربعة؛ مما يدل على أهمية البعد الديني في الأخلاق الاجتماعية عند الفارابي؛ فمعرفة الخالق وما لعزَّته سياسةٌ أخلاقية تقوم أولًا على الإلهيات كالعادة. الله هو البداية الأولى في الدين، مصادره أول مُسلَّمة في الأخلاق والاجتماع والسياسة.٤ وبالتالي يتحول علم أصول الدين إلى علوم الحكمة، وتتحول نظرية الذات والصفات والأفعال الأشعرية في العقليات، والسمعيات في المعاد، إلى تصوراتٍ فلسفية عامة للكون، الله والعالم والإنسان عبر الاعتزال؛ التوحيد والعدل. الحكمة هي تحوُّل من الكلام الأشعري إلى الكلام الاعتزالي باسم الفلسفة.

    وبتأمُّل الموجودات كما هو الحال في الطبيعيات في علم الكلام وفي علوم الحكمة، يثبت وجود الله بدليلٍ بعدي، «فيزيقي» غائي، هو دليل العلية. وهو دليلٌ يقوم على الاستقراء. الفكر الفلسفي مثل الفكر الكلامي يتصور دليل العلية على نحوٍ طولي تصاعدي، لكل معلول علةٌ حتى الوصول إلى علةٍ أولى ليست معلولًا لغيرها، وهي طبيعة الفكر الديني، في حين أن الفكر العلمي يتصور العلاقة بين العلة والمعلول على نحوٍ دائري؛ لكل معلولة علة، ولكل علة معلول هي نفس العلة. الماء من السحاب نزولًا، والسحاب من الماء صعودًا دونما حاجة إلى ماءٍ أول أو سحابٍ أول. وهو ما سمَّاه الفارابي «على سبيل الدَّور».

    وبعد إثبات الذات تأتي الصفات التي تثبت عن طريق قياس الغائب على الشاهد. تبدأ المعرفة بشهادة الحواس ثم بأحكام العقل. تؤدي شهادة الحس والنظر في الموجودات إلى نوعَين؛ منها نوعٌ فاضل ونوعٌ خسيس، ويُستعمل الفاضل في الوصف. فإصدار الأحكام على الصفات عمليةٌ إنسانية صِرفة، قياس الغائب على الشاهد مع فعلٍ تطهُّري، إعطاء الغائب أكثر الفضل والعالم أقله، إطلاق الغائب في مُقابل نسبية الشاهد في الصفات، وتبرئة الآخر واتهام النفس في الأفعال. وهو موقفٌ إنساني بُطولي، يُعطي أكثر مما يأخذ، يعبِّر عن سُلَّم القيم؛ التضحية بالأقل في سبيل الأكثر. الله موجود وليس معدومًا، حي وليس ميتًا، عالم وليس جاهلًا. الدين ينشأ في الشعور على أُسسٍ أخلاقية؛ وبالتالي يُفسَّر الدين بالعودة إلى أصله في الأخلاق؛ لذلك يقترن قياس الغائب على الشاهد، وهو قياسٌ معرفي تصوُّري ببرهان الأليق والأجدر. هو برهان الأولى في التنزيه، وهو معنى القول المأثور «كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك.» النصف الأول من القول تقريري وصفي، يقوم على قياس الغائب على الشاهد، والثاني تطهُّري نافٍ يقوم على الاستبعاد المطلق، والإبقاء على التعالي. الأول إيجاب، والثاني سلب. الأول وضع، والثاني نفي. خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف؛ أي «محلَّك سِر»، وعدم قول شيء، «إثبات» شيء ونفي ضده، هُوية صورية فارغة. مثل هذه الأقوال مجرد تمرينات عقلية يمكن استعمالها مع باقي الأوصاف وبنفس الطريقة لتفسير نشأة الأحكام بإرجاعها إلى مصدرها؛ فهي تعبِّر عن الذات ولا تصف الموضوع. وما يُقال في الوجود والعلم والحياة يُقال في باقي الصفات. فإذا كانت الأحكام على الله إنسانية خالصة بناءً على إمكانيات المعرفة، فمن الطبيعي إذن التوجه مباشرةً إلى العلم المدني والعلم السياسي دون تغطيته بالإلهيات واستنباط الإنسانيات منها، والعودة بها إلى تأسيس علم الأخلاق.٥

    وبعد التوحيد يأتي القول ابتداءً من حرية الاختيار ثم الحسن والقبح العقليَّين كما هو الحال عند المعتزلة؛ فالاعتزال هو المرحلة المتوسطة في التحول من الكلام الأشعري إلى علوم الحكمة، والفلاسفة استئناف لدَور المعتزلة في التحول من الله إلى الإنسان، ومن النقل إلى العقل، ومن الإلهيات إلى الإنسانيات.

    ويؤدي تأمُّل العالم إلى أن العالم الإنساني أفضله لأنه ذو نفس. ويكتشف الإنسان نفسه أنه إرادة واختيار، ثم رويَّة وتمييز، «أنا حُر فأنا إذن موجود»، و«أنا موجود إذن أنا عاقل». فإثبات الحرية يسبق إثبات العقل، يتفرد الإنسان عن الله بالحرية، ثم يتفرد الإنسان عن باقي الموجودات بالعقل الذي يأتي مُساندًا للحرية حتى تكون الحرية رشيدةً عاقلة. الكوجيتو الفلسفي عملي أولًا ونظري ثانيًا، على عكس الكوجيتو «الديكارتي» نظري أولًا «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، وعملي ثانيًا «الإرادة أوسع نطاقًا من الذهن». وهو سبب الخطأ؛ فالحرية والعقل شرطَا الإنسان الفاضل. والطبيعة لا تفعل شيئًا باطلًا ليس من أرسطو، بل من رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ. الله واهب الطبيعة، وأعطى الإنسان اختيارًا وروية، وأهَّلها للعدل والإتقان.

    ولما تفاوت الناس في استعمال الحرية وإعمال العقل أرسل الله إليهم رسولًا ليُبلغهم بما ينفعهم في العدل؛ فالنبوة نتيجة للحرية وأحد مستلزماتها مثل العقل لخط دفاع ثانٍ عند من لا يُحسن استخدام العقل.

    ولما تفاوت الناس في الأفعال فإنهم يتفاوتون في الاستحقاق، والاستحقاق طبيعي وعقلي، وينطبق على الأفعال الإرادية وليس على الأفعال العضوية، الأعمال بالنية والقصد وليست الأعمال العفوية اللامقصودة.٦

    ولا حرج من استعمال لفظ الطبقة أو الطائفة؛ فهناك ثلاث طبقات؛ العليا والدنيا والمتوسطة. والسلوك الأخلاقي سلوكٌ اجتماعي، والسلوك الاجتماعي أخلاق الطبقة. يستعمل الفارابي منهج التأمُّل في النفس وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل؛ ففي الإنسان تكمن الحقيقة. ويكتشف الأخلاق الاجتماعية والتكوين الطبقي للمجتمع، الطبقات العليا والدنيا والمتوسطة، ويُسميها المُتكافئة، الملوك والرعايا والموظفون. فالملك لا يرى من هو أعلى منه، وتحته طبقتان، والصعلوك بتعبير الفارابي ليس هناك من هو أدنى منه، فوقه طبقتان. والطبقة المُتكافئة تحتها طبقة وفوقها طبقة. وكل طبقة محددة في طبقتها دون حراك اجتماعي. لا يصبح الملك ندًّا أو صعلوكًا، ولا يكون الصعلوك ملكًا أو موظفًا من الطبقة المتوسطة، ولا يكون الموظف أهلًا لأن يصبح ملكًا ولا أن ينزل صعلوكًا على مستوى الرعية.

    كما يستعمل الفارابي منهج التأمل في أحوال الناس وأعمالهم ليكتشف علم السياسة وملاحظة تعرُّفاتهم، والتعرف على أسبابها ومحاسنها ومساوئها، النافع والضار منها، والتمسُّك بالمحاسن والتخلِّي عن المساوئ، ونيل المنافع وترك المضار. السياسة علمٌ عملي يهدف إلى تحقيق غاية عملية. فإذا كانت الأخلاق تحليلًا نظريًّا فإن السياسة تطبيقٌ عملي. هنا يبدو الفارابي مُتشابهًا؛ فالأخلاق معيارية تضع ما ينبغي أن يكون، وهي في نفس الوقت تقريرية، تصف ما هو كائن في الأخلاق الطبقية.

    والغاية من ذلك كله حسن المعاش، وتجنُّب الآفات، واستقامة الأحوال، ونيل السعادات. فالأخلاق تقوم على ثنائيةٍ مُتطهرة حادَّة بين النفس والبدن، الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، الحسن والقبح، النافع والضار، اللذيذ والمؤلم. هو نوع من أخلاق الحرب تقوم على مجاهدة النفس حتى تتغلب الفضيلة على الرذيلة، والخير على الشر، والنفس على البدن، والحسن على القبح، والنافع على الضار، واللذيذ على المؤلم. الحرب ليست في الخارج بل في الداخل، والجهاد مع النفس وليس مع العدو، طبقًا للحديث المشهور الذي يُميز بين الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، والأصغر وهو جهاد العدو، طبقًا للحديث الشهير والذي يُشكك بعض المُصلحين في صحته.٧ فهي أقرب إلى الأخلاق الصوفية مجاهدة النفس ورياضتها، والتوبة وشروطها. وهو ما يتفق مع الأخلاق التكليفية بين القطبَين المطلقين الواجب والحرام، أو النِّسبيَّين المندوب والمكروه، أو الطبيعي في المباح.
    وواضحٌ أن الغاية من الأخلاق الاجتماعية تهذيب النفس ورياضتها وليس تغيير الواقع، طبقًا للمبدأ الأخلاقي الاجتماعي الشهير المستمَد من الآية القرآنية إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وهي أخلاقٌ واضحة وسهلة تُغفل أخلاق الاشتباه، ولا تُوضح مقياس المذموم والممدوح، العقل أو المنفعة أو المصالح العامة.
  • ثانيًا: ما ينبغي أن يستعمله المرء مع رؤسائه تطبيق لما ينبغي أن يفعله مع الله. فالرئاسة واحدة، رئاسة الله للعالم، والملك للدولة، وصاحب العمل للعمال، والمدير للموظفين، والأب للأسرة. هنا تتداخل المستويات الدينية والسياسية والاقتصادية والإدارية الاجتماعية بصرف النظر عن أيها الأصل وأيها الفرع. هل الرئاسة أولًا لله ثم تُستنبط منها الرياسات الأخرى، من المطلق إلى النسبي نزولًا، أم إنها أولًا للمجتمع ثم تُستقرى منه صعودًا من النسبي إلى المطلق قياسًا للغائب على الشاهد؟
    والإنسان مع رؤسائه إما أن يكون خادمًا له طول الوقت أو بعض الوقت، أو لا يلقاه إلا بالذكر نظرًا لبعده. فما يحدِّد علاقةَ الإنسان برؤسائه الزمانُ والمكان، القرب والبعد. إذا كان خادمًا له طول الوقت يكون مُلازمًا له، مُواظبًا على ما فوَّض إليه دون ملل أو مدح أو تقريظ يؤدي إلى النفاق أو التزلُّف، وتزيين الحق باطلًا والباطل حقًّا، بالرغم مما في طباع الناس من ميل إلى مدح الرؤساء. وإذا فوَّض إليه التدبير كوزير أو مُشير أو مُعلم فعليه تعريفه بوجه الصلاح في الأعمال؛ فالسلطة عمياء كالسَّيل المُنحدر من الرَّبوة تُغرق كل شيء، كما هو الحال في الطغيان، أو يستفيد منه الناس بالسدود والقنوات كما هو الحال في الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون الإتيان بمنكرٍ أعظم. ومن واجبه كتمان السر، وعدم البوح بأسرار الدولة، والحيطة من غضب الرؤساء. ويتفرد الرؤساء بالهِمم واستعباد الناس؛ فهم على صواب دائمًا لكثرة مدح الناس لهم، وإطرائهم لأفعالهم طبقًا لطباع البشر. والأفضل الصراحة والنصح، ورعاية مصالح الناس، والجهر بالرأي؛ فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرس، ومن الواجب حيطة الرئيس. وهو لا يُخشى لو كان عادلًا يُحقق مصالح الناس. وعليه تحمُّل أخطاء الرئيس وأفعاله القبيحة؛ أي استعمال النفس ككبش الفداء. الكل فداء الرئيس. لا يُحاسَب الرئيس لأنه مبرَّأ من الخطأ، كامل الأوصاف، الإنسان الكامل نموذج الله.٨ عليه التلطُّف في نيل المنافع من جهة الرؤساء بعدم اللَّح في السؤال أو دوامه أو إظهار الطمع، وطلب أسباب المنافع لا المنافع ذاتها؛ أي العمل وليس الحسنة، والانتفاع بالرئيس وليس منه، لتحقيق المصالح العامة وليس المكاسب الشخصية. وعليه التضحية بالنفس وبكل شخص في سبيل الرئيس. وكل خير فمن الرئيس وليس من النفس، وكل شر من النفس وليس من الرئيس مثل الله، الخير منه والشر من البشر «ما أصابك من خير فمن الله وما أصبك من مصيبة فمن نفسك»، تبرئة الآخر واتهام النفس. وعليه عدم أخذ شيء من سمات الرئاسة، وإلا عرَّض نفسه للهلاك، فتستحيل مراكز القوى أو المنافسة على الرئاسة، وعدم الاستغناء عن الرئيس، والاقتناع بكل ما يفعله، وعدم الشكوى منه حتى ما يسخط الإنسان عليه، وعدم إظهار العداء له أو الحقد عليه. كل الذنوب من النفس وليس من الرئيس؛ «فهذه قوانين ينتفع باستعمالها في معاشرة الرؤساء».

    والسؤال هو: هل يجوز حجب الحقائق عن الناس؟ وماذا عن دور الإعلام في توعية الجماهير وتبصرتها بعواقب الأمور، وإلا سرَت الشائعات والتكهنات، وحصل الناس على الحقائق من مصادر أخرى، فتنشأ أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم؟ ولماذا الحيطة من عدم إغضاب الرؤساء؟ أليس الساكت عن الحق شيطانًا أخرس، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن أعظم شهادة كلمة حق في مواجهة حاكم جائر؟ ولماذا البدء بتعهُّد الرؤساء، والتفكير من أعلى؟ أليس ذلك تشريعًا للطغيان؟ ألا يجعل ذلك سلوك أهل المدينة قائمًا على التملُّق والنفاق؟

  • ثالثًا: ما ينبغي للمرء أن يستعمله مع أكْفائه. والأكفاء ثلاثة أنواع؛ الأصدقاء، مُخلصون أو في الظاهر؛ والأعداء ذوو الأحقاد والضغائن أو الحُساد؛ ولا أصدقاء ولا أعداء، أهل الكبر والمنافسة، أو السفهاء، أو الصلحاء، أو النصحاء.٩

    يجب على الإنسان ملاطفة الأصدقاء المخلصين والإكثار منهم، فلا فائدة من صداقةٍ ضعيفة، ومجاملتهم في الظاهر دون إطلاعهم على الأسرار والعيوب وخواص الأفعال والأحوال والنِّعم وأسباب المنافع، واستمالتهم والصبر معهم بحسب الظاهر دون أخذهم على الباطل، وعدم أخذهم بالتقصير. لا يقطع غيابهم ولا يُجازيهم؛ فقد يُرجى صلاحهم. كما يجب ضرورة تعهُّد الأصدقاء عند الحاجة والفاقة، ومُواساتهم من غير إحواجهم إلى المسألة، وتفقُّد أقاربهم وعائلاتهم إذا ماتوا، وكثرة التصدق عليهم بالرغم مما قد يُثير ذلك من شبهة أخلاق التجار.

    أما الأعداء فيجب على الإنسان الاحتراس من ذوي الأحقاد والضغائن، ومعرفة أحوالهم، وتفويت مؤامراتهم، وكثرة الشكاية منهم إلى الرؤساء، والتشهير بهم حتى يأخذ الناس حذرهم، وإهلاكهم، فإذا لم يتيقَّن من إهلاك العدو فلا يُسرع حتى لا يتخذ ذلك العدو ذريعة. أما الأعداء والحُساد فيجب غيظهم وإيذاؤهم بذكر النِّعم التي يختصُّ بها، والاحتراز عن دسيستهم.

    أما من ليسوا أصدقاء ولا أعداءً مثل النُّصحاء، فيجب الاستمالة إليهم دون الاغترار بأقوالهم، أو التعجل بقبولها، أو العمل قبل أن يتم فحصها. ويجب مدح الصُّلحاء الذين يتبرَّعون بالإصلاح بين الناس، ومدحهم على فعلهم والتشبيه بهم. ويجب استعمال الحِلم مع السفهاء واللامبالاة معهم حتى لا يؤذوه، ويُقابل سفههم بقلة الاكتراث. ويجب مقابلة أهل الكبر والمنافسة بمثله؛ فالتواضع معهم ضعف، وثقة منهم بأنفسهم؛ فالتكبر عليهم يثنيهم عن عزمهم وكبرهن، ولا يفلُّ الحديدَ إلا الحديد.

    وهذه كلها نصائح ظنية، لا تصلح في كل المواقف، تقوم على الفائدة والمصلحة وتجنُّب المخاطر أكثر مما تقوم على المعايير الخلقية، مثل شكاية الأعداء إلى الرؤساء والتشهير بهم وإهلاكهم دون العفو عنهم أو الحذر منهم، والذي قد يؤدي إلى الخوف والجبن. وغيظ الحساد. والإغاظة ليست فعلًا خلقيًّا، بل قد تزيد الشرور. وكيف يمكن إغاظة الأعداء وفي نفس الوقت توقِّي شرورهم؛ فقد تكبُر إساءتهم دون توقِّيها؟ ولماذا مدح الصلحاء والتشبه بهم وهم في مرتبةٍ تالية للنصحاء الذين يجب التوقف في نصائحهم ومراجعتها أولًا والشك فيها؟ وكيف يمكن التعرف على الأكْفاء والتمييز بينهم بهذه القسمة الرياضية؟

  • رابعًا: ما ينبغي أن يستعمله المرء مع من دونه، وهم الضعفاء. وهم نوعان؛ الأول المُتعلمون ذوو الحاجة، أُولو الطبائع الرديئة أو البُلداء، أو المُتعلمون ذوو الأخلاق الطاهرة. والثاني المحاويج ذوو الفاقة، المُلحُّون أو الكاذبون أو الضعفاء الصادقون.١٠
  • خامسًا: سياسة المرء لنفسه، وهي من أكبر الأجزاء، مثل علاقته بالله، وهي أقرب إلى الأخلاق منها إلى السياسة. وهي نوعان؛ المال أي الاقتصاد، والجاه أي السياسة. وتتطلب معرفة كيفية الحصول على القنية والمال، الداخل والخارج؛ أي الكسب والمصروفات، والتوازن في الميزانية دون دين، والصناعات وأنواعها، الشريف منها والخسيس مثل القمار، وضرورة السخاء حسب الطبقة، والإنفاق من أجل الاعتدال مع الادخار. والجاه أفضل من زيادة المنافع؛ فالجاه يُكسب المال، ولا يُكسب المال الجاه. والجاه لذةٌ أعظم من لذة المال.
    ومنها تحصين الأسرار وكيفية استخراجها من المُناوئين؛ ربما تنظيرًا لحديث «واستعينوا على قضاء حاجتكم بالكتمان».١١ فذيوع الأسرار نيل من الأعراض، وعدم جِدية، وتنبيه الناس عليها. كما ينبغي المشورة مع أهل الرأي والكتمان، والاستفادة من تجارِب المُتقدمين، ومعرفة الأسرار الظاهرة والباطنة، الظاهرة مثل ما يبدو على الرئيس من أخذ العزم وإعداد العدة والتطلع على الأخبار والوقوف على الأحاديث، والباطنة مثل الحزم والإمساك والتعرف على الأخبار من العجم والصِّبيان والجهال والنساء؛ لأنهم قليلو التمييز، ويُفشون السر عن طريق كثرة المحادثة مع من يستأنس المرء بهم. وهي أمورٌ تقديرية خالصة تختلف بحسب الحال.

    ويُعيد الفارابي في سياسة المرء لنفسه كيفية الظَّفر بالأعداء، والذين تم التعرض لهم من قبل في سياسة المرء لأكفائه. عليه طلب العُلو على العدو في كل فضيلة، وأن يعلم العدو ذلك حتى يضعف وتخمد ثائرته، وإحصاء معايبه عن صدق لمعرفته على حقيقته، والتعرف على سماته وأخلاقه حتى يمكن مقابلة كل منها وضدها، ومعرفة ما يُقلقه وما يُضجره حتى يطمئنَّ لمكايده.

    وما ينتفع به المرء هو الأدب ومزاولته في الظاهر، مثل معرفة العورات وافتراض العثرات، معرفة ما عند الناس أكثر مما يعرف الناس عنه، وأن يقصد غير المقصود تخفيًا بالرغم من أن الأعمال بالنيات، والاستعلاء والصعود تدريجيًّا إلى أعلى دون سخط أو تسرُّع، وتحمُّل الأصعب فالأخف، وعدم إظهار الغضب أو الرضا بإفراط، والمطل أحيانًا إذا تعقَّبه الإنجاح، والصبر حتى الفوز، واستيفاء المقدمات، والتحدث بلسان الغير اتِّقاء المخاطر. والسؤال هو: هل هذه أخلاق أم ذكاءٌ عملي؟ هل هي معايير أخلاقية أم تكيُّف حسب المصلحة؟ هل أخلاق مبادئ أم أخلاق مواقف؟١٢ هي أقرب إلى أخلاق النجاح في الحياة أو دليل الإنسان الناجح.

(٢) الرئاسة الأخلاقية

وإذا كان الفارابي قد وصف مستوياتٍ خمسةً للأخلاق الرئاسية في تصورٍ هرمي رأسي لها بين الأعلى والأدنى، فإن ابن سينا أيضًا وعلى نفس المِنوال ودون التصريح به أو الإحالة إليه وصف مستوياتٍ خمسةً للرئاسة الأخلاقية في دوائر مُتداخلة؛ الرجل مع نفسه، ومع دخله وخرجه؛ أي أعماله ومهنته، وأهله، وولده وخدمه، مُستبعدًا سياسة الرجل مع الله، وواصفًا بدلًا عنها سياسة الرجل في الكسب والصرف، وقد كانت جزءًا من سياسة الرجل مع نفسه عند الفارابي، ومُحولًا الأعلى والأكْفاء والأدنى إلى الأهل والولد والخدم مُتجهًا نحو مزيد من التفكير الاجتماعي.

والسياسة هنا تعني تلافي الخلل وإصلاح ما فسد من وجهة نظر الرجل، و«انقضت الأبواب التي مثَّلنا فيها ما يحقُّ على الرجل فِعله في تدبير نفسه وما يشتمل عليه منزله».١٣ والبداية إيمانية يحمد فيها ابن سينا الشرع والعقل والنطق، انتقالًا من الإلهيات إلى الإنسانيات، ومن الكلام إلى الفلسفة، ولو أنها ما زالت في لغة الإيمانيات وجزءًا من السياسة الإلهية. فمن نِعم الله على الإنسان إكمال الطبيعة البشرية وخصائصها؛ فتحليل الطبيعة عبادة ومعرفة للعلم الإلهي وقدرته. ومن نِعم الله التمييز بين الخير والشر، والعيِّ والرشد، والصانع والمصنوع، والمالك والمملوك، والسائس والمسوس. وهو الطريق إلى معرفة الخالق والمخلوق تأكيدًا على الصلة بين الثنائية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية وبين الثنائية الدينية.
الرجل هو المركز، ثم البداية بالاقتصاد وقبل الاجتماع، وهو اقتصادٌ سياسي أو اقتصادٌ اجتماعي، ثم تأتي وظيفة المنزل، الأهل والولد والخدم، نواة المجتمع، من أجل تخزين القوت؛ فالطعام والغذاء سبب نشأة التجمعات الإنسانية، وليس الحاجة إلى التعاون وتقسيم العمل كما هو الحال عند الفارابي. والحاجة إلى حفظ الطعام تدعو إلى الحاجة للاستخلاف، وهو الزوج صاحب السلطة والتدبير والقوامة والكفاءة على الأهل والولد والخدم، فتتحوَّل الأسرة إلى نواةٍ أولى للرعية، والزوج صورة أولية للملك، لا فرق في ذلك بين ملوك وسوقة، راعٍ ورعية، سائس ومسوس، مخدوم وخدم. فالقوت يؤدي إلى رئاسة الزوج إلى النسل إلى الخدم إلى السياسة. الزوج أقرب إلى أمين المخازن؛ والأسرة، الأهل والولد والخدم، أقرب إلى الوحدة الإنتاجية الأولى.١٤

وقبل أن يعرض ابن سينا للدوائر المُتداخلة الخمس يبيِّن التفاوت بين الناس في الصفات والرُّتب؛ فالفروق الفردية هي أساس الفروق الاجتماعية كما يُثبت علم النفس الاجتماعي، والطبقات الخلقية هي أسس الطبقات الاجتماعية، والتفاوت في الآراء والعقول مقدمة للتفاوت في الأملاك والمنازل والرُّتب، والتحاسد الطبيعي كحالةٍ نفسية أساس التفاوت الاقتصادي كطبيعةٍ اجتماعية.

ويبدو من ذلك أن المساواة فساد؛ فلا يمكن أن يكون الناس في طبقةٍ واحدة. لو كانوا كلهم سوقة أو ملوكًا لهلك الجميع، ولو تساوَوا في الغنى لما خدم أحد أحدًا، ولما نشأ بين الناس تعاطف ورحمة، ولو تساوَوا في الفقر لهلكوا جميعًا. إنما يتَّعظ الغني الجاهل بالفقير العالم. التفاوت للاتِّعاظ تصحيحًا للخطأ، وكأن وجود الفقراء لنصيحة الأغنياء، ووجود الأغنياء نصيحة للفقراء؛ فاللامُساواة بين الناس هي الأساس.١٥ تلك حكمة الله؛ فاللامُساواة قدرٌ من أقداره. والله هو الواضع للأساس الطبقي للمجتمع بخلقه التفاوت الخلقي بين الناس كأساس للتفاوت الاجتماعي، كما هو الحال في التفسير الرأسمالي الديني للطبقات الاجتماعية.
ومن هنا لزِمَت السياسة لتدبير هذا التفاوت بين الناس، وتحديد الصلة بين الخادم والمخدوم، المرءوس والرئيس، كما يدبِّر الله العالم. تعني السياسة التربية الخلقية لقبول هذا التفاوت النفسي الاجتماعي من أجل حسن المعاش. يحتاج الجميع، الكبير والصغير، الغني والفقير، الملوك والسوقة، إلى السياسة من أجل التأديب والتعديل والتقويم والتهذيب حتى عن طريق التعنيف والقمع. وهذا هو معنى الرعاية في الحديث المشهور «كلكم راعٍ كلكم مسئول عن رعيته»، الرعاية بمعنى الوصاية؛ ولذلك لزم التجسُّس بمعنى البحث والتنقيب والتعرف على الصفات العامة والخاصة للبشر. ويدعو ابن سينا للملوك الذين جعل الله بأيديهم رقاب العباد وتدبير الممالك، وفوَّض لهم سياسة الرعية؛ ثيوقراطية شيعية صريحة. وبعد الملوك يأتي الولاة، الأمثل فالأمثل، ثم البطانة والخدم، ثم أرباب المنازل. ويستعمل ابن سينا السجع لأدب النفس دون تحليل مصالح الناس.١٦ وهذا هو الفرق بين الإنسان والحيوان، التدبير أي السياسة، مع أن الحيوان ابتداءً من الحشرات والنمل والنحل حتى الأُسود أيضًا يقوم بالتدبير.
  • أولًا: سياسة الرجل مع نفسه تنظيرًا لآية إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، أو أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. البداية بالكوجيتو العملي. ومهمة البداية بالنفس اكتشاف العقل كسائس، والنفس أمَّارة بالسوء. نظرة مُتعالية للعقل ودونية للنفس، تبرئة للعقل واتهامًا للنفس. ثم تأتي معرفة كيفية السياسة والإصلاح، ثم معرفة جميع مساوئ النفس. ولما كان الإنسان عاجزًا بنفسه عن ذلك احتاج إلى معونة الأخ اللبيب؛ فالآخر مِرآة النفس.

    ويحتاج الرجل إلى سياسةٍ تقوم على الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، تسوق الناس كالأنعام، والتقريب والإبعاد، بالعطاء والحرمان. وليس للناس دور إلا الخدمة والطاعة، ليس لهم حقوق بل عليهم واجبات، لهم حق الطعام كالحيوان، وعليهم واجب الطاعة كالعبيد. ذلك دور الوحي، وتلك وظيفة النبوة، وهذه مهمة الدولة ورسالة الملوك.

    والرؤساء أحقُّ بسياستهم لأنفسهم، وعدم الاكتراث لسقطاتهم وهفواتهم والاسترسال فيها بقلة الاحتشام؛ نظرًا لاستثناء القلة العاقلة الفاضلة تنظيرًا لموضوع «اللَّمم»، ويُخشى من نقدهم لأنهم أكمل البشر. أما السوقة والرعاع فإن أفعالهم مكشوفة لمخالفة الناس والمناصحة؛ وبالتالي كشف العيوب حقًّا أم باطلًا. والحقيقة أن الملوك أيضًا شخصياتٌ عامة محطُّ النقد العلني عكس العامة التي لا يهتمُّ بها أحد، وهو دور الصحافة والرقابة وأجهزة الإعلام والأمن وجمع المعلومات. وسلوك الملوك على كل لسان؛ فهم نموذج وقدوة. تُكبر العامة عيوبهم، وتُكثر فيهم الشائعات، وأحزاب المعارضة لهم بالمرصاد، وأقران السوء والبطانة يزيدون من فسادهم دون نقدهم تحجُّجًا بالخوف منهم، وتذرُّعًا بأنهم أقدر بأنفسهم.

    والشورى تعبير عن العقل، تقوم على اللِّين، ومع ذلك فإنها «كالشوكة الشائكة بجسدك، والقرحة الدامية في بدنك»؛ إذ يقوم الفقهاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُقدمون النصح. والناصح إما بالحسنى لإظهار الخفي، أو المواظبة على الظاهر منها بالرغم من خطورة الزَّهو والعُجب ونقص التواضع، أو التحذير من القبيح لإخفاء الخفي وتغيير الظاهر بالرغم من ضرورة تغيير الخفي، مثل تغيير الظاهر بالحسنى دون القهر. ويتطلب استعداد الآخر لقبوله عن طِيب خاطر، أو الحديث تلميحًا لا تصريحًا، والقصد في القول، ما قل ودل، من غير إفراط أو تفريط، وترك الوقت للسامع حتى تختمر النصيحة في ذهنه ويدرك أهميتها، وحسن استماعه لها. وتكون النصيحة رأيًا واحدًا حتى يمكن اتباعها. وأفضل نصح هو النصح العملي. وقد تقوم على الوعد والوعيد، الثواب والعقاب، أخلاق الجزاء التي هي أقرب إلى أخلاق العبيد، وأبعد عن أخلاق الطبيعة.١٧ شرائط المعروف تعجيله وكتمانه وتصغيره واختيار موضعه؛ فالغاية منه ليس مجرد إعلانه بل تحقيقه.
  • ثانيًا: سياسة الرجل مع دخله وخرجه؛ أي الكسب والمصاريف. وهي من مفاهيم الفارابي دون الإشارة إليه. أولوية الفارابي تقسيم العمل، وأولوية ابن سينا الاقتصاد على الاجتماع، وكلاهما تعبير عن أولوية السلطة السياسية. والناس نوعان؛ الأول مُحتاج بسعيه بالهمة والسعي والتجارة الصناعة. والثاني غير مُحتاج ساعيًا برزقه. وكأن القدرات الطبيعة ووسائل الإنتاج هي التي لا تُحدد هياكله وأنماطه. والصناعة أوثق من التجارة؛ فالتجارة بالمال، والمال عُرضة للفناء، مثل ابن خلدون في نقده التجارة كخدمات وليس كإنتاج، ونقده أخلاق التجار. وصناعات ذوي المروءة ثلاثة أنواع؛ الأول من حيِّز الأيد والشجاعة، وهي صناعة الفُرسان والأساورة. والثاني من حيِّز الأدب، وهي الكتابة والبلاغة؛ أي صناعة الأدباء وعلوم النجوم والطب. والثالث من حيِّز العقل وصحة الرأي وصواب المشورة وحسن التدبير، وهي صناعة الوزراء والمدبِّرين وأرباب السياسة والملوك.١٨ السياسيون أعلى من الأدباء والعلماء، والأدباء والعلماء أعلى من العسكر، ولا يوجد صُناع أو زُراع باستثناء الصناعة الرقيقة الخفيفة البعيدة عن الشر، ومن الضروري إحكام كل صناعة والتقدم فيها. وماذا عن المهن القريبة من اللصوص مثل الشرطة، وضرورة التعامل مع القتَلة وقُطاع الطُّرق؟ وإذا كان شرط المهنة البعد عن المجاهدة، فماذا عن عُمال المناجم والعتَّالين؟ وإذا كانت المهن أخلاقية بالضرورة فإن ذلك يعني سيادة الأخلاق على الاجتماع، والفضائل على تقسيم العمل. والغني وراثةً لا يتطلب من الغني العمل، وكأن الثروة باقية إلى الأبد، والعمل ليس من طبيعة البشر. وإذا كان الفقير وحده هو الذي يعمل، فكأن العمل عقاب له على فقره. ولا ضير من الرزق الواسع الحلال دون اعتبار لمستوى الدخول وعدالة التوزيع في المجتمع كله. ولا يجوز الاستحواذ على المال بالإكراه والغصب والاستغلال مثل الفدية والرشوة. والصدقات والزكاوات من بعض أوجه الصرف. والادِّخار لنوائب الدهر، تصرُّف عن طِيب خاطر، بين التبذير والشح، وهي غير مُلزمة، تُعطى تطوعًا لأهل الخلة والستر وليس للشحَّاتين. ويتم ادِّخار بعض المال ليوم الفاقة لوجه الله أو استعدادًا للمستقبل، ويجب الحذر من الحسد والقيل والقال وآراء العوام. والأخلاقيات لا وجود لها عند القلة المُترَفة أو الأغلبية الفقيرة. الأولى نَهِمة تُريد المزيد، والثانية في حاجة تُريد البقاء. والسؤال هو: ما مصادر ابن سينا في هذا التحليل الاقتصادي؟ هل هي قراءاتٌ صامت عن ذكرها، أم تجارب شخصية ومشاهداتٌ عينية، أم تأملاتٌ حكمية؟
  • ثالثًا: سياسة المرء مع أهله كلها مركَّزة على واجبات المرأة؛ فمعظمها على المرأة وليس على الولدان؛ ربما لأن السياسة مع الولد قسمٌ خاص، والولد جامع للبنت. فالزوجة مقدمة على الولد، والمرأة الصالحة شريكة الرجل في ملكه، وقيِّمته في ماله، وخليفته في رحله. شخصيتها اقتصادية، وكيلة الرجل في عمله أثناء غيابه المؤقَّت أو الدائم. وخير النساء العاقلة، الديِّنة، الحييَّة، الوطنة، الودودة، الولود، قصيرة اللسان، المُطاوعة العنان، الناصحة الجيب، الأمينة الغيب، الرَّزان في مجلس الوقود في هيبتها المهيبة، في قامتها الخفيفة، المُتبذلة في خدمة الزوج، حسنة التدبير، تُكثِّر القليل، تجلو الأحزان، وتُسلي الهموم. والسؤال هو: هل يمكن أن تجتمع كل هذه الخصال الحميدة في امرأةٍ واحدة؟

    وشرف المرأة يدل على نُبْل الرجل، والحق يرجع إليه وليس إليها. كل سلوك المرأة إيجابًا أم سلبًا يرجع إلى الرجل، وكأنها مجرد مرآة تعكس صورة الرجل. ولا تنقلب المرأة رجلًا، ولا ينقلب الرجل امرأة؛ فالعلاقة بين الرجل والمرأة علاقة الأعلى بالأدنى، مجرد إحدى حالات تصور العالم الهرمي. سياسة الرجل في النهاية هي الهيبة الشديدة حتى لا يهين عليها وتأمره وتتمرد عليه، والكرامة التامة، وتحسين شارتها، وشدة حجابها، وترك إغارتها، وأخيرًا شغل خاطرها بالمهم؛ سياسة الأولاد! ويعني تحسين الشارة جمالها الخارجي مع حجابها، خطوة إلى الإمام وخطوة إلى الخلف، ويعني ترك إغارتها تجنُّب غضبها.

    وكلها إرشادات ونصائح ومواعظ أكثر منها علمًا؛ إذ يتحول الاجتماع إلى أخلاق، والأخلاق إلى تربية. ولا يعتمد ابن سينا على تنظير الموروث ولا تمثُّل الوافد. لا يُعلن عن مصادره المدوَّنة أو تجاربه الشخصية أو مشاهدات لعصره.١٩
  • رابعًا: سياسة الرجل مع ولده تبدأ بحسن التسمية وحسن المُرضعة، وتأديبه مع العظام حمايةً له من الأخلاق الاجتماعية، واستعمال سياسة الترغيب والترهيب والإيناس والإيحاش، والإعراض والإقبال، والحمد والتوبيخ، وربما الضرب الخفيف أولًا والثقيل ثانيًا. ومؤدِّب الصبي عاقل، مُتدين فاضل صادق، وقور رزين لبيب، نزيه. خدم السراة، وعرف أخلاق الملوك والسفلة، وآداب المجالس والمؤاكلة والمحادثة والمعاشرة. مهمته معرفة طبع الصبي، ميوله ورغباته. يُحادثه بسرعة الحفظ في تربية تقوم على التراث الشفاهي. يتزاور معه ويتكارم ويتباهى في مساجلة ومنافسة. يتعلم القرآن، الدين واللغة والشعر (الرجز)، القديم والجديد، والشعر الأخلاقي لتعلُّم الفضائل، وبعد القرآن واللغة تأتي الصناعة، صناعة الكتابة للرسائل والخُطب والمُحاورات والحساب والخط؛ فصناعة الأدب أقرب إلى الناس، البلاغة والنحو والشعر والخطب والنسب، ثم الحساب والهندسة والطب. ويدفع المُعلم الصبي إلى الكسب والتعيش كي يشتغل ويُنفق من كسبه، ويتزوج ويُكون أهله وأُسرته.٢٠

    وواضحٌ تربية العصر، التربية الأرستقراطية مع العظام لأن التربية مع الرعاع مفسدة. يتغذى من المرضعة وليس من الأم كما هو الحال في الطبقات العليا، وفي نفس الوقت يكون التأديب بالضرب والتخويف؛ فالطبع يغلب التطبُّع، وكأن الطبيعة عصيَّة على التربية، شر في حاجة إلى تقويم عكس التربية الطبيعية، وكأن الطفل متاع لا رأي له ولا اختيار، والحديث كله عن تربية الصبي وليس الصَّبية، وإعداد الرجل وليس المرأة. ولا يتعلم شيئًا عن الصناعات ولا عن أمور السياسة؛ فالمجتمع حِرفي مهني ديواني تجاري. وهو نظامٌ تعليمي إلهي لا سبب له، وكأن ابن سينا الطبيب العالم الذي يفسِّر المعجزة تفسيرًا علميًّا عاجز عن تصور المِهن والصناعات والحِرف تصورًا تربويًّا طبيعيًّا.

  • خامسًا: تقوم سياسة الرجل مع خدمه على ضرورة وجود الخدم. ويُحدد علاقة المخدوم بالخادم كعلاقةٍ ضرورية؛ فالخادم للمخدوم كالجوارح من الجسد. دون الخادم يفقد المخدوم متعة الحياة والراحة، وتضيع مهابته، ويضطر إلى العمل والجهد. ويحمد ابن سينا الله على تسخير الخدم لنا، وكأن نظام عبودية العمل نظامٌ إلهي، تشريعًا للعبودية الإنسانية بالعبودية الإلهية.٢١
ويضع ابن سينا عدة مقاييس لاختيار الخدم، مثل حسن التقدير والفِراسة والتوسُّم، والبعد عن سوء الخلقة؛ فالأخلاق تابعة للخَلق، وتجنُّب ذوي العاهات كالعُور والعُرج والبُرص، والبعد عن الكيس والدهاء والمكر، وإيثار اليسير من العقل والحياء على كثرة الشهامة والخفة، والصلاحية لعملٍ واحد دون الانتقال إلى عملٍ آخر، وكأنه لا يوجد خادمٌ واحد مُتخصص في أكثر من عمل، فكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له. الصنعة حتمية بالخلقة، وكأنه لا توجد عبقرية أو إبداع في أكثر من مجال، على عكس ما يؤكد تاريخ الإبداع الإنساني في كل الحضارات. ويستعمل ابن سينا أمثلة من فارس، وكأن نظام العبودية منقول منها إلى البيئة العربية، ووافد على الثقافة الإسلامية.٢٢

فإذا ما أساء الخادم كما قال الفارابي من قبلُ، فإنه من الأفضل بَتْر العضو الفاسد على أن يُفسد باقي الأعضاء. كأن عدم الطرد في مصلحة المخدوم أكثر مما هو في مصلحة الخادم الذي يقوم على المخدوم، والشيطان المعروف أفضل من الشيطان المجهول طبقًا للمثل الشعبي.

والحقيقة أنه إذا كانت علاقة الخادم بالخدوم علاقة الجوارح بالجسد، فإن المخدوم يصبح مشروطًا، والخادم هو الشرط. فالجسد بلا جوارح لا يستطيع الدفاع عن نفسه، كذلك المخدوم دون الخادم. وهو جدل السيد والعبد، دون العبد لا يوجد سيد. وهي نفس علاقة الجوهر بالأعراض، دون الأعراض لا يوجد جوهر، والجوهر لا يتعرَّى عن الأعراض.٢٣ وإذا كانت العلاقة ضرورية إلى هذا الحد، علاقة الخادم بالمخدوم، فماذا عن الخادم؟ أليس من البشر، ومن حقه أن يكون مخدومًا له خادم طبقًا لنظرية الفيض ومراتب الوجود؟ ولماذا يكون الخادم عبدًا أو المخدوم سيدًا؟ وما ذنب الخادم في أن يوجد عبدًا، وما فضل السيد إذا كان يوجد سيدًا بمشيئة الله الأبدية وليس وضعًا اجتماعيًّا يمكن تغييره؟ وهل ينفع في ذلك الصلاح والإصلاح أو التعويض عن الآلام كما قرَّر المعتزلة؟ وهل الخدم حيواناتٌ منزلية أليفة، يُعوضهم عن ذلك حسن المعاملة وإشباع حاجاتهم المادية؟ ومن الذي جعل الخادم خادمًا والسيد سيدًا؛ الله أم التاريخ أم المجتمع؟ ولماذا لا يخدم الإنسان نفسه؟ وإذا كان للخادم صنعة، فلماذا يكون خادمًا وليس عاملًا؟ وإذا كانت له صنعة، فهل هي مقدَّرة عليه دون تغييرها وكأنه آلة؟ ولماذا لا يتعلم الخادم صنعةً جديدة لكسب تجارب حتى لا يولد إنسانًا ويموت خادمًا؟ وماذا لو كانت الطبيعة قادرة على عدة صنائع؟ وهل من عقاب الخدم السجن ومنازل الإصلاح والتقويم والطرد؟ وهل يطلب الخادم من السيد الصفح والمغفرة والإنابة كما يفعل العبد مع السيد، والمخلوق مع الخالق حتى يعفوَ السيد عنه، صاحب العصا والجزرة؟ وما العيب في ادخار الخادم بعض المال واللباس للزمن إذا ما غضب عليه السيد؟
السياسة عند ابن سينا تعني أن يبقى الآخر في الطوع، الزوج والولد والخادم؛ أي الوصايا والرقابة. وهو تصورٌ ديني؛ العناية والربوبية. الإنسان عبد الله وعبد لأخيه الإنسان في آنٍ واحدٍ ما دامت العبودية بنيةً نفسية لعلاقة الأنا بالآخر. وربما هناك امتدادٌ يوناني؛ فلا فرق بين ملكية الجسد وملكية العمل. وربما تغيَّر نظام الخدم الآن باستثناء الهجرات العربية والآسيوية إلى الخليج، وما تُروى عنهم من مآسٍ وأحزان من بقايا التراث القيِّم.٢٤

(٣) الرئيس الفيلسوف

الرئيس هو الفيلسوف الكامل، والفيلسوف الكامل هو الرئيس. والفيلسوف على الإطلاق الذي حصلت له الفضائل النظرية والعملية ببصيرةٍ يقينية، والقدرة على إيجادها في الأمم والمدن ببراهين يقينية وبطُرقٍ إقناعية وتخييلية طوعًا أو كرهًا، هو الرئيس الأول.

يمكن معرفة مبادئ الموجودات ومراتبها والسعادة ورياسة المدن الفاضلة إما تصوُّرها بالعقل أو تخيُّلها بالخيال. والتصور هو ارتسام ذواتها في نفس الإنسان كما هي موجودةٌ حقيقية، في حين أن تخيُّلها هو ارتسام خيالاتها ومثالاتها وتحاكيها في نفس الإنسان. والقسمة إلى عقل وخيال طبقًا لتفاوت قدرات الإنسان الإدراكية وضعف تصوراتهم. طريق الفلسفة واحد لنيل السعادة، في حين أن طُرُق الخيال مُتعددة؛ لذلك كانت الفلسفة للخاصة، والخيال للعامة. الخيال من الدرجة الأولى، خيال الإنسان في المرآة أقرب إلى الحقيقة من الخيال من الدرجة الثانية، خيال تمثال الإنسان في الماء. ويتفاوت الناس في الخيال بين الأحكم والأتم في مُقابل الأنقص، وبين الأقرب إلى الحقيقة في مُقابل الأبعد عنها، وبين الأقل في مواضع العناد أو الأخف أو الأعسر في العناد، في مُقابل الأكثر في العناد أو الأظهر والأسهل في العناد والتزييف. وقد تزوج المحاكاة؛ محاكاة شيء ثم محاكاة المحاكاة، ثم محاكاة محاكاة المحاكاة … إلخ، ويمكن استعمالها كلها ما دامت جيدة، وإن تفاضلت يُستعمل الأحكم والأتم والأقرب إلى الحقيقة، وما كان موضع العناد فيه أقل.٢٥
وخيال الخاصة أقوى وأعمق من خيال العامة، كما أن بداهة الحس عند العامة قد تكون أفضل من التصور عند الخاصة. وهناك الخيال العلمي والخيال الاجتماعي والخيال السياسي والخيال الحربي عند كبار العلماء والقادة كعاملٍ مُساعد على التصور، بل مقدمة له، أكثر غنًى وإثراءً في التعبير عن الحقائق وإيصالها للناس وتنفيذها أداتيًّا. وهناك الخيال الشعري في التعبير والإقناع بالعواطف والانفعالات والصور الفنية. الخيال أسهل على العامة من التصور، الخيال الساذج الذي يقوم على التشبيه الحي. أما الخيال الشعري فإنه يوقظ في الخاصة الدلالات، وقد يكون أعمق من التصور؛ فالشعر أساس الفلسفة، وهو الخيال السمعي وليس الخيال البصري كما هو الحال في التصور الفني في القرآن الكريم، وهو ما لا يُدركه إلا الخاصة، في حين يقع العامة في التشبيه دون تأويل. العقل للحكماء، والخيال للمؤمنين. والحكماء وحدهم هم القادرون على التأويل.٢٦
والرئيس الفيلسوف هو المُتصل بالعقل الفعَّال وبالنفس وبالطبيعة؛ فهو حلقة الصلة بين الله والإنسان والعالم. بعدها يتدرَّج المرءوسون والرؤساء بين الأدنى والأعلى، من الملك إلى أشراف النوع الإنساني؛ أي أذكياء النوع الإنساني، إلى سائر أصناف الناس.٢٧
والفيلسوف الحقيقي وعيٌ خالص بلا جمهور، أقرب إلى المسيح كشهيد منه إلى الرسول كمؤسسٍ دولة، هو رئيس حتى ولو لم توجد الدولة،٢٨ هو ذات بلا موضوع، ملك بلا محكمة، وإمام بلا مُصلين، وفيلسوف بلا أمة، وطبيب بلا مرضى وآلات، وفنَّان بلا مُستمعين أو مُشاهدين، مثل الكوجيتو الديكارتي أو النرجسي أو الله، العقل والعاقل والمعقول، أو الأرستقراطي الذي ينعم بالفن للفن. ألا يدل ذلك على أولوية القيادة على الناس، والصفوة على الشعب، والقمة على القاعدة. وعدم سماع الناس للفيلسوف الحق ليس عيبه بل عيب الناس، حينئذٍ ألا يمكن للفيلسوف أن يأخذ الناس على قدر عقولهم؟ وهذا هو النبي. كان هدف الرسول أن ينجح قولًا وعملًا دون تكرار تجارب الأنبياء السابقين، خاصةً موسى والسيد المسيح.

وهناك تقابل بين الفيلسوف الحقيقي والفيلسوف الباطل والمُبهرج والمزوِّر، مثل تقابل المدينة الفاضلة وأنواع المدن الجاهلة من بداية وتغلب وفاسقة وجاهلة. الفيلسوف الباطل هو الذي لا يعرف الأشياء على حقيقتها تعلمًا أو تعليمًا، هو الذي غابت عنه الغائية من الفلسفة النظرية، وظن أنها بعض السعادات المظنونة عند الجمهور فسعى بعلمه إليها، وانحسر عن الغاية الأولى وجهها، هو الذي يُشرع للعلوم دون أن يكون عالمًا بها، ولا تتوافر لديه شروط استعداده للعلوم النظرية بطريقة اللاهوت السكبي.

والفيلسوف المُبهرج هو الذي تعلم مثل الفاضل، ولكنه لم يُعود نفسه على الأفعال الفاضلة بحسب الملة، ولا الجميلة بحسب المشهور، بل اتبع هواه وشهوته وعدم تمثُّل شروط الرئيس الفيلسوف.

والفيلسوف المزوِّر هو الذي يتكلم في العلوم النظرية دون أن يكون مستعدًّا بالطبع لها؛ وبالتالي تضييع العمر، عكس حُجَج ابن سينا في خلود النفس والنضج في النفس والضعف في البدن كمصيرَين مُتعارضين.

والرياسة من مهامِّ العلم المدني، وهي تُمكن من تلك الأفعال والملكات في المدينة أو الأمة وتحفظها عليهم، وليست الدساتير والمؤسسات أو الشعب، وكما هو الحال في الإمامة في علم أصول الدين. ولا تكون هذه الرئاسة إلا بمدينة وصناعة وملَكة وقوة تكون عنها الأفعال، وهي مهنة الملك. وهي ملَكة وقوة وهِبة شخصية طبيعة نظرية، وليست وظيفةً اجتماعية أو فعلًا مكتسَبًا بصرف النظر عن نقد القرآن للملوك إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً.

والرئاسة نوعان؛ فاضلة وجاهلة. الفاضلة تحفظ على الأمة الأفعال والسير والملَكات لتنال السعادة القصوى. والجاهلة لا تحفظها عليهم؛ لذلك لا تُسمى ملكًا. السياسة الفاضلة للأمة الفاضلة والإنسان الفاضل والمهنة الفاضلة والرياسة الفاضلة، والسياسة الجاهلة للأمة الجاهلة والإنسان الجاهل والمهنة الجاهلة والرياسة الجاهلة؛ فالقسمة إلى فاضلة وجاهلة لا تنطبق على المدن أو الآراء، بل أيضًا على الرياسات، وكأن الذي يُحدد نوع المدينة إما آراؤها أو رياستها. ولا يُطلَق اسم الملوك بالضرورة إلا على الهيئة الفاضلة، ولا يُقال على الجاهلة ملك بالرغم من تسمية القرآن ذلك، إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا.

ولا يمكن أن تتم المهنة الملكية الفاضلة الأولى إلا بمعرفة كلياتها، وذلك بأن تُقرَن إليها الفلسفة النظرية مُضافًا إليها التعقل؛ أي القوة الحاصلة في التجربة وطول مُزاولة الأفعال في آحاد المدن والأمم والجمع، القدرة على جودة الاستنباط والشرائط التي تقدر بها الأفعال والسير والملكات في جمع أو مدينة أو أمة، في وقتٍ قصير أو طويل، وبحسب الحال والعارض. أما المهنة الملكية التابعة فلا تحتاج إلى الفلسفة، بل يتولَّى رؤساؤها على مر الأزمان طبقًا لشرائط الرئيس الأول أولاد ملوك المدينة، يصيرون مثل الرئيس الأول بعد تربيتهم ملوكًا. ولا يحتاج ملوك المدن الجاهلة إلى الفلسفة ولا إلى المهنة الملكية الأولى، بل يمكن أن يُحقق غرضه بالقوة التجريبية، ويصل إلى غرضه بجودة القريحة الحقيقية بتجربته هو أو بتجربة من يُشاركونه في مقصده، مع أن القريحة القديمة واحدة، والغرض هو الذي يختلف؛ فتصبح قريحةً حسنة أو خبيثة.٢٩
واضحٌ أن هذا التحليل هو تنظير عادة فقهية قديمة، التمييز بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ. الأولى نظرية، والثانية عملية؛ أو بين الأصول والفروع في علمَي أصول الدين وأصول الفقه. كما أنه تنظير للإمامة السارية في التاريخ بعد الخلافة والنبوة، وهي أقرب إلى الملكية الوراثية منها إلى العقد والبيعة.٣٠

والأمة الفاضلة هي التي يُديرها الرئيس الفاضل؛ فأهلها هم الفاضلون والأخيار والسعداء. فضلها من فضل رئيسها. وإذا اجترموا في مسكنٍ واحد كانت هي المدينة الفاضلة. غايتها الأخلاق الاجتماعية.

وتتفاضل السعادات لأهل المدينة بالكمية والكيفية بسبب تفاضل الكمالات المستفادة بالأفعال المدنية كما تتفاضل اللذات أيضًا. والتذاذ الجماعة الفاضلة خير من التذاذ كل فاضل بمفرده؛ فالأخلاق الاجتماعية تحقيق للأخلاق الفردية كما هو الحال عند جماعات الزُّهاد والنُّساك والمؤمنين وحلقات الصوفية.

وتتفاضل مراتب أهل المدينة في الرياسة والخدمة حسب فِطر أهلها والآداب التي تأدَّبوا بها؛ فكل إنسان ينتمي إلى رتبة أو طبقة. والطبقات نوعان؛ رياسة أو خدمة. وتتفاوت المرتبتان وتتكرران حتى الرئاسة الأولى التي ليست خادمة لرئاسةٍ فوقها، والخدمة الأخيرة التي ليست رئاسة إلى خدمةٍ تحتها. وإذا أراد الرئيس غير ذلك فعليه أن يُحدد ذلك بوصية، ولكنها وصية أيضًا تجعل طائفةً أقرب الناس إليه، ثم تتلوها طوائف حتى الوصول إلى آخر مرتبة في الخدمة. لا يستطيع إذن الرئيس أن يغيِّر من هذا النظام الطبقي أو الترتيب الهرمي وأن يجعل أعاليَها أسافلها، وأسافلها أعاليَها.

وهذا الترتيب من الرئيس الأول، وهو ترتيبٌ طبقي لا تنافُر فيه، قائم على القديم والتأخير، مثل الموجودات الطبيعية في المراتب والدرجات، من الأول حتى المادة الأولى والأسطقسات. ومدبِّر المدينة شبيه بالسبب الأول، لدرجة أنه يصعب الإجابة على سؤال: هل السياسات إلهياتٌ مقلوبة إلى أسفل أم إن الإلهيات سياساتٌ مقلوبة إلى أعلى؟

ومدبِّر المدينة هو المكفَّل بترتيبها وتحصيل الخيرات وإزالة الشرور. هو الذي يوجب الخير ويُبطل الشر. هو الحارس الأوحد، والناس تحته وصاية وحماية. ينظر في كل ما أعطته الأجسام السماوية، يستبقي ما ينفع، ويجتهد في تحويل الضار إلى نافع أو يُبطله. فرئيس المدينة له القدرة على التعامل مع الأجسام السمائية ومعرفة أثرها في المدينة. يعرف مبادئ الموجودات ومراتب السعادة، والرياسة الأولى للمدينة ومراتبها، والأفعال المحدَّدة التي بها تُنال السعادة والعمل بها، وتوجبه أهل المدينة لفعلها.

والرئيس هو الذي يقوم بتأديب العُصاة والمُتمردين يذكرها، وهو الذي يُحدد الأمور النظرية التي يتم التأديب عليها وإقناع المُتمردين بها، هو الذي يقوم بعملية «غسيل المخ» للمعارضة السياسية؛ فعلاقة الرئيس بالأمة مثل علاقة رب المنزل بالصِّبية، عليه واجب التأديب مثل مدبِّر الإصلاحية للأحداث، وما يُقال هذه الأيام عن كبير العائلة ورب الأسرة. ويحتاج الملوك لتأديب المُعتاصين والمُتمردين إلى قوةٍ أعظم مما يحتاجها أرباب المنازل مع أهلهم رؤساء المدن على تربية الصبية والأحداث. فهل نشر الفضيلة طوعًا أو كرهًا إشارة إلى الفتوحات وتنظيرًا للموروث؟

والسؤال هو: لماذا يكون ترتيب المدينة من وضع الرئيس الأول وليس من البنية الاجتماعية، والاعتراف بالتركيب الطبقي للمجتمع؟ وهل مدبِّر المدينة عالم بأحكام النجوم؟ وهل وصلت قدرته إلى التحكم في الضار وتحويله إلى نافع مثل الساحر؟ هل كل هذه القوة للرئيس؟ وأين كل رجال الرئيس؟ أين الشعب والمنظَّمات الشعبية؟ أين القوانين والدساتير والمعارضة، المراجعة والرقابة على السلطة التنفيذية؟ يبدو أنه أقرب إلى الإمام المعصوم.

وإذا تفرَّق الناس تحت رياسات أخرى كانوا أفاضل غُرباء؛ فالغربة هي العيش في مدنٍ لا تدبِّرها الرئاسات الفاضلة. وقد يكون سبب تفرُّقهم أنه لم يتَّفق لهم بعدُ مدينةٌ يمكن الاجتماع فيها، أو كانوا في مدينة ثم عرضت لهم آفات، عدو أو وباء أو جدب. في هذه الحالة تكون الهجرة ضرورية، هجرة الفضلاء من المدن الجاهلة إلى المدن الفاضلة إن وُجدت، فإن لم توجد فالفاضل غريب في الدنيا رديء العيش، والموت خير له من الحياة.٣١ وهو حدٌّ بالغ في التشاؤم واليأس، وتخلٍّ عن المقاومة والصمود.
وتظهر علاقة الخادم بالمخدوم والرئيس بالمرءوس في السياسة عند ابن سينا مثل ظهورها عند الفارابي من قبل، وهي علاقةٌ بنيويَّة تتجلَّى فيها الإلهيات في الإنسانيات. في الإلهيات حركة المرءوس بحركة الرئيس، والأشرف أكمل من الأخس، والعقل الأول أفضل من العقول العشرة التالية، وأشرف المقاصد لا يُخطئ بعكس أخسها. وفي الطبيعيات الحركة أخس الأحوال، والمادة أخس الذوات، ومبدأ الوجود من الأشرف فالأشرف حتى ينتهيَ إلى الهيولى، ثم من الأخس إلى الأشرف حتى النفس الناطقة والعقل المستفاد. وفي الإنسانيات، السعادة أفضل من الشقاوة.٣٢
ولما كانت بعض مؤلَّفات علم الكلام مكتوبة إلى السلطان وبأمر منه، فإن بعض مؤلَّفات الحكمة أيضًا مكتوبة لنفس الغرض. فبعد الحمد لله والصلاة على رسول الله يبدأ تملُّق السلطان، وإعطاء الفكر هديةً للأمير. وبعد الاعتماد على الله والاعتصام بحبله والاستنجاد بقوته، يتحوَّل ذلك إلى الابتهال إلى السلاطين الأكابر، والاعتصام بعُراهم، والاستعانة بقُواهم، والانتماء إلى خدمتهم، والانحياز إلى حجلتهم، والمُباهاة والاتصال بهم، والمبادة في الاتكال عليهم. وهي نفس الثنائية الدينية السياسية، سواء في المعرفة أو في الصياغات النظرية بين الخاص والعام، والراعي والرعية، والقوي والواهي، والعلي والسافل، والعاقل والجاهل، والحاكم والمحكوم. وينقد ابن سينا أحيانًا هذه العادة على أسس أنها تطاوُل على الحكام، ومع ذلك وجد العذر في الاتصال بالأمير. ويمدحه لأنه حقَّق رأس الفضائل الاثنتين؛ حب الحكمة في العقائد، وإيثار الزكي من الأعمال في المقاصد. وإذا كانت هذه الرسالة أول ما كتب، فهل بدأ حياته مُتملقًا للأُمراء؟٣٣

يدعو ابن سينا لبقاء حياة الأمير، ولو كان أي أمير آخر لدعا له أيضًا بطول البقاء. ليس الأمير بشخصه بل بمنصبه. مات الملك، يحيا الملك. وتنتهي الرسالة بالدعوة إلى الأمير. والأمير يأمر في شئون الفكر، وهو حكيمٌ يدعو له الرئيس الفيلسوف، بل إن الاختصار والتطويل بناءً على أمر الأمير وليس بناءً على الموضوع ذاته، بل إن الدولة تتجدد بتجدُّد الأمير وليس لأنها مؤسَّسةٌ مستقلَّة عنه. رفاهتها مشروطة بأيامه، ورِفعتها ومكانتها برفعته ومكانه، وزيادة طُلاب الفضل مرتبطة به. وهل منعت الدعوة بتأييد الله للأمير من الانقلاب عليه، أو أن الدعوة لرفع الحسد رفعته عنه؟ فلماذا احتقار الذات وانبساط الأصاغر للأكابر؟ وإذا كانت عادة القدماء، فلماذا لا يُقاومها المُحدَثون؟

(٤) خصال الرئيس

ليس الرئيس أيَّ إنسان كيفما اتَّفق؛ إذ تكون الرئاسة إما بالفطرة والطبع، معدٌّ لها، أو بالهيئة والملَكة الإرادية. والرياسة الفطرية بالطبع لا تتوفر في كل صناعة، بل في أكثر الصنائع لخدمة المدينة؛ فأكثر الفِطَر كذلك، ولكن في الصنائع صنعةٌ ترأس وتخدمها صنائع أخرى، ومنها صنعةٌ تُخدم ولا تُرأس. صناعة رئاسة المدينة إذن ليست كأي صناعة ولا أي مملكة؛ فهي ليست وراءها صناعةٌ أخرى تكون مرءوسة لها مثل رئاسة البدن، بل صناعة تُقوم الصناعات كلها. والإنسان الرئيس لا يرأسه إنسانٌ آخر أصلًا. الرئيس هو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، ورئيس الأمة الفاضلة رئيس المعمورة.٣٤ وهو تعاظم وتبجيل أقرب إلى الذاتية منه إلى الموضوعية. فلا يوجد رئيس للإنسانية كلها، وهو الإمام؛ مما يدل على الاتجاه الشيعي، يعرف الفلسفة النظرية والعلمية، والحكمة والسعادة بتدبير من الله.٣٥

والإنسان بفطرته مكوَّن لفضيلةٍ مُستنبَطة من قوةٍ فكرية عظمى بالطبع. الملك ملك بالطبيعة، والخدم خدم بالطبيعة. ثم تأتي الإدارة فتُكمل ما تركته الطبيعة. الزعيم يُولَد زعيمًا، والعبد يُولَد عبدًا.

وتختلف القوة التجريبية بحسب المواضع والصنائع وبحسب المُستعملين لها، وهي قوةٌ نفسية مثل التمييز. والتمييز في الخير شريف، وفي الشر خبثٌ ودهاء وحيلة وجريرة. تُستعمل في تدبير المدن الفاضلة. يستعملها الرئيس الأول لأنها نافعة في السياسة الفاضلة، وتنتهي بصاحبها في الرياسة. وأشرف قوة تجريبية ما استُعملت في أشرف صناعة، وهي الرياسة الفاضلة. وأنقصها ما يُستعمل في السياسات الجاهلة مثل التغلب، وهي أقرب إلى الذكاء العملي مثل الكياسة والفطنة وحسن التصرف.٣٦
والسؤال هو: هل الملك ملك بالطبع والخادم خادم بالطبع، أم بالظروف الاجتماعية، ومنها الوراثية؛ وراثة المهنة؟ وخطورة ذلك في الدفاع عن الثبات الاجتماعي عن نظام العبودية الأبدي.٣٧

والرئيس الأول الفاضل صاحب مهنة ملكية، يُوحَى إليه، لا فرق بينه وبين الرئيس والنبي والإمام والصوفي المُلهَم. يُقدر الآراء والأفعال في الملة الفاضلة بالوحي بإحدى طريقتَين؛ الأولى تُوحى إليه، كلها مقدَّرة مثل النبي. والثانية يُقدرها بالقوة التي استفادها من الوحي؛ الاجتهاد أو الحكمة. وذلك موضوع العلم النظري أو نظرية العلم، وليس في السياسة كعلمٍ عملي. يجمع الرئيس إذن بين السلطتَين السياسية والدينية بالرغم من نقد القرآن للملوك.

وتشتمل المهنة الملكية الأولى على أشياء كلية مثل علم العدل، ولا يكتفي منها بمعرفة الأشياء الجزئية. صحيحٌ أن الاستفادة من التجربة تُعطي قدرة على تقدير الأفعال كمًّا وكيفًا بحسب أحوال مدينة أو أمة أو واحد، أو بحسب حال وعارض في وقتٍ واحد. المهنة الملكية في المدن جزئية. والقوة التي يحدث بها الاستنباط هو التعقل، وهي قوة لا تحصل بمعرفة الكليات، لكن بطول التجربة في الأشخاص. الرياسة هنا بالتجربة وليست بالموهبة والفطرة، بجهد البشر وليست باختيارٍ إلهي.٣٨

رئيس المدينة شبيه بالله إن لم يكن كذلك في تصوره مراتب الموجودات في نظرية الفيض، ثم النزول تدريجيًّا من المدينة حتى باقي الطوائف التي لا ترأس أفعالها فقط من دونها، بل تخدم أيضًا ما فوقها. وأحيانًا يبدأ الرئيس المدينة، رئيس الروحانيين، الروح، الملاك، جبريل، النبي، الإمام، الملك الفيلسوف أو الفيلسوف الملك. يرتقي صعودًا حتى يصير إلهًا، ويهبط نزولًا حت يصير إنسانًا. ينزل الوحي من الله إلى الرئيس الأول، النبي، فيدبِّر المدينة بالوحي وتنفيذ الأوامر، وهو علم الشريعة؛ العلم المدني. الله هو المدبِّر الأول للمدينة الفاضلة كما أنه المدبِّر للعالم. وبين التدبيرَين نسبة وتناسب، وليس صراعًا وتناحرًا. وبين أجزاء المدينة الفاضلة ائتلاف وانسجام وارتباط ونظام ومقصدٌ واحد في الكون بالقوة الطبيعية، وفي المدينة الفاضلة بالقوة الإدارية. وكلاهما من وضع مدبِّر العالم كما هو الحال في الأشعرية التقليدية؛ ومن ثَم تقوم الطبيعية والمجتمع على غايةٍ واحدة وهدفٍ واحد. الغاية القصوى من العلم المدني إذن هو التعرُّف على الله، لفظًا ومعنًى دون تشكُّل كاذب، الله جل ثناؤه كما هو الحال في علم الكلام.

وللرئيس اثنتا عشرة خصلة فُطِر عليها؛ فالرئاسة موهبة وليست اكتسابًا، تتراوح بين الصفات البدنية والذهنية والخلقية، صعودًا من أدنى إلى أعلى على النحو الآتي:
  • (١)
    تمام الأعضاء، وسهولة أدائها لِما يحتاجه الرياسة من الخطابة والقيادة للجند، مع أن آفات الأعضاء لا تؤثر في الاتصال الذهني بين العقل المُنفعل والعقل الفعَّال، ولا يعيب بعضَ القادة القِصرُ أو البدانة أو العرج.٣٩ وقد يحتاج الأمر إلى بعض التخصيص والتمييز بين الأطراف والحواس؛ فآفات الأطراف أقل تأثرًا في القيادة من آفات الحواس كالعمى والصمم والبكم. والرئيس يقرأ الرسائل، ويستمع إلى الرسل، ويُحاور الوزراء، ويقود المعارك. وهل يمنع بتر بعض الأطراف من حسن القيادة؟ كما يمكن التمييز بين الآفات الخارجية المؤثرة، والآفات الداخلية مثل آفات الكبد والمعدة والمرارة غير المؤثرة. وماذا عن الإنسان الطائر عند ابن سينا الذي يُثبت أن لا تسكن وعي ذاتي خالص حتى ولو كان بلا أعضاء وبلا بدن؟
  • (٢)
    جودة التصور والفهم لكل ما يُقال، وفهمه طبقًا لقصد القائل وحسب الأمر في نفسه، انتقالًا من صفات البدن إلى الذهن، وإن كان الرئيس أحيانًا يعتمد على مُستشارين أكثر جودة منه في الفهم والتصور.٤٠ وهل يمكن ذلك دون قراءة؟
  • (٣)

    جودة الحفظ لما يفهمه ويراه ويسمعه ويدركه؛ أي الذاكرة القوية القادرة على الحفظ والاختزان. مع أنه يوجد الآن السجلات والملفات والمحفوظات ونظم المعلومات، إلا إذا كان المقصود الذاكرة التي يتولد منها العلم والوعي التاريخي الناشئ عن التراكم المعرفي. وقد لا يكون الحفظ مقصودًا بنفسه، بل بقدر ما يحدث عن وعيٍ تاريخي.

  • (٤)

    جودة الفطنة والذكاء الذي يجعله إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطِن على جهته ووجه الدلالة فيه. وقد تُغني عن ذلك البديهة وسرعة الفهم ويقظة الوعي.

  • (٥)

    حسن العبارة والقدرة على الإبانة باللسان عما في ضميره من بيان. وهي خاصية الفصاحة عند العرب، والبلاغة التلقائية التي اعتمد عليها إعجاز القرآن.

  • (٦)

    حب التعليم والاستفادة والانقياد للعلم دون أن يؤلمه تعب التعلم، ولا يؤذيه والمثابرة عليه والاجتهاد فيه؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، والمدينة مدينة العلماء، ورئيسها الملك الفيلسوف.

  • (٧)
    التعفُّف عن الشراهة في المشروب والمأكول والمنكوح، وتجنُّب اللعب، وبغض اللذات. وهو ما قد يتنافى أحيانًا عن سمات بعض الرؤساء الذين تدفعهم القوة والسلطة والجاه والمال إلى التمتع بالدنيا وطاعة الآخرين لهم؛ فللسلطة سِحرها. وابن سينا نفسه نموذج على ذلك في حبه للدنيا وكثرة الجماع. وقد يكون الرئيس وسيمًا مُحبًّا للغناء والطرب ساحرًا للنساء، وقد يفخر بأنه الراقص الأول والمازح الأول والحبيب الأول.٤١
  • (٨)

    حب الصدق وأهله، وبغض الكذب وأهله؛ فالصدق شجاعةٌ أدبية وقدرة على المواجهة ومبعث على الإقدام.

  • (٩)

    كبر النفس وحب الكرامة، والترفُّع عما يشين من الأمور، والتنزُّه عن الصغائر، والسمو إلى الأرفع، والتعالي على الأشياء.

  • (١٠)

    الزهد في المال. وهو ما يندر بين الرؤساء الذين تسمح لهم سلطاتهم المطلقة بتحويل الأموال إلى الخارج، وانتفاع أولادهم بأكثر مما يستحقُّون.

  • (١١)

    حب العدل وأهله، وبغض الجور وأهله، وإنصاف المظلوم حتى ولو كان الظالم أهله، وهو المعدل في الخارج بمعنى الإنصاف، والعدل مع النفس، والمرونة مع الآخرين، والاقتصاد في القول، والصرامة في تطبيق العدل الخارجي، ومقاومة النزوع نحو الجور.

  • (١٢)
    قوة العزيمة والجسارة والإقدام دون خوف أو وجل، وقوة النفس. وهذه كلها أقرب إلى شروط الزعامة كما يعرفها علماء النفس الاجتماعي الحديث. بعضها عامة يمكن الاسترسال فيها وزيادتها إلى ما لا نهاية، ويصعب تحقيقها في رئيسٍ واحد. وهو تطوير لصفات الإمام في علم أصول الدين.٤٢

ويمكن تخليصها كلها في أربع، وهي صفات الإمام عند أهل السنة؛ الأولى تمام الأبدان، ومن الثانية حتى السادسة العلم، ومن السابعة حتى العاشرة في التقوى، والحادية عشرة في العدل، والثانية عشرة في القوة.

وقد تقلُّ هذه الشرائط إلى عشرة ضمًّا للوافد، أفلاطون في كتاب «السياسة»، إلى الموروث، شرائط الإمام بعد إسقاط كمال البدن، وجودة الفطنة وحسن العبارة وحب التعليم وحب العدل وأهله وزيادة التربية على النواميس وصحة الاعتقاد والتمسك بالفضائل، على النحو الآتي:

  • (١)

    جودة الفهم والتصور للشيء الذاتي؛ البرهان وليس الخيال.

  • (٢)

    الحفظ والصبر على الجد الذي يناله في التعليم.

  • (٣)

    محبة بالطبع للصدق وأهله والعدل دون جموح ولا لجاجة فيهما بالهوى.

  • (٤)

    الاعتدال في المأكول والمشروب، وأن تهون عليه بالطبع الشهوات والدرهم والدينار وغيرهما.

  • (٥)

    كبر النفس عما يشين عند الناس.

  • (٦)

    الورع وسهولة الانقياد للخير والعدل، وعسر الانقياد للشر والجور.

  • (٧)

    قوة العزيمة على الشيء الصواب.

  • (٨)

    التربية على نواميس وعادات تُشاكل ما فُطِر عليه.

  • (٩)

    صحة الاعتقاد لآراء الملة التي نشأ عليها، والتمسك بالأفعال الفاضلة التي في ملته، وعدم الإخلال بكلها أو بحفظها.

  • (١٠)

    التمسك بالفضائل التي هي في المشهور فضائل غير مُخلة بالأفعال الجميلة في المشهور.

وإذا عسر اجتماع هذه الخصال الاثنتي عشرة أو العشرة في رئيسٍ واحد يمكن على الأقل أن يتَّصف بستٍّ منها؛ أي بأقل من نِصفها بعد إسقاط الصفات البدنية والإبقاء على بعض الصفات المعنوية غير المُتشابهة أو المتداخلة، مثل:

  • (١)

    الحكمة؛ أي الفلسفة؛ فالحكمة أمُّ العلوم.

  • (٢)

    العلم؛ أي حفظ الشرائع، السنن وسير الأولين في المدينة للاعتزاز بها وتربية الوعي التاريخي.

  • (٣)

    جودة الاستنباط فيما لا يُحفَظ عن السلف من شريعة مُحتذيًا حذو الأئمة الأوَّلين؛ فالاستنباط لفرعٍ يقوم على أصل.

  • (٤)

    جودة الروية والاستنباط في أمورٍ جاهزة ليس لها سابقة عند الأولين، وهي صفةٌ أكثر جرأة، تعتمد على المصالح العامة والتنظير المباشر للتوقع دون الالتزام بأصلٍ أول قد يمنع من الاجتهاد، كما هو الحال في المدارس الفقهية المُحافظة.

  • (٥)

    جودة الإرشاد بالقول إلى شرائع الأولين وإلى ما أدَّى إليه الاستنباط؛ أي التعليم والدقة.

  • (٦)

    جودة ثبات البدن في الحرب، في الصناعات الحربية؛ فالرئيس قائد الجند، وهي الصفة البدنية اللياقية.

ويمكن تلخيص هذه الصفات الست في أربعة؛ سلامة البدن، والعلم النقلي، والعلم العقلي، والحكمة. وإذا لم يوجد رئيس تجتمع فيه هذه الخصال الست، ووُجد اثنان أحدهما يتَّصف بالحكمة والثاني بباقي الصفات الخمس الأخرى؛ أي العلم العقلي والنقلي، مع ثبات البدن، كان أحدهما رئيسًا؛ مما يتطلب وجود رئيسَين غير مُتفاضلين. فالحكمة جماع العلم العقلي والنقلي، وجماع العلمَين النقلي والعقلي هي الحكمة. وإذا ما تفرَّقت الصفات في عدة رؤساء، كل صفة في رئيس، تعدد الرؤساء، وهو ما يصعب تحقيقه، خاصةً وأن الرئاسة تستلزم رئيسًا واحدًا. وإذا ما غابت صفة الحكمة وتفرَّقت الشروط الأخرى في عدة رؤساء، أو اجتمعت في رئيس واحد، تصبح المدينة بلا ملك وتتعرض للهلاك؛ فالحكمة سبب بقاء المدن.٤٣ وكلها تنويع على جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل في علم الكلام.
ولا خوف من تعدُّد الرؤساء؛ وذلك لأن نفوس رؤساء المدينة الفاضلة نفوسٌ متصلة، إما نظرًا لوحدة النفس البشرية كما يُصرح بذلك الوحي الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وحدة النفس بالرغم من توالي العصور، وكأنها ملكٌ واحد على مر الزمان قبل الواحد القهار، حتى ولو كانوا في أماكن عديدة في زمنٍ واحد فإن نفوسهم واحدة، أو لوحدة النفس في كل مرتبة؛ فالطبقة هي التي تُحدد الوحدة. ولا يمكن للوحدة افتراق الطبقات كما هو الحال عند الصوفية في وحدة نفوس الأقطاب، ووحدة نفوس الأبدال، ووحدة نفوس المربِّين، ووحدة نفوس المشايخ، أو نقلًا من وحدة الأئمة نظرًا لتناسخ الأرواح عند الشيعة، واستمرار روح الله في التاريخ من خلال الأئمة. وقد تكون مجرد صور فنية تُبين إمكانية اتصال الرؤساء نظرًا لتآلف النفوس إذا بلغت درجةً عالية من الحكمة.٤٤

وقد يعرض للرئيس ألا يقدر على الأفعال كلها يستوفيها حق قدرها أو شرائطها، إما بسبب المنية وإما لإشغال ضرورة مُعوقة مثل الحروب، أو أنه لا يقدر الأفعال إلا عند حادت عارض دون أن تعرض له العوارض في زمنه أو بلده، فتبقى الحاجة إلى تشريع لها يقوم غيرها باستخراجها. فالرئيس لديه الأصول، والفقهاء والأئمة من بعده لديهم الفروع. يُشرع الرئيس للأصول ذات الأهمية، ويترك الأخرى إما لوقت فراغه أو لغيره، إما في زمانه أو زمانٍ بعده، مثل صلة النبي بالعلماء، فالعلماء ورثة الأنبياء.

وخليفته مثله مُشرع، وله أن يعتبر ما شرَّعه الأول طبقًا للأصلح في زمانه، وهو دلالة النسخ في الشريعة لا لأن الأول أخطأ، بل لأن الزمن قد تغيَّر. ويستطيع الثالث أن يغيِّر ما شرَّعه الثاني إلى ما لا نهاية. التقدم إلى ما لا نهاية في الزمان ويُواكب التشريع. وهذه دلالة قصص الأنبياء والنسخ في الشرائع، من شريعة إلى أخرى.

وإذا مضى الرئيس الملك الإمام البر في الحقيقة ولم يخلفه من هو مثله، احتيج إلى رئاسةٍ تحذو حذوه، وتستنبط من أقواله وأفعاله أشياء لم يُصرح هو بها. وهنا تنشأ صناعة الفقه، استنباط أحكام جديدة حسب مقاصد الشريعة. وهنا يجوز تقليد الأول إذا غاب الثاني؛ فالاجتهاد يتلو النبوة، وإلا فلا مشاحَّة من التقليد، تقليد الإمام الأول، وهو موقف يُحاول الجمع بين الاجتهاد عند أهل السنة وتقليد الإمام عند الشيعة.

لذلك كانت الرئاسة ضربَين؛ الأولى نبوة، والثانية تابعة. إمامة أو خلافة. وكما هو الحالي في الرياسة الأولى والثواني، وبنفس علاقة الخادم بالمخدوم على المستوى الأفقي في التاريخ وتوالي الأزمان.٤٥ ويكشف ذلك عن المصدر الداخلي؛ الإمامة في علم أصول الدين، والاجتهاد في علم أصول الفقه، والناسخ المنسوخ من علوم القرآن وعلم أصول الفقه.

ولماذا الصفات كلها صفات كمال؟! ألا تكون صفات النقص من مُكونات الزعامة مثل القوة والغرور وتجاوز العاهات والإحساس بالنقص، كما هو الحال في التحليل النفسي للقُواد والعظام؟

ولما كان التقدير في الآراء والأفعال كانت صناعة الفقه جزأين؛ آراء وأفعال، مع أنه لا يوجد فقه في الآراء بل في الأفعال وحدها؛ لذلك كان لفقه الأفعال سبعة شروط:
  • (١)

    استيفاء علم كل ما صرَّح به واضع الشريعة بتحديده من الأفعال بقول أو فعل، كما هو الحال في السنة، قولًا وفعلًا وإقرارًا، فيقوم الفعل مقام القول.

  • (٢)

    المعرفة بالشرائع التي شرعها الأول بحسب وقت ما تم تبديلها في غيرها ليحتذيَ بالأخيرة لا الأولى؛ أي بالناسخ لا بالمنسوخ.

  • (٣)
    المعرفة باللغة التي كانت بها مخاطبة الرئيس الأول، لغة الوحي الأولى، وعادات استعمال اللغة في ذلك العصر، ومعرفة أوجه الاستعارة والمجاز.٤٦
  • (٤)

    جودة الفطنة للمعنى لمعرفة الأسماء المشتركة التي تُشارك في اللفظ وتُخالف في المعنى.

  • (٥)

    جودة الفطنة لما يُستعمل على الإطلاق مثل الظاهر والعام، وكما هو الحال في المبادئ اللغوية في علم أصول الفقه.

  • (٦)

    معرفة المشهور من الأمور والعادات؛ أي الواقع الاجتماعي.

  • (٧)
    قوة أخذ التشابه والتباين في الأشياء، والتمييز بين اللازم وغير اللازم بجودة الفعلة والدُّربة، والوصول إلى ألفاظ الشريعة وأفعالها ولم ينطق به بالمشاهدة أو السماع، سواء كان في زمانه صحبةً أو من الأخبار سماعًا. والأخبار إما مشهورة أو مُقنعة، وكلٌّ منها إما مكتوبة أو غير مكتوبة.٤٧

وشروط فقيه الآراء هي نفس شروط فقيه الأفعال، إنما الأول للكليات، والثاني للجزيئات. الأول للأصول وهو عمل الأصولي، والثاني للفروع وهو عمل الفقيه. والأشياء العملية في الملة تشتمل على جزيئات الكليات التي يحتوي عليها العالم المدني؛ لذلك فهي جزء من العلم المدني، وفي نفس الوقت تدخل في إطار الفلسفة العملية. الشرعيات والفقهيات جزء من العلم المدني والفلسفة العملية. والفقه في الأشياء العملية من الملة يشتمل إما على جزيئات الكليات التي تحتوي عليها الفلسفة النظرية أو على مثالات الأشياء تحت الفلسفة النظرية؛ فهو جزء من الفلسفة النظرية وتحتها العلم النظري؛ أي مجموع الأصول. وهو ما قاله الفارابي من قبلُ في «إحصاء العلوم»، وإدخال الكلام والفقه والعلم المدني في العلم الخامس كعلمٍ واحد.

الفقه إذن علمٌ عملي، يحتوي على أجزاء الكليات التي يتضمَّنها العلم المدني؛ وبالتالي فهو جزء من العلم المدني، وهو بدَوره جزء من الفلسفة العملية. والفقه أيضًا علمٌ نظري، يشتمل على جزيئات الكليات التي تتضمَّنها الفلسفة النظرية، وهي مثالات الأشياء الداخلة تحت الفلسفة النظرية.

ورؤساء المدينة الفاضلة أربعة؛ الملك، ورئيس الأفاضل، وملك السنة، ورؤساء السنة.
  • أولًا: الملك هو الرئيس الأول، له ستة شرائط مقارنةً مع شروط الإمام في الفقه وليس في أصول الدين. الملك هنا هو الملك الفيلسوف، الحكمة غايته، والتعقل وسيلته، والمُتميز بجودة الإقناع والجدل، وجودة التخيل للتأثير ثم الاجتهاد والاستنباط ثم الجهاد بالفعل. هو الملك الحكم العاقل المُجادل الشاعر الفقيه المُجاهد.٤٨
  • ثانيًا: رئاسة الأفاضل؛ أي القيادة الجماعية في حالة عدم اجتماع هذه الشرائط كلها في واحد، وجودها مُتفرقة في جماعة. أحدهم لديه الحكمة، والآخر التعقل، والثالث الإقناع والتخييل، والرابع الجهاد؛ فالجماعة هنا تقوم بدور الملك.
  • ثالثًا: ملك السنة. وهو الفقيه أو العالم كما يُقال هذه الأيام في إيران الثورة، ولاية الفقيه. في حالة غياب القيادة الجماعية يكون رئيس المدنية هو الذي يجتمع فيه العلم بالشرائع والسنن المتقدمة التي أتى بها الأولون من الأئمة ومدبِّرو المدن، وتكون له جودة التمييز للأمكنة والأحوال لاستعمال السنن حسب مقاصدها كما يقول الأصوليون، العلم بأسباب النزول وبمقاصد الشريعة، والقدرة على الاستنباط لما لم يُصرح به، وهو الاجتهاد بلغة الأصوليين، وجودة تعقُّل الحوادث التي لا تكون في السير المُتضعة لحفظ عمارة المدينة؛ أي الوعي التاريخية، وجودة إقناع وتخييل كالمتكلم والشاعر، وقدرة على الجهاد مثل قائد الجيوش. فهو الإمام الفقيه، أو بلغة العصر الوزير الأول.
  • رابعًا: رؤساء السنة، أو بلغة الفقه أهل الحل والعقد، وبلغة العصر مجلس الوزراء، في حالة عدم وجود واحد تجتمع فيه الخصال السابقة ويقوم بذلك الجميع. وهم جماعة العلماء أو إجماع الأمة، وكأن الاجتهاد الفردي سابق على إجماع الأمة والاجتهاد الجماعي.

وكل جزء من أجزاء المدينة فيه رئيس لا رئيس فوقه، وهناك مرءوسون ليس لهم رئاسة، وهناك وسط بين الرئيس والمرءوس، رؤساء لأدناهم، ومرءوسون لأعلاهم، في علاقةٍ رأسية بين الأعلى والأدنى، وليس في علاقةٍ أفقية بين الأمام والخلف.

ومراتب المدينة الفاضلة تتبع مراتب رياستها؛ فهناك رئيس ومرءوس بناءً على تقسيم العمل أولًا ثم ترتيب الأعمال ثانيًا. كلٌّ منها خادم للآخر كالفارس الذي يحتاج إلى الخيل والسراج والحداد.

والاثنان، الرئيس والمرءوس، لهما نفس الغاية، ولكن أحدهما أتم تخييلًا من الآخر، وأكمل فضيلة، وأجود تعقيلًا. رئاسته الآخر لفضله عليه، ودونه من له تخيُّل دون رويَّة؛ فالروية أعلى من التخيل، والتخيل أقل منها. وإن كان له روية فإنه يحتذي حذو من يستنبط له. ودونه من لا تخيُّل له وروية، إذا أُعطيت له الغاية والتخيل والروية قدر على الاحتذاء. ودونه من لا يتخيل الغاية ولا روية له ولا احتذاء، ولكن مُنقاد إلى الطاعة دون علم بالغاية. وهذا هو خادم المدينة. ولا يكون رئيسًا، بل هو بالطبع عبد. وما بين الأعلى والأدنى، أي الحكمة والطاعة، رؤساء ومرءوسون. والحكمة رئيس لها، والطاعة لا مرءوس لها. وحذق العبد والخادم مثل حذق الرئيس. الخلاف في العمل. الرئيس يستعملها ويستخدمهما. كل درجة أعلى أشرفُ من الدرجة الأدنى، تستعملها وتكون مقدمة عليها.٤٩

والسؤال الآن: هل مراتب الشرف معرفية خالصة أم تخضع لقرارات تقسيم العمل طبقًا للطبع والفطرة؟ هل هي علاقة صاحب رأس المال بالعامل؟ هل هي علاقة القوة النظرية بالقوة العملية، والنظر بالعمل؟ هل الرئاسة طبيعية في البشر بصرف النظر عن تقسيم العمل بناءً على حديث «لو كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم واحدًا»؟

وملوك الجاهلية مثل مدنها يتسلَّطون على المدن طبقًا لميولهم وأهوائهم دون تحقيق باقي الغايات، وهم على النقيض من ملوك المدن الفاضلة ورياساتها. ورئيس المدينة الضرورية هو الذي له حسن تدبير وجودة احتيال في استعمال أهلها لينالوا الأشياء الضرورية، وحفظها وبذلها لهم من عند نفسه. ورئيس مجتمع النذالة هو الإنسان القادر على وجود التدبير وإكسابهم الثروة وحفظها لهم؛ فكما يكونوا يُولَّى عليهم.

ورئيس مدينة الكرامة هو أكثر الناس وجودًا بالإكرام. وذلك يأتي عن طريق إما الحسب أكثر مما لغيره إن كانت الرياسة بالحسب فقط، أو باليسار، أو بالحسب واليسار معًا. ومن ليس له هذا ولا ذاك فإنه لا يكون من الرياسات أو الكرامات. وأفضل الرياسات تتعداه الكرامة إلى غيره؛ أي المدح المطلق. وهو أكثرهم نفعًا لأهل المدينة في اليسار، الملذات أو الكرامات أو الشهوات، إما يبذلها لهم من نفسه أو بتفويض ممن يُحسن تدبيرها ويُحافظ عليهم.٥٠ وأفضل الرؤساء من يُعطى اليسار واللذات دون أن يطلبها لنفسه، بل يطلب الكرامة وحدها والمدح والإجلال والتعظيم بالعدل والفعل، وأن يُشهر اسمه عند سائر الأمم في زمانه يبقى ذكره؛ وهو لذلك يحتاج إلى مال ويسار ليُعطي أهل المدينة ويُشبع شهواتهم من مال أو لذة. وكلما عظمت أفعاله يكون يساره أعظم لأهل المدينة؛ لذلك احتاج الرئيس إلى المال واليسار من أجل طلب الكرامة والمحبة. ويجمع المال من المدينة إما خراجًا أو غلبة قوم آخر، وإحضار أموالهم إلى بيت المال للإنفاق منها في المدينة طلبًا لكرامة. وقد يُبقي المُحب للكرامة شيئًا لنفسه حيًّا ولولده من بعده، ولا يبقى له ذكر بعده فيجعل الملك في ولده أو في جنسه؛ فالوراثة للملك من أجل الكرامة. قد يأخذ الرئيس بعض اليسار إكرامًا، وقد يُكرم قومًا ليُكرموه. يُكرم الناس ولكن يختص هو بأشياء مما له بهاء وزينة وفخامة وجلالة، من بناء وملبس وشارة واحتجاب عن الناس ومركب. ويسنُّ سنن الكرامات، ويصبح هو وجنسه ملك الناس، ويُرتب الناس طبقات طبقًا للكرامة والجلالة، ولكل نوع كرامة من يسار وبناء ولباس وشارة ومركب، ويتبادل هو والناس الكرامات كما هو الحال في مجتمع الملوك والأمراء والنياشين.٥١ وواضحٌ التوسُّع في وصف رئيس مدينة الكرامة. وتُوحي ألفاظ الجلالة بالملكية والملوك. وكلما ازدادت الرئاسة وازدادت طاعة الناس كان الوصول إلى اليسار أتم وأكثر طلب. الرياسة لطلب الجلالة لطالبي اليسار لطلب اللعب لطلب اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح كمًّا وكيفًا.
ورئيس مدينة التغلب هو الرئيس والملك، أقواهم بجودة التدبير واستعمالهم في غلبة من سواهم، وأجودهم احتيالًا، وأكملهم رأيًا لردِّ الغالبين ولا يُغلبون أبدًا. وهو ما يُناقص انهيار نُظُم القهر والطغيان. وقد يكون القاهرون على السواء في محبة القهر والغلبة، ويكونون مُتساوين في المراتب أو مُختلفين. لكل واحد منهم شيءٌ غلب عليه من المقهورين المُجاورين أقل أو أكثر مما للآخر. قد يكون القاهر واحدًا فقط، وله قومٌ هم له آلات لقهر سائر الناس. ليس لهم همة في غلبة شيء لنفسه أو لغيره، بل حمَتْه غلبة الشيء لذلك الواحد إذا ما كفاه الواحد أمره، وأعطاه ما يُقيم حياته وجلده، ويستعمله استعمال الكلاب والبزاة مثل المرتزقة. الكل عبيدٌ يخدمون الواحد، أذلَّاء خاضعون له، لا يملكون لأنفسهم شيئًا، بعضهم يحرث أو يُتاجر له، قصده أن يرى قومًا مقهورين له حتى وإن لم ينله أي نفع.٥٢
وتكون الرئاسة في المدينة الجماعية بأي شيء اتَّفق. والجمهور مُسلط لأعلى الرؤساء، ومن يرأسهم بإرادة المرءوسين، ويكون على هواهم. وإذا استعصى أمرهم لم يكن فيهم رئيس ولا مرءوس إلا المحمودون عندهم. وبلغة العصر، تنشأ الرئاسة بمُوجب العقد الاجتماعي، فإن غاب فبالفضلاء من الناس أو المُكرمون. والمُكرمون هم الذين يُوصلون أهل المدينة إلى الحرية وإلى تحقيق شهواتهم وأهوائهم وحفاظهم من أعدائهم الخارجين عليهم، وقد تكون المعارضة. ومن يقتصر من الشهوات على الضرورة فهو الأكرم والأفضل والمطاع. ودون ذلك من الرؤساء إما أن يكون مُساويًا لهم إذا اصطنع لهم الخيرات، أي إرادتهم وشهوتهم، بذلوه كرامات وأحوالًا تُساوي ما يفعله لهم؛ وبالتالي لا يكون لأحد فضلٌ على أحد، بل يكونون أفضل منه متى بذلوا له الكرامات، ويجعلون له من أموالهم حظًّا. لا يمتنع وجود رؤساء بهوى أهل المدينة أو برياسة آبائه المحمودة؛ أي وراثة. وقد يتسلط الجمهور على الرؤساء كما هو شائع في نقد الديمقراطية الفوضوية ودكتاتورية الغوغاء، فتنشأ أغراض المدينة الجاهلية. والرياسة في المدينة الجماعية إما تطاولًا على أهلها أو نال أهلها أموالًا وعوضًا. ويعني التطاول تمثيل إرادة المجموع، ويعني نيل الأموال تحقيق المنافع العامة.٥٣

ويخدم الفارابي المدن الجاهلة في آخر المدينة الجماعية بمُجمَل الرياسات الجاهلة في المدن الجاهلة الست؛ لأن تحديد المدينة بنوع رياستها وليس فقط بآرائها وأفعالها. فالمقصود من الرياسة التمكن من المدينة، وليست كل رياسة أولى من الأخرى، كلها تؤدي وظيفةً واحدة. والرئيس الفاضل هو القادر على جودة الروية وحسن الاحتيال فيما يُنيلهم شهواتهم وأهواءهم ويحفظها لهم من أعدائهم، ولا يردُّ أحد من أموالهم شيئًا إلا الضروري لقوته، الفاضل بالحقيقة. هو الرئيس الذي يُقدر أفعالهم ويُسددهم نحو السعادة، يرأسونه وإن رأسهم، يخلعونه أو يقبلونه، وإلا كان مُضطرب الرئاسة مُتنازعًا فيها. وكأن الفارابي يُشير بلغة العصر إلى عيوب الديمقراطية وسرعة تغير الحكومات.

وكل رئيس مدينة جاهلة يودُّ أن يُحقق لها مآربها، ويؤتيها شهواتها، ويُسهل لهم الطريق إليها، ويحفظها لهم. يأبَون رياسة الأفاضل. وهذا يعني ضرورة أن إنشاء المدن الفاضلة ورياسة الأفاضل عن المدن الضرورية والجماعية أسهل. أما الضروري واليسار والتمتع باللذات وباللعب وبالكرامة فقد تُنال بالقهر والغلبة. فالانتقال من الضروري والجماعة إلى الفاضلة أسهل من الانتقال من المدن الأربعة الأخرى التي تُنال بالقهر.

تتمُّ الرياسات الأربع إذن بالغلبة؛ مما تتطلب رياسة الأبدان وقساوة الأخلاق والجفاء والغلظة والاستهانة بالموت ونيل ما يهم وصناعة السلاح وجودة الروية. صاحب التمتع باللذات شرهٌ على المأكول والمشروب والمنكوح. ومنهم من يغلب عليه اللين والرقة فتتفسخ قوته الغضبية، ومنهم من يستولي عليه الغضب وآلاته النفسانية البدنية والشهوية فتُصبح نفسه ذليلة لهما. وكأن الفارابي قبل ابن خلدون يعتبر الترف مفسدة للرياسة والعصبية. ومنهم من جعل مقصوده أفعال الشهوة، ويجعل قُواه العليا خادمة لقُواه الدنيا، والناطقة خادمة للغضبية والشهوانية، والغضبية خادمة للشهوانية في نظامٍ هرمي مقلوب. يصرف همته ورويته في استنباط ما تتمُّ به أفعاله الغضب والشهوة. ويعرف الأفعال الغضبية لخدمة أفعال الشهوة، المأكول والمشروب والمنكوح، ويحفظها على نفسه كما يفعل أشرف أهل البوادي من التُّرك والعرب الذين يعمُّهم الغلبة والنَّهم والشَّره؛ لذلك يعظم عندهم أمر النساء، ويحسن منهم الفسق ولا يرونه عيبًا. يتجمَّلون عند النساء ليعظم شأنهم عندهم. يأخذون أحكام النساء، ويتسلَّط عليهم النساء. يُرفهون نساءهم ولا يُشركوهن في الكد.٥٤
١  الفارابي، فصول، ص٥٦، ٣٥، الفقرات ١٥-١٦، ٢١.
٢  إخوان الصفا، الرسائل، ج٤، ٦، ١٢٥، ١٢٧.
٣  يُميز الفارابي في «السياسة المدنية» بين خمس علاقات معرفية كالآتى: (أ) معرفة الخالق وما يجب لعزَّته. (ب) معرفة ما ينبغي أن يستعمل المرء مع رؤسائه. (ﺟ) معرفة ما ينبغي المرء أن يستعمله مع أكْفائه. (د) معرفة ما ينبغي أن يستعمله المرء مع من دونه. (ﻫ) في سياسة المرء مع نفسه (الفارابي، السياسة المدنية، ص٣٤).
٤  وذلك بمعنى aixom في علم المنطق الحديث.
٥  ولما لم يقدر الإنسان على معرفة سوى ما شاهده بحواسه وفهِمه بعقله مما شاهده، لم يجد بدًّا من وصف الباري الذي هو سبب الأسباب والعبارة عنه بما وجد السبيل إليه من الألفاظ والأوصاف. فلما أراد العبارة عنه والوصف له، وعلِم أنه لا يلحقه شيء من جميع الأوصاف التي شاهدها وعلِمها لتفرُّده بذاته، ولأنه نُزِّه عن كل ما أحسَّه وعرفه، لم يجد طريقًا آخر من أن ينظر في الموجودات التي لديه. فإذا تأملها وجدها صنفَين؛ فاضلًا وخسيسًا، ووجد الأليق والأجدر بسبب الأسباب الواحد الحق أن يطلق عليه من كل الصنفين أفضلهما، مثل أنه رأى الموجود والمعدوم، وعلِم أن الموجود أفضل من المعدوم، فأطلق القول عليه وقال إنه موجود. ورأى الحي وغير الحي، وعلِم أن الحي أفضل من غير الحي، فأطلق القول عليه وقال إنه حي (الفارابي، تحصيل السعادة، ص٢١-٢٢).
٦  الفارابي، السياسية المدنية، ص٢١–٢٣. والحكماء مثل اسبينوزا يُثبتون الحتمية في الطبيعة، والحرية في الإنسان.
٧  أبو الأعلى المودودي، حسن البنا، سيد قطب، الجهاد في سبيل الله، دار الأنصار، القاهرة، (د.ت).
٨  الفارابي، السياسة المدنية، ص٢٣–٢٦.
٩  السابق، ص٢٦–٢٨.
١٠  الفارابي، السياسة المدنية، ص٢٩.
١١  السابق، ص٢٩–٣٣.
١٣  ابن سينا، السياسة، ص٢-٣.
١٤  السابق، ص٥-٦.
١٥  وهذا عكس روسو الذي جعل المساواة بين الناس هي الأساس، واللامساواة هي الاستثناء في «خطاب في نشأة اللامساواة بين الناس».
١٦  السابق، ص٤.
١٧  السابق، ص٥–٩.
١٨  السابق، ص٩–١١.
١٩  السابق، ص١١-١٢.
٢٠  السابق، ص١٣–١٥.
٢١  فينبغي أن تحمد الله عز وجل على ما سخَّر لك منهم وما كفاك (السابق، ص١٥).
٢٢  مثل: أحسن ما في الدميم وجهه.
٢٣  وهي نفس الرواية الشهيرة كريتون العجيب The admirable Creaton التي تقصُّ حكاية غرق قارب ونجاة الأسرة الأرستقراطية، واعتمادها على الخادم في كل شيء في إقامة حياتها الجديدة في الغابة.
٢٤  مثل محمد المنسي قنديل، بيع نفس بشرية.
٢٥  الفارابي، السياسة المدنية، ص٥٩–٦١.
٢٦  انظر دراستنا «الشيء تصور هو أم صورة؟ هموم الفكر الوطن»، ج٢، الفكر العربي المعاصر، دار قباء، القاهرة ١٩٩٨، ص٢٠٩–٢١٦؛ وأيضًا «الفنون البصرية الفنون السمعية أيهما أقرب إلى الوجدان العربي؟ حصار الزمن» (تحت الطبع)؛ وأيضًا «من العقيدة إلى الثورة»، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الرابع، نظرية العلم، مدبولي، القاهرة ١٩٨٧، ص٥١٢–٥٢٧.
٢٧  ابن سينا، أحوال النفس، ص١٥–٥٢، ٩٥، ١٢٥-١٢٦، ٢٤٠.
٢٨  وهو ما يقوله أحد الخطاب العرب الحاليين؛ أنه رئيس بلا دولة في مُقابل دولة بلا رئيس.
٢٩  الفارابي، الملة، ص٥٤–٥٦، ٦٠-٦١.
٣٠  الفارابي، السياسة المدنية، ص٥٥-٥٦، ٥٩.
٣١  الفارابي، فصول، ص٩٥، الفقرة ٩٣؛ السياسة المدنية، ص٤٤-٤٥.
٣٢  ابن سينا، الإشارات، ص١٦٤، ٣٨٨، ٤٠٩، ٤١٢، ١٩٥، ٣٩٥، ١٣٢.
٣٣  ابن سينا، مبحث في القوى النفسانية، ص١٤٧-١٤٨، ١٧٨.
٣٤  هل يعني بلغة العصر السكرتير العام للأمم المتحدة، أو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في العالم ذي القطب الواحد؟
٣٥  الفارابي، تحصيل السعادة، فصول، ص٩٣–٩٥، الفقرة ٩٣؛ آراء، ص٧٩.
٣٦  وهو ما كان يتَّصف به معاوية في عبارته المشهورة: والله لو كان بيني وبين الناس شعرةٌ ما انقطعت، إذا أرخَوا شددت، وإذا شدُّوا أرخيت.
٣٧  وهو ما عبَّر عنه يوسف إدريس في مسرحية «الفرافير».
٣٨  الفارابي، الملة، ص٤٤، ٥٨-٥٩.
٣٩  كان بعمر بن الخطاب بعض العرج، وكان علي بن أبي طالب قصيرًا به بعض البدانة كما تصف بعض الروايات.
٤٠  مثل علي بن أبي طالب واستشارة الخلفاء والصحابة له لعلمه وتقواه.
٤١  من المُحدَثين وسامة الرئيس كلنتون، وحب الرقص والغناء عند الرئيسَين كاوندا وماندللا، وحب الغناء والطرب عند الحسن الثاني، والشبق الجنسي عند أُمراء شبه الجزيرة العربية.
٤٢  الفارابي، آراء، ص٧٩–٨١. وهي نفس الشروط عند إخوان الصفا (الرسائل، ص٤، ٦، ١٢٩-١٣٠).
٤٣  الفارابي، آراء، ص٨١–٨٣.
٤٤  السابق، ص٨٥-٨٦.
٤٥  الفارابي، الملة، ٤٩-٥٠.
٤٦  وهو ما يصعب تطبيقه على الأناجيل التي كانت لغة الوحي الأولى الآرامية ولغة التدوين، ثم اللاتينية، ثم باقي اللغات الحية، شرقية وغربية، وما يتطلب ذلك من قواميس تاريخية لمعرفة تطور اللغة في استعمال كل عصر.
٤٧  الفارابي، الملة، ص٥٠–٥٢.
٤٨  الفارابي، الفصول، ص٦٦-٦٧.
٤٩  السابق، ٦٧–٧٠.
٥٠  وهو أشبه برياسة السادات الذي يأخذ المديح، ويوكل وُسطاءه من رجال الأعمال ومن الناس.
٥١  وهو المجتمع الذي نقده الأفغاني في فكرنا العربي المعاصر.
٥٢  وذلك مثل نظام هولاكو.
٥٣  الفارابي، السياسة، ص٧٦–٧٨؛ الآراء، ص٨٤.
٥٤  الفارابي، السياسة، ص٧٨–٨١.