من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

خامسًا: الخلافة والإمامة والنبوة

وتأتي النبوة في النهاية لأنها تشريعية في حين أن الخلافة تنفيذية، والإمامة تأويلية. فالترتيب الطبيعي النبوة فالخلافة فالإمامة، حين أن الترتيب الفعلي النبوة فالإمامة فالخلافة. فالإمامة أقرب إلى النبوة، والخلافة أبعد عنها. إذا اجتمعت الخصال في واحدٍ كان هو النبي أو الإمام بعده، وإذا اجتمعت في جماعة كانت هي خليفة من بعده.

وعند الإخوان خلفاء الأنبياء الأئمة، ظاهرون في الدور الأول وهو البدن، ومستورون في الدور الثاني وهو النفس. فقد عقدت النبوة للإمامة باللواء.

والخلافة عند الإخوان نوعان؛ خلافة النبوة وخلافة الملك، الخلافة الدينية والخلافة السياسية؛ ومن ثَم أصبح الملك والسلطان من موضوعات الخلافة. الملك النبوي بمنزلة الخلافة، نموذج الرئاسة في الدولة، لا فرق بين نبوة وإمامة.

وفي الترتيب الهرمي للكون يظهر الأنبياء في مرتبةٍ أقل من الفلاسفة والحكماء، كما يظهر الحيوان في أقل مرتبة، وكأنه مكان «وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم»، والحيوانات والحشرات والطيور أممٌ مثل البشر، ولكن لا يفقه الإنسان لغتها. الحيوان زينة الأرض كما أن الكواكب زينة السماء، وما بينها العلماء والعقلاء والإنسان.١ وأحيانًا أخرى تبدو النبوة أعلى من الحكمة، والأنبياء أعلى من الحكماء. وأحيانًا تبدو الملائكة فوق الأنبياء. ويتوقف الأمر على وجه الإحساس بالتنزيه العقلي وبجمال الكون. فعند الإخوان نظرةٌ إنسانية للحيوان تقديرًا له؛ فهو جزء في تراتب الكون، مكلَّف برسالة بالرغم من تسخير الإنسان له وفوائده العملية، واعتباره من الخلق فيه.
وعند ابن سينا ترتبط الإمامة بالنبوة والخلافة، ويختلط النبي مع الخليفة والإمام. وكأن الخلافة عند أهل السنة، والإمامة عند الشيعة، استمرار للنبوة وشرعية الحكم، وتُمثل قمة الإلهيات؛ مما يُبين أهمية اللاهوت السياسي باصطلاح المعاصرين. الرئاسة للنبي، وعليه أن يفرض طاعة من يخلفه، وكأن الإمامة بالتعيين وليس بالبيعة. ولا يدخل ابن سينا في نقاش مع المتكلمين في موضوع الإمامة أو الفقهاء، مع أنه يتعرض لطُرُق تنصيب الإمام وشروطه، وكيفية الخروج على الحاكم الظالم كما يفعل الأصوليون، ووظائف الإمام كما يفعل الفقهاء. ولا يُشير إلى الموروث وهو يتعامل معه، ربما لمقتضيات الإبداع وللتنظير الخالص للموضوع نقلًا لعلم الكلام إلى علوم الحكمة.٢

(١) الخلافة والإمامة

عند الإخوان الإمامة خلافة النبي، وهي ألصق بالنبوة من الخلافة، والخلافة أبعد عن النبوة من الإمامة. والإمام عند مسكويه هو الحاكم بالسوية، وهو الذي يقضي على أنواع الجور، هو نموذج وقدوة، لا يُعطي نفسه أكثر من غيره.

واللفظان يدلَّان بالضرورة على التقابل بين السنة والشيعة؛ الخلافة عند أهل السنة، والإمامة عند الشيعة. صحيحٌ أن الشيعة لا يستعملون لفظ الخلافة، ولكن الإمامة مصطلحٌ سُني أيضًا في علم أصول الدين وفي الفقه، الإمامة الكبرى أو الإمامة الصغرى.

(أ) الخلافة في الأرض

والخلافة عند الإخوان أقرب إلى الثيوقراطية، خلافة الله على لسان المُعارض وتأصيل ذلك في القصص القرآني. آدم أول خليفة، وإبليس أول عدو، طبقًا لثنائية الخير والشر. اعتراض إبليس على آدم ورفضه السجود، ووصية آدم لذريته، تدل على خلافة النبوة في الإمامة، وهو بيت التوحيد. الخلافة في الأرض تكرار واستئناف لخلافة السماء؛ لآدم والعِصيان. فتاريخ الملوك هو تاريخ العِصيان، خلافة صورة الإنسان في الأرض، في المعادن والنبات والحيوان. ملوك الحيوان قوة وبطش وعُدوان، في حين أن ملوك النبات والمعادن حسن خلق.

والنبوة وراثة في الأمة. وهو أقرب إلى التصور اليهودي منه إلى التصور الإسلامي. وإن استحال وجود خصال الأنبياء في واحد وُجدت في جماعة من أجل القيادة الجماعية. جماعة الإخوان هي المرشَّحة للخلافة الجماعية لتعاونها في أمور الدين والدنيا والتصفية. وكأن الخلاف بين الجماعة شر، والاتفاق خير، بالرغم من أن اختلاف الأئمة رحمة بينهم، وفي عصرٍ يُعاني من الاتفاق ويحتاج إلى الاختلاف، وهو حقٌّ شرعي. مهمتها نصرة الدين، وحفظ الشريعة، وإقامة السنة، وحمل الأمة على منهاج الدين، وإقامة الدولة، ولها حسن العاقبة. فإذا ما تفرَّقت الأمة بعد وفاة النبي، واختلفت في المنهاج، وتشتَّت الشمل، وفسد الأمر، زالت الدولة. جماعة الإخوان هي المرشَّحة لتعاونها في أمور الدين والدنيا، وحب كل واحد منهم ما يُحب لنفسه. وهو رأي الحكماء والفلاسفة والفضلاء وطريق الأنبياء ومذهب خلفائهم والأئمة، وهو ما ينصح به القرآن في الاجتماع على رأيٍ واحد وترك الفُرقة، وتأليف القلوب بصدق الأقاويل وتصديق الضمائر، وعدم الكذب أو الخداع أو الخيانة والتهمة. ينصح ولا يخون، يثق في الولاية، يتودد ولا يتحاسد، يتحابُّ ولا يتباغض، يُوافق ولا يُخالف، يتَّفق ولا يختلف، يتعاضد لا يتخاذل، يتناصر ولا يتقاعد، يتعاون على صلاح الدين، رجلٌ واحد ونفسٌ واحدة، اقتداءً بسنة الشريعة.٣

والخلافة عند مسكويه تُطهر الإنسان؛ فهي سلطةٌ تربوية عكس ما هو شائع في هذا العصر من أنها مفسدة.

والمؤهَّلون للخلافة أربعة، من أعلى إلى أدنى؛ الحكماء، ثم أهل الحسب والنسب، ثم أصحاب الثروة، ثم العامة. الخليفة هو الحكيم أولًا، ثم الشريف ثانيًا، ثم الغني ثالثًا، ثم الشعبي رابعًا. ومن ثَم يصعب أن يكون الخليفة من عامة الناس. يتقدم عليه الغني والشريف، ويتقدم الحكيم على الجميع.

والحاكم خليفة الرسول، بل خليفة الله الشارع؛ فالشريعة مصدر السلطة وليس الحاكم أو الشعب؛ ومن ثَم يكون التفسير لصالحه.٤ والخليفة هو الذي يحرس الدين.

والسؤال هو: هل الإمامة أصل من الأصول كما هو الحال عند الشيعة، أم فرع من الفروع كما هو الحال عند أهل السنة؟ هي عند الإخوان فقهيات من أمهات مسائل الخلاف بين العلماء. ومع ذلك تبدو من الألفاظ المستعمَلة مثل المفسِّر والإمام والوحي. ووظيفة الإمام أنها أقرب إلى الأصول منها إلى الفروع. ويضرب الإخوان المثل بالإمامة لبيان الاختلاف في الآراء والديانات. تاهَ فيها الخائضون إلى حُججٍ شتَّى، وكثُر فيها القيل والقال، وتقاتل الناس حولها، وبدت البغضاء، وسُفكت الدماء، واستُبيحت الأموال بسببها حتى عصر الإخوان، بل وحتى الانقلابات العسكرية في العصر الحاضر، وتشعَّبت فيها الآراء إلى ما لا نهاية.

(ب) وظائف الإمام والداعية

والأصل فيها احتياج الأمة إلى إمام، خليفة للنبي، وحفظًا للشريعة، وإحياءً للسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تحتاج الأمة إلى خلفاء الإمام لجبابة الخراج وأخذ الأعشار والجزية، وتفريقها على الجند والحاشية، وحفظ الثغور وتحصين البيضة وقهر الأعداء، وحفظ الطرقات من اللصوص والقُطاع، ودفع المظالم وردع القوي عن الضعيف، يُنصف ويعدل بين الناس. يرجع إليه فقهاء المسلمين وعلماؤهم لحل مشكلاتهم في أمر الدين، ويكون حكمًا بينهم حين الخلاف في الفقه والأحكام والحدود والقصاص والصلوات والجمعات والأعياد والحج والغزو وتولية القضاء والعدول والفتاوى. ويمكن تطوير هذا الجزء وجعله تحصين الثغور والذب عن البيضة والدفاع عن الأوطان.

وهناك رأيان فيما ينبغي أن يكون عليه الإمام؛ الأول الأفضل بعد النبي والأقرب إليه نَسبًا، ومنصوص عليه، وهو رأي الشيعة. والثاني خلاف ذلك دون تفضيل، وهو رأي أهل السنة الذين يُجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.٥
وواضحٌ أن وظائف الإمام عند الإخوان نظريةٌ عقائدية؛ فالاعتقاد أول قاعدة يضعها الشارع ثم يبني عليها سائر ما يُتمم الشريعة من القول والعمل والأقاويل والأوامر والنواهي ومعاني التأويل وفرائض وسنن الأحكام وتدبير الأمة وسياسة المملكة، وهي تجمع أصول التوحيد والعدل في إطار نظرية الفيض،٦ ثم تأتي الدعوة بعد الإمامة، وهي عامة وخاصة، علنية وسِرية، لفظية ومعنوية، نصية وتأويلية. وفي حالة نقص الفهم لا يبقى إلا الإقرار. ولا يجب الإقرار باللسان والشك أو الخيانة في القلب. الأفضل المعاداة في السر والعلن، في الظاهر والباطن.

وهناك مراتب أربع للمدعوِّين؛ الكفار، لا ظاهر ولا باطن. والمنافقون، ظاهر دون باطن، تصديق باللسان وتكذيب بالقلب. والمسلمون، ظاهر دون باطن، إيمان باللسان وشك بالقلب. والمؤمنون ظاهرًا وباطنًا. وهي قسمةٌ رباعية بين الإيجاب والسلب كما هو الحال في أحكام التكليف الخمسة باستثناء المُباح.

والحقيقة أنه ليست من وظائف الإمام وضع العقائد، بل وظيفة عملية تقنينية خالصة، ولا وضع الشرائع، بل استنباط الفروع من الأصول. وواضحٌ من نسق العقائد ابتداءً من التوحيد ونهايةً بالإمامة إسقاطُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالرغم من أهمية انتشار الإسلام في أفريقيا وأمريكا عن طريق دعاة الشيعة إلا أن الشهداء أرفع الناس درجة؛ فالشهادة من الشاهد والشهيد.

وعند ابن سينا، الإمام هو العلني ظاهرًا أو باطنًا كما هو الحال عند أهل السنة، وليس الإمام الخفي المستور كما هو الحال عند الشيعة. تجب له الطاعة، وليس النصح أو العزل أو الثورة عليه. وإذا افترق الناس أو تنازعتهم الأهواء أو اجتمعوا على غير ما يستحق فقد كفروا، مع أنه لا يجوز اجتماع الأمة على ضلالة، ولا يجوز تكفير أحد من المسلمين، والأولى تكفير الجماعة. تتركز السياسة في شخص الحاكم. ويغيب دور المؤسَّسات والنُّظم السياسة إلا في إشاراتٍ قليلة في المعاملات.

وكيفية تنصيب الإمام طريقان؛ الأول طريق النبي، والثاني طريق إجماع السابقين على من يتَّصف عند الجمهور بثلاث صفات؛ الاستقلال في السياسة وليس التبعية للسلطان، أصالة العقل والاتصاف بالأخلاق مثل الشجاعة والعفة وحسن التدبير، والعلم بالشريعة؛ أي الاتصاف بالعلم.

وإذا خرج أحد على الإمام بدعوى قوة أو مال، وربما في الذهن معاوية، فعلى الكافة قتاله وقتله. فإن قدروا نكصوا كفروا. ويحلُّ دم القاعد القادر بعد أن يصحَّ على الملأ ذلك منه. فإن كان الخارجي أكمل من الخليفة، وكان الخليفة غير أهل الخلافة، خرج أهل المدينة معه. والمعوَّل على ذلك اثنان؛ الأول حسن العقل وصواب الحكم، والثاني حسن الإيالة والبصر بالعاقبة. وقد يوقع ذلك الجميع في شقاق قتل الخارجي ثم قتل القاعد عن القتل.٧ وماذا عن العزلة عن الفريقَين المُتحاربين حقنًا للدماء كما فعل الحسن وأوحى الرسول؟ فالمُتقدم في هذين الشرطين دون أن يصير إلى أضدادهما فهو أولى بالخلافة. يُشارك أعلمهما أعقلهما، ويُعاضده، كما فعل عمر وعلي؛ فعليٌّ الأعلم، وعمر الأعقل. ويتَّضح من ذلك الجمع بين السنة والشيعة؛ فابن سينا ليس سنيًّا على الإطلاق لأنه لا يقول بالبيعة بل بالنص، وليس شيعيًّا على الإطلاق لأنه يُجوز الخروج على الإمام ولا يقول بالعصمة والتقية، يتولى عمر وعليًّا في آنٍ واحد، لا يُكفر الشيخَين، ويقول بأهمية علي. وإذا صعب استحقاق الخليفة من عدمه في حالة الاختلاف عليه يُفضل النص على تنصيب الإمام كما هو الحال عند الشيعة.
وللإمام وظائف ومهام محدَّدة يمكن إجمالها في سبع:
  • (١)

    فرض العبادات في أمور التعظيم مثل الأعياد والاجتماعات، والتمسك بالجماعة والدعاء للناس، والدعوة للشجاعة والمنافسة لإدراك الفضائل ونزول البركات. وكأن الفيلسوف الإشراقي قد تحوَّل إلى صوفي خالص. وظيفة الإمام هنا احتفالية شكلية مواسمية خالصة.

  • (٢)

    الاشتراك في المعاملات التي تقوم عليها المدينة مثل المناكحات والمشاركات الكلية، وهي الأحوال الشخصية. وكأن الإمام يتدخل بشخصه فيها، وليس عبر المؤسسات القضائية وأحكام الشريعة والنُّظم التشريعية مثل العقود والخراج. وتشمل أيضًا المعاملات التي بها الأخذ والعطاء، وفرض السنن التي تمنع من وقوع الظلم مثل المعاملات التجارية. يمنع المعاملات الظالمة مثل الصرف والنسيئة كما هو معروف في الفقه، ويسن القوانين لمعاونة الناس بعضهم لبعض ووقاية أموالهم، مثل القوانين الاجتماعية التي تُنظم الجمعيات الأهلية. ويُقاتل الأعداء ويُبيح أموالهم وفروجهم؛ لأنها ليست من المدينة الفاضلة. وهي تشريعاتٌ قديمة ارتبطت بعصرها؛ فمعاملة المُحاربين والأسرى والأراضي تحت الاحتلال تحكمها القوانين الدولية. وواضحٌ هنا الجمع بين السياسات الداخلية والخارجية في المعاملات.

  • (٣)

    تأمين حماية البلاد في الخارج وأمانها في الداخل. قد تكون للمدينة سنةٌ حميدة، فإذا أوجب الوقت التصريح بأنه لا سنة غير السنة النازلة فإنها قد تسنُّ على الأمم الضالة، وتحمل على العالم بأسره. وإذا رأت المدينة الحسنة هذه السنة محمودة، وأن في تجددها إعادة أموال أمم فاسدة إلى الصلاح، ثم صرَّحت بعدم قبول هذه السنة وكذبت بأنها نازلة على المدن كلها، كان ذلك وهنًا عظيمًا عليها، ويكون للمُخالفين الاحتجاج في ردها بامتناع أهل المدينة عنها. حينئذٍ يجب تأديبها ومجاهدتها دون مجاهدة أهل الضلال أو إلزامهم غرامة، ويكونون من المُبطلين لإنكارهم الشريعة النازلة، فإما أن يهلكوا عن استحقاق إفسادًا لأشخاصهم وبقاءً لصلاحهم، خاصة وأن السنة الجديدة النازلة أفضل. واضحٌ أن ابن سينا يُحاول تعقيل فقه الحرب والسلم، والجهاد والفتح، الإسلام أو الجزية أو القتال. ويعترف بوجود سنن فاضلة بالفطرة وبحكم العقل، شرع من قبلنا، والشرائع السابقة، وسنن الأمم، الصابئة أو المجوس أو البراهمة، أو شرائع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى. يخشى عليها من الأمم الفاسدة؛ فالعقل في حاجة إلى نقل، والنقل في حاجة إلى عقل. ومهمة الشريعة الكاملة صلاحها وإكمالها، والأوجب تأديبها لأنها أخذت نصف الحق دون النصف الآخر؛ فهم ليسوا من أهل الضلال الصِّرف. ويمكن مسامحتهم على فداء أو جزية دون اعتبارهم من المدن الضالة.

  • (٤)

    توقيع العقوبات، وإقامة الحدود للزجر والمنع من معصية الشريعة؛ إذ لا ينزجر كل إنسان خشيةً من الآخرة. العقوبة المادية العاجلة ضرورية؛ إذ لا تكفي الخشية من العقوبة المعنوية الآجلة. والأفعال التي يُعاقَب عليها هي تلك الأفعال المُخالفة للسنة، المؤدية إلى فساد المدنية، مثل الزنا والسرقة والتواطؤ مع العدو. أما إضرار الشخص لنفسه فجزاؤه التأديب فحسب. وقد وُضعت السنن على حد الاعتدال في العبادات والمزاوجات والمزاجر دون تشدُّد أو تساهُل.

  • (٥)

    الاجتهاد في المعاملات؛ لأن الأحكام تتغير بتغير الأوقات، ولا يمكن ضبطها في صياغةٍ واحدة منذ البداية وحتى النهاية، ويتطلب ذلك تطوير التشريع طبقًا لتطور الزمان. ولا يجوز فرض الأحكام الجزئية أو الكلية لأن الزمان مُتغير، ويُترَك ذلك إلى أهل الشورى والعلم. وهي مهمةٌ جماعية وليست بالضرورة وقفًا على الإمام.

  • (٦)

    تنظيم المدينة في الداخل والخارج؛ أي التجارة الداخلية والخارجية، وتسليمها وتقوية التطور. تلك مهمة السايس من حيث هو خليفة بمعرفة الحفَظة؛ أي جهاز الدولة. وهو ما استبقاه عمر بعد فتح فارس من تدوين الدواوين. مهمة الإمام إذن الاقتصاد والحرب، التجارة والدفاع، البضاعة والسلاح.

  • (٧)
    سن الأخلاق والعادات، مع أنها مجرد أعراف جماعية أو عادات فردية تدخل ضِمن إطار الحريات الاجتماعية والحقوق الفردية. ويعتمد الإمام في ذلك على تعريف الحكماء للفضيلة بأنها وسط بين طرفَين؛ وذلك من أجل كسر غلبة القوى النفسية، وإزكاء النفس وتخليصها من أواصر البدن ومفارقتها له واستعلائها عليه، ثم استعمال القوى للمصالح الدنيوية، والاستفادة من الملذَّات لبقاء البدن واستمرار النسل، وتوظيف الشجاعة للمحافظة على المدينة.٨ ويجب تجنُّب الإفراط في المصالح الإنسانية والتفريط لضررها على المدينة. والحكمة النظرية لا توسط فيها، بل التوسط في الحكمة العملية وحدها، في الممارسات العملية وسلوك الناس دون الوقوع في «الجريرة»؛ أي الانشغال بالدنيا والحرص عليها. يُحقق الإمام إذن الفضائل الثلاث؛ العفة والشجاعة والحكمة، والعدالة هي التوسط بين هذه الفضائل الثلاث في فضيلةٍ رابعة. فالدواعي ثلاثة؛ شهوانيةٌ تدفع إلى فضيلة العفة، مثل لذة المنكوح والمطعوم والملبوس والراحة. وغضبيةٌ تدفع إلى فضيلة الشجاعة، مثل الخوف والغضب والغم والأنفة والحقد والحسد. وتدبريةٌ تدفع إلى فضيلة الحكمة.٩ والسعادة هي اجتماع الحكمة النظرية والعملية. والرب الإنساني اجتماع الفضائل النظرية مع الفضائل العملية مع النبوة، تكاد تحل عبادته بعد الله. سلطانه العالم الأرضي، وخليفة الله فيه، اقترابًا من التصور الشيعي الإمام الذي يصل إلى حد الألوهية.١٠
والداعية هو يد الإمام اليمنى. وله أيضًا خصال ومهام أربع؛ الأولى الوعي بأحوال الناس وموالاتهم حتى يصيروا رجلًا واحدًا. صاحب الشريعة هو الرأس، وهم الجسد. ومثل تصرُّف القوى الفكرية في القوى الحساسة، شعب واحد، وأمة واحدة، انتقالًا من الإشراق إلى السياسة، أو من خارج العالم إلى داخله.١١ والثانية بذل المال والنفس والأهل في إقامة الشريعة. والثالثة سن سنة وسيرة عادلة لصالح الجمهور والنفع العام دون اعتبار لمشقة أو ضرر. خلفاؤه في التاريخ والمستقبل وليس فقط الحاضر. ونسبة الحاضر إلى المستقبل كنسبة الآحاد إلى العشرات، وعشرات الألوف إلى مئات الألوف، إلى آلاف الألوف … إلخ، كالشجرة الروحانية، أصلها ثابت وفرعها في السماء. والرابعة عدم نسبة أي رأي إلى نفسه، بل إلى الواسطة التي بينه وبين الله من الملائكة، على عكس الحكماء الذين ينسبون الحكمة إلى أنفسهم كما هو الحال في تصور الرئيس المُلهَم. وخلفاء الدعاة الذين بهم يتم الدين والدنيا وإقامة الشريعة لهم أيضًا أربع خصال؛ عقلٌ يعرف به القبيح، وقدرة في الأفعال والأقوال، وأن تكون وصية كل واحد من واضع الشريعة، وأن يكون لكل جماعة رئيس. أما الفقهاء فلا يحتاجون إلى رؤساء؛ فالعقل رئيسهم.١٢ وقد تكون الوصية فرض وصايا على العقل؛ وبالتالي الخضوع لسلطةٍ أخرى غير سلطة العقل؛ ومن ثَم تجتمع السلطتان، الدينية والسياسية، كمصدر للقهر في الفكر السياسي.
وبالرغم من وجود عناصر شيعية مما لا شك فيه أكثر من العقائد المباشرة كاتجاهٍ عام مثل التأويل، النزعة الصوفية الإشراقية، وكموقفٍ خاص في الإمامة، التعيين بالنص وتأليه الأئمة ولو احتمالًا عن طريق الفضائل النظرية والعملية، إلا أن ذلك يدخل ضِمن الدراسات الاستشراقية وليس التحليل الفلسفي الخالص. وهو ما حدث في «توفيق التطبيق».١٣ وقد يكون الهدف أبعد من ذلك، وهو إثبات أن الإبداع الفلسفي شيعيُّ الاتجاه، كما هو الحال في الحكم على كل الفلاسفة المسلمين إما بإرجاعهم إلى الطائفة والملة، شيعي، سني، أو إلى العِرق والقوم، عربي، تركي، فارسي، وهو ما استمر حتى العصر الحاضر. والعنوان غريبٌ يدل على التطابق بين ابن سينا والشيعة. وقد يدل على علم الميزان، تطابق الحكمة والشريعة، كما هو الحال عن إخوان الصفا وكل الفلاسفة دون تمييز بين سني وشيعي. والشيعة حركةٌ مُعارضة سياسية تحوَّلت إلى ثقافةٍ شعبية ضد السلطة القائمة التي تمثَّلت ثقافة الطبقة الراقية، الطبقة الحاكمة.١٤ المقالة الأولى في العقائد، ومعظم الكتاب في الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان، وأن واجب الوجود هو الحقيقة، والدليل الأنطولوجي، ومقالةٌ صغيرة ليس بها من عقائد الإمامية شيء.١٥
والحقيقة أنه لا يمكن أخذ جزء من المقالة العاشرة للشفاء وهي أصغر المقالات في النبوات كدليل على أن ابن سينا شيعي من الإمامة الاثني عشرية.١٦ وماذا عن المقالات التسع الأخرى؟ لو كان إماميًّا لكان له نسقٌ فلسفي آخر غير المشَّائية. والحديث عن النفس والعقل وإدراك ما يقولونه ولا تقبله نفسه يُوحي بأنه يستمدُّ مصادره لصالح التنظير العقلي المباشر، وبنية العقل الطبيعي الصريح. ومعظم الاستشهادات في موضوعات الإمامة والعصمة والنفس واليقين والنبوة تمَّت على نحوٍ انتقائي من «الشفاء» ومن «الرسالة العرشية»، مع استبعاد العناصر العقلية الخالصة. والقول بالعناية واللطف ليس بالضرورة شيعيًّا من ابن سينا، بل هو ميراثٌ عام في الفكر الفلسفي الكلامي والفلسفي والأصولي والصوفي. وإذا كان هناك تشابه بين موقف ابن سينا والشيعة فإنه راجع إلى وحدة المصدر، وهو الموروث الإسلامي، وليس لأثر أحدها على الآخر. كما يتم تأويل كلام ابن سينا بحديثٍ يكون دائمًا مُلائمًا لمذهب الإمامة الاثني عشرية، وانحداره من أسرةٍ شيعية؛ فقد أجاب أبوه داعي المصريين، وسمع منهم ابن سينا في طفولته. وهو لا يعني بالضرورة أن كل نسقه شيعي الاتجاه، وأنه كان من أكابر الشيعة الإمامية الاثني عشرية.

والحقيقة أن المؤلف من علماء القرن الحادي عشر، أي من المتأخرين، يريد إرجاع الحكمة إلى الكلام باعتباره العلم المستمر بعد نهاية الفلسفة بموت ابن سينا في العالم السني، وبصدر الدين الشيرازي في العالم الشيعي، وتحويلها إلى فرع من فروع علم الكلام. فابن سينا شيعي، يتم تحويله من حكيم إلى أحد رؤساء الفِرق الكلامية، واستمرار المشكلة إلى هذا القرن المتأخر. وقد يكون السبب استمرار تكفير الفلسفة والفلاسفة وإخراجهم من دائرة المركز، أهل السنة. وقد يكون دفاعًا مبطَّنًا عن ابن سينا لإخراجه عن حكم الغزالي بتكفير الفلاسفة، وإثبات أنه ليس زيديًّا ولا سنيًّا ولا كافرًا، بل موحِّد مؤمن إمامي. وقد يكون الحكم على ابن سينا على هذا النحو هو تبادل علوم الحكمة في مرحلة الموسوعات (ابن سينا) بعد مرحلة الأشخاص (الكِندي والفارابي).

(٢) الملك والسلطان

وهما تعبيران مُتداخلان، ولفظان قرآنيان. الملك هو الملك النبي مثل داود وسليمان، والسلطان هو الملك الذي يجد شرعيته في الدين. في الملك النبي الأولوية للنبوة على المُلك، فالنبوة بلا ملك مثال بلا واقع، دين بلا دولة، عقيدة بلا شريعة. وفي السلطان الأولوية للمُلك على النبوة، فالملك بلا نبوة سلطةٌ جائرة، واقع بلا مثال، شريعة بلا عقيدة.

(أ) الملك النبي

والملك عند الإخوان هو صاحب السلطة التنفيذية. يعمل لدى الإمام خليفة النبي. مهمته أخذ البيعة وترتيب الخاص والعام، وجباية الخراج والعُشر والجزية، وتفريق الأرزاق على الجند والحاشية، وحفظ الثغور، وتحصين البيضة، وقبول الصلح والمهادنة، وإعطاء الهدايا لتأليف القلوب.

ودور النبي الوحي والدعوة، والتدوين والكتاب، وإجراء السنة الشريفة. فالأنبياء أطبَّاء النفوس، فهي أدوارٌ ثلاثة؛ الأول استقبال الوحي من الملائكة، وهو البعد الرأسي في النبوة، وتدوين الكتاب المنزَّل بالألفاظ الوجيزة، وكأن النبي هو الذي يكتب الحرف، وتبيين القراءة بالصوت والفصاحة، وإيضاح المعاني وبلوغ التأويل، ووضع السنن المركبة، ومداواة النفوس المريضة من المذاهب الفاسدة والآراء السخيفة والعادات الرديئة والأفعال القبيحة، ونقلها من العادات والآراء، ومحوها من الضمائر بذكر عيوبها، ومداواتها من الأسقام إلى العادات بالحماية لها من العودة إليها، وإشفاؤها بالرأي الرصين والعادات الجميلة والأعمال الزكية والأخلاق الحميدة بالمدح والترغيب في الثواب ليوم المعاد. والثاني سياسة النفوس الشِّريرة عن قصد سبيل الرشاد، وردها في سلوكها في وعور الطريق البغي بالتمادي، وسياسة النفوس الساهية والأرواح اللاهية من طول الرقاد، ونسيانها ذكر المعاد بالتذكار لها يوم المعاد نذيرًا للناس. ثالثًا إجراء السنة في الشريعة، وإيضاح المنهاج في الملة، وتبيين الحلال والحرام، وتفصيل الحدود والأحكام في أمور الدين، والترهيب فيها وذم الراغبين إليها، وتفصيل أحكام الخاص والعام وما بينهما من سائر الطبقات.١٧ والسؤال هو: هل التدوين من خصائص النبي وكذلك التفسير أم من الأجيال اللاحقة، التدوين بالألفاظ الوجيزة وكأن الألفاظ من اختياره، وأنه حر التصرف في انتقائها؟ وخصال النبوة خطابٌ إنشائي عام، في حين أن خصال الملك خطابٌ تحليلي دقيق.
وخصال الملك هي خصال الإمام. فهل يجمع الإمام بين النبوة والملك، بين السلطتَين الدينية والسياسة، في حين أن النبي يُمثل السلطة الدينية وحدها؛ ومن ثَم تكون الإمامة في السياسة أقوى من النبوة؟ ولما كان الدين والسياسة صنوَين، حاجة الدين إلى سياسة وحاجة السياسة إلى دين، كانت الإمامة أقوى من النبوة على الإطلاق. وهو نسقٌ لا خلاف عليه في التوراة والإنجيل والقرآن وصحف الأنبياء، وهو أيضًا نسقٌ عقلي عام، الجمع بين النبوة والملك، بين الدين والدولة، الاستشهاد بالقول المأثور لأردشير ملك الفُرس في وصيته، أن الملك والدين أخوان توءمان لا قوام لأحدهما إلا بالآخر؛ وذلك أن الدين أس الملك، والملك حارس؛ فما لا أساس له مهدوم، وما لا حافظ له ضائع. لا بد للملك من أس، ولا بد للدين من حارس.١٨ وقد تجتمع النبوة والملك في شخصٍ واحد، مثل داود وسليمان ويوسف ومحمد، وقد يختلفان مثل المسيح إيثارًا لملكوت السموات على ملكوت الأرض، وإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

ويظهر من القصص الرمزي أن الملك هو النبي كما قال داود وسليمان. الدين دولة، والدولة دين. والتوحيد بين النبوة والملك ليس حرصًا على الدنيا، بل حرص على الدين؛ فالملك عارض لأسبابٍ عديدة. فلو كان الملك في غير أمته لردَّهم عند دينهم أو عذَّبهم كما فعل فرعون مع بني إسرائيل. وقد قال أردشير إن الملك والدين توءمان. والناس بطبائعهم لا يرغبون إلا في دين الملوك، ولا يرهبون إلا منهم. والناس على دين ملوكهم كما لاحظ ابن خلدون فيما بعد. والسؤال هو إذا كان الملك عارضًا، فكيف يمكن تأسيس الدولة وتحقيق الدين كنظامٍ شرعي للعالم؟ السلطة تنشأ في المجتمع أولًا أي الدولة، ثم تبحث بعد ذلك عن شرعية بالدين أولًا، وبالمذاهب السياسة ثانيًا. وإذا كان في طبيعة الناس الرغبة في دين الملوك، كيف يمكن إذن تفسير ثورة الأنبياء على دين الملوك، مثل ثورة موسى ضد فرعون، وعيسى على اليهودية، ومحمد على دين قومه، وإبراهيم على قومه عبَدة الأصنام؟ بل إن تاريخ الأنبياء هو تاريخ الثورات على ديانات الملوك.

وأحيانًا ينشأ التعارض بين أخلاق الملوك وأفعال النبوة؛ لأن الملك أمرٌ ديني، والنبوة أمرٌ ضروري؛ فالدنيا والآخرة ضدَّان. وأكثر الملوك راغبون في الدنيا حريصون عليها، وتاركون الآخرة وناسون لها. والأنبياء زاهدون في الدنيا راغبون في الآخرة، يأمرون بها ويحنُّون إليها.١٩

ويُعطي الإخوان تأويلًا لحكاية الملكَين ببابل هاروت وماروت على أن ملكًا من ملوك الفُرس عليه نعمةٌ ظاهرة، مُنغمس في الدنيا، ووزيره عاقل طبقًا لثنائية الخير والشر، ثم مرِض الملك وعز الطبيب والدواء. ويكثر الخروج على الملك والرغبة في الانقضاض عليه إذا علِم الناس مرضه؛ مما يدل على جو القلق السياسي، وخاف الوزير من السؤال، في حين كان الملك يتوقع السؤال كما هو الحال في أسباب النزول.

والشيخ البعيد له اثنا عشر تلميذًا مثل حواري المسيح. أرسل رسولَين إلى الملك لتعليمه العلم الرياضي والعلم الإلهي؛ العلم الإلهي ملك، والعلم الرياضي وزير. ولم تنجح وصايا الشيخ. وقد حاول الرسولان الجمع بين السعادتين، الدنيا والآخرة، واستحال ذلك، وفرض الواقع نفسه، اختيار أحد النقيضَين، وهو أقرب إلى النموذج المسيحي منه إلى النموذج الإسلامي.

وتغيَّر الملك بسبب حلم الشيخ الذي أتاه ونبَّهه إلى زوال سلطان الأرض. طار الشيخ وسار في الهواء، وأدرك الملك الانتقال من الضد إلى الضد، أنه مملوك وليس مالكًا، جاهل وليس عالمًا، حيوان وليس إنسانًا؛ فالحكاية لها خطَّان مُتعارضان. انقلب الرسولان من الآخرة إلى الدنيا بالرغم من وصية الشيخ، وانقلب الملك من الدنيا إلى الآخرة، أشبه بتكافؤ الأدلة والشك، وضرورة وجود مقياس للاختيار بين المصيرَين؛ قوة الدعوة إلى الآخرة للملك، وقوة الدعوة إلى الدنيا للرسولين. تُشبه دعوة الملك دعوة الغني من المسيح: «اترك ما في يدك واتبعني.»٢٠
وتظهر في القصة الرمزية بعض مظاهر الحكم والدولة، مثل دور الشائعات وأهميتها بالنسبة للسلطان. وما زال الأدب الشعبي أداة التعبير عن السياسي، من ذهب للانتقام فاكتوى بنار الحب.٢١ وقد تجلَّى ذلك كله في رسالة الحيوان كقصةٍ رمزية في الأدب السياسي. وتبدو القصة كأنها تدعو إلى الثورة على سلطان الأرض مثل الصوفية، وزعزعة خوف الناس وخضوعهم له. يبدو الجو السياسي للقصة، الثورة ضد الأمم الطاغية والأحزاب الباغية التي تُكذب الأنبياء، وربما كان القصد الأمويين. وعلى هذا النحو ترتبط السياسة بالتاريخ، نشأة الدولة وسقوطها، وكما تشهد على ذلك البروج والكواكب.
وتعليم الملوك العلم الرياضي والعلم الإلهي دون ذكر للعلوم الطبيعية أو العلوم الناموسية يجعل الرياضة مقدمة للإلهيات، كما تدل على عدم انفصال السياسة عن الأخلاق. ما زال الملك هو الأساس، به قيام الدولة وسقوطها، وتتدخل أحلامه في إدارة الدولة وقرارتها السياسية مثل فرعون ويوسف؛ فقد أخرج الملك عن السجن كما فعل بولس في الإنجيل عن طريق حلم الملك وخوفه.٢٢ ويستلهم الإخوان المادة القصصية من التوراة والإنجيل والقرآن والأدب الفارسي.
وعند مسكويه القائم بحفظ السنة وغيرها من وظائف الشرع الإمام وصناعته الملك؛ فالإمام يحكم ولا يُفتي ويؤوِّل فحسب. ويعتمد على نفس القول الشهير لأردشير ملك فارس وحكيمها: الدين والملك أخوان توءمان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر. الدين أس، والملك حارس. وكل ما لا أس له مهدوم، وكل ما لا حارس له ضائع. وانتهى زمان الحاجة الإلهية بانتهاء النبوة، فوجب تدبير الملك بالإمام الحق والملك العدل.٢٣ وظيفة الملك حراسة الدين وإلا كان مُتغلبًا مُتسلطًا.٢٤ وحراسة الدين شيء، والثيوقراطية شيءٌ آخر. الدين لا يحكم بل يُشرع، والحاكم هو السلطة التنفيذية التي تقوم بالمحافظة على حسن التطبيق.٢٥
ونسبة الملك إلى الرعية نسبة الأب إلى الأولاد، والله إلى العالم. الرعية بالنسبة لبعضها البعض علاقة قُوًى وتساوٍ، وبالنسبة للملك علاقة رياسة. الأولى أفقية، والثانية رأسية. وهي فقرةٌ صغيرة ولكنها هادفة، مُنخفضة بين المحبة والصداقة مثل حراسة الخليفة للدين، وكاختفاء فقرة الملوك القدوة داخل الأخلاق. تقوم السياسة هنا على أخلاق الواجب في الأسلوب، وربما على أخلاق الطبيعة في التحليل.٢٦ وتقوم الأخلاق السياسية أحيانًا على الأخلاق النفسية التربوية من أجل تأسيس المجتمع الأبوي في صلة النفس بالبدن، والملك بالرعية، والأدب بالأسرة، والله بالعالم. وكما بدا ذلك في النقاط السياسية التطبيقية الأخيرة في آخر «تهذيب الأخلاق». الأخلاق السياسية هي أخلاق وجوب، ما ينبغي على الحاكم. رئيس المدينة هو المؤدِّب للناس، كما أن العقل مؤدِّب لقوى النفس. هو المُعلم والمُلهِم والقائد والإمام والرئيس والنبي والزعيم إلى الأبد. وتتم تربية النفس علميًّا بالفكر، وعمليًّا بالصناعات. فالملك هو الحكيم الأول والصانع الأول.٢٧

كما تدخل الصداقات والرياسات في الخيرات في مقولة الإضافة؛ فلا رئيس بلا مرءوس، ولا صديق بلا صديق. الرياسة ضد الغاية في ذاتها، بل غايتها عملية، في التدبير والإدارة والحكم.

والسلطان له أيضًا تضييقاتٌ أكثر من العامة لأنه قدوة، وحفاظًا على الصحة مثل تعامله مع الأضداد والحُساد، وحاجته إلى المؤن في الإصلاح، ولومه باستمرار واستبطائه، واستزادة الأهل والأصدقاء منه، وتحريم ذلك على أهله وحريمه وخاصته، وحصاره بين الفقراء والأغنياء.

وللملوك هموم، يظنُّ الرائي لهم أنهم مسرورون وهم مهمومون. يسأمون الالتذاذ بالملوك بعد أن يصبحوا ملوكًا؛ فالملك نقيض الحكمة التي لا سأم فيها. والملك اغتراب عن الدنيا وتعفُّف منها؛ فالملوك هم أشد الناس فقرًا لكثرة حاجتهم بالرغم مما يبدو عليهم من ثروات. وهم من الناس وليسوا غُرباء عنهم، من الداخل وليسوا من الخارج. وهم في نفس الوقت من أشقى الناس في الدنيا والآخرة. يزهد الملك فيما عنده بينما يرغبه الآخرون. يحسده القليل، ويسخط منه الكثير، ويسأم الرخاء.٢٨
ويمكن نقد الملوك في رغبتهم اقتناء الجواهر النفيسة وجزع نفوسهم لفقدانهما. واختلاف الجزع حسب الطبقات؛ جزع الملوك أشد من جزع أواسط الناس والتجار. إذا احتاجها الملوك لا يستطيعون بيعها لأن ذلك فضيحة، ولا يستطيع أحدٌ شراءها، والقادر يخشى الملك. كما يمكن نقد تجارة الجواهر النفيسة والاستحواذ عليها من الملوك وأواسط الناس؛ إذ يطلبها من هو أعلى منه، ولا يستطيع منعها وإلا تم اضطهاده، ولو سمح بها لعجز عن فقدها. ولا يجب الاحتفاظ بها لأنها معرَّضة للسرقة في حالة الاستعمال، أو تبقى في الخزائن فلا ينتفع بها.٢٩
ويعتمد مسكويه في تحليله على مصادر داخلية صِرفة، واقتداءً بالصحابة الأوائل.٣٠ كما يعتمد على بعض الروايات والأخبار وليس بالضرورة على الأحاديث الصحيحة. الألفاظ موروثة مثل الإمامة والخلافة والنبوة والعدل والجور. والسؤال هو: كيف تأخذ هذه الألفاظ دلالاتها المدنية في عصر الثورة على الملوك وتنصيب الأئمة والدعوة إلى الخلافة، وتألُّه الحكام والرؤساء، لا فرق بين ملكيِّين وجمهوريِّين؟

(ب) سلطان العصر

ويُصور التوحيدي أحوال العصر، وهو الوحيد من بين الفلاسفة الذي يخرج من أحكام الحكمة النظرية المجردة، بنت العقل الخالص، إلى الواقع الاجتماعي بكل أزماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وممارساته الأخلاقية؛ فكل فكر هو رد فِعل على ظروف العصر. فالتأليف ليس كتابًا مقررًا كما هو حادث في هذا العصر، بل تعبير عن أزمة مجتمع، وبؤس مؤلِّف، وحياة مفكِّر، ووجود كاتب.

وآفة العصر الحسد والفساد؛ فالمجتمع مجموعة من الطرَّارين، أي النشَّالين، وقُطاع الطُّرق والخائفين المُستلقين الذين يضربون على القفا، والذين يُكفرون بعضهم بعضًا في الميادين العامة وفي أجهزة الإعلام بلغة هذا العصر، والدس على الآخرين لإفساح المجال للنفس. وتنحسر الأمة في الطبقة، والولاء للجماعة هو ولاء للطبقة؛ فالإنسان ابن طبقته. كما تتلخص أزمة العصر في انتشار الفحشاء، وفساد العلماء، وانتشار الجهل، وظهور البغي، وفساد الدين، وسطحية الناس، وفقدان الصديق. زادت الإباحية، وأصبح ذكر الله لغوًا على الألسنة، وظهور القلب من الفكر، وكدر الوقت، وعكر الأمر، وقذر الحال، وتكرار القول، ونكران الفعل، وخوار البناء، وقبح الوجه، وغلبة الغفلة.

والقضية هي: كيف يستطيع السلطان أن يحكم في هذا العصر في هذا الزمن الرديء؟ إن عقل السلطان أكبر، وحلمه وصبره أعظم روايةً عن أبي سليمان. وهي خصال لا تقوى عليها العامة، بالرغم من أنها أقرب من الحكمة السياسية إلى الأخلاق. والعامة تحت قدرته تأتمر بأمره، وتُطيع أمره. العلاقة بين السلطان ورعيته علاقةٌ إلهية كما هو الحال عند الشيعة. الملك رب الأسرة، وهو نوع من السماح للشريعة للتسلط باسم كبير العائلة. وهو نظامٌ كوني تتطابق فيه الشريعة مع الطبيعة الأخرى بين سنة وشيعة، بين سلطة قائمة ومُعارضة قادمة. السلطان في تدبير الرعية، رواية عن القومسي، كالشمس في تفصيل الأزمان، والحبة كالرياح في التلقيح.٣١ والعلماء من الجميع كالنبات والحيوان، والعوام في نقل الأمور كالأرض في محل الأنام، وما يكون من منافع الإنسان. الملك إلهٌ بشري، ونورٌ كوني.

والرعية وديعة من الله عند السلطان، يرعاها ويستثمرها، ويدبِّر أمورها، ويبحث عن أسباب شكواها. فلا شكوى بدون سبب يوفِّرها لها العمل أو الإعانة من بيت المال مع ملاطفة المُعترض واستئناسه. ومع ذلك يُعطي أبو سليمان الحق للرعية في مراجعة السلطان، في حين أن البطانة تريد عقاب الخارجين عليه والمُناوئين له بالقتل والسجن والتعذيب. ويستحيل ترك خدمة السلطان إلا بدينٍ متين ورغبةٍ شديدة في الآخرة، وفطامٍ صعب من الدنيا، ولسانٍ يلغ بالحلو والحامض. والسلطان ضرورة للفكر والأدب، وليس فقط للسياسة والرياسة، مدحًا له وتقربًا إليه، وشحاذة من الدنيا؛ فهو المفكِّر الأول والمُناظر الأول والمُحاجج الأول. والسؤال هو: هل السلطان يسوس الناس وهو المُطيع لله كالقطيع؟ وماذا لو عصى الناس السلطان؟

واغتياب العامة للسلطان طبيعي إذا ما غابت حرية التعبير. فهل رد الفعل هو التنكيل بالعامة كما تقضي بذلك بطانة السلطان وخدمه، أم إن هذا واجب العامة والخاصة في النقد والنصح؟ إن رغبة السلطان كالعادة هي أن يعكف الناس على شئونهم دون التعرض له وللأوضاع العامة، وهو ما يستحيل نظريًّا نظرًا لضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعمليًّا نظرًا لأن النقد والضيق وحرية التعبير طبيعي في البشر.٣٢
ويتم مدح السلطان مُنفذ الشرع، ومد اليد إليه بالسؤال لقبض الثمن. ويصل تملُّق السلطان إلى حد وصفه كإله، ويتم المدح باسم الله. وقد بدأ هذا التقليد حتى عند الكِندي في رسائله إلى المعتصم بالله الرحمن الرحيم، وكأننا نحمد الله. ويبلغ مدح السلطان إلى حد تبعية كل شيء له؛ فعلى أقداره يتم تعريف كل شيء وكأنه شريك لله.٣٣ يصل إلى حد التذلُّل والهوان في طلب الحاجة.٣٤ وأحوال الزمن الرديء ليس له إلا السلطان. فهل تجوز الشكاية لمن كانوا السبب في الخراب؟ وهل يجوز أن يكون الجلَّاد والحكم والقاضي والقاتل واحد؟٣٥

وإذا كان التملُّق سلوكًا فإنه يتوجه لله وللسلطان والوزير ولأي رئيس، ولا فرق بين الراعي لله والسائل للسلطان والساعي للوزير. وبقدر اتساع الأمل عند المدَّاحين بقدر ما يجدون القدر للممدوحين على الجفاء، وعدم العطاء بكثرة الانشغال. والحقيقة أن شكوى الزمان ليست لله أو للسلطان أو للوزير، بل هي من ضعف النفس، في حين أن التراث القديم ينعى المدَّاحين قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ؛ مما دفع بأبي موسى المردار من شيوخ المعتزلة إلى تكفير كل من جالس السلطان كرد فِعل على من حرَّم نقد بَغلة السلطان. ويظل الأفغاني في حياتنا المعاصرة حدثًا عندما يجعل السلاطين أحد أسباب انهيار الأمة.

ويُستعمل الدين غطاءً للسؤال؛ فلا فرق بين الدعاء كبنيةٍ نفسية وذهنية وإرادية، والطلب بناءً على إرادة المانح وليس تحقيق المطلوب بالجهد الإنساني.٣٦ بل يبلغ الحد بالسؤال إلى طلب التوسط لدى الوزير، أو عرض خدمات السائل على المسئول، والمادح على الممدوح. وهو ما يُعارض تقاليد القدماء في أن تجوع الحُرة ولا تأكل بثديها، وفي اعتبار ذلك شركًا. وقد تكون القدرية هنا أفضل قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا. ويكون موقف الصوفية أفضل في ترك الدنيا بمن فيها على من فيها لمن فيها، وكذلك موقف بعض الفقهاء في رفض خلع السلطان، وألقاب مُفتي الديار، وشيخ المشايخ، وإمام الأئمة.٣٧ ويصل الذل في الطلب إلى حد أن يكون الطالب حامل رسالة أو بعض المال للتجارة.٣٨
فإذا كانت العامة مع بعض الخاصة من فقهاء البلاط مُتملقة للسلطان، فإن البعض الآخر يعرف زوال الملك ويتوكل على الله. وإذا انشغلت العامة بأمور الدنيا، رخاء العيش وطيب الحياة وسعة المال ودر النافع وأموال السوق وتضاعف الربح، فإن الخاصة العارفة بالله مُولَعة بحديث الأمراء والعظماء لتقِف على تصاريف قدرة الله فيهم، وجريان أحكامه عليهم، ونفوذ مشيئته في محابِّهم ومكارههم، فسيُنفذون الأحكام ويعلمون أن كل ملك زائل، وأن هناك فرقًا بين الظاهر والباطن. وهم الصوفية الذين يتركون الدنيا بمن فيها على من فيها، راضين بما هم فيه من سكينة واطمئنان ونعمة ورضًا. ومنهم من يستعمل أساليب التورية والكناية كي يتجنَّبوا اضطهاد السلطان.٣٩
ويتَّجه التوحيدي نحو إخوان الصفا في تصوُّره للناموس الإلهي ووضعه بين الخلق، نقلًا عن ابن مقداد من أن الناموس الإلهي يتوجَّه به إفاضته الخير، وترتيب السياسة، ويُورث سكون البال، ويحسم جواد الشر، ويُوطد دعائم السنين، ويبعث على تشريف النفوس وتزيين الأخلاق، ويُقرب إلى طريق السعادة، ويُمهد لأسباب الحكمة، ويُشوق الأرواح إلى طلب الحق، ويُقدم دواعي العدل والرحمة والإنصاف.٤٠
ومع ذلك ظلَّ العبيد بعد الإسلام بمدةٍ طويلة حتى القرن الرابع، عصر التوحيدي، بل وحتى العصر التركي، وانتهى رق الأفراد في العالم الإسلامي، واستمر في العالم الجديد حتى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، ثم تحوَّل من رق الأفراد إلى رق الشعوب. وقد استغرق تحرير رق الأفراد عشرات القرون، في حين تحرَّرت الشعوب في مدى نصف قرن.٤١

ويتعرض أبو حيان على لسان الفيلسوف لبعض الموضوعات الاقتصادية مثل الغنى والفقر، وهو ما تعرَّض له أيضًا علم الكلام ضِمن موضوعات العدل، ويُعطيه المعنى الصوفي. الغنى والفقر في النفس وليس في الوضع الاجتماعي والمستوى الاقتصادي، في الداخل وليس في الخارج. وتُساعد في ذلك ثنائية الجوهر والعرَض. الغني ماليًّا غني بالعرَض فقيرٌ بالجوهر، والفقير ماليًّا غني بالجوهر فقيرٌ بالعرَض. وقد يكون الغنى والفقر في الأخلاق؛ فالغني هو القادر على التمسُّك بالأخلاق والامتناع عن الشهوات، والفقير هو المُنكب عن الشهوات، العاجز عن السيطرة على الأهواء والانفعالات. وقد يكون الغنى والفقر في السلوك الفاضل، في الصدق والغش؛ أي في العاجلة؛ فالغني غشًّا فقير صدقًا، والفقير غشًّا غنيٌّ صدقًا. وقد يكون الغنى والفقر في علاقة الدنيا بالآخرة؛ فالغني في الدنيا فقير في الآخرة، والفقير في الدنيا غني في الآخرة. هذا مع الاعتراف بأن الغنى عز، والحاجة ذل، والخروج من المستوى النفسي الأخلاقي الديني إلى المستوى الاجتماعي الاقتصادي.

كما يتعرض لبعض موضوعات التوافق الاجتماعي، ووحدة الأمة فيما يتعلق بأهل الذمة، والسلام عليهم مبادرةً أو ردًّا، كما يتم التعرُّض لبعض الموضوعات العسكرية مثل الحرب والحزم والتيقظ وقلة الاستهانة بالخصم؛ فالعساكر لا تُساس بالتواني، والحروب لا تُدبَّر بالاعتزاز. ومن آفات العصر تحوُّل الحرب من الفتح والجهاد إلى القتل والغزو والنهب.

وصعوبة أبي حيان قراءة النفس في مرآة الآخر حين يعرض نماذج من الحوارات الفلسفية تعبِّر عن آراء الآخرين في الظاهر، وعن حواره مع نفسه في الباطن. وأبو سليمان هو الشخصية المحورية الأولى، وعلى لسانه يضع أبو حيان كثيرًا من آرائه أو يتبنَّى آراءه. وقد كان الحوار الفلسفي بين الأدباء ثقافةً شعبية في مجتمعٍ حضاري، وكثيرٌ منها حكايات ونوادر، كلماتٌ جيدة، ومأثوراتٌ أدبية، ومواقف طريفة. وكلها إنشائيات تقلُّ أو تكثُر. ويستعمل بعض العبارات القرآنية الحرة، مثل «وانقلبت إلى أهلي مسرورًا».٤٢

(٣) النبوة والتشريع

وتبلغ قمة الفكر السياسي في النبوة والتشريع؛ فالشريعة هي حلقة الاتصال بين الله والعالم، بين الوحي والواقع، بين النبوة والمجتمع. والتشريع ليس فقط للمجتمع، بل أيضًا للكون كما هو الحال في الناموس الربَّاني عند الإخوان، ثم يأتي النقيض في إبطال النبوَّات عند الرازي وإثبات القانون الطبيعي للبشر، ثم يأتي الجمع بين الدعوى ونقيضها في التشريع الاجتماعي للأسرة والمجتمع عند ابن سينا في جدلٍ ثلاثي تاريخي وبنيوي في آنٍ واحد.

(أ) الناموس الربَّاني

وضِمن البحث عن ماهية الإيمان وخصال المؤمنين مثل ماهية التوكل، وماهية الإخلاص، وماهية الصبر، وماهية القضاء والقدر، وماهية الخوف والرجاء، وماهية الزهد، وماهية النفس، هدف الإخوان أيضًا ماهية الناموس، وشرائط النبوة وخصالهم، ومذاهب الربَّانيين والإلهيين.٤٣ ووضع الناموس والنبوة والربانيين والإلهيين معًا يجعل القانون مع النبوة، والربانيين والإلهيين مع الأنبياء. ويتأسس الناموس في الضرورة الكونية، وليس فقط في الوضعية الاجتماعية والمصالح العامة.٤٤ الشريعة الإلهية جبلَّةٌ روحانية، تبدو في النفس الجزئية في الجسد البشري بقوةٍ عقلية تفيض عليها من النفس الكلية بإذن الله في دور من الأدوار والقرانات لتجذب النفوس الجزئية لتخليصها من الأجساد، وهي في أعلى المنازل وأسنى الدرجات في الآخرة، وأكثر ثوابًا في التشبُّه بأفعال الملائكة والقرب من الله، ورضاه في العلم والعمل والصناعة والتدبر والرياسة.
وللشريعة ظاهر وباطن. الظاهر في الألفاظ المقرَّرة المسموعة في الدنيا، والباطن التأويلات الخفيَّة والمعاني المفهومة المعقولة للآخرة. أما المُتفلسفون الذين يُعارضون الشريعة فهم الجُهال بظاهر الشريعة، العُمي عن معرفة أسرارها. توانَوا في استعمال السنة، وعابوا موضوعاتها، وأنِفوا من الدخول في أحكامها، واستكبروا عن الانقياد لحدودها؛ لذلك سمَّتهم الشريفة شياطين الإنس والجن، يُوصي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.٤٥
ومن ثَم تتحول الشريعة إلى عالمٍ روحاني غايته الآخرة وليس الدنيا، السماء وليس الأرض، كما هو الحال في التأويلات الباطنية. وكأن التأويل للآخرة فقط وليس للدنيا دفاعًا عن مصالح الناس. ولماذا يكون فهم الأسرار بتوفيق من الله، ويتم الوقوع في الدور، ولا يكون بالفعل والمصلحة؟ كما تتم معرفة السرقة والسارق والمسروق بالسحر والعزائم والعين وليس بتحليل العلل.٤٦

وعند الفارابي معقولات الأشياء الإرادية التي تُعطيها الفلسفة العملية توجد في النواميس، ويمكن استنباطها لتحقيق السعادة القصوى منها. وواضع النواميس قادم للفيلسوف إلا إذا كان هو فيلسوف فلا رئيس ولا خادم. النواميس هي الشريعة، والفلسفة هي الحقيقة. واضع النواميس هو الفقيه أو النبي، وواضع الفلسفة هو الحكيم أو الفيلسوف. وتتحول الأشياء النظرية إلى أشياء عملية، إما مخيَّلة في نفوس الجمهور، أو برهانية في نفس الفيلسوف؛ فهي ملَكة في نفس الجمهور، وفلسفة في نفس واضع النواميس. النواميس خارج الخيال تنظيرًا للموروث؛ فالشرع ليس به مجاز.

الإمام والفيلسوف وواضع النواميس شيءٌ واحد. الألفاظ مختلفة، والمعنى واحد.٤٧ إلا أن الفيلسوف يدل على الفضيلة النظرية، وواضع النواميس يدل على جودة المعرفة بشرائط المعقولات العملية. وإذا كان الملك يعني الاقتداء فإن الاقتداء لا يكون على الأشياء الخارجية وحدها، بل أيضًا على الأشياء الداخلية؛ المعرفة والفكر والفضيلة والصناعة. والإمام معناه المؤتم؛ أي الذي يتقبَّل الأغراض وجميع الأفعال. فالإمام هنا لا يعني الإمامة الصغرى، إمامة الصلاة، بل الإمامة الكبرى؛ أي رئاسة الدولة كما يتصورها الحكماء، المدينة الفاضلة، وتحويلها من وظيفةٍ عملية إلى وظيفةٍ نظرية.٤٨

والسؤال هو: من هو واضع النواميس؛ الفقيه أم النبي؟ وهل الفلسفة أعلى من الناموس، والناموس خادم لها، إلا إذا كان هناك الفيلسوف المُشرع أو الحكيم النبي؟ ربما كان المقصود أنه لا نظر بلا عمل، ولا عقيدة بلا شريعة، ولا دين بلا دولة، تنظيرًا للموروث. وكل الرؤساء ماهيَّتهم الرياسة لا الخدمة، وكأن الخدمة عيب، وهو ما يحدث في هذا العصر على السلطة؛ أي السياسة الرئاسية. وهل الفارابي إمامي شيعي مثل ابن سينا، أم إنه فقيه السلطان كما هو الحال عند أهل السنة، الفارابي وسيف الدولة، وابن سينا والدولة البويهية، والغزالي ونظام الملك، وابن رشد والمنصور؟

(ب) القانون الطبيعي

وفي مُقابل الناموس الربَّاني عند إخوان الصفا والفارابي، يضع أبو بكر الرازي القانون الطبيعي. وبالرغم من أن موضوع النبوة عند الرازي يدخل في تناسخ الأرواح؛ مما يستحيل معه التفرقة بين النبوة الصادقة والنبوة الكاذبة، كما يدخل في موضوع العقل والمناظرة، إلا أنه يدخل أيضًا في موضوع الاجتماع والسياسة، يُبطل النبوات ويؤسِّس القانون على الإلهام الطبيعي.

ويُقدم الرازي حججًا أربعًا على إبطال النبوات؛ الأولى حجة التخصيص، وهي أطول الحجج وأكثرها تفصيلًا. لماذا اختص الله قومًا بالنبوة دون قوم، وفضَّلهم على الناس؟ وكيف يختار الحكيم ذلك ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، ويُكثر الحرب ويُهلك الناس به بسبب الاختلاف بينهم والاقتتال بين أبناء الدين الواحد؟ يُدافع الرازي عن المساواة بين الأمم دون تفضيل أمة على أخرى، وتخصيصها بالنجاة أو الهلاك. ويعرض الكرماني حجة التخصيص على لسان الرازي أن الأولى بالحكيم ترك الناس كما خلقهم لتدبير أمورهم بما هو أصلح لهم، ووضع سنن المناكحات والشراء والبيع والمعاملات والأخذ والعطاء بناءً على اتفاق بينهم حتى لا تضع المخاصمات والخلافات بينهم، كما هو الحال في القانون المدني، أو القانون الوضعي، أو القانون الطبيعي في الحياة المعاصرة.٤٩ ونظرا لأن الحكيم قد اختار هذا النبي دون ذاك، وفضَّل هذه الأمة دون تلك، فالتخصيص على درجتَين؛ تخصيص الأمة وتخصيص الفرد، فإن الرازي يُنكر النبوة على الإطلاق، محوًا للتفضيل من الأساس.

ويُدافع أبو حاتم عن النبوة، وبالتالي عن الإمامة، وضرورة التخصيص بأن العالم مُنقسم إلى إمام ومأموم، عالم ومُتعلم. هذا حال جميع المِلل والديانات والمقالات من أهل الشرائع وأصحاب الفلسفات. يحتاج الناس بعضهم البعض، ولكنهم لا يستغنون عن الأئمة والعلماء كما يدل على ذلك إلهامهم. يتعلمون من العلماء، ويهتدون بالأئمة، ويقتدون بهم، برياضاتهم لهم. ويُبرر ذلك تفاوت الناس فيما بينهم، وتراتبهم في طبقات، وتفاضلهم في الصناعات، وفي كل طبقة من الناس فاضل ومفضول. ولا يستطيع أحدٌ أن يُدرك بفطنته وكياسته ما يشاء إلا بوجود مُعلم يُرشده ومُعاون يرجع إليه، وإمام يُقتدى به ويأتمر بأمره؛ لذلك يتعلم الناس من بعضهم البعض، ويحتاجون إلى بعضهم البعض في جميع أمور الدنيا والدين، وكما يشهد بذلك العيان. ولقد خصَّ الله البشر وقسَّمهم هذه القسمة ليقوم الأمر والنهي، وتظهر الطاعة والمعصية، ويثبت الاستعباد، ويقع الثواب والعقاب طبقًا للأعمال؛ لذلك يجوز أن يختصَّ الله بحكمته ورحمته قومًا يختارهم من خلقه ويجعلهم رسلًا إليهم، يؤيِّدهم بالآيات، ويفضِّلهم بالنبوات، ويُعلمهم بوحي منه ما لا يستطيع البشر تعلُّمه من أنفسهم، ويُرشدونهم إلى صلاح أمورهم في الدين والدنيا، يسوسون الخلائق، خاصة وعامة، علماء وجهلاء، أذكياء وبُلداء، فيستقيم أمر العالم بهذه السياسة، وهي الشرائع التي تُغني البليد عن النظر في دقائق العلوم الفلسفية التي يتبحر فيها الفلاسفة، وتبهر عقولهم، وتعجز عن ضبطها بكل ما لديهم من قوًى عقلية على النظر والاستدلال.

والحقيقة أن اعتراضات أبي علي على التخصيص بالرغم من دفاع أبي حاتم ما زالت قائمة؛ فعيوب دفاع أبي حاتم قسمة الناس إلى إمام ومأموم، تابع ومتبوع، عالم وجاهل، فاضل ومفضول، قسمة تؤدي إلى التبعية العلمية والاجتماعية والسياسية، ولا تُساعد على التحرُّر إلى درجة الدفاع عن الاستعباد وفرض الوصايا على البشر.٥٠ ولا يُبرر حاجة الناس إلى التعاون بالضرورة أن تكون العلاقة بينهما علاقة تبعية، بل تعاون مشترك وتبادل خبرات على نفس المستوى؛ فلا يوجد رأيٌ كبير تجب له الطاعة، بل تتساوى أذهان البشر وتتفاوت وتتعاون وتتبادل الخبرات. وهو دفاع الشيعة عن الإمامة أكثر من دفاعهم عن النبوة؛ فالإمامة تستلزم الطاعة وعدم الخروج على الإمام، في حين أن النبوة تُجوز الخروج على الإمام الظالم بعد استيفاء شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين، واللجوء إلى القضاء. كما يؤكد الدفاع على التفاوت الطبقي بين الناس وحله عن طريق تبعية طبقة لأخرى. البداية بالمراتب العقلية، والنهاية بالطبقات الاجتماعية. وهذا التفاوت في الإنسان وليس في الحيوان، يعجز عن تغييره إلا بمددٍ خارجي عن الله عن طريق الإمامة.٥١ فاللامساواة مجرد ذريعة لإثبات التدخل الخارجي والاختصاص. وهناك تفاوت بين البشر في القدرات العقلية والعملية، فطرة أم اكتسابًا، والإنسان مسئول عنها وعن حسن التعامل معها بإبراز الاختلافات بين البشر من أجل التعاون وتبادل الخبرات المشتركة. التفاوت نتيجة لاستعمال الحرية في الخلق والإبداع وليست في الطبقة. كما يستعمل أبو حاتم الحساب، الثواب والعقاب، لإثبات علاقة التابع بالمتبوع. وهي حجةٌ دينية وليست مصلحية طبقًا لقانون الاستحقاق. أما الدفاع بأن ذلك تجهيل لله أو حجر عليه، فهي حجة إرهاب ديني وليست حجة مصلحية دنيوية. تمنع من التفكير الحر، وتضع قدرة الله في مواجهة طاعة الإنسان، وتُدافع عن الوضع القائم أكثر مما تدعو إلى التغير. وأخيرًا إن العلاقة بين الفلاسفة ليست علاقة تابع بمتبوع، بل علاقة ناقد بمنقود، رأي برأي، كما فعل أرسطو مع أفلاطون، «أُحبُّ أفلاطون، ولكن حبي للحق أعظم»؛ من أجل الإثراء المتبادل، وتكامل وجهات النظر، وكما فعل الفارابي في «الجمع بين رأيَي الحكيمين؛ أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم».

ويردُّ أحمد بن عبد الله الكرماني على حجج الرازي بحججٍ مُشابهة لحجج أبي حاتم ردًّا على حجة التخصيص؛ فقد ثبت التخصيص بحكمة الحكيم. والحقيقة أن هذا الدفاع عن النبوة يقوم على حجةٍ لاهوتية وليس على حجةٍ مصلحية، وهروب من تأسيس النبوة في العقل، حاجة الإنسان إلى المعرفة، وفي الواقع، حاجة المجتمع إلى التشريع.

أما التخصيص في الكون فهي حجةٌ أكثر إقناعًا لقيامها على مبدأ التفرد في العالم. والعيب هو الانتقال من التخصيص في الطبيعة إلى التخصيص في البشر قياسًا، واعتبار أن الطبيعة هي الأصل والبشر هم الفرع، وإغفال مبدأ المساواة بين البشر، والذي على أساسه يمكن أيضًا قياس الطبيعة التي تقوم في بعض جوانبها على المساواة في الخلق والتسبيح للخالق. وعلى فرض وجود التخصيص في الطبيعة وفي البشر يظل السؤال قائمًا: لمَ تخصيص هذا الفرد بالنبوة دون الآخر، وهذا الشعب دون ذلك الشعب؟ وإذا كانت القدرات الفردية والخصائص الجماعية هي سبب الاختيار، فالإنسان والجماعة ليسا مسئولَين عن القدرات والسمات الفطرية، تلك مسئولية الخالق. وإذا كانت الصفات مكتسَبة من التربية في المجتمع، فالتخصيص إذن يقوم على اختيارٍ إنساني حر، وجهدٍ إنساني خالص في إطار ضرورة العصر وجدل النقل والإبداع فيه.

أما ولادة الإنسان جاهلًا وحاجته إلى المُعلم فإنها في الحقيقة ليست حجة، بل معارضة للشرع الذي جعل العقل أساس النقل، ومناهضة للطبيعة والفطرة التي يقوم الدين عليها، وهو حكم على الإنسان بالجهل مند الولادة، وإنكار للمعارف الفطرية والبداهة الحسية والعقل الطبيعي. والنبوة ليست فقط علمًا، بل هي علم وعمل، بل أقرب إلى العمل منها إلى العلم. لو كانت النبوة علمًا فقط فهو علمٌ يقوم على استقرار مصالح الناس ثم قياس الغائب على الشاهد. والتعليم من الخارج فرض للوصاية على الإنسان، وتفتح المجال لوصاية غير الأنبياء من الأثمة وأهل التعليم والمُلهمين طلبًا للطاعة المطلقة دون مراجعة أو تصحيح أو نقد أو تبديل. وتكبيل العقل الإنساني مقدمة لانتزاع حريته. ويستطيع الإنسان التمييز بين النافع والضار بفطرته، وليس الإنسان بأقل من الحيوان في ذلك. والتعليم لا يكون بالضرورة من مُعلم بل من النفس، من الحواس ومن العقل ومن الوجدان ومن خبرات السابقين، كما هو معروف في نظرية العلم عند المتكلمين والفلاسفة والأصوليين والصوفية. وماذا عن تعدُّد الأنبياء ومراحل الوحي وتبديل الشرائع ونسخها كليًّا أو جزئيًّا؟ فإذا كان العلم الإلهي مُطابقًا للعلم البشري تكيَّف طبقًا للقدرات البشرية، فأين الأساس وأين الفرع؟ ألا يستطيع الإنسان وعقله وبديهته ووجدانه أن يصل إلى ما يُعطيه الوحي عن طريق السمع كما هو الحال عند عمر بن الخطاب، أو عند الصوفية عن طريق التجارب والرياضيات والمجاهدات؟ وماذا عن دعوة الوحي نفسه إلى العلم والتعلم اعتمادًا على النفس بالنظر في الآفاق وفي النفس وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. والاجتهاد في العلم المستقل عن الدين «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، بدلًا من سوء التأويل لبعض الآيات المُنتقاة، مثل وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا. وعند الصوفية يعلم الإنسان كل شيء، وشهد عليه في عهد الذر الأول. وما المعارف البشرية الحسية والعقلية والوجدانية إلا استرجاع للمعارف الأولى.٥٢ وهو موقفٌ أقرب إلى أهل التعليم والإمامة والذي يقول بضرورة وجود مُعلم. ولا فرق بين إثبات النبوة والإمامة، بين السنة والشيعة، بين السلطة والمعارضة، في الرغبة في السيطرة على المعارف البشرية كمقدمة للسيطرة على مقدَّرات الشعوب، والاستئثار بالسلطتَين المدنية والسياسية.٥٣
أما إن خلق الله البشر مُحبين للرياسة والظلم والقهر والمال، وجوَّز أن يقع بينهم العداوة والبغضاء والمنافسة على طلب الرياسة فثارت الفتن، وقضى القوي على الضعيف، وسلب ماله وأحبابه، وعدم وجود قوي إلا وهناك من هو أقوى منه، فوجبت حكمة الله أن يحفظ النوع البشري بوضع شرائع تحفظهم بقيادة من يختاره لهم من بينهم رئيسًا لهم؛ فهي حجةٌ ضعيفة يمكن الرد عليها؛ إذ تقوم الحجة على أن الله خلق البشر أشرارًا، في حين أن الله خلقهم على الفطرة، والفطرة خيِّرة صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً، والإنسان بفطرته مدفوع إلى الخير، والابتعاد عن الشر. وتصور الإنسان شريرًا بطبعه مجرد ذريعة لتبرير السلطة الدينية والسياسية التي تأخذ الناس بالنواصي، وتفرض عليهم الوصايا، وتُبرر الواقع الأليم وتتجاوزه بعاملٍ خارجي، وليس بتغير الطبيعة البشرية ذاتها عن طريق التربية.٥٤ ويمكن السيطرة على الأهواء والمصالح المُتعارضة بسنِّ القوانين التي تقوم على العقد الاجتماعي بين البشر من الداخل، وليس بالضرورة بفرض الوصايا عليهم من الخارج. ولا يحتاج البشر إلى قيادةٍ شخصية وزعامةٍ فردية تُنظم للناس حياتهم؛ فالقوانين والدساتير تقوم بنفس الدور. وخطورة الزعامة على هذا النحو التفرد بالسلطة، وبطانة السوء، والترفع على الناس.٥٥ ولا فرق بين الشريعة الوضعية وبين إقرار النسخ والتغيير تكيفًا مع واقع الناس. وكيف يتم تبرير قتل المُخالف للنبي المختار الذي جعله الله للناس إمامًا؟ وهل يمكن درء شر بشرٍّ أعظم؛ التصفية الجسدية للمُعارض؟ إن خطورة الدفاع عن النبوة هو أنه يتم دفاعًا عن الله والهداية منه، وأن كل مُعارض لذلك تكون معارضة لله وضلالًا عن طريقه تُوجب القتل.٥٦ وطرق الهداية مُتعددة، من الله ومن النفس، من الوحي ومن العقل، من الإلهام ومن الطبيعة.٥٧

أما أن الله قد أودع في البشر عقلًا بالقوة، وأن النبوة هي التي تُخرج هذا العقل من القوة إلى الفعل عن طريق تهذيب الله للنبي، وإخراج ما فيه من القوة إلى الفعل حتى يقوم هو بنفس الدور مع المُرسَل إليهم، فإن هذا التحول لا يحتاج إلى مُحول؛ أي إلى عامل خارجي، بل يمكن أن يتم ذلك عن طريق التعليم والتربية والتدريب والاكتساب؛ أي عن طريق القوى الذاتية والعوامل الداخلية.

وبالرغم من قوة حجة التخصيص وضعف الرد عليها أو الرد عليها بنفس المنطق، منطق الوصاية، الإمامة بدلًا من النبوة، إلا أنه يمكن تناولها عن طريق بيان حدودها؛ إذ لم يخص الله قومًا دون قوم بالنبوة، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. وربما كان سقراط وأفلاطون وأرسطو أنبياء اليونان، وبوذا نبي الهند، وكونفوشيوس ولاوتزي أنبياء الصين، وزرادشت وماني أنبياء فارس، وحمورابي نبي العراق. وقد حدث التحول من بني إسرائيل إلى العرب نظرًا لعصيان بني إسرائيل؛ فالاختصاص مبني على الاستحقاق، وليس موهبة بل اكتساب، وليس فضلًا بل امتحان، وليس تشريفًا بل مسئولية. وليس للأنبياء فضل على باقي الناس، بل هم مجرد وسائل للاتصال، ولا يقلُّ فضل المُرسَل إليهم عن الرسول. هم وسائل اتصال بين جبريل والنبي، كما أن الملائكة وسائل اتصال بين الله والعالم، والعالم وسيلة اتصال بين الإنسان والله. وقد وقعت الحروب بين الطوائف إما صراعًا على المصالح أو تعصبًا للمذاهب، وليس بسبب النبوة في حد ذاتها، كما وقعت الحروب بين الملوك والرؤساء والدول على المغانم والمصالح؛ ومن ثَم فإن نقد النبوات لن يُحقق السلم في المجتمعات ولا السلام بين الشعوب، ولا تختلف الأيديولوجيات عن النبوات في المجتمع. والقياس على الأئمة لا يجب السؤال، بل يُطلقه على الأئمة أيضًا، لماذا تفضيل إمام على إمام؟ تنشأ النبوة في المجتمع كما تنشأ الزعامة، إعلانًا عن تطوير المجتمع ونقله من مرحلة إلى مرحلة في مسار التقدم البشري، نذيرًا بانهيار الدولة وبشارةً بقيام دولة أخرى؛ فالوحي عامل مُحرك في التاريخ حتى يتحقق استقلال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة، ويصبح قادرًا على تحمُّل مسئولية التقدم بنفسه. فالعقل وريث النقل، والفعل الإنساني وريث الفعل الإلهي.٥٨ التخصيص إذن مسألةٌ ماضية لم يعُد لها وجود لا في الحاضر ولا في المستقبل، إلا في جدل التقدم الاجتماعي وعوامل نهضة الأمم وسقوطها.
أما الحجج الثلاث الأخرى فأصغر حجمًا، مع أنها لا تقلُّ أهميةً عن حجة التخصيص.
  • الأولى: أن الدين يأخذ أصل الشرائع بالتقليد وترك النظر والبحث عن الأصول، حتى أصبح نقد الروايات والجدل في الدين مِراءً وكفرًا. ومن عرض دينه للقياس لم يزَل الدهر في الْتِباس، وتحريم النظر في الخالق، والاكتفاء بالنظر في المخلوقات، والقدر سر الله لا يجوز الخوض فيه، والتعمق في الدين كان سبب هلاك الأمم السابقة. يُدافع الرازي عن العمق في الفكر والبحث والنظر ضد العلم الجاهز والمعارف المسبقة. وهي حجةٌ ضعيفة؛ إذ تدعو الآيات إلى النظر والاجتهاد ونبد التقليد؛ فالتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم، والاجتهاد مصدر من مصادر التشريع، والعقل أساس النقل، وأول الواجبات هو النظر، وما لا دليل عليه يجب نفيه.٥٩ وفي العقل يتساوى الناس بشرط الاجتهاد والنظر. وتفاوت الناس فيه لعدم صرف هِممهم إليه وليس لنقص فيهم. واختلاف الألفاظ بين الأنبياء يُبيَّن عن طريق تأويل كلامهم المرموز الاتفاق في معانيها. واختلاف الفلاسفة وتقليد بعضهم لبعض ليس بأقل مما يقع بين الأنبياء.
  • والحجة الثانية: اعتماد الأنبياء على المعجزات تعميم لا يصدُق على كل مراحل النبوة. كانت المعجزة في مراحل النبوة السابقة دليلًا على إثبات وجود الله، وتدخلًا مباشرًا في الطبيعة لنصرة الأنبياء وإنقاذ المؤمنين، البقية الصالحة. فلما اكتمل الوعي الإنساني، وأصبح الإنسان قادرًا بعقله على الفهم والتمييز، وبإرادته على الاختيار الحر، توقَّف دور المعجزات، وتحوَّل إلى إعجاز؛ أي إلى استنفاد قدرات البشر على التحدي والإبداع الفني والعلمي والتشريعي؛ فقوانين الطبيعة ثابتة لا تتغير كما لاحظ ابن رشد دفاعًا عن السببية، وكما أثبت الأصوليون في التعليل.٦٠
  • والحجة الثالثة: أن كرامة الإنسان في العلم وليس في الدين، فيما يعلم وليس فيما يجهل، فيما يُبرهن بحواسه وعقله وليس فيما يفترض، قياسًا للغائب على الشاهد؛ فالرازي يُدافع عن العلم وقدرته اللانهائية. وقد برع الفلاسفة في الطب ومعرفة طبائع العقاقير، ومعرفة حركات الأفلاك والكواكب وحساب النجوم وعلم الهندسة، ومعرفة عرض الأرض وطولها والمسافة بين السموات، استنباطًا بدقة النظر ولطافة الطبع. والحقيقة أن العلم تحقَّق لافتراضات الأنبياء، وأن علم الفلك إنما نشأ بتوجيه الوحي العقل نحو الطبيعة، وأن علم الطب إنما كشف عن الحكمة في الجسد والعناية في الطبيعة؛ فالعلم نشأ من ثنايا الدين وليس مُناقضًا له أو بديلًا عنه.٦١
ويُعطي الرازي البديل عن النبوة، وهو أن يُلهم الحكيم عباده أجمعين معرفة منافعهم ومضارهم في عاجلهم وآجلهم دون تفضيل بعضهم على بعض؛ حتى لا يقع الخلاف والنزاع بينهم فيهلكون. وهو أفضل من أن يجعل بعضهم أئمة بعض، فتُصدق كل فِرقة إمامَها وتُكذب غيره، ويضرب بعضهم أعناق بعض بالسيوف، فيعمُّ البلاء، ويهلكون بالمعاداة والمجاذبة، كما هلك كثير من الناس من قبل.٦٢
والحقيقة أن هذا البديل ما زال يقوم على التحديد السلبي له بفقد النبوة دون أن يُعطيَ الدليل الإيجابي عليه، وله أيضًا حدوده. وقد لا يختلف عن النبوة أو الإمامة كثيرًا؛ فالإلهام الفردي عودًا إلى النبوة عن طريق تعميمها وتحويلها إلى الإمام فردي خاص. ولا يُجيب على اعتراض التخصيص من جديد، إلهام فرد دون آخر؛ لأن الإلهام ليس اختيار أحد، بل هو هِبةٌ طبيعية من الداخل، والإنسان ليس مسئولًا عن طبيعته، أو من الخارج عودًا إلى الله من جديدٍ مُرسِل الأنبياء ومُلهِم الشعراء. وقد يفهم كل فرد إلهامه على نحوٍ فردي، فتتدخل المصالح والأهواء، ويُقضى على موضوعية العلم، وتقع الحروب والمنازعات. وإذا كان هذا التفاوت بين الناس بفعل الخالق فإنهم غير مسئولين عنه؛ وبالتالي ينتفي عنهم الثواب والعقاب لاختفاء حرية الاختيار. وإذا كان الإلهام الفردي مُتساويًا لدى الجميع نظرًا لعدل الحكيم، يقع الخلاف أيضًا نظرًا لتفاوت القدرات بين البشر في الفهم والتفسير. وإذا كانت هذه القدرات مُتفاوتة بفعل الخلق أو الجبلَّة فإنه يكون ظلمًا من الخالق أو من الطبيعة صنعة الخالق. كما أن الإلهام أيضًا ضد العقل؛ وبالتالي يتوجَّه إليه نفس الاعتراض على النبوة، وضد حرية الفكر؛ فالإلهام لا يقوم على النظر والاستدلال، بل على العلم الذي يقذفه الله تعالى في القلب دفعةً واحدة. حجة التاريخ ليست حجة الفكر، وحجة الواقع لا تطعن في المثال باعتباره مثالًا واقعًا على نحوٍ خاص؛ فالإنسان قادر بعقله على التمييز بين الحق والهوى، وقادر بحريته على الاختيار الحق وتجنُّب الأهواء التي بسببها تقع الحروب بين رجال الدين. وهناك فرق بين الدين كمبادئ ومقاصد وغايات، ورجال الدين والسياسة الذين يأخذون الدين ستارًا لتشريع الأهواء والرغبات والمصالح. كما يقوم البديل على إنكار الصراع البشري، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. الصراع البشري قائم، سواء ثبتت النبوة أم لم تثبت، بسبب تعارض المصالح والأهواء والقوى. وليس بالإسلام رجال دين إذا كانت آفة الدين رجاله على مر العصور. والإمامة ليست سلطةً دينية تشريعية، بل هي تنظيمٌ عملي، سواء كانت الإمامة الكبرى أو الإمامة الصغرى.٦٣

(ﺟ) القانون الاجتماعي

ويجعل ابن سينا التشريع جزءًا من النبوة؛ فالنبوة وظيفةٌ اجتماعية؛ لذلك تدخل النبوة في عديد من الموضوعات والعلوم. ففي أقسام العلوم في السياسة يُدخل ابن سينا النبوة والشريعة، وتضم كتابَين؛ الأول في النواميس والفلاسفة لا تزيد شيئًا عما تظنُّه العامة، أن الناموس حيلة وخديعة، في حين أن الناموس هو السنة والمثال القائم الثابت ونزول الوحي، والعرب تُسمي الملك النازل بالوحي ناموسًا. وهذا الجزء من الحكمة العملية يُعرَف به وجود النبوة، وحاجة الإنسان في وجوده وبقائه ومُنقلَبه إلى الشريعة وبعض الحكمة في الحدود الكلية المشتركة في الشرائع، والتي تخص شريعةً شريعة بحسبِ قومٍ قوم، وزمانٍ زمان، ويُعرَف به الفرق بين النبوة الإلهية والدعاوى الباطلة؛ ومن ثَم تظهر النبوة في أقسام العلوم عند ابن سينا كما دخلت في مناهج العلم وتقسيمه عند الكِندي، وكما دخلت في التاريخ عن المتكلمين، وفي الاجتماع والسياسة عند الحكماء.٦٤
ويتعرَّض ابن سينا أيضًا لموضوع النبوة في نهاية النفس، وهي جزء من الطبيعيات؛ فالنبوة هي حلقة الوصل بين الطبيعيات والسياسيات مع العبادات والمعاملات والإلهامات والمنامات والشرائع والسنن. ويُبين جلالة قدر النبوة ووجوب طاعتها، وأنها واجبة من عند الله وعلى الإطلاق، والأعمال التي تحتاج إليها النفوس الإنسانية، مع الحكمة في أن يكون لها السعادة الأخروية وأصنافها. كما أن الشر الذي هو في الأفعال هو أيضًا بالقياس إلى ما يفقد كماله مثل الظلم، أو بالقياس إلى ما يفقده كماله في السياسة الدينية كلها مثل الزنا.٦٥

وإثبات النبوة ينتهي إلى إثبات الشريعة، مع أن حاجة المجتمع إلى الشريعة لا تتطلب بالضرورة حاجته إلى النبوة؛ لأن الشريعة وضعية تعبِّر عن المصالح العامة. فالسنن لا تحتاج إلى معارف نظرية كلامية؛ لأنها سنن وضعية بتعبير الشاطبي في «أحكام الوضع». وهل يلزم الحد الأولي من المعارف الإلهية، التوحيد، أم يكفي العدل؟ صحيحٌ أن ابن سينا يرفض الخوض في دقائق نظرية الذات والصفات والأفعال، ويكتفي بالمبدأ العام للتوحيد، وجود مبدأ عام شامل يتساوى أمامه الجميع، هذا المبدأ العام هو الضامن لمعيارية القوانين التشريعية من ناحية العقل ومن ناحية الطبيعة، ويحتاج العامة إلى الرموز والأمثلة للإيضاح من أجل تمثيل المعاد وإمكان تصوره قياسًا للغائب على الشاهد.

والسؤال هو: لماذا تكون السنن بالضرورة بإذن الله ووحيه وإنزاله من الروح القدس على نحوٍ غيبي، وهو أقرب إلى علم الكلام منه إلى الفلسفة الخالصة؟ أين القانون الطبيعي الفطري؟ وأين حكم العقل والاجتهاد؟ كما تصعب التفرقة بين الحد الأدنى من المعارف الإلهية والحد الأعلى؛ فربما صعب على البعض الحد الأدنى، أن للعالم صانعًا واحدًا قادرًا، وأنه عالم بالسر والعلانية، وأن من حقه أن يُطاع أمره؛ إذ يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق، وأنه قد أعد لمن أطاعه المعاد المسعد، ولمن عصاه المعاد الشقي، حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزَّل على لسانه من الملائكة بالسمع والطاعة. ولا ينبغي أن يشغلهم بشيء من معرفة الله فوق معرفة أنه واحدٌ حق لا شبيه له. وهل قانون الاستحقاق في حاجة إلى وحي وتمثيل أم إنه قانونٌ عقلي وضعي طبيعي إنساني؟ أما أمور المعاد فإنها تُفهَم على نحوٍ مُجمَل لا مُبيَّن، ومُتشابه لا مُحكَم، ومجاز لا حقيقة، ومؤوَّل لا ظاهر.٦٦
وفي «الإشارات» يتحدث ابن سينا عن موضوعَين؛ إثبات النبوة، وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه. فالإلهيات إلهياتٌ سياسية كما هو الحال في اللاهوت السياسي الغربي المعاصر. ويُثبت ابن سينا النبوة اجتماعيًّا؛ فالإنسان في مجتمع طبقًا لقانون تقسيم العمل، ونظرًا لاستحالة قيام فرد واحد بكل شيء، وضرورة التخصيص المهني. ولما احتاجت المشاركة والمعاملة إلى سنة وعدل لزِمت النبوة كحاجةٍ اجتماعية قانونية لسنِّ تشريعات عادلة للمعاملات. النبوة ليست حاجةً فرديةً روحية، أو نظريةً معرفية، بل حاجةٌ عمليةٌ اجتماعية، ماديةٌ تشريعيةٌ قانونية. وضرورة النبوة للمجتمع ولزومها مثل إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين. وهو تمثيلٌ بدوي غير جدير بالنبوة.٦٧

والسؤال هو: إذا كانت العلاقات الاجتماعية تتطلب سنة وعدلًا، فلماذا تشخيص ذلك في ضرورة وجود سانٍّ ومُعدِّل؟ لماذا لا يتم ذلك عن طريق القانون الطبيعي أو العقد الاجتماعي غير المدوَّن دونما حاجة إلى مُشرِّع أو عاقد مُشخصين؟ والحديث عن السانِّ والمشرِّع كما تحدَّث الأصوليون عن الشارع، أي واضع الشريعة، لا يعني التشخيص، بل يعني الشريعة الوضعية بمصطلح الشاطبي؛ أي واضع الشريعة افتراضًا.

وصفة التعاون والاجتماع لا تُميز الإنسان فقط عن الحيوان؛ إذ يتعاون النحل في بناء المخابئ وتخزين الغذاء، والنحل في صنع خلايا العسل، وهي حاجةٌ طبيعية دون أن تُحيل بالضرورة إلى مظاهر العناية الإلهية والتدبير والمبدأ الأول. والتحليل الطبيعي يتَّفق مع مبدأ اقتصاد الفكر أكثر من التحليل الديني، والافتراض الأقل يجبُّ الافتراض الأعظم؛ فلا حاجة بالضرورة إلى إدخال عوامل خارجية غير اجتماعية في تحليل حاجة المجتمع إلى التشريعات وقوانين مثل علم الملائكة؛ إذ تكفي في ذلك معارف الإنسان الطبيعية، وقدرته على معرفة الخير، وكيفية تحقيقه؛ لذلك ليست المعجزات ضرورية لإثبات النبوة، وابن سينا حكيم وليس مُتكلمًا.

وإذا كانت الغاية من النبوة معرفة القوانين الاجتماعية، فلماذا تكون غايتها عبادة المعبود؛ أي دينية صوفية عبادية؟ وإذا كانت الغاية المنفعة في الدنيا، فلماذا إضافة المنفعة في الآخرة، والعودة من علوم الحكمة إلى علم الكلام؟ وإذا كانت معرفة الخير والشر والحسن والقبح لمنفعة الدنيا، فلماذا الثواب والعقاب؟ واضحٌ أن الحكمة لم تستطع بعدُ الانتقال بالفكر الفلسفي من مستوى الإلهيات إلى مستوى الإنسانيات.

ومع ذلك يعرض ابن سينا للشريعة في القسمَين الكبيرين؛ العبادات والمعاملات. لما كان وجود النبي لا يتكرر في كل وقت نظرًا لتفرُّده بالطبع والمزاج، وجب أن يسنَّ شرائع لتدبير المصالح الإنسانية، وكأن النبوة مختصَّة بمزاج النبي وطبعه، ومُتميزًا عن سائر الناس بتألُّهه.٦٨ فوظيفة النبوة ليست فقط عقائد بل شرائع، ولا تُعطي فقط معارف نظرية بل ممارسات طبقًا لقواعد نظرية، مثل استمرار معرفة الناس بالصانع والمعاد؛ أي بالعقليات والشخصيات، بالإلهيات والنبوات طبقًا لتفرقة أصول الدين، والحذر من وقوع النسيان فيه خاصةً بعد انقراض عصر الرسول؛ لذلك يجب سن أفعال وأعمال تتكرر في مُددٍ مُتقاربة، يلحق فيها القادم الماضي، واللاحق السابق، تذكِّر بالله وبالمعاد. فالنبوة مؤقتة في الزمان تحفظها الرواية بعد ذلك، وليست مستمرة في التاريخ. ولا يتم هذا التذكير بالألفاظ أو النيات أو الخيال، بل بالأفعال التي تُقرب إلى الله وتستوجب الجزاء. وهي العبادات المفروضة على الناس كمنبِّهات ومذكِّرات بالأُسس النظرية. هذه المنبِّهات إما حركاتٌ مثل الصلاة، أو عدم حركات أو بعض حركات مثل الصوم الذي هو فعلٌ سلبي في الظاهر يؤدي إلى فعلٍ إيجابي في الباطن، وهو القرب من الله. وهناك أفعالٌ أخرى لتقوية السنة لتحقيق المصالح الدنيوية مثل الجهاد والحج؛ فلا فرق بين الجهاد وباقي أركان الإسلام التي أصبحت خمسًا باستبعاد الجهاد على مدى التاريخ، وهي ست بضم الجهاد إليها. ويؤصِّل ابن سينا مناسك الحج باختيار أصلح البلاد بالمأوى أو الهجرة التي يتم فيها الحج، وأنسب المواقع التي تهيج فيها الذكريات، وتقنين أفعال الله مثل القرابين. والصلاة مخاطبة لله ومناجاة له، ومُثول بين يدَيه في خشوع مثل مُقابلة الملوك والسلاطين. غاية هذه الأفعال رسوخ عقائد الإيمان بالله وبالمعاد، وتذكُّر الإنسان بها فيدوم التشبُّث بالسنن والشرائع، وإلا طواها النسيان بانقضاء الزمان وتوالي العصور كما هو الحال في موقف اليهودية والمسيحية في تبرير أفعال العبادة بما يظهر فيها من رموز وصور وأيقونات وتماثيل.٦٩

وبالرغم من أهمية هذا التأصيل النظري للعبادات العملية، وضرورتها للتذكير بالعقائد النظرية، إلا أن قِسمتها إلى ما يُحقق منافع أخروية وما يُحقق منافع دنيوية مثل الجهاد والحج يُغفل أن كل عبادة تُحقق منافع دنيوية؛ فالشهادة تحرير للوجدان الإنساني من الخوف من سلطان البشر وأدعياء القوة، والمُتكبرين والمتسلطين على الرقاب، مثل منافع الجهاد والحج. ليست الشهادتان مجرد ألفاظ ونوايا وخيال، بل شهادة على العصر وتحرير للوجدان الإنساني بفعل السلب «لا إله»، ثم إثباته بفعل الإيجاب «إلا الله»، والإعلان عن نهاية تطور الوحي وتحقيق آخر مرحلة فيه التي أعلنها الرسول، وهي الإسلام.

ويركِّز ابن سينا على الصلاة والحج دون الشهادة والصوم والزكاة، وتصور الحج على نحوٍ مكاني وأفعال قرابين كما هو الحال في الديانات السابقة، مثل القدس وذبح الأضاحي في اليهودية. والحج عادةٌ عربية قديمة منذ وضع إبراهيم قواعد البيت احترامًا لجد العرب وتقديرًا للحنفاء، وجمعًا للعرب في مكان لتبادل المنافع استعدادًا للسلطة المركزية لمكة وسط الحجازيين الشمال والجنوب.

ليست غاية هذه العبادات المحافظة على المبادئ النظرية، بل إن غاية هذه المبادئ النظرية وضعها كقواعد للسلوك، وتحقيقها في الممارسات العملية. ليست النظرية غاية، والعمل وسيلة، بل النظرية وسيلة، والعمل غاية، كما هو واضح من صلة العقيدة بالشريعة، والقرآن المكي والقرآن المدني. وظيفة الجهاد والحج المحافظة على المصالح العامة، الدفاع عن الأمة، وعقد مؤتمرها السنوي لحشد إمكانياتها في مواجهة أعدائها. كما أن الغاية من الصلاة المنفعة الفردية في طهارة البدن وتمريناته البدنية، والإحساس بالوقت، والتضامن الاجتماعي في صلاة الجماعة، والتذكر بمبادئ الأخلاق العامة، وحسن المعاملة، وأداء الواجبات، ورعاية حقوق الله في حقوق الإنسان. الصلاة ليست خشوعًا أمام السلاطين، بل ثورة على سلطان البشر باسم سلطان الله وحاكمية القانون.٧٠
هذه الأفعال تؤدي إلى منافع عملية فردية واجتماعية، وليس إلى رسوخ الله والمعاد كحقائق نظرية. المعاد أساسه في ذاته، الكشف عن بعد المستقبل في وعي الإنسان وإحساسه بالزمان والتاريخ.٧١ والله هو المبدأ الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع، وهو المعيار المطلق للأخلاق الذي يمنع البشر من الوقوع في الأهواء والرغبات والميول، أو النسبية والشك والعدمية.

ولماذا أغفل ابن سينا الزكاة؟ هل لأنه صوفي، أم لإغفال القضية الاجتماعية واعتبار أن الوضع الاجتماعي من الله؟ وهل أفعال الطهارة لمحاسبة النفس أم لمحاسبة المجتمع عمليًّا على الاستغلال؟

وهذه العبادات للعامة وليست للخاصة. إنما تُفيد الخاصة فقط في المعاد والسعادة في الآخرة التي تتمُّ بتزكية النفس، وإبعادها عن الأسباب المضادَّة التي تؤدي إلى اكتساب الهيئات البدنية؛ فالتنزيه ليس فقط فعلًا من أفعال الزهد لتصور الله، بل هو أيضًا فعل من أفعال الشعور للتسامي الإنساني، وترقية النفس وتزكيتها عن طريق الأفعال الفاضلة. الحسنات يُذهبن السيئات. واستمرار أفعال الأخلاق تُكسب النفس ملَكة الالتفات إلى الحق، والإعراض عن الباطل، والاتجاه نحو المفارقة، وتحقيق السعادة الروحية والبقاء الروحي. حتى ولو ظن أنها أفعالٌ المقصود منها تذكير الله، فالأولى أن تكون كذلك عمَّن يأخذها كوسيلة للتذكير. ويظل تفضيل ابن سينا للأفعال القائمة على الاعتقاد والتي تؤدي إلى المحافظة عليه؛ فالمؤمن نظرًا وعملًا أفضل من المؤمن عملًا فقط.٧٢ فِعل المؤمن من النظر إلى العمل تحقيقًا، ومن العمل إلى النظر تقويةً ودوامًا. والعلماني بتعبير العصر من العمل إلى النظر وحده اكتشافًا. الأول يجمع بين القبلي والبعدي، والثاني بعدي فحسب. وقد يكون الاكتشاف التلقائي أكثر إبداعًا من التحقق لشيءٍ معروف سلفًا. وقد يكون للمؤمن اكتشافٌ آخر هو تقوية العمل للاعتقاد المسبق بعديًّا. والسؤال عند الثاني: لماذا لا يكون للسنن أُسُسها الوضعية في العالم، وليس في مصدرها الأول عند الله، وأي الأساسَين أفضل؛ التَّحتي أم الفوقي، أم إن التحتي يُعطيها الطبيعة، والفوقي يُعطيها العقل؟ هل السنن فروض وواجبات من أعلى أم إنها احتياجات ومتطلبات من أسفل؟ هل غرضها المعاد أم صلاح الدنيا؟ يتوقف ذلك كله على منطق الاستشهاد النازل والصاعد كالمؤمن، والصاعد فحسب كالعلماني. وهل النبي يدبِّر شئون الناس بشخصه أم بالقانون اللاشخصي؟ وهل هو إنسان مُتميز بتألُّهه أم مثل سائر البشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟

وعيوب هذا التصور أنه يقع في ثنائيةٍ مُتطهرة بين البدن والنفس، ومصير كل منهما وغايته المستقلة، سعادة البدن في اللذة الحسية، وسعادة النفس في النعيم الروحي. كما تسود النظرة الصوفية الإشراقية الباطنية، وجعل غاية الأفعال السموَّ والتعاليَ دون الاهتمام بشئون الدنيا ورعاية مصالح الناس، وجعل عالم السعادة فقط هو العالم العُلوي، الله والملائكة، وليس عالم البشر وأوضاعهم الاجتماعية؛ ومن ثَم يتحول الإسلام إلى مسيحية مع أنه كان رد فِعل عليها، «لا رهبانية في الإسلام». يريد ابن سينا تحقيق الوحدة بين البشر في طهارة النفس، وليس في أفعال الدنيا ورعاية مصالح الناس. وهي وحدة الخاصة دون العامة؛ فللعامة العبادات، وللخاصة أفعال النفس.

ثم يبدأ ابن سينا بتحليل القوانين الاجتماعية قبل قانون الأحوال الشخصية. ومعظمها واجبات وليست حقوقًا، تبرير للشريعة وليس تطويرًا لها، دفاع عن الوضع القائم من أجل الثبات والاستقرار وليس رفضًا له من أجل التغير والحراك الاجتماعي. ويستعمل ابن سينا ألفاظًا قهرية مثل العقد والسنن، وليس الدين أو الشريعة أو العقائد أو النُّظم.

ويقسِّم ابن سينا المجتمع حسب المهنة إلى طبقاتٍ اجتماعية ثلاث؛ المدبِّرون، والصُّناع، والحفَظة. الأولوية للإدارة، والصناعة تأتي في المرتبة الثانية، ثم الحفظ والتدوين والصرف في المرتبة الثالثة. وفي البداية الإدارة العليا، وفي النهاية الإدارة السفلى، والإنتاج الصناعي فيما بينهما. ولا يتحدث عن الزراعة، بل الصناعة أصبحت مصدرًا للإنتاج.٧٣ والطبقات يرأس بعضها بعضًا. أعلاها المدبِّرون، وأدناها الحفَظة. المدبِّرون رؤساء الصُّناع، والصناع رؤساء الحفَظة. المدبِّرون لا رئيس لهم، والحفَظة لا مرءوسين لهم. وكل إنسان له طبقةٌ مهنية محددة؛ أي مقامٌ محمود، ومنها يستمد قيمته الاجتماعية، أشبه بنظام الطبقات في الهند الذي يقوم على الدين والسلطة في المجتمع.٧٤ لكل إنسان عملٌ يقوم به، ومنفعة يؤديها. فلا توجد بطالة؛ لأن البطالة عمل بلا نفع، وتقصير في الشركة. وكل من يخرج على هذا النظام الهرمي الرئاسي، وجانب غيره الحظ، يجب ردعه ونفيه من الأراضي. وإذا كان السبب عرَضًا أو آفةً وُضع المرضى والمُعوقون في مواضع خاصة بهم تحت إمرة رئيس كالمستشفيات ومراكز التأهيل المهني. هذا هو الوضع الاجتماعي الأبدي الذي لا يتغير، والذي لا يسمح بأي حراك اجتماعي لا داخل الطبقة المهنية ولا خارجها. فإذا ما كانت ثورة للفقراء من كل طبقة من الطبقة الدنيا ضد الطبقتين المتوسطة والعليا، أو من الطبقة المتوسطة ضد الطبقة العليا، كان جزاء الثائرين النفي والسجن والتشريد، ومقاومة العنف بالعنف، كما طالَب الفارابي في ضرورة الردع والبتر إذا خرجت الطبقات الدنيا عن نظام المدينة الفاضلة، ودون إحالة ابن سينا له طبقًا لعادته في الصمت عن مصادره، إرازًا لبنية الموضوع ذاته كل مرة من جديد ابتداءً من الصفر.٧٥

ثم يدخل الاقتصاد مع الاجتماع المهني في صورة المال، وكما هو الحال في المجتمع التجاري والاقتصادي الربحي القائم حتى اليوم في دول النفط. فالمال المشترك له مصادر ثلاثة؛ الأول الخراج، وهو حقوق تُفرَض على الأرباح المكتسَبة الطبيعية كالثمرات والنتائج. والثاني العقوبات دون تحديد عقوبات من ولأي سبب. ويبدو أنها الغرامات التي يدفعها أصحاب الجنايات وذووهم لعدم ردعهم لارتكابهم أخطاءً لا عن عمد، وتكون مخفَّفة مع إطالة المُهلة للسداد. والثالث الغنائم، وهي أموال المُعاندين للسنة. وقد توقَّفت بتوقُّف أسلاب الحرب وتوزيعها على المُحاربين، وتصرف في المصالح المشتركة، وإعطاء مرتبات الحفظة الذين لا يعملون بصناعة، والصرف على المُعوقين والقعَدة. ويرفض ابن سينا إنهاء حياة الميئوس من شفائه من المرضى؛ لأن مؤنته لا تُجحف بالمدينة. وقد يتكفل به الأقارب.

ويحرِّم ابن سينا عدة صناعات في المدينة مثل القمار؛ لأنه نقل للأموال من غير مصالح أو منفعة أو مقابلة. ويحرِّم السرقة واللصوصية والقيادة لنفس السبب. وقد تكون القيادة قطع الطريق أو السطو المسلَّح. كما يحرِّم المُراباة لأنها تُغني من تعلُّم الصناعات الداخلة في الشركة، وزيادة مال دون صرفه. ويحرِّم الزنا واللواط لأنهما يؤديان إلى الاستغناء عن الزواج، وهو أحد أركان المدينة؛ فقد كان اللواط سائدًا مثل الزنا في المجتمعات القديمة، ومستمرًّا حتى الآن في بعض المجتمعات الحديثة في شبة الجزيرة العربية وفي الغرب الحديث. ويمكن قياسًا على ذلك تحريم أفعال حديثة مثل السمسرة والأعمال الطفيلية والمضاربات والعمولات والرشاوي والكسب السريع الذي لا ينتج عن جهد أو زيادة إنتاج.

ولما كان المجتمع حِرفة وأسرة يعرض ابن سينا للأسرة وموضوعها الرئيسي الزواج؛ فغاية الزواج النسل؛ لذلك يجب تشجيعه والتحريض عليه لبقاء الأنواع. وهو تصورٌ بيولوجي خالص يُغفل الأُنس والمحبة والسكن إلى النفس بين الزوجَين، وهو أيضًا دليل على وجود الله بالرغم من عدم وضوح الدليل وعدم الحاجة إليه؛ أي إلى إثبات وجود إله من خلال الزواج على هذا النحو المُتسرع، إلا إذا كان المقصود أنه لولا البشر لما عُرِف الله طبقًا للحديث المشهور: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق؛ فبه عرفوني.» الموضوع شرط إثبات الذات. وإذا تم اختزال موضوع الأسرة في الزواج فإنه يتم اختزال الزواج مرةً ثانية في النسل، ثم يتم اختزال النسل في المواريث، والتحوُّل إلى موضوع المال والاقتصاد.

وللزواج شرطان؛ العلانية ضد الزواج العُرفي، والدوام ضد زواج المتعة الخالي من الأولاد والنفقة، مع أن ابن سينا شيعي إمامي. فهل يُهاجم ابن سينا موقف الشيعة أو السنة التي تقول بإخفاء المناكحات؟ وهل الإعلان عن الزواج هو وسيلة الترابط الاجتماعي أم هناك وسائل أخرى أقوى وأشد؟ والقصد من علانية الزواج اتضاح الأنساب، وعدم وقوع خلل في المواريث، وهي أصول الأموال، والأموال أصل المعيشة؛ فبسبب خفاء المناكحات يقع خلل في الأنساب؛ مما يُسبب خللًا في أوجه النفقة. فنفقة البعض على البعض الآخر، ومعاونة البعض للبعض الآخر، وتشتُّت الشمل الجامع للأولاد، وتجدُّد الحاجة إلى المزاوجة، يؤدي إلى ضياع الأُلفة والمحبة؛ فالعواطف تأتي في النهاية وليس في البداية، نتيجةً للمواريث والأموال وليست مقدمة لهما. يؤسِّس ابن سينا الترابط الاجتماعي على أساسٍ اقتصادي؛ فالمصلحة هي أساس المحبة، والأُلفة لطول العِشرة والمخالطة. وأكثر أسباب المصلحة المحبة، والمحبة من الأُلفة، والأُلفة من العادة، والعادة من طول المخالطة؛ فالعواطف تأتي استقراءً وليس استنباطًا، من أسفل وليس من أعلى، عكس الحب «الرومانسي» الذي لا يعرف علة أو سببًا إلا عشق الأرواح ووحدة النفوس.

ويرفض ابن سينا أن يكون الطلاق والفُرقة بين الزوجَين في يد المرأة؛ لأنها «واهية العقل مبادرة إلى طاعة الهوى والغضب»، بالرغم من احتمال الطلاق نظرًا لتآلف الطباع أو تنافرها. فإذا صعب الجمع بينهما وجب التفريق حرصًا على المعايش، وكأن ابن سينا يشرح الحديث الشهير «النساء ناقصات عقل ودين»، أو أنه وصف للتكوين النفسي للمرأة من وجهة نظر الرجل. لا يجوز جعل عصمتها في يدها لأنها أنقص من الرجل عقلًا، وأكثر منه اختلافًا واختلاطًا وتلونًا، بل تكون العصمة في يد الحكام أن يُفرقوا بينهما إذا عُرِف عنه سوء الصحبة لها؛٧٦ فالحاكم بيده الأمر حتى في العلاقات الخاصة مثل الله. يتم الطلاق أمام القاضي وليس بمجرد كلمة في فم الرجل. صحيحٌ أن ابن سينا لم يُحدد بوضوح من أنقص الزوجَين عقلًا وأكثر تلونًا، بل يُفهَم من السياق أنها المرأة. ولم يقل ابن سينا القاضي. والبداية بالصلح قبل الطلاق. فإذا وقع فللمطلقة النفقة ومؤخر الصداق كغرامة للرجل جزاءً على الطلاق.٧٧
ويفصِّل ابن سينا أسباب الفُرقة في أربعة؛ الأولى عدم التكافؤ بين الزوجين، وهي نظرةٌ طبقية كما قنَّنها ديوان الأشراف في الأحكام السلطانية.٧٨ والثاني سوء العِشرة دون تحديد ابن سينا لأسبابها. الثالث بغضٌ جسدي أو نفسي قائم على تنافر الطبائع، وهو ما يتنافى إذا ما قام الزواج على علاقة الحب قبل العقد. والرابع عدم الإنجاب، وهو أحد أسباب تعدُّد الزوجات وليس الفراق.

ويُبرر ابن سينا تعدُّد الزوجات للرجل وليس تعدُّد الأزواج للمرأة بأن الشركة في الرجل حسد لا يُلتفت إليه، من طاعة الشيطان، في حين أن الشركة في المرأة عار. والمرأة أشد انخداعًا وأقل طاعة للعقل؛ ومن ثَم كان تعدُّد الأزواج لها مضرَّة، وأحادية الزوج لها حماية.

ويُبرر ابن سينا المحلِّل، والثناء على الشريعة بعد تشخيصها في الشارع بنكاحٍ صحيح من رجلٍ آخر بعد الطلقة الثالثة، والاستمتاع بها حتى يُثير غيرة الزوج الأول فلا يُجازف بطلاقها مرةً أخرى، ويعرف مقدار الضرر الواقع عليه إذا كرَّر الطلاق جزافًا. فإذا كانت المرأة مجرد متاع فهي له ولغيره، وإذا كان عن حب فإن الزواج المحلل يُثير النفور والابتعاد من الزوج الأول. ويكون الزواج الثاني بوكالة عنها. فلا بأس أن تصحب لذة الآخر بها فضيحة للزوج الأول؛ لأنه لا يستحق رعاية أو مصلحة له. والسؤال الآن: ماذا لو رفض الزوج الثاني الطلاق، واستمتع بها، وأراد الزوج الأول ردها عن حب، واكتشاف خطئه ومصلحته، وأنَّبه ضميره؟ وماذا عن الزوجة التي اكتشفت ضرورة رجوعها إلى زوجها الأول وعدم استمالتها للثاني والعصمة ليست بيدها؟ كما أن المُحلل يحلُّ مشكلة الزوج، وهو التسرُّع في إلقاء يمين الطلاق، واعتبار زوجته مجرد شيء، ولكنه لا يحل مشكلة المرأة، ويجعلها مجرد متاع لا رأي لها لا في الطلاق البائن ولا في الزواج الثاني. وإذا تم الطلاق على يد الحاكم أو القاضي، فما لزوم المُحلل؟ وماذا عن نفسية الرجل بعد أن يطأ رجلٌ آخر زوجته في حالة العودة إليها، أو عن نفسية المرأة بعد أن يطأها رجلٌ ثانٍ في حالة العودة إلى الأول؟ وفيمَ إذن تفضيل البِكر على الثيِّب إلا لجدة الأولى وحبها الأول على خبرات الثانية المتعددة؟ وهل ترجع المرأة للرجل الأول أو يرجع الرجل للمرأة بعد أن يطأها غيره؟ وماذا عن مصير الأولاد من الرجل الأول في حالة عدم رجوع زوجته أمِّ أولاده إليه؟ ألا يقع الضرر عليهما معًا في سبيل حل مشكلة سوء استعمال الرجل ليمين الطلاق والدفاع عن المرأة بزواجها الثاني بخلق مشاكل أعظم؟٧٩
والمرأة يُتستر عليها ويتم تخديرها؛ أي بقاؤها في المنزل، وكأنها بضاعةٌ مملوكة لصاحبها. ولا يجوز لها العمل. وفي مُقابل ذلك تُسنُّ لها النفقة تعويضًا لها، وفي مقابل ذلك يملكها الرجل ولا تملكه، وكأن العلاقة بينهما علاقة ملكية، من يملك من؟ وبطبيعة الحال يمتلك القوي الضعيف. ومن مظاهر ملكيتها عدم نكاحها لغيره، وجواز نكاحه لغيرها إن لم يتجاوز العدد المنكوح عن المعقول في مُقابل الإنفاق عليها. وهو تشريع لنظام الإماء وملك اليمين، وكأن سبب تعدُّد الزوجات هو القدرة على الإنفاق، رخصة للغني دون الفقير، للذات وليست للموضوع. وكلاهما يستمتع بالجماع وإن كان حظها فيه أكثر من حظه؛ نظرًا لحاجتها إليه أكثر من حاجته، ربما لفراغها وانشغاله، ولتفكيرها في جسدها وتفكيره في العمل. هي إلى الداخل وهو إلى الخارج، كما يرمز لذلك العضوان الجنسيان، الفرج والذكر. كلاهما يستمتعان بالولد الذي يشمل البنت؛ فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا. يقوم كلٌّ منهما بتربيته، كلٌّ فيما يخصُّه. النفقة للوالد، والرعاية للوالدة. وعلى الولد خدمتهما وطاعتهما وإكبارهما؛ فهما سبب وجوده، واحتملا مئونة تربيته ورعايته كما هو ظاهر للعيان، ربما تنظيرًا لآية فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، دون تعرُّض لحالات العقوق وقتل الأبناء للآباء والأمهات كما تعرضه الحياة المعاصرة، الفقر والمخدرات والضياع. وماذا عن التربية الثقافية والدينية من الوالد والوالدة؟ وهل يقتصر دور الأم على الرعاية الجسدية جسمًا لجسم بالرضاعة والإطعام؟ وماذا عن دور الدولة في حالة عجز الطرفَين؟ وماذا عن سوء تربية الأولاد وتحمُّلهم تبعات الوالدين؟ وماذا عن قضايا التبنِّي وتحديد من الأم؛ من أنجبت أم من ربَّت؟٨٠ وماذا عن قضايا الوكالة والوصايا؟
والسؤال الآن: ما مصادر فكر ابن سينا في الأسرة والزواج؟ هل هو الفقه الإسلامي ومحاولة تنظيره فلسفيًّا، أم هو العقل الصريح نظرًا لاعتماد ابن سينا عليه، «وغير ذلك مما إذا تأمَّله العاقل عرفه»، أم هي العادات والتقاليد في عصره يُنظرها ابن سينا كما يفعل عالم الاجتماع اعتمادًا على فهم الملاحظة؟ يحوِّل ابن سينا أحيانًا الآيات والأحاديث إلى أبنيةٍ عقلية ونفسية واجتماعية دون استعمالها كدليلٍ نصِّي كالمتكلم أو الفقهية؛ فالنص صياغة لتجربة وتفسيره بالعودة إليها.٨١ وربما هو روح العصر الذي ما زال ممتدًّا حتى الآن عبر التراث القديم والعادات القديمة، وكأن التاريخ قد توقَّف، والزمن قد سقط من الحساب.٨٢
١  الرسائل، ص٤، ٦، ١٢٤–١٤٤.
٢  في الفصل الخامس والأخير من المقالة العاشرة في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق، الإلهيات، ص٢، ٤٥١–٤٥٥.
٣  الرسائل، ج ٤، ١١، ٣١٥–٣٢٧، ٣٧٧–٣٨٢؛ ج٤، ٦، ١٢٤–١٢٧.
٤  «الخليفة يحرس الدين» (مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص١١٧).
٥  «في بيان سبب اختلاف العلماء في الإمامة»، الرسائل، ص٤، ١، ٤٩٣–٤٩٨.
٦  وهي (١) للعالم بارئٌ قديم حي عالم مكين قادر قاهر مُريد، علة جميع الموجودات ومالكها ومُصرفها. (٢) تصور موجودات عقلية مجردة عن الهيولى، كل واحد منها قائم بذاته، وبهم تقع المراسلة والوحي والإنجاز والتأييد. (٣) تصور موجودات نفسانية مجردة عن الأبدان ومستقلة عنها تارةً، ومُتعلقة بها تارةً أخرى. (٤) بمفارقتها لا تُبطل ذاتها، وخروجها من الأجساد لا يُخرجها من قدرة الباري. (٥) كل واحدة من الموجودات مُتفردة بذاتها، لا يُصلحها ولا يُفسدها إلا ما يتعلق بها من سوء أعمالها أو فساد آرائها أو رداءة أخلاقها أو تحكُّم جهالاتها. (٦) إذا أمر الباري تعالى الناس أمرًا مكَّنهم منه وأزاح عِللهم، فمنهم طائع لأمره ومنهم راكبٌ نهيه. (٧) لكل صنف من أصناف الطاعات جزاء، ثوابًا أم عقابًا. وهناك معاد وجزاء على الأعمال من خير أو شر، من أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، والله لا يظلم. (٩) أول الدعاء إلى الله الأعمال بالثواب وأرفعه درجةً عند المآب. (١٠) الدعاة أعلى الناس درجة، وأرخصهم منزلة، وأشدهم في الدعاء وأكثرهم فيه، وأوسعهم علمًا، وأكثرهم أمة، وأعظمهم نعمة، وأنطقهم بالصدق، وألزمهم بمنهاج الحق (الرسائل، ص٤، ٦، ١٣٠–١٣٢).
٧  وهو ما يحدث في الجزائر حاليًّا.
٨  ابن سينا، الإلهيات، ج٢، ٤٥٢–٤٥٥.
٩  وهذا ما عبَّر عنه سيد قطب أيضًا فيما سمَّاه استعلاء الإيمان.
١٠  «من اجتمعت له الحكمة النظرية فقد سعد، من فاز بالخواص النبوية كاد أن يصير ربًّا إنسانيًّا، وكاد أن تحل عبادته بعد الله تعالى، وهو سلطان العالم الأرضي وخليفة الله فيه» (الإشارات، ج٢، ٤٥٤-٤٥٥).
١١  وهو ما يقوله المسيحيون في الصلة بين المسيح والكنيسة.
١٢  الرسائل، ج٣، ٤، ١٣٤–١٣٧.
١٣  علي بن فضل الجيلاني، توفيق التطبيق، في إثبات أن الشيخ الرئيس من الإمامية الاثني عشرية، تقديم وتحقيق وتعليق د. محمد مصطفى حلمي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة ١٩٥٤. ويضم مقدمة للمؤلف (ص٣–٦) ثم مقالتَين؛ الأولى في وجوب الواهب وتوحيده وعينيته وصفاته الحقيقية (٩-١٠)، والثانية في أن كلام الشيخ مُوافق لمذهب الإمامية (١٣–٥٠)، ثم الحديث عن الإمامة والعصمة والنفس واليقين والنبوة وذكر الاستشهادات والمناسبات من كلام الشيخ الرئيس (٥٣–٥٨)، ثم ذكر كلام الشيخ الرئيس وتطبيقه مُوافقًا لمذهب أهل الحق واليقين على وجه التوضيح والتبيين (٦١–٩٧). ويستعمل المؤلف بعض الكتب الأخرى غير الشفاء، مثل جوابه على مسائل أبي الحسن العامري (ص٥٥)، والرسالة العرشية (ص٥٦). ويحتوي على تعليقاتٍ كثيرة للناشر أقرب إلى تحصيل الحاصل، مجرد تجميع مادة لتكبير حجم الكتاب ولا شأن لها بالموضوع، مجرد فرصة للتأليف لكتاب نفسه صغير الحجم. ويُكرر الناشر نفسه في بعض الأفكار بأسلوبٍ إنشائي من أجل بيان إمكانياته الفلسفية، وأنه من مدرسة مصطفى عبد الرازق.
١٤  وقد كان هذا هو الهدف من تأسيس الأزهر في البداية الذي ما زال يجمع بين ثقافة الطبقة وثقافة الشعب، ثقافة السلطة والثقافة الجماهيرية.
١٥  ومن ثَم يكون أقرب إلى فيورباخ.
١٦  مسائل الإمامة والخلافة والعصمة، أو مسائل النفس وخواص القوة القدسية والنبوة وضرورة وجود النبي وأوصاف المتكلمين والعارفين وأصحاب النفوس القدسية والمعاد وترتيب المدينة وسياسة الدولة وشئون المجتمع، كل ذلك في الفصل الأخير من المقالة العاشرة من إلهيات الشفاء.
١٧  الرسائل، ج٤، ١، ٤٩٤–٤٩٦.
١٨  وقد حاول بعض العلماء والحكام التفريق بينهما مثل علي عبد الرازق، وخالد محمد خالد الأول قبل أن يتحول سعوديًّا في الدين والسياسة، وكل العلمانيين والضباط الأحرار في صراعهم مع الإخوان المسلمين. لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين.
١٩  السابق، ج٤، ١، ٤٩٦-٤٩٧.
٢٠  الرسائل، ج٤، ٣١٧-٣١٨، ٣٢٢، ٣٧٠–٣٧٤.
٢١  وذلك مثل «دعاء الكروان» لطه حسين.
٢٢  الرسائل، ج٤، ١١، ٤٥٧–٤٦٠؛ ج٤، ١١، ٣١٥–٣٢٧، ٣٧٧–٣٨٠.
٢٣  الإمام العادل، مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص٩٧.
٢٤  وهو نفس الموقف الذي يتوحد فيه الدين بالسياسة مثل هيجل في الفلسفة الغربية.
٢٥  مسكويه، تهذيب الأخلاق، ج، ١٢١–١٢٣.
٢٦  وبلغة الفلسفة الغربية المعاصرة الجمع بين كانط وبرجسون.
٢٧  وهذا هو الجمع بين homo faber وhomo spiens.
٢٨  السابق، ص١٢١–١٢٣، ١٤٩–١٥١، ١٤٨-١٤٩.
٢٩  السابق، ص٦١-٦٢، ٦٤، ٦٧، ١٦٤–١٦٦، ١٨١.
٣٠  مثل أبي بكر الصديق.
٣١  أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ج٢، ١-٢، ١٩٥-١٩٦؛ ج٢، ١٥٣-١٥٤، ١٦١-١٦٢؛ الإشارات الإلهية، ص١٤٦، ١٤٨، ٢١٠، ٢١٥. ويمكن أن يكون نقد العصر موضوع رسالة في الجبهة الثالثة من مشروع «التراث والتجديد». لا موروث ولا وافد عند أبي حيان في مجموع أعماله، خاصةً في «الإشارات الإلهية».
٣٢  أبو حيان، الإمتاع، ج١، ١٤؛ ج٢، ١٩٨-١٩٩، ١٨٩؛ ج٣، ٨٥–٩٠؛ المقابسات، ص١١٧.
٣٣  اشترى جارية كانت في النحاسين، وكانت حسناء جميلة … أكرهك كما أنت، وجرَّدوا السكاكين على الجارية في الدار يُطالبونها بالمال، فانشقَّت مرارتها ودُفنت في يومها. وصورةٌ أخرى: وأعتقها بحضرة القاضي عند مسجد (الإمتاع، ج٣، ١٦، ١٦٢).
٣٤  وطبقًا للمثل الشعبي «إن كان لك عند الكلب حاجة قول له يا سيد»، وبالفصحى «اسجد لقرد السوء في زمانه» (الإمتاع، ج٣، ٢١٥). ويمكن إجراء عدة رسائل علمية من أقسام الاجتماع عن العيَّارين والقوَّادين والشُّطار، وصورة الجواري، الأديبات الحاضرات البديهة العاشقات والشهيدات (الإمتاع، ج٣، ٢١١، ٤٢٣-٤٢٤).
٣٥  أبو حيان، رسالة في شكوى البؤس ورجاء المعونة، الإمتاع، ج٣، ٢٢٥–٢٣٠.
٣٦  وأيضًا عند ديكارت مُعلم الأميرات في الفلسفة الغربية، وموزار في بلاط الأمراء.
٣٧  وذلك مثل ابن تيمية والعز بن عبد السلام.
٣٨  ويتَّضح مدح السلطان وتملُّقه في آخر رسالتَين في آخر الجزء الثالث من «الإمتاع والمؤانسة»، ج٣، ٢٠٧–٢٣٠. وأبو حيان له السبق في هذا التقليد عند الحكماء في مدح السلاطين قبل العصر التركي.
٣٩  الإمتاع والمؤانسة، ج٣، ٩٥–٩٩؛ الصداقة، ص٨٧.
٤٠  أبو حيان، المقابسات، ص١٤٢-١٤٣.
٤١  الإمتاع والمؤانسة، ج٢، ٩١-٩٢، ٢٠١.
٤٢  أبو حيان، المقابسات، ص١٤٢-١٤٣.
٤٣  «ماهية الناموس وشرائط النبوة وكمية خصالهم ومذاهب الربَّانيين والإلهيين»، الرسائل، ج٤، ٦، ١٢٤–١٤٤.
٤٤  الرسائل، ج١، ٣، ١٥٦؛ ج٩، ٣٢٨.
٤٥  السابق، ج٤، ١٠، ١٢٨-١٢٩، ١٣٩–١٤٤.
٤٦  في الحكم على السرقة والسارق، في معرفة السارق، في معرفة سن السارق، في إصابة ما سرق، في معرفة اللص، في معرفة هل السارق مقيم في بلد أم مسافر، في معرفة الوضع الذي فيه السرقة، في معرفة جنس المسروق، في ماهية السحر والعزائم والعين (ج٤، ١١، ٣٩٨–٤٠٦).
٤٧  «فتبيَّن أن معنى الفيلسوف والرئيس الأول والملك وواضع النواميس والإمام معنًى كله واحد، وأي لفظة أُخذت من هذه الألفاظ ثم أُخذت ما يدل عليه كل واحد منها عند جمهور أهل لغتنا وجدتها كلها تجتمع في آخر الأمر في الدلالة على معنًى واحد بعينه» (الفارابي، تحصيل السعادة).
٤٨  ويمكن إجراء عدة رسائل جامعية عن الإمامة بين المتكلمين والفلاسفة، وأخرى عن «الفيلسوف، ودراسة مقارنة بين الفارابي وهيجل»، وثالثة فلسفة الدين أو فلسفة التاريخ عن ابن عربي وهيجل، دراسة مقارنة بين ظاهريات الروح وعلم المنطق من ناحية، والفتوحات الملكية وفصوص الحِكم من ناحيةٍ أخرى.
٤٩  آراء أبي بكر الرازي في النبوة مُقتبَسة من المناظرات بين أبي حاتم الرازي الداعي الإسماعيلي الفاطمي وأبي بكر الرازي من أعلام النبوة لأبي حاتم؛ نظرًا لضياع كتاب أبي بكر في إبطال النبوات. وهو مذهب ابن الراوندي والبراهمة كما هو واضح من كتاب «الزمردة». وقد ردَّ الكرماني على أبي بكر في «الزمردة» (رسائل الرازي، ص٢٩١–٣٠٠).
٥٠  أبو حاتم الرازي، أعلام النبوة، ص٢٩٦–٣٠٠.
٥١  وهي حجة ميكيافيلِّي وهوبز في تبرير السلطة السياسية.
٥٢  لذلك قال أفلاطون: «المعرفة تذكُّر، والجهل نسيان.»
٥٣  أبو حاتم الرازي، مناظرات، ص٣١٤–٣١٦.
٥٤  كما هو الحال عند ميكيافيلِّي في «الأمير»، وهوبز في «التنين».
٥٥  وهي حجة الرأسمالية في حاجة الشعب إلى قيادةٍ كاريسمية لتبرير الزعامة الفردية والبطولة والإبداع الفردي ورأس المال.
٥٦  «كان قتل من خالف السياسة وأمر الله واجبًا» (السابق، ص٣١٦).
٥٧  «والحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا الله.»
٥٨  لذلك قمنا بترجمة وتقديم لسنج، تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٧٧.
٥٩  وقد استطاع حي بن يقظان ذلك.
٦٠  وهذا ما أثبته القرآن وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ * وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.
٦١  رسائل الرازي، ص٢٩٣-٢٩٤.
٦٢  أبو حاتم الرازي، أعلام النبوة، ص٢٩٥-٣٩٦؛ المناظرات، ص٢٩٥.
٦٣  وهذا هو أيضًا موقف كانط في الفلسفة الغربية الحديثة.
٦٤  ابن سينا، أقسام العلوم، ص١٠٨.
٦٥  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، ج١، ٢٨؛ ج٢، ٤١٩.
٦٦  فما كلٌّ بميسَّر له في الحكمة الإلهية، ولإنسانٍ يصلح له أن يخطر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامة، بل يجب ألا يُرخص في تعرُّض شيء من ذلك، بل يجب أن يُعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم جليلة وعظيمة. ويلقى إليهم مع هذا القدر؛ أعني بأنه لا نظير له ولا شريك له ولا شبيه له. وكذلك يجب أن يُقرر عندهم أمر المعاد على وجهٍ يتصورون كيفيته، وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالًا مما يفهمونه ويتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمرٌ مجمل، وهو أن ذلك شيء لا عينَ رأته ولا أذن سمعته، وأن هناك من اللذة ما هو ملكٌ عظيم، ومن الألم ما هو عذابٌ مُقيم. واعلم أن الله تعالى يعلم أن وجه الخير في هذا، فيجب أن يوجد معلوم الله على وجهه على ما علمته، ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات تستدعي المُستعدين بالجبلَّة في النظر إلى البحث الحكمي (الإلهيات، ص٤٤٢-٤٤٣).
٦٧  «النبوة، الحاجة إلى النبي، ضرورة النبوة»، فصل بأكمله. الفصل الثاني من المقالة العاشرة «في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه»، الإلهيات، ج٢، ١٤٤–٤٤٢. وأيضًا «فصل في المقالة العاشرة في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله والمعاد»، النجاة، ص٣٠٣–٣٠٨. «أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين»، الإشارات، ص٢٢٧.
٦٨  وهو أيضًا ما لاحظه اسبينوزا في وسائل التعبير المستقاة عند كل نبي من البيئة والمهنة والثقافة المحلية.
٦٩  الأصل الثالث، المقالة العاشرة، في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة، الشفاء، الإلهيات، ج٢، ٤٤٣–٤٤٦.
٧٠  لذلك كان شعار الثورة الإسلامية في إيران: «الله أكبر قاسم الجبَّارين.»
٧١  من العقيدة إلى الثورة، ج٤، النبوة والمعاد.
٧٢  وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله، وكان مع اعتقاده ذلك يلزم في كل فعل أن يتذكر الله ويُعرِض عن غيره، لكان جديرًا بأن يفوز من هذا الزكاء بحظ الشفاء (الإلهيات، ج٢، ٤٤٥-٤٤٦). وإلى هنا ينتهي النجاة، ولا تدخل الأسرة والمجتمع والإمامة؛ فتلخيص النجاة للشفاء بقطع النصوص، وليس بالتركيز على الأفكار.
٧٣  وهو نفس موقف الطهطاوي فيما بعدُ في توحيده بين الصناعة (الإندوستريا) والعمران.
٧٤  cast-system.
٧٥  هذا هو موضوع الفصل الرابع من المقالة العشرة «في عقد المدينة وعقد البيت، وهو النكاح والسنن الكلية في ذلك» (الشفاء، الإلهيات، ج٢، ٤٤٧–٤٥١). ولقد تم اختصاره من النجاة.
٧٦  وهو ما فعله الحبيب بورقيبة في جعل الطلاق في يد المحكمة الشرعية وليس في يد الرجل في تونس.
٧٧  الشفاء، الإلهيات، ج٢، ٤٤٨-٤٤٩.
٧٨  وقد يكون ذلك أحد أسباب الخلاف بين أسامة بن زيد وزينب بنت جحش.
٧٩  وهذا هو موضوع الفيلم المصري «طلاق سعاد هانم» ضد المُحلل. الشفاء، الإلهيات، ج٢، ٤٤٩-٥٥٠.
٨٠  وهي القضية التي عرضها برشت في مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية». الشفاء، الإلهيات، ﺟ٢، ٤٥٠-٤٥١.
٨١  انظر دراستنا «عود إلى المنبع أم عود إلى الطبيعة؟»، وأيضًا «أيهما أسبق؛ نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟» قضايا معاصرة، ج١، في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، ص١٦٩–١٧٦.
٨٢  وهو نفس موقف فشته في «فلسفة الحق»، انظر كتابنا «فشته فيلسوف المقاومة» (تحت الطبع).