من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

أولًا: هل هناك فلسفة للتاريخ؟

إذا كانت أقسام الحكمة النظرية عند ابن سينا ثلاثة، المنطق والطبيعيات والإلهيات، وكانت أقسام الحكمة العملية ثلاثة أيضًا، الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل، فأين فلسفة التاريخ؟ وإذا كانت أربعة عند إخوان الصفا، المنطق والطبيعيات والنفسانيات/العقليات، والعلوم الناموسية الإلهية والشرعية، فهو اقترابٌ أكثر من الإنسانيات بإبراز النفس والعقل كموضوعٍ مستقل بين الطبيعيات والإلهيات، وبإضافة العلوم الناموسية، أي القانون الإلهي والشرعي، دون الاقتراب صراحةً من التاريخ.

وربما غابت فلسفة التاريخ من علوم الحكمة لأن المنطق صوري خالص لا شأن له بالتاريخ باستثناء المتواترات كأحد مصادر العلم، مثل الحسيات والمجربات والبديهيات، والتواتر أي تاريخ الرواية ونقلها عبر الأجيال؛ فالتاريخ هنا هو نقل المتن عبر السند، والقول شفاهًا عبر الرواة، وهو مستمَد من علم الحديث.

كما يتصور الفارابي أجزاء المنطق ليس فقط على نحوٍ صوري من حيث قسمة المنطق إلى يقين وظن، ولكن أيضًا على نحوٍ تاريخي؛ فمنطق اليقين يبدأ بالمدخل، الكليات الخمس، ثم المقولات ثم العبارة ثم التحليلات الأولى (القياس). ويبلغ الذروة في التحليلات الثانية البرهان، ثم ينهار التقدم ويتراجع إلى الجدل والسفسطة والخطابة والشعر؛ فانتقال المنطق من اليقين إلى الظن هو تراجع ونكوص وانهيار.

وفي الطبيعيات والإلهيات يظهر التاريخ الرأسي في ترتيب الموجودات الطبيعية والإلهية في نظرية الفيض نزولًا، الله والعقل والنفس والمادة، ثم تقسيم النفس إلى إنسانية وحيوانية ونباتية، ثم تأتي العناصر الأربعة في النهاية، ومنها تتركب المعادن؛ فهو تاريخ الكون أو التاريخ الطبيعي.

وفي النبوة وقصص الأنبياء يظهر التاريخ بوضوح، دور الأنبياء في حركة التاريخ، مراحل التاريخ ومساره كما يُمثله قصص الأنبياء، سواء لصالح السلطة واكتمال التاريخ في الدولة القائمة أو لصالح المعارضة والثورة على الحكم الظالم.

وفي الحكمة العملية تبدأ فلسفة التاريخ في الظهور من الأخلاق، الممارسات التاريخية، الكونية والشعوبية والاجتماعية، ثم صراع الضرورة التاريخية والحرية. صحيحٌ أن الحكمة العملية القديمة ثلاثة أقسام، الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل، إلا أنه يمكن تطوير تدبير المنزل، أي الاقتصاد، إلى تاريخ عن طريق التاريخ السياسي والتاريخ الاقتصادي.

ثم يظهر ابن خلدون مُتفردًا في «المقدمة» لتأسيس فلسفة للعمران أقرب إلى فلسفة التاريخ بعد نقده لمناهج الرواية وأغلاط المؤرخين في التاريخ القديم اعتماده على التجارب والمشاهدات. وابن خلدون مؤرخٌ استطاع أن يكتب مقدمة في فلسفة التاريخ، قبل أن يكتب «تاريخ العرب والبربر» وليس حكيمًا، بل إنه مُعادٍ للحكمة في كتبه عن «في إبطال الفلسفة وفساد مُنتحليها».١

(١) لماذا غابت فلسفة التاريخ؟

غابت فلسفة التاريخ كقسمٍ مستقل في علوم الحكمة ربما لعدة أسباب، أهمها:
  • (أ)

    التصور العام للكون في علوم الحكمة الأولوية فيه لواجب الوجود، الواحد، الكامل، اللانهائي الذي منه يفيض كل شيء. وهو تصور المتكلمين خاصةً الأشاعرة لنظرية الذات والصفات والأفعال. هو تصورٌ هرمي للعالم يُعطي القمة أكثر مما يُعطي القاعدة، وللصورة الخالصة أكثر مما يُعطي للمادة المُتعينة. وفي هذا التصور يغيب التاريخ الطبيعي والتاريخ الإنساني معًا؛ فالطبيعة لا تتطور من ذاتها، خُلقت مرةً واحدة من عدم وتنتهي إلى عدم. وكان يمكن لأصحاب الطبائع الذين يقولون بالطفرة والكُمون والتوليد إنتاج تاريخي طبيعي، ولكنهم ضاعوا في زحمة الفِرق؛ فهم فِرقة من فِرق الاعتزال، والفرقة نفسها مستبعَدة ومهمَّشة، ولم تبقَ في التاريخ. والإنسان لا يُبادر ولا يُحرك التاريخ طالما أن المبادرة علوية، وطالما أنه مُطالَب فقط بتطبيق الشريعة وتنفيذ الأوامر، فهو علةٌ ثانية وليس علةً أولى.

  • (ب)

    تصور العلاقة بين طرفَين في محورٍ رأسي وليس في محورٍ أفقي، بين الأعلى والأدنى، وليس بين الأمام والخلف، يجعل الحركة رأسيةً نازلة وصاعدة، بين الذهاب والإياب، بين الفيض الكوني والإشراقي النفسي. ويصبح التاريخ، ومراتب الموجودات، ومقامات الارتقاء خارج التاريخ، مُنعرجًا إلى أعلى وليس مُتجهًا إلى الأمام. العالم يفيض عن الله، والنفس تصعد إلى السماء. والوحي ينزل من العقل الفعَّال، والعقل المُنفعل يستفيد منه ويصعد إليه مُتحدًا به؛ فالفرع يعود إلى الأصل. لا يوجد زمان ولا مكان ولا بشر ولا دول ولا صراع ولا إرادات جماعية أو فردية حتى ينشأ التاريخ.

  • (جـ)

    النزعة الإشراقية والعلم اللدني والمعارف المُعطاة سلفًا والحقائق المُتلقاة، كل ذلك يُعطي الأولوية المطلقة للنظر على العمل، وللمعرفة على السلوك. الحقيقة تكتمل بمعرفتها، والسعادة في هذه المعرفة القائمة بذاتها. ولا ينشأ التاريخ إلا بأولوية العمل على النظر. ولا يعني العمل مجرد العمل الفردي الأخلاقي، مجاهدة النفس، بل العمل السياسي الجماعي لتغيير الواقع، والدخول في مُتناقضاته.

  • (د)
    الفلسفة الخالدة في عقل الفيلسوف، وتحويل العالم إلى مثلٍ أعلى، والمجتمع إلى مدينةٍ فاضلة، جعل الفكر خارج التاريخ من وضع الذهن، حقيقة مطلقة خارج العالم، خلود بلا زمان. والتاريخ الإنساني لا ينشأ إلا في المكان والزمان، ومع البشر والتدافع في الأرض. لا ينشأ التاريخ فيما ينبغي أن يكون، بل فيما هو كائن، بالفكر الطوباوي ولكن بالواقع المُضنى المعاش. تكتمل الحقيقة في ذهن الفيلسوف بمجرد تأملها ويتوقف التاريخ.٢
  • (هـ)

    الحقيقة تقوم على العقل والطبيعة، على الاتساق المنطقي والتطابق مع الواقع. فالوحي له أساسان؛ العقل والطبيعة؛ فهو تأسيس بلا تاريخ، اكتمال بلا تطور، بنية بلا مراحل.

  • (و)
    الحقيقة بنية وليست تاريخًا، اكتمال وليست تطورًا، معطاة مرةً واحدة ولا تكتشف على مراحل تجعل الحقيقة بلا تاريخ، بلا زمان ولا مكان، بلا تفاعل ولا تضاد. ويبدو أن اكتمال الوحي جعل العقل أقرب إلى البحث عن النهاية وليس البداية، النتيجة وليس المقدمة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، مع أن محمدًا عود إلى إبراهيم، وتأكيد على رسالات الأنبياء.٣
  • (ز)
    بداية كل فيلسوف من الصفر، من الألف إلى الياء، وصمته عن مصادره لم يُحدِث التراكم الفلسفي الكافي لخلق وعي تاريخي؛ فالكِندي لا يُشير إلى المُترجمين، والفارابي لا يُشير إلى السابقين عليه، وابن سينا يبدأ الفلسفة ويُنهيها ويُكمل بنيتها ويُتم النسق.٤ المنطق والطبيعيات والإلهيات ليس لأحد، وللكل في نفس الوقت.٥
  • (ﺣ)

    كان الفلاسفة مُفكري البلاط، يُفكرون للأمير، ويعملون لحسابه. كان الكِندي مؤدبًا للمعتصم بالله، والفارابي زينة بلاط سيف الدولة، وابن سينا وزيرًا في دولة بني بوية، وابن رشد طبيب المنصور. كانوا من النخبة وليسوا من الشعب باستثناء الشيعة، مثل أبي يعقوب السجستاني الذي استشهد في ثورة عام ٣٣١، والمعارضة السياسية والثوار الذين حوَّلوا قصص الأنبياء إلى فلسفة في التاريخ. كان الأنبياء ثوارًا ضد الظلم، وتلاهم الأئمة القائمون، ووضع الأكوار والأدوار، ودورات التاريخ، والصراع بين القهر والتحرر، بين الظلم والعدل، بين الحق والباطل.

  • (ط)

    غياب فلسفات للتاريخ في الحضارات المُجاورة، يونانية ورومانية غربًا، وفارسية وهندية شرقًا، جعل التفاعل بين الوافد والموروث في حده الأدنى. صحيحٌ أن أفلاطون كان لديه تصور للعالم، تكوينه وتطوره في «طيماوس»، ولكنه كان تاريخًا أسطوريًّا، وأن أرسطو كان مؤرخًا أكثر منه فيلسوفًا للتاريخ، تكتمل الحقيقة في ذهنه لم يحدث التحدي الثقافي الخارجي، المنبِّه من الحضارات المجاورة حتى تنشأ فلسفة للتاريخ تجمع بين الوافد والموروث، كما حدث في المنطق والطبيعيات والإلهيات.

  • (ي)
    كانت روح العصر روح الانتصار، وكانت الجيوش فاتحة، والعمارة قائمة. كان التاريخ يُصنع بالسواعد والعقول. كانت الحضارة في بدايتها تنشأ وتتكون وتصنع تاريخها، ولا تنشأ فلسفة التاريخ إلا بعد توقُّف الاندفاع الأول، وتأمُّل الفيلسوف في مسار الحضارة، والتفكير في أسباب قيامها وسقوطها كما حدث عند ابن خلدون.٦ فلسفة التاريخ يمكن أن تنشأ الآن سبعة قرون بعد ابن خلدون لطرح سؤال النهضة كما طرح ابن خلدون سؤال الانهيار، خاصةً بعد ظهور حضارات جديدة مُجاورة، خاصةً الحضارة الغربية، ومحاولة للإجابة على سؤال شكيب أرسلان: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟

(٢) هل يمكن إقامة فلسفة في التاريخ؟

وهو السؤال المطروح ليس فقط داخل علوم الحكمة، بل أيضًا داخل منظومة العلوم الإسلامية كلها، العقلية النقلية الأربعة، والنقلية الخالصة، والعقلية الخالصة.

ففي علوم الحكمة يمكن تحويل التاريخ الرأسي إلى تاريخٍ أفقي، والمحور الرأسي إلى محورٍ أفقي، ونظرية الفيض وتراتب الموجودات إلى نظرية في مراحل التاريخ، ونظرية الإشراق والصعود إلى أعلى إلى نظرية في التقدم إلى الأمام. ويمكن الاستمرار في قصص الأنبياء والأدوار والأكوار من الماضي إلى الحاضر والمستقبل دون التوقف على الماضي وحده، نزولًا من مدينة السماء إلى مدينة الأرض، وبيان مقاومة الأئمة بعد الأنبياء لنُظُم القهر والتسلط إلى نهاية الزمان. كما يمكن بيان أنواع الضرورة التاريخية الكونية والتاريخية والشعوبية والاجتماعية، ومقابلتها بالحرية الفردية وبعمل الجماعات. ويمكن إبراز العناصر الأولى لقيام الدول وسقوطها كما حاول الكِندي والرازي والفارابي والتوحيدي وغيرهم. وأخيرًا يمكن الدخول في حوار ابن خلدون في تاريخ العمران، ومراجعته وقراءته من جديد، لوضع سؤال شروط النهضة بعد أن وصف ابن خلدون أسباب الانهيار.

ويمكن العودة إلى علم أصول الدين الذي كانت علوم الحكمة تطويرًا له، وإعادة الاختيار بين البديلَين الأشاعرة والمعتزلة، وأيهما أقدر على إنتاج فلسفة في التاريخ؛ نظرية الذات والصفات والأفعال التي تضع الكمال كله خارج العالم، وتُخرج الإمامة من الأصول إلى الفروع من أجل تسكين الناس ونزع سلاح المعارضة، أم الأصول الخمسة عند المعتزلة، وضم العدل إلى التوحيد، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلًا من أصول الدين؟ وكلاهما بديلان داخل أهل السنة، بالإضافة إلى البديل الشيعي الذي ظهرت فيه فلسفة التاريخ وفلسفة الثورة، وفلسفة المعارضة وفلسفة السياسة، والتي تحقَّقت في الثورة الإسلامية في إيران أكثر مما ظهرت عند أهل السنة.

ويمكن إعادة تأويل النبوة والمعاد من السمعيات في العقائد الأشعرية، وتحويلها إلى فلسفة في التاريخ العام، النبوة ماضي البشرية ومراحلها المختلفة وثورات الأنبياء، وقيام الدول وسقوطها في الماضي، وتبدل الأقوام وهلاكهم مثل عاد وثمود، ومقاومة موسى لفرعون، ومحمد لأشراف مكة. والمعاد مستقبل البشرية، ليس بالضرورة بعد الموت، ولكن قبل الموت في حياة البشر والإعداد له بالفعل.

كما يمكن تأويل الإيمان والعمل والإمامة كتاريخٍ مُتعين في المُواطن والدولة والعقد الاجتماعي بينهما، ثم توالي الدول والطبقات، والمفضول والأفضل، وانهيار التاريخ من الخلافة إلى الملك العضود، في مُقابل المهدية والصعود من جديدٍ آخر الزمان، حتى يتم الخلاص على أيدي المهدي المنتظَر، ويمكن رد الاعتبار إلى الفِرق الهالكة ونقد الفِرقة الناجية، من أجل تشجيع المعارضة السياسية ونقد التسلط والأحادية.٧

ويمكن البحث في علوم التصوف عن عناصر مكوِّنة لفلسفة التاريخ، وتحويل المحور الرأسي أيضًا والصعود إلى أعلى في نظرية الإشراق، في المقامات والأحوال، إلى محورٍ أفقي في مراحل التاريخ، وتعاقب الدول من الخلف إلى الأمام بدلًا من أدنى إلى أعلى، وأن يصبح الفناء، نهاية الطريق الصوفي، هو البقاء؛ اكتمال الغاية في التاريخ.

ويمكن أيضًا إعادة تأويل «فصوص الحِكم» وقصص الأنبياء على أنها مراحل التاريخ منذ آدم حتى محمد وخالد بن سنان، وكيف يتجلى الكمال تدريجيًّا، نبيًّا وراء نبي، مرحلة وراء مرحلة، حتى يصبح الحق خلقًا والخلق حقًّا، وقد قامت فلسفات التاريخ على نوع من تحقيق المثال في الواقع، وتحقيق الغاية في التاريخ. وهو ما سمَّاه الصوفية وحدة الوجود. يستطيع التصوف كله بما فيه من طاقة وحركة وصراع وجدل أن يتحوَّل إلى فلسفة في التاريخ بأن ينتقل من الداخل إلى الخارج، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الروح إلى التاريخ.

بل إن الطريقة نفسها كالمهدية والسنوسية قد تحوَّلت إلى حركات جهاد ضد الاستعمار في التاريخ الحديث، وشارك كبار الصوفية قديمًا وحديثًا في ثورات الشعوب المضطهَدة، مثل الحلَّاج واشتراكه في ثورة القرامطة، ونجم الدين كبرى في الشام. وما زالت مؤثرة في السودان والمغرب وأواسط آسيا، وقادرة على التأثير في مسار التاريخ بعد تحوُّلها إلى حركاتٍ شعبيةٍ حاملة للأهداف الوطنية والقومية.

لقد نشأ التصوف في البداية كنوع من المقاومة السلبية بعد أن استحالت المقاومة الفعلية بعد استشهاد الأئمة من آل البيت، واستتباب النظام منذ الحجَّاج وخلفائه. والآن المقاومة ناجحة في إيران وجنوب لبنان وفلسطين والشيشان، بل إن معظم حركات التحرُّر الوطني في هذا القرن قد خرجت من عباءة الصوفية خاصةً، والحركة الإصلاحية بوجهٍ عام. يمكن التحوُّل من جهاد النفس إلى جهاد العالم، من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، ومن إسقاط التدبير إلى التحرُّر الفردي والاجتماعي والسياسي، ومن الأحوال النفسية إلى جدل في التاريخ، ومن المقامات الصوفية إلى مراحل التقدم في التاريخ.

ويمكن أيضًا استنباط عناصر لفلسفة في التاريخ من علم أصول الفقه، من تسلسل الأدلة الشرعية الأربعة، من الكتاب إلى السنة إلى الإجماع إلى القياس؛ أي من النص إلى تجربته الأولى في الزمان والمكان، إلى توالي فهم الأجيال جيلًا وراء جيل، إلى الجهد الفردي في الفهم والاستنباط؛ فالتقدم هنا من النص إلى الحياة، وإجماع الجيل السابق ليس مُلزمًا للجيل الحالي. والاجتهاد مفتوح إلى آخر الزمان؛ فالوقائع لا تنتهي.

وإذا كانت اللغة اصطلاحًا وليست توقيفًا فإن ذلك يسمح بتتبُّع نشأة اللغة وتطورها. واللغة تعني الفكر؛ ومن ثَم يمكن أيضًا وصف تطور الفكر البشري من خلال تطور اللغة ومعانيها الاشتقاقية والاصطلاحية والعُرفية. وإن الاشتباه في اللغة الظاهر في ثنائيَّتها، مثل الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤوَّل، المُحكَم والمُتشابه، المُجمَل والمبيَّن، المُطلَق والمقيَّد، المستثنى والمستثنى منه، يسمح بإدخال عنصرَي الزمان والمكان من أجل تأويل مُتجدد للأحكام ونصوصها؛ ففي اللغة ثابت ومُتحول، جدل الثوابت والمُتغيرات. كما أن التعليل يمكن أن يتحول من تعليل الأحكام الفردية إلى الكشف عن قوانين السلوك البشري العام باستقراء جزئيات الأحكام، وتحويلها إلى قوانين في التاريخ.

أما أحكام الوضع فقادرة على التحول من النص إلى العالم، ومن الحكم الشرعي إلى الموقف الإنساني، فالأفعال في العالم لها أسباب وشروط وموانع وعزائم ورفض وصحة وبُطلان. أما أحكام التكليف فإنها تصف الممارسات الفعلية للأفراد والجماعات بين الإيجاب والسلب الضروريَّين أو الاحتماليَّين؛ نظرًا لوجود الضرورة والحرية في التاريخ، بالإضافة إلى الأفعال الطبيعية التلقائية التي يقوم بها الأفراد تعبيرًا عن الدافع الحيوي.

أما المقاصد فإنها تُمثل الغايات القصوى للتاريخ، الحياة والعقل والعلم والكرامة وثروات الأمم التي تُدافع عنها الشعوب لأنها أسباب بقائها. هي حقوق الأفراد والشعوب التي تتجلى في مراحل التاريخ ومن خلال نضال المجتمعات.

ويمكن أيضًا استنباط بعض العناصر المُكونة لفلسفة التاريخ من العلوم النقلية الخالصة؛ ففي علوم القرآن هناك أسباب النزول وأولوية الواقع على الفكر؛ أي المكان، و«الناسخ والمنسوخ»، ووجود الزمان داخل التشريع، والنص والحكم؛ أي التطور والتغير في الأحوال. وهناك التحول من المكي إلى المدني، من التصور إلى النظام، وترتيب السور والآيات طبقًا لزمان نزولها.

وفي علوم الحديث تُشير الرواية إلى انتقالها عبر الزمان، ونقلها عبر الأجيال؛ فالتاريخ هو التطابق بين المسموع والسامع دون تأويل أو تخريج. علم ميزان الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وشروط التواتر، كل ذلك يمكن أن يتحول إلى وعيٍ معرفي تاريخي.

وعلوم التفسير أيضًا خاصةً تلك التي استعملت المنهج التاريخي، يمكن أن تكون مصادر أولية لفلسفة في التاريخ تصف أحوال الأمم، نهضةً وسقوطًا، ونشأة العالم ونهايته، واستقراء القوانين من الحوادث الجزئية، ودراسة الماضي عِبرةً للحاضر، وجمع المعلومات عن الأمم السابقة، والتحقُّق من رواياتها وأساطيرها.

وفي علوم الفقه يمكن التحول في الأولويات من العبادات إلى المعاملات من أجل اكتشاف عناصر التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، في البيع والشراء، والإجارة والمزارعة، وأنواع المضاربات، والإسلام والجزية والقتال، والجهاد والغنائم، والرِّق والنساء والصيد؛ فالفقه هو علم النوازل، والنوازل مُتغيرة عبر العصور.

وإذا كانت الجغرافيا جزءًا من علوم الحكمة، الحكمة الطبيعية، دراسة طبقات الأرض، الإنسان والحيوان والنبات والمعادن، فإنه يمكن رصد عناصر التاريخ الطبيعي. أما التاريخ فإنه يمكن الكشف عن فلسفات التاريخ وراء الحوليات والطبقات، وكتابة التاريخ من البداية إلى النهاية، والتصورات الحاكمة له.

بل إن العلوم العقلية الخالصة لقادرةٌ على أن تمدَّ فيلسوف التاريخ ببعض العناصر، مثل علم الفلك وتأثير عالم الأفلاك في العالم الأرضي، عالم ما فوق القمر في عالم ما تحت القمر، وتأثير النظرية الجغرافية على حياة الشعوب وأمزجتهم وعاداتهم وعمرانهم، كما يمكن لعلوم الطب والتشريح إعطاء عناصر لتكوين تاريخ طبيعي للإنسان.

لقد اشتدَّت الرغبة في ظهور فلسفات للتاريخ في الفكر العربي الحديث بفضل التأخر والتقدم، وحاول كثيرٌ من المُصلِحين الإجابة على السؤال والتركيز على سنة الكون، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، وقوانين التاريخ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، من أجل العظة والاعتبار. وقد ساعد على ذلك ترجمة فلسفات التاريخ المعاصرة من الغرب الحديث، وتحقيب التاريخ في مراحل تجعل الغرب مَركزًا للعالم، وتضع تاريخ البشرية جميعًا في مراحل ما قبل التاريخ، وتاريخ الغرب الحديث هو نهاية التاريخ ومَصبه حيث يتوقف التاريخ وينتهي؛ فتحقيب الغرب هو تحقيب العالم. ولا توجد حضارات وشعوب ثرت الغرب حيث اكتمل التاريخ وتوقَّف الزمن.٨
وقد قامت المشاريع العربية المعاصرة لإبراز الوعي التاريخي والإجابة على سؤال: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وتحقيب الحضارة الإسلامية تحقيبًا مستقلًّا من القرون السبعة الأولى، العصر الذهبي الأول الذي بلغ ذروته في القرن الرابع الهجري، إلى القرون السبعة التالية. ويفصل بينهما ابن خلدون الذي وصف القرون السبعة الأولى مُبينًا كيف قامت الحضارة الإسلامية ولماذا انهارت. ونحن الآن على أعتاب حقبة ثالثة، قرون سبعة قادمة، من القرن الرابع عشر حتى القرن الواحد والعشرين الهجري، ابتداءً من الإصلاح الديني بالرغم من كبوته، والثورة العربية بالرغم من نكستها، إلى فجر نهضة عربية جديدة. كما تتم دراسة الغرب الحديث الذي أوشك على نهاية عصوره الحديثة منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر الميلادي حتى نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، مُتلاحمًا مع نهضة آسيا. وربما تُشاهد البشرية تحولًا في روح العالم وسريانها من الشرق القديم إلى الغرب الحديث أولًا، ثم عودتها من الغرب القديم إلى الشرق الحديث ثانيًا.٩
١  انظر دراستنا «لماذا غاب مبحث التاريخ من تراثنا القديم؟» دراسات إسلامية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٢، ص٤١٦–٤٥٦.
٢  هذا أيضًا ما حدث عند هيجل وتصور الفيلسوف الذي يكتمل التاريخ في ذهنه.
٣  هذا هو التقابل اللغوي الأنثروبولوجي في الغرب الحديث بين diachronism, synchronism.
٤  هذا ما فعله هيجل أيضًا في تاريخ الفلسفة الغربية.
٥  وهذا على عكس الفلسفة الغربية وتولد المذاهب الفلسفية بعضها من بعض طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل (مقدمة في علم الاستغراب، ص٦٤٢–٦٦٤).
٦  يُروى أن إبراهيم باشا وجد كتابات في فلسفة التاريخ في الشام، فأرسله إلى أبيه في القاهرة لقراءته، فردَّ عليه قائلًا: «أنت تقرأ التاريخ، أما أنا فأصنع التاريخ.»
٧  وقد تم ذلك من قبلُ في «من العقيدة إلى الثورة»، خاصةً في المجلد الرابع «التاريخ العام»، والمجلد الخامس «التاريخ المُتعين».
٨  لسنج، تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٧٧، المقدمة.
٩  مقدمة في علم الاستغراب، ص٧٦٣–٧٧٦.