من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ثانيًا: التاريخ الرأسي

ويعني التاريخ الرأسي تاريخ العالم وفيضه من أعلى إلى أدنى، كما هو الحال في نظرية الفيض، ثم الصعود من جديد من أدنى إلى أعلى بالإشراق. الفيض في الكون، والإشراق في النفس، الذهاب والإياب، الخروج والدخول، البداية والنهاية.

(١) التاريخ النازل (نظرية الفيض)

وهو تاريخ الكون كما مثَّلته نظرية الفيض، وصدور العالم عن الله على درجات، وخروج المادة من اللامادة على مراتب. وهو أقرب إلى التاريخ الطبيعي منه إلى التاريخ الإنساني، بالرغم من بزوغ النفس كأحد مراتب الكون، والنفس العاقلة أحد قُواها.١

(أ) فيض الوجود ومراتب الموجودات

وهناك ثلاث مراتب للأحياء فيما يتعلق بالنطق والحياة؛ الأولى حي ناطق غير مائت، وهو الملاك. والثانية حي ناطق مائت، وهو الإنسان. والثالثة حي غير ناطق وغير مائت، وهو الجن. فالإنسان أفضل من الجن في النطق، والجن أفضل من الإنسان في عدم الموت.٢ الإنسان والجن على طرفَي نقيض في النطق والموت، والملاك وسط بين الاثنين؛ يُشارك الإنسان في النطق، ويُشارك الجن في عدم الموت. والحقيقة أن الجن ناطق طبقًا للعقائد؛ لأنه يستمع إلى القرآن ويفهمه ويتدبره ويُناقش ويُحاجج، وهذا لا يكون إلا بالنطق. وهو إجابة على سؤلٍ مثل باقي الأسئلة المنطقية والطبيعية؛ فهو سؤالٌ علمي وليس سؤالًا عقائديًّا.

وفي «رسالة في إثبات المفارقات» يُبرهن الفارابي على صحة نظرية الفيض؛ الله، والعقل، والنفس الفلكية، والنفس الإنسانية. لا تموت ولا تفسد، مُدركة لذواتها، ولكلٍّ منها سعادة فوق سعادة المادة. وتكثُر العقول والنفوس الفلكية بالأنواع، في حين تكثُر النفوس الإنسانية بالأشخاص، بالرغم من سؤال الحكماء: كيف يمكن الجمع بين البساطة والكثرة في النفوس لأن البساطة قرين الوحدة؟

والبراهين لإثبات المفارقات إما عامة لها كلها، أو براهين خاصة لإثبات مُفارق مُفارق، وأحيانًا تكون بإثباتها أولًا ثم إثبات المفارقة ثانيًا. وتقوم الحجة على قسمة الوجود إلى واجب وممكن، وهي ثنائيةٌ تطهُّرية تعبِّر عن إيمانٍ مسبق وموقفٍ تطهري، وليست تصورات بديهية، بل إيمانٌ مُقنع. والبرهان على إثبات الوجود الذي لا سبب له في حاجة إلى برهانٍ آخر لإثبات أنه مُفارق؛ فالممكنات يجب أن تنتهي إلى واجب الوجود، وواجب الوجود لا سبب له، وإلا لزم التعليل إلى ما لا نهاية. كما أن الوجود إما معلول أو علة، طرفان ووسط، والوسط يرد إلى الطرفَين؛ مما يستلزم وجود سبب لا علة له. فلكل موجود علة، وإذا استغنى عنها أصبح واجب الوجود. والمحدَث يحتاج إلى علةٍ حادثة. والبرهان على أنه مُفارق أنه لو كان جسمًا لكان له مادة وصورة، وكانت له ماهية؛ مما يستلزم مُحالاتٍ ثلاثة؛ أن المعدوم يلزمه الوجود، أو أن الوجود بلا سببٍ يكون من لوازم الماهية، أو أن يكون واجب الوجود مُتعلقًا بالماهية واجبًا عليها. وأحيانًا إثبات الشيء يتضمن إثبات مُفارقته في خطوةٍ واحدة دون حاجة إلى خطوتَين.٣

وأحيانًا يكون الجدل الداخلي، أي البرهان، صعبًا لا يتَّفق مع علوم الحكمة التي تقوم على البرهان لا على الجدل؛ مما يدل على بقاء علم الكلام، موضوعاته وبعض مناهجه، في علوم الحكمة؛ إذ يقوم إثبات المفارقات على براهين داخلية منها علم الكلام، دون الاكتفاء ببداهة التصور في الفلسفة؛ فعلوم الحكمة لم تتخلَّ بعدُ عن المنهج الجدلي.

والبراهين كلها في الحقيقة لا هي جدلية كلامية ولا برهانية فلسفية، بل هو اقتضاءٌ خلقي أو مطلبٌ نفسي تكشف عنه عبارات مثل «لا يصح»، «لا يجوز»، «يجب أن»، «من اللازم أن»، «يقتضي أن»، وهو طريق الأولى الأخلاقي.٤ وتعتمد كل الحجج على نفس القسمة التطهرية، الأول والثاني، الصورة والمادة، العلة والمعلول، الوجود والماهية، وكلٌّ منها يعتمد على الأخرى. وهو ليس استدلالًا، بل إيمان يبحث عن ذاته، إيمانٌ صريح يتحول إلى إيمانٍ مقنع، أو إيمان مقنع يكشف عن إيمان مسبق طبقًا لعملية التشكل الكاذب.

وبالرغم من وضع رسالة الفارابي وتركيزها إلا أنها رسالةٌ تطهرية عُلوية إشراقية لا تتَّفق مع فلسفته المنطقية العقلية‎. وهو نفس التضاد في فلسفة ابن سينا بين «الشفاء» و«النجاة» من ناحية، و«الإشارات والتنبيهات»، خاصةً في القسم الأخير عن «المقامات والأحوال»، بين الفلسفة العقلية المنطقية والفلسفة الصوفية الإشراقية. وهو نفس التضاد الذي وقع فيه أيضًا الرازي بين «القدماء الخمسة» والطب الروحاني. ولم يصمد أمام الإشراق إلا الكِندي العقلاني الطبيعي، المنطقي العلمي، وابن رشد المعتزلي الأرسطي. والمطلوب الآن ربما ليس إثبات «المفارقات»، بل تحقيق «الحالات» من أجل عودة الفكر إلى الواقع وتأثيره، والقضاء على الاغتراب الثقافي.

والله هو المُفارق الأول ولا سبب له، وهو العلة الأولى وواحد؛ فالوحدانية تأتي قبل سائر الصفات، الوصف السادس في علم أصول الدين.٥ ولا يزيد الفارابي أكثر من ذلك. كما يفصل في المفارقات الثلاثة، العقل والنفس الفلكية والنفس الإنسانية، نظرًا لقياس الغائب على الشاهد. وكل ما يُقال في المفارقات الثلاثة يُقاس عليه.

والعقل ليس واحدًا، بل هناك عقولٌ كثيرة. وكلها فعَّالة وليس فقط العقل العاشر. وترتبط المفارقة بالوحدة، وكأن الواحد لا يكون حالًّا، والكثير لا يكون مُفارقًا.

وهناك ستة براهين لإثبات العقول الفعَّالة؛ الأول أن اللازم الأول أحدي الذات؛ لأن الأول أحدي الذات من كل جهة، ويقتضي الواحد واحدًا، والواحد لا يكون إلا مُفارقًا، ولا يصدر عن الصورة إلا صورة، ولا يصدر عنها مادة أو صورة ومادة. والثاني الجسم مؤلَّف من مادة وصورة، ولا يستغني كلٌّ منهما عن الآخر؛ فلا بد أن يوجد كلاهما من ثالثٍ مُفارق. والثالث لو كان الجسم الفلكي سبب وجود جسم محوي للزِم أن يكون لعدم الخلاء سبب، والخلاء مُحال، والمُحال لا سبب له؛ لذلك كان الفلك مُفارقًا. والرابع النفوس الإنسانية مُفارقة، ويلزم أن تكون علَّتها مفارقة؛ لأن الجسم مُتأخر في الوجود عن المفارقات. ولو كان الجسم سبب المُفارق لأفاد وجودًا مثله وأتم منه، وكان وجود النفس الإنسانية من غير سبب، والجسم لا يُفيد وجودًا أكمل منه. والخامس النفوس الإنسانية تخرج من القوة إلى الفعل في المعقولات، ولا بد لذلك من قوةٍ تجعلها معقولة، وهو المُفارق. والسادس لا بد للحركة الدائمة من مُحرِّكٍ مُفارق.٦

والمُلاحَظ على هذه البراهين أنها تثبُت ببرهان الخُلف، وكأن الموضوع منطقيٌّ صِرف وليس وجوديًّا. كما أنها تقوم على افتراض التسليم بنظرية الفيض وخروج العقل الأول من الواحد، والعقل الثاني من الأول … إلخ. وماذا لو أُنكرَ الفيض، هل يسقط البرهان؟ وهل يقتضي التسليم بالمفارقات التسليم بالفيض بالضرورة؟ ألا يؤدي الخلق إلى القول بالمفارقات أيضًا على الأقل، الله والنفس؛ فبعد إثبات المُفارق الأول يستنبط المُفارق الثاني؛ لأن الفائض عن المُفارق مُفارق؟ وبعض البراهين يقوم في مقدماته على مسلَّمات مثل استحالة الخلاء، وهو افتراضٌ مسبق مأخوذ في البرهان على أنه مسلَّمة. كما يعتمد برهان على إثبات النفوس الإنسانية، وهي لم تثبت بعد؛ إذ يتضمن قفزةً كما تكشف عن ذلك عبارة «على ما سيأتي بعد». وفكرة «التقدم» و«التأخر» فكرةٌ إيمانية خالصة، مثل تقدم النفس على البدن كتقدم الله على العالم في الوجود، أو تقدم البدن على النفس مثل تقدم العالم على الله في المعرفة. وتقوم معظم البراهين على استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية؛ لأن نموذج اليقين عندها هو البرهان الطولي وليس الدائري. والبراهين كلها من نوع إثارة الغبار ثم الشكوى من عدم الرؤية، أو هي براهين افتراضية تبدأ ﺑ «لو»، بحيث يبحث العقل اتساقه مع نفسه، واستنباط نتائج مُتفقة مع مقدماتٍ افتراضية أصلًا لم يتم التثبُّت من صحتها. والبراهين صورٌ شعبية للتوفيق بين مُتعارضَين، المادة والصورة، والحاجة إلى شخصٍ ثالثٍ أعلى غير مُنحاز يجمعهما، وهو العقل المُفارق. وهذا ليس برهانًا عقليًّا، بل صورةٌ إنسانية بدليل لفظ «مُستغنٍ»، وهو لفظٌ إنساني وأسلوبٌ إنشائي وعباراتٌ صوفية مثل «أحدي الذات»؛ مما يدل على أنها ليست برهنةً عقلية، بل تجربةٌ صوفية. وفي نظرية القِدم لا توجد مفارقات؛ لأنها نظريةٌ حلولية.

وتُسمى النفس الفلكية أحيانًا بالقُوى السماوية أو النفوس السمائية، وليست نفوس الأفلاك. وهو تعبيرٌ شِعري أكثر من الفلك اللفظ العلمي. والحركة المُستديرة مُفارقة على عكس الحركة المُستقيمة؛ فالاستدارة تُقبَل في الفلك وليس في علاقة العلة بالمعلول. وتثبُت النفوس السمائية بثلاثة براهين؛ الأول أن الحركة الطبيعية تصدر عنها حالةٌ طبيعية، وهي حالة الحركة المُستديرة وليس السكون. والثاني أنها تتطلب أمرًا تسكن عنده على أقرب الطُّرق، وهي المُستقيمة. والثالث أن الطبيعة لا تقتضي هروبًا من مطلوب، والمُستديرة بخلافها؛ فهي إذن غير طبيعية، بل نفسانية اختيارية. ولأنها تختار جزءًا فهي ليست عقلًا. والبرهان على مفارقتها أن مطلوبها لا يصحُّ أن يكون حسيًّا ومن باب الشهوة والغضب، وإلا كانت تسكن عند إصابته؛ فهناك استنكاف من الشهوة والغضب، وهما أساس الخلق الإنساني. وكلها أدلةٌ ضعيفة صورية جدلية لا تُثبت شيئًا، وتهرب من الإسقاط الإنساني.٧

وتثبت النفوس الإنسانية كعلة لإثبات الأجسام؛ لأن الجسم لا يُثبت جسمًا، والجسم المُطلَق لا وجود له؛ فلا بد من مُقوم، وهو الجوهر، وخاصيته النمو والاغتذاء والإدراك والحركة، وهو النفس. وهناك أربعة براهين لإثبات مفارقة النفوس الإنسانية؛ الأول إدراك المعقولات، والمعقولات معانٍ مجردة، وكل مُدرك يحصل في المُدرك، وكل ما يحدث في الجسم يكون مؤثرًا فيه، ما لا بد للجسم في وجوده؛ فلو حدث معقول في الجسم لما كان معقولًا. والثاني الشعور بالذات، ولو كانت في آلة لِما شعرت بذاتها دون إدراك آلتها، وكان بينها وبين آلتها آلة، ويتسلسل إلى ما يُدرك ذاته. وكل موجود في آلة فذاتُه غيره. الثالث إدراك الأضداد معًا بحيث يمتنع أن توجد كذلك في المادة. الرابع الإقناع بأن العقل قد يقوى بعد الشيخوخة، وإذا كان مُفارقًا لا يفسد بفساد المادة. وهي الحجة المذكورة عند ابن سينا دون الإشارة إلى مصدرها.

وهذه البراهين الأربعة يمكن التساؤل حولَ كلٍّ منها. الأول: هل إدراك النفس المعقولات يجعلها مفارقة، وكيف يتم الانتقال من مستوى المعرفة إلى مستوى الوجود؟ والثاني: هل يعني الوعي بالذات بالضرورة المفارقة والانفصال عن الجسم؟ والثالث: هل يُثبت إدراك هذه الأضداد مفارقتها أم يُثبت فقط معرفتها ووجودها؟ والرابع: ألا تدل قوة العقل بعد الشيخوخة على النضج واكتساب الخبرات وليس على المفارقة، وإلا فما معنى العته عند الشيخوخة والنبوغ في الطفولة والصِّبا؟

والغرض من إثبات المفارقة غرضٌ ديني، وهو إثبات البعث. والبرهان على ذلك بقاء البسيط؛ بقاء العقل بالفعل وليس العقل الهيولانى. فالبقاء بالمعرفة وليس بالعمل الصالح، وليس للثواب والعقاب كما هو الحال في علم العقائد.٨

وبالرغم من دقة الفكر البرهاني إلا أن السؤال هو: هل يحتاج الإنسان إلى إثبات النفس وهو كائن يتحرك يشعر ويتألم ويفرح ويحزن؟ وهل براهين البعث صورية مجردة فارغة جدلية أم إحساس إنساني، الرغبة في الحياة بعد الموت، والشوق إلى الخلود، وتمنِّي عالم آخر يسوده العدل تعويضًا عن الظلم في الدنيا؟

واستمرَّت نظرية الفيض عند الشيعة الإسماعيلية عند أبي يعقوب السجستاني في «الينابيع»، وعند حميد الدين الكرماني في «راحة العقل».٩ وتتميز بزيادة ظهور الجانب الإنساني. وتزداد المراتب الأربعة في «الينابيع» من الله والعقل والنفس والعالم إلى الإنسان وتاريخ النبوة والمعاد؛ أي دور الإنسان في التاريخ. ماضي البشرية في النبوة، ومستقبلها في المعاد. ولا فرق بين الينبوع الروحاني والينبوع المادي؛ فكلاهما درجاتٌ مختلفة من التحقُّق والتعيُّن. والينابيع مثل الحدود الدينية؛ أي قواطع وفواصل.
وهناك أربعون ينبوعًا في خمس مراتب؛ الأول ثلاثة ينابيع في الله بمعنى المُبدِع وهُويته، ويعني الإبداع إضافة أمر إلى طرفَين. والثاني تسعة ينابيع في العقل الأول المُبدِع، وخلود العقل وسكونه وتمامه ومخاطبته للنفس. والثالث ثمانية ينابيع بين العقل والنفس بلغة الكِندي في الأيس والليس، والنفس الكلية وإفاضتها على الأنفس الجزئية للبشر، وقُوى النفس وحركاتها. والرابع ستة ينابيع في خلق العالم وابتداء الإنسان وعدد الملائكة، وفي استبعاد الشر من أصول الإبداع. والخامس في الإنسان والنبوة والمعاد.١٠ فالإبداع نشأة تكون؛ أي نشأة التاريخ مع الخلق. الإبداع نوع من الخلق المستمر؛ أي الفيض والتجلِّي، وخروج مرتبة من مرتبة في مراحل وعلى درجات، من العالم الروحي حتى العالم المادي. وبالرغم من أن الينابيع تُمثل الفيض إلا أنها التأسيس أيضًا بلغة الأوتاد.

هناك إحساس عند أبي يعقوب بالجدة لدرجة تقديس النص لأصالته، وهو محمَّل بالدلالات، بالإضافة إلى جمال العنوان، وتقسيم الكتاب طبقًا لبنية الموضوع. وبالرغم من إيجازه إلا أنه يتم الخروج عن الموضوع «لنعد إلى ما كنا في سبيله». يجمع بين البرهان وصفاء النفس. وبالرغم من صعوبة الأسلوب، ودرجته العالية في التجريد الفلسفي، وكلفته في السجع، إلا أنه مملوء بالمصطلحات الفلسفية والقرآنية مثل سدرة المنتهى. الغاية منه توضيح الأُسس النظرية والهدايات العملية.

ويستأنف العامري (٣٨١ﻫ) نظرية الفيض من رباعية إلى خماسية؛ ففي «الفصول في المعالم الإلهية»، ودون حمدلات أو بسملات أو دعوات، مراتب الوجود خمس؛ الله، وهو الموجود بالذات فوق الدهر وقبله. والقلم، وهو الموجود بالإبداع مع الدهر وقرينه. والعرش واللوح، وهما الموجودان بالخلق بعد الدهر وقبل الزمان. والأفلاك الدائرة في الأجرام العُلوية، وهي موجودة بالتسخير؛ أي بالطبع مع الزمان وقرينه. وأخيرًا الأسطقسات الأربعة، وهي الموجودة بالتوليد بعد الزمان وتكوينه. وكلها معانٍ ذاتية للوجود، أو حقيقة الوجود، أو مراتب الأشياء في حقيقة الوجود.

الله هو الأمر؛ أي الصورة الكلية، والعلم العقل الكلي، والعرش الفلك المستقيم، واللوح النفس الكلية؛ مما يُبرز عملية التشكل الكاذب بين الدين والفلسفة على مستوى الألفاظ.

الإحاطة بالموجودات من الخصوصية الإلهية؛ فالله مُحدِث العالم ومدبِّر الأشياء، والغنى الأكبر لمن له الخلق والأمر. والقلم هو العقل الكلي، وهو جوهر لا يتجزَّأ، يُحيط بالأكوان الطبيعية، ومملوء بالصور العقلية. وهو نوعان؛ إلهي يعقل ويدبِّر، ومنه يستمدُّ الأنبياء والحكماء المعارف، وهو عقل بالفعل يعقل ذاته. وعقلٌ بشري أو إنسي، وهو جوهرٌ قابل للعلم والحكمة. واللوح هو النفس الكلية، وهي ثلاثة أنواع؛ إلهية تدبِّر الطبيعة، وعقلية تفكِّر في الأشياء، وذاتية تُعطي الأجسام والصور. فالنفوس إما عقلية أو عادية، والطبيعية إما نفسانية أو طبيعية فحسب. جوهر النفس العقل وكمال الجسم. النفس من حيث التكوين في الزمان، ومن حيث العقل في الدهر. وهي أيضًا حامل الأخلاق.١١
أما القوى الطبيعية في الجوهر الإنسي فهي كالأساس للحيوانية، والتراكيب القويمة من الناس اختلفت في إنية الصانع بين دهري وزماني وروحاني وجسماني ووحداني ومتكثر، مما يدل على تعدُّد الرؤى الإنسانية. والجواهر على الحقيقة هي الصور دون المواد، وهي إما إلهية أو صناعية أو طبيعية، وكل جوهر قائم بذاته من النقص إلى الكمال.١٢

والسؤال هو: ما مدى تدخُّل الإرادة الإنسانية الحرة في هذ النسق الكوني لإفساح المجال لفلسفة في التاريخ تكون جماع القانون التاريخي والحرية الإنسانية؟

ففي «التقرير لأوجُه التقدير» يعرض العامري لنظرية الواجب والممكن والمستحيل بين الكلام والفلسفة لبيان فساد مذهب الجبر والقدر، وإفساح المجال للحرية الإنسانية. فالوجود ثلاثة أقسام؛ الواجب والممكن والممتنع. ولكلٍّ منها أقسام. فالواجب قسمان؛ الإلهي المُتفرد والإنساني؛ واجب بذاته، واجب بغيره. والتقدير الإلهي إبداع أو صنع أو تسخير. والقول في وجه التقدير وحساب الأفعال هو أن المعاني عقليةٌ محضة أو طبيعيةٌ محضة أو مشترطة بين الطبيعة والعقل. والمعرفة اليقينية بالمعاني المقدرة إما مبادئ أجسام أو لواحق أجسام أو ذوات أجسام، وأصناف صور الموجودات إما رياضية أو منطقية أو إلهية أو طبيعية؛ فكلما كانت مرتبة المعاني والصور أعلى وأكثر تجريدًا كانت مجالًا للقدرة الإلهية، وكلما كانت أقل تجريدًا وأكثر طبيعةً كنت مجالًا للقدرة الإنسانية.١٣
والممكن نوعان؛ ممكن مطلق وممكن تقلُّبي؛ أي نسبي. والممكن المطلق هو مجرد الإمكان الذي يكون فيه الوجود أكثر من اللاوجود، أو اللاوجود أكثر من الوجود، أو يتساوى فيه الوجود واللاوجود. أما الممكن النسبي فهو الإحداث؛ أي الوقوع، إحداث المعاني الاتفاقية أو المهنية أو الفكرية أو الطبيعية. ويكون الفعل في العالم بالإحالة والتغير، والتنمية والتنقيص، والتكوين والإفساد. أما الإمكان التقلبي فإنه ميدان الموجودات الناقصة. وهي إما قريبة من الكمال، أو بعيدة عن الكمال بسبب الفعل، أو بعيدة جدًّا عن الكمال بسبب المعرفة، أو بعيدة جدًّا جدًّا عن الكمال كالوهم. أما الممكن النادر فهو أيضًا واقعٌ فريد لا يتكرر. وإذ كان الممكن مطلقًا ونسبيًّا فأيضًا الممتنع مطلق ومقيَّد، وفي كلتا الحالتين لا يحدث الفعل إلا في الإمكان؛ وبالتالي يظهر فساد مذهب الجبر والقدر عن طريق قسمة الوجود ودرجة عالية من التنظير.١٤

وفي «إنقاذ البشر من الجبر والقدر» يُحلل العامري الفعل الإنساني ابتداءً من النفسانيات والأفعال مباشرةً دون المرور بقسمة الوجود، ويُدافع عن حرية الأفعال عن طريق تحليل قُوى النفس.

وينقسم الفعل أيضًا باعتباره أحد مظاهر الوجود إلى الواجب والممكن والممتنع طبقًا لأحكام العقل الثلاثة. وينقسم الممتنع إلى الفاعل والعنصر والمشترك بينهما، كما ينقسم إلى ضروري وإرادي. والضروري إلى قهري كالنبات، وطبيعي كالنار مُتجهة إلى أعلى. وينقسم الإرادي إلى شوقي محسوس وفكري كأفعال الصلاة والصوم. وأفعال الشريعة إرادية فكرية.

وما يهمُّ هي أسباب الفعل لمعرفة نسبته من الضرورة والحرية؛ فالفعل إما متَّحد أو مُباين، مُتقدم أو مُتأخر، بالقوة أو بالفعل، ذاتي أو عرَضي، فعل أو انفعال؛ مما يسمح بتدخُّل الإرادة الإنسانية كعلةٍ صورية أو غائية أو فاعلة أو مادية. ويمكن حدوث أفعال مختلفة من فاعلٍ واحد عن طريقة الاستعانة الذاتية، أو بالآلات أو بالتأثير أو بالتوليد؛ ومن ثَم للإنسان أفعالٌ داخلية مثل التوفيق والخذلان في علم الكلام، وأفعال خارجية في العالم.١٥ والإنسان خالق أفعاله كما هو الحال عند المعتزلة، طبقًا لقاعدة الصلاح والأصلح. والعقل أعظم حجج الله على خلقه.١٦ وواضحٌ ارتباط علوم الحكمة بالأشعرية كإطارٍ عام، الجمع بين الإرادتَين الإلهية والبشرية مع أن القصد معتزلي.
ثم تبرُز الفلسفة السياسية من خلال نظرية الفيض؛ فالإمام طبيب العالم، وهو الذي يُعالج العالم إذا مرض، ويحفظ عليه صحته إذا برئ. وذلك ضد احتمالَين؛ الأول الملك التغلبي الذي يقوم على القهر، وهو حكمٌ قبيح لذاته يتراءى للنفوس الفاسدة أنه حسن؛ والتجاذب الهرجي الذي يقوم على الفوضى، وهو مؤلم بذاته ويتراءى للنفوس الفاسدة أنه مُلذ. ولا يُعالج القهرَ والفوضى إلا الملكُ الطبيب بقوة العقل، وهو بالنسبة للمدينة كالله بالنسبة إلى العالم. هناك تقابلٌ كلي بين مراتب الفيض والعقل والنفس والطبيعة والبدن ومراتب المجتمع؛ الحكمة والشريعة والملك والمدن. قوام البدن بالطبيعة، وقوام الطبيعة بالنفس، وقوام النفس بالعقل. كذلك قوام المدن بالملك، وقوام الملك بالشريعة، وقوام الشريعة بالحكمة؛ لأنها تصدر عن الحكيم العليم. ومتى ظهرت الفاحشة في المدينة فارَقتها الحكمة، ومتى زالت زينة الملك حطَّت الفتنة أعلام المروءة، وعثرت بذوي النِّعم عواثر النِّقم. وقوة فكر الملك أبلغ في حراسة الملك من قوة الجند، والجهل في مبادئ الأمر يضرُّ في عاقبتها وفي كل ما يتبعه، والجهل في أواخره يقتصر في مضرَّته على الشيء المجهول.١٧ وكما تبرُز الفلسفة السياسية من ثنايا نظرية الفيض تبرُز فلسفة التاريخ، قيام الدول وانهيارها، من ثنايا الفلسفة السياسية التي هي في حقيقتها فلسفةٌ اجتماعية، وحقيقتها في الفلسفة الأخلاقية.١٨

(ب) فيض المعارف ونظرية النبوة

والنبوة علاقةٌ مُتبادلة بين الأعلى والأدنى، بين إرسال الرسل والرؤيا والمنامات ثم العودة إلى الله عن طريق العمل الصالح ونيل السعادة في المعاد.

إذ تنتهي «الدعاوى القلبية» للفارابي بالمعجزات والدعاء والرؤيا والمنامات والأنبياء والغيبيات والعبادات والشرائع، تكشف القناع عن التشكل الكاذب ابتداءً من حدوث النفس ومفارقتها للبدن وسعادتها وشقاوتها بعد الموت، وجود الخير في العالم وغياب الشر.١٩ فللأنبياء معجزات، وأن الرؤيا والمنامات درجة من درجات النبوة، وأن علوم الأنبياء لدنيةٌ غير مكتسَبة، وأنهم يخبرون بالمغيَّبات، وأن الشرائع والأحكام والأوامر والنواهي واجبة الطاعة. هذا من حيث النزول، أما من حيث الصعود فالدعاء مستجاب، والعبادات واجب، وكمال الإنسان بالعلم والعمل، وأن السعادة العظمة والدرجة الرفيعة الحكمة الحقيقية.
والنفس القدسية النبوية في ابتداء نشوتها تقبل الفيض دفعةً واحدةً دون قياس، أما النفس غير القدسية فإنها تقبل العلوم بالواسطة والقياس. والنبي يضع للناس الشرائع، ويأخذ الأمة بالترغيب والترهيب، ويُعرفهم بالجزاء، الثواب والعقاب، طبقًا للأعمال دون تكليف بما لا يُطاق.٢٠ النبوة هنا علاقةٌ رأسية بين الله والنبي، بين العقل الفعَّال والنفس، النبوة الرأسية وليست النبوة الأفقية. والنبي هو الذي يضع السنن والشرائع، وكأنها لا تقوم على أُسسٍ وضعية ومصالح الناس. ويأخذ النبي الناس بالترغيب والترهيب؛ أي بمنطق الإيحاء وليس بمنطق البرهان، وجدل الطمع والخوف. ورتبة النبي أعلى من رتبة العالم، مع أن العلماء ورثة الأنبياء. فالنبوة من الله، والعلم من الطبيعة، مع أن أسباب النزول تجعل الوحي من الواقع، والعلم الطبيعي به قدر من الإلهام والحدس. والنبي معصوم، والعالم يُخطئ ويُصيب، مع أن القرآن قد صحَّح محمدًا عندما عبس في وجه الأعمى، وموسى قتل المصري، وداود قتل الضابط ليأخذ زوجته. والله يحفظ النبي من السوء في حين أن العالم يحرق، مع أن المسيح قد أُسيء إليه، وعُذب الأنبياء، وبعض العلماء قدَّرهم المجتمع ونالوا أرفع الدرجات. والملك الفيلسوف عند القدماء هو النبي في الحضارة الجديدة، والذي يُوحى إليه. والوحي هو توسُّط العقل المستفاد بين العقل المُستفعل والعقل الفعَّال؛ فالوحي علاقةٌ رأسية وليس علاقةً أفقية. العقل الفعَّال يُمثل الله، والعقل المستفاد وعقل النبي، والعقل المُنفعل مثل عقول سائر البشر.٢١
ويؤسِّس العامري نظريته في «الإبصار والمبصر» بناءً على فيض المعارف في النفس، وارتقاء المعارف من الحس إلى العقل إلى الروح.٢٢ ويقسِّم نظرية الإبصار إلى ثلاثة أقسام؛ المُبصر وهو حاسة البصر، ثم المدركات البصرية أي موضوع الإبصار، ثم العلاقة بين الحاسة والموضوع، بين الرائي والمرئي.٢٣
وينقسم المبصر إلى أربعة أقسام؛ الجسداني، ويُشارك فيه الإنسان والحيوان، ورؤية العقول الصحيحة لحقائق المعاني الكلية، ورؤية الأرواح المقدسة، ورؤية النفوس الناطقة بفضل قواها المتخيلة. والثلاث الأخيرة يتفرَّد بها الإنسان.٢٤
أما المدركات بحاسة البصر فنوعان؛ مُتكثر بالموضوع واحد بالحدود، وواحد بالموضوع مُتكثر بالحدود. وذلك لأن الوجود إما إضافي أو ذاتي، والأجسام إما غير مُشفَّة أو مُشفقة؛ فالإدراك إذن يرتقي من الكثير إلى الواحد، ومن الإضافي إلى الذاتي، ومن المُعتم إلى الشفَّاف. وأعلى درجة في الإدراك عن طريق النُّسك العقلي كما عبَّر عن ذلك حكماء فارس.٢٥

(٢) التاريخ الصاعد (نظرية الإشراق)

إذا كان التاريخ النازل هو تاريخ الكون فإن التاريخ الصاعد هو تاريخ الروح، تفيض النفس عن بارئها أولًا ثم تعود إليه ثانيًا. وكما يأخذ النبي من أعلى الفيض والعلم والوحي والإلهام، فإنه يُعطي الناس مُنبهات العودة مثل الصلاة والزكاة؛ فالصلاة تضرُّع وتجريد واستعداد لقبول فيض الرحمة وتذكُّر الله ورسوله، والزكاة عدل وإنصاف وحق الفقراء، وبه يبقى النظام الكلي للعالم، وكذلك الأمر في سائر العبادات التي فيها صلاح الأخلاق، وتجريد النفس وتصفيتها عن العوائق. فينال الإنسان لذَّاتٍ حسيةً ولذَّاتٍ عقلية؛ الأولى للعامة، والثانية للخاصة.٢٦ وهل الشرع هو العبادات أم المعاملات؟ وهل الغاية من الصلاة قبول فيض الرحمة أم الفائدة العلمية للبدن، والإحساس بالوقت، والتركيز على النفس، ونقاء الضمير؟ وهل الزكاة من أجل المحافظة على النظام الكوني أم من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، ومُنبه على أن للفقراء حقًّا في أموال الأغنياء، وتغيير النُّظم الجائرة؟ وهل وظيفة الشرع الحصول على لذَّاتٍ حسية أو عقلية للعامة أو للخاصة أم لتحقيق مصالح الناس؟ وقد تتم العودة إلى المبدأ على نحوٍ صوفي عن طريق علاقة المُريد بالشيخ. وشروط المُريد تسعة؛ الشباب، وفراغ القلب، والزهد في الدنيا، وصحة المزاج، وحب العلم، والصدق، والعدل الطبيعي، والأمانة، والتدين دون الإخلال بالواجبات الشرعية ضد إسقاط التكاليف عند بعض الصوفية؛ مما يدل عن حربٍ خفيَّة بين الفلاسفة الصوفية لاستئثارِ كلٍّ منهما بالنظرية الإشراقية.
وفي أمور المعاد تتوالى شروطٌ أخرى مثل تجنُّب الحرام، والاتفاق مع الجمهور في الرسوم والعادات، وتجنُّب الفظاظة وسوء الخلق، والترحُّم على من دونه في الرتبة، واحترام ما فوقه أو مثله في الرتبة، وألا يكون أكولًا ولا مُستهتكًا ولا خائفًا من الموت ولا جمع المال إلا بقدر الحاجة، والعلم حتى ممن هو دونه في المرتبة، وترك الوقيعة بين الناس، وإعطاء النصيحة، وحسن المخالطة، وقول الخير والصدق. وهي مجموعة النصائح العملية لممارسة الحكمة، معظمها إنشائي خطابي تعليمي، ما ينبغي أن يكون وليس التحليل النفسي الاجتماعي للفضائل والرذائل. يستبعد التأويل حتى للخاصة لصالح الالتزام الحرفي بأوامر النبي وعادة الجمهور، ويخرج عن الفلسفة كبحثٍ نظري لإعطاء نصائح في السلوك والأخلاق العملية. وتقوم النصائح على احترام السلم الاجتماعي وتبرير الميراث، وترك شيء للعيال أفضل من ترك لا شيء. وعدم جواز التكسب بالعلم ربما تصوُّر يوناني، نموذج سقراط في مواجهة السوفسطائيين، في حين أن الاشتغال بالعلم وبالكسب سنة الفقهاء والمتكلمين، كالنجار والحداد والغزال والنشار والزجاج. هو أقرب إلى التصور الصوفي؛ فالعلم كنزٌ مدفونٌ يفوز به من سهَّل الله طريقه إليه، وليس العلم استقراءً للطبيعة، يقوم به كل عالم دونما حجة إلى تدخُّل خارجي غير مشروط بالإبداع العلمي. ويُخاطب الفارابي القارئ أشبه بالدعاة للمُريدين.٢٧

(أ) الأدعية الأخروية (الفارابي)

وفي «دعاء عظيم» يظهر الفارابي صوفيًّا يبتهل إلى الله. يُقدم خمسة عشر دعاءً، ثلاثة منها تضم حججًا نقلية على غير عادة الفلاسفة، يتَّضح فيها الدين الصريح المُختفي وراء الدين المؤوَّل؛ أي الحكمة، وكما هو الحال في آخر «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا. ويُشير الفارابي إلى «إخوان الصفا وأصحاب الوفا» ليس بالضرورة إلى الفرقة التاريخية، بل ربما كان المصطلح على الشيوع.

وفي الأدعية مصطلحاتٌ فلسفية من الإلهيات والطبيعيات تكشف عن التشكل الكاذب، وأحيانًا تتجاور المصطلحات الفلسفية والدينية مثل الدعوة بتهذيب النفس من طبيعة الهيولى «إنك أنت العلة الأولى»، بجوار عبارات إسلامية مثل «اللهم أرِني الحق حقًّا وارزقني اتباعه، وأرِني الباطل باطلًا وارزقني اجتنابه»، مثل خطب الجمعة. ويغلب أسلوب السجع حتى يسهل تذوُّقه صوفيًّا وأدبيًّا، تجمع بين النثر والشعر.٢٨ وكلاهما منظومةٌ نفسية مثل الأراجيز المُتأخرة، وهو شعرٌ ركيك يستعمل مصطلحات طبيعية وليست شعرية، الغاية الفكر والعقيدة وليس الصورة الغنية، أربعة عشر دعاءً تبدأ بلفظ «اللهم»، وتُشبه ابتهالات الصوفية.٢٩ وتظهر بعض التعبيرات القرآنية، مثل: الجوار الكُنس، روح القدس، الحكمة البالغة، الملائكة. وأحيانًا يكون الدعاء مجازًا في حاجة إلى تأويل.

ويصعب تصنيف الأدعية بين الإلهيات والطبيعيات والإنسانيات؛ لأنها كلها تتَّجه نحو التصوف مُخترقةً العلوم كلها إلى الله. وتخلو من الأدعية المنطقية لصعوبة استعمال مصطلحات المنطق في الابتهالات. وكثير منها قيل وقال؛ أي إنها مجرد تجميع من الآخرين حول موضوع واحد هو الأنبياء، وأفكار مُتفقة مع الفارابي، فهو تأليفٌ غير مباشر.

وأحيانًا يتم التوجُّه مباشرةً من الله إلى الإنسان أو من الإنسان إلى الله دون توسُّط الطبيعة؛ لذلك تُستعمل نظرية الفيض والاتصال بالعقل الفعَّال؛ مما يجعله دعاء الخاصة وليس العامة.

وتقوم الأدعية كلها على نظرةٍ ثنائية تطهُّرية بين الله والعالم، النفس والبدن، الكفاية والحكمة، الكفاية تقطع العلائق مع الدنيا، والحكمة لاتحاد النفس بالله. الأولى لقطع العلاقة مع الأرض، والثانية لربطها بالسماء. فالسماء أفضل من الأرض. وتُستعمل لغة النور والظُّلمة والعقل الفعَّال والعقل المُنفعل، والعقل والقوة، والرؤية الصادقة، في مُقابل أضغات الأحلام.

الله هو واجب الوجود، علة العِلل، قديم لم يزل، التوحيد والتنزيه والتفرد بالحدية كما يصف الصوفية، الواجب دون السالب، القمة دون القاعدة، الجوهر دون الأعراض، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. بالآية شعر الطبيعة، ولغة الأشياء، تدل على قصر العلم الإنساني وحدود اللغة البشرية.

وترك الدنيا للهداية والتقوى، وكراهية البدن ومحبة النفس، ورفض الطبيعة وعشق الروح. وتُقهَر الشهوات، ويتم التحول من الفناء إلى البقاء، وطلب الجواهر الشريفة في الجنَّات العالية، ومصير النفس في السماء والمقام القدسي.

والسؤال هو: هل العالم والطبيعة سجن؟ وهل الله سجَّان؟ وبعد السجن يأتي الافتراس، افتراس السجين بالشهوات؛ فالصورة للإنسان السجين المعذَّب الذي تنهش الحشرات لحمه وتلدغه الهوام! والنفس مدانة، والمطلوب تطهيرها من الأوساخ، أوساخ الحس وكدر الطبيعة، مع أن الحس أحد وسائل المعرفة، والطبيعة خيِّرة. ويستجدي الإنسان العصمة، مع أن كل بني آدم خطَّاءون، وخير الخطَّائين التوَّابون، ويستجدي الرحمة، وهو إخلال بشروط التوبة.

كل شيء في الشعور من أفعال الله، مثل الهداية والكفاية والإيواء، كما هو الحال عند الأشعرية؛ ومن ثَم تتحول الحكمة إلى تصوف، والفلسفة إلى كشف، والعقل إلى قلب، وينتهي الفارابي المنطقي إلى الفارابي الصوفي.٣٠ وتتحقق المطالب الإنسانية بمجرد الدعاء كما هو الحال في الأدعية الشعبية للعاجزين، اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وقد نقد إقبال فلسفة السؤال واستجداء الفعل والنصر من عنده تعالى.٣١
وتظهر نفس الروح في «من الأسئلة الكلامية والأجوبة الجامعة»، وهي مجرد أقوال مُتفرقة دون نسق أو بنية من نوع الحِكم والأمثال، خمسة عشر قولًا عن الحب والإنسان وتفسير الآية وألفاظ الأحد والمؤمن وموضوعات العلم والعقل والعالم الطبيعي، والصبر والظرفي، والشمس والقمر والتدبير، وأفضل المواعظ، والسبعة في الجنة، والأمة. تتداخل فيها موضوعات المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة؛ موضوعان لتفسير آيتين، وأكثر من نِصفها يبدو بقيل وقال وسئل. والقائل هو الحكيم أو أهل اللغة.٣٢

والتفسير لآية وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. والعبادة هنا عند المُفسرين التوحيد، تحويلًا للنص إلى تصور، والآية إلى معنًى. وتفسير آية وَمِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا؛ أي خروج الضد من الضد، وليس فقط تفسيرًا صناعيًّا طبيعيًّا في أنواع الشجر. ولفظ الأجر أبلغ لأنه خارج عن الواحد العددي، ومنه وحيد ومُتوحد؛ أي مُتفرد.

وهناك قولان في العلم؛ أنه لا حياء في العلم ولا رياء فيه، وأن العلم يُعطي العزة في النهاية، ولا يأتي إلا بذل في البداية، مع أن التعليم يُعطي الكرامة والإحساس بالعزة في البداية والنهاية. ربما كان المقصود إذلال الشيخ للمُريد حتى يروِّضه على الطاعة، ويُميت إرادته من أجل استقبال الأوامر الإلهية. والعقل لغويًّا من الحبس، حبس الأشياء في مواضعها، عقل اللسان مثل عقل البعير، ويعني كفَّه عن القول.

والعالم الطبيعي ما تحت فلك القمر إلى مركز الأرض. وسُميت الشمس شمسًا والقمر قمرًا لأن الشمس تدنو في الصيف وتبتعد في الشتاء، مثل الدابة الشَّموس التي تقترب تُطيع تارةً، وتجمح تارةً أخرى. والقمر يزداد تارةً وينقص تارة؛ لذلك سُمي المُقامر مُقامرًا.

والمؤمن مُطيع للمولى ومُبغض للدنيا. زادُه التقوى، وكلامه الذكرى وليس المُناضل فيها. والأدب مفارقة الهوى واجتماع خصال الخير ومراقبة الرضا، ومن المأدبة؛ أي اجتماع لطائف الأغذية. والصبر حبس النفس عما تُنازع إليه، والحبس أفضل من الانطلاق الحر، حبس في الداخل وحبس في الخارج. ومن ترك التدبير عاش في راحة، كما هو الحال عند الصوفية في إسقاط التدبير. والظريف هو الخفيف في ذاته دون تكلُّف، وكما هو الحال عند الظرفاء. ومن النصائح العملية عدم الإطالة عند المريض. وسبعة في الجنة خير من الجنة؛ زيارة الآباء والأمهات والأقرباء، وزيارة الأنبياء، وخدمة الملائكة، ورحمة الله، وذِكر الله، وسلام الله، ورؤية الله.٣٣

(ب) الحكمة الخالدة (مسكويه)

وقد اتَّفقت حكمة الشعوب بصرف النظر عن ثقافتها الخاصة على طريق الخلاص، وهي مقامات الصوفية التي يغلب عليها معظمها الطابع السلبي، مثل الشكر والرضا والقناعة والزهد والتوكل والفقر؛ فهي تُمثل الخبرة البشرية عبر التاريخ، الحكمة الواحدة التي انتهت إليها تجارب البشر، الصعود إلى الله، وترك العالم والزهد فيه. فالتصوف هو حكمة البشر وخلاصة تجربة الشعوب؛ أي الهروب من العالم والفرار من الناس، والاغتراب فيه خارجًا عنه، وربما دون العودة إليه.

وهي أقوالٌ مُتفرقة مُنتقاة من أقوال فارس والهند والروم والعرب قبل الإسلام والإسلاميين المُحدثين. الاختلاف في المصدر، والاتفاق في الغاية. وحكم العرب كلها من الإسلاميين، وكأن الصحابة والصوفية وعلي بن أبي طالب المصدر الرئيسي للحكم. معظمهم من العرب أكثر منهم من الإسلاميين. فالعرب هم المسلمون؛ لأن الإسلاميين المحدثين هم الحكماء، الفارابي والعامري، أو الأدباء مثل ابن المقفع (مع فقرة لأفلاطون العربي)، وهو فارسي الأصل، والفُرس حمَلة لواء العلم والحضارة من الإسلاميين المحدثين. ويغيب الكِندي وابن سينا والسجستاني وأعلام الشيعة، ربما لخلاف مسكويه مع ابن سينا؛ فالانفعالات الإنسانية تكمن أحيانًا وراء تدوين التاريخ، والعوامل الفردية في جدل مع العوامل الموضوعية. ويبرز علي بن أبي طالب وكأنه زعيم الصوفية في أقواله المرويَّة عنه، وكلها تؤدي إلى ترك الدنيا بمن فيها على من فيها، إحساسًا عامًّا بفناء العالم وتقاتل الناس عليه، وإيثار الآخرة على الدنيا، وتُروى عنه أحاديث قدسية، بالإضافة إلى أقوال أئمة الشيعة مثل محمد بن الحنفية.٣٤ وتغيب السياسة عن حكم العرب، ويعمُّ الاغتراب الصوفي في الله والآخرة. وليس للعرب في الأخلاق الاجتماعية شيء؛ فكلها إسلامية؛ فالعرب والإسلام والتصوف شيءٌ واحد. والاستثناء هو حِكم ابن المقفع التي غلب عليها الفكر السياسي، وهو ينتسب إلى حكمة فارس.

ومعظمها نصوصٌ مُختارة، أقوال وحوارات وحكايات وأمثال، يقل فيها التحليل العقلي الخالص، أشبه بتأليف الفقهاء والرواة، في حين أن «تهذيب الأخلاق» يعتمد فيه مسكويه على التحليل العقلي الخالص والبرهان الفلسفي، بل إن حكمة الإسلاميين المحدثين أقلها اعتمادًا على الحجج العقلية.

ولا يهمُّ ترتيب حكم الشعوب ولا ترتيب مقامات الصوفية، بل المهم هو ماهية الحكمة ودلالتها على الطريق إلى الله والخلاص من العالم.٣٥

وأحيانًا تتمُّ الإشارة العابرة إلى بعض القيم الأخلاقية، وأحيانًا يتم تفصيلها؛ فمن القيم العابرة الشكر والإخلاص والإنابة والاستسلام واليقين؛ فمن عرف الابتداء شكر، ومن عرف الانتهاء أخلص. ورأس اليقين المعرفة بالله.

والإيمان هو التصديق بما ينبغي أن يُصدَّق به، وهذا التصديق لا يكون إلا بالعقل، ولا يبحث العاقل عما استيقن به من الأمر، ولا يمتنع عن البحث عما شك فيه. ومن أتاه الله سعة في الفهم وقوة في العقل فقد أتاه السلطان الذي يملك به نفسه، ومن ملك نفسه بسلطان العقل قلَّ أسفه على ما فات. وذوو العقل هم أولو الأمر. ولو صُوِّر العقل لأظلمت عنده الشمس، ولو صُوِّر الجهل لأضاءت عنده الظُّلمة. وهو عقل في حاجة إلى تجربة؛ فالرأي أيضًا نابع من التجربة. وقد قيل: خذوا عن أهل التجارب، والأمور لا تصلح إلا بقرائنها.

كما تحتاج عقول البشر إلى عون من الخارج؛ أي الإلهام النبوي والتأييد الإلهي. كما تحتاج الطباع إلى قمعٍ تدبيري، والشهوات إلى ردعٍ تحكيمي، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء. فإما أن يكون العقل مستقلًّا في البرهان أو أن يكون قاصرًا في حاجة إلى مددٍ خارجي، وإما أن تكون الفطرة خيِّرة أو أن تكون في حاجة إلى قمع باسم الشريعة. فإذا ما شعر العقل بقصره لجأ إلى الشريعة الإلهية حتى يثق العقل الإنساني الجزئي بالعقل الإلهي الكلي. وقد وهب الله لكل ذي قوة يستعين بها على دفع مكائد الشيطان.٣٦

والطبيعة أمَة العقل، والعقل عبد للمُبدِع الأول عند سقراط. وحياء الإنسان عندما يكون جاهلًا على الكبير أعظم؛ فالعقل مناط العلم، وأعظم لذة محادثةُ العلماء وقراءة كتب الحكمة، ومن صحَّ فِكره أتاه الإلهام، ومن دام اجتهاده أتاه التوفيق.

والعقل والطبيعة قرينان، فإذا كان سقراط ركَّز على العقل فقد أبرز أرسطو دور الطبيعة؛ فالغريزي خلقةٌ انفرد بها الخالق عند أرسطو. والطبيعة هي الحامل للأخلاق، مثل الأدب والعفاف، وهي حامل أيضًا للأدب الصحيح كما يرى أفلاطون والقرآن في سورة الشعراء، ونقده الشعر الكاذب كما نقد أفلاطون الجدليين والخطباء والمُلحنين والمشَّائين والمُلهين واللعَّابين ضروب اللعب. والطريق المؤدي إلى الأدب الصحيح هو حب الجهاد، والبقاء على الحذر والاستعداد، وعين لا تسكن، ولسان لا يفتُر، وإنارة القلوب في الصدور الخَرِبة، ووضع الحكمة فيها، وإماتة الجهالة، الزهد في الدنيا، والامتناع عن شهواتها، والفكر الطويل، والتعجب الدائم، والاعتبار بمن اغترَّ بالدنيا، ومن وقف على حدود التجربة، وبالغني الذي خرج بما ليس له، والفقير الذي حزن على فوت ما يشقى به الغني، والقدرة على إظهار الحكمة في سلطانه، العقل والطبيعة والكمال شيءٌ واحد؛ فالله في العقل وفي الطبيعة وفي النفس.

ومن سُوس العقل الصريح التفرقة بين الحسن والقبيح، ثم السكون إلى الحسن، والنفور من القبيح. وقد يُمدَح الشيء كذبًا وزورًا وهو مذموم، كما يُذَم الشيء كذبًا وزورًا وهو ممدوح، فيعرض للعقل الناقص انخداع واغترار.٣٧

والإيمان على درجاتٍ ست من أدنى إلى أعلى؛ الخوف ثم الرجاء ثم اليقين ثم الحب ثم الاتصال ثم الاتحاد، جمعًا بين أحوال الصوفية مثل الخوف والرجاء، وبين مقاماتهم مثل اليقين والمحبة. والكفر أيضًا على درجاتٍ ست من أدنى إلى أعلى؛ الزيغ ثم الرين ثم الغشاوة ثم الطبع ثم الخلاف ثم القفل. والاتحاد هو العدول عن الحق إما باللجاج والمعاندة، أو بالعادة والاقتداء بالغُواة من الجمهور، أو بالقصور عن النظر. والفاضل من اطَّرح العناد، وترك تقليد غيره، ونظر إلى نفسه.

وفي مُقابل الإيمان والكفر من جانب الإنسان يأتي القبول والطرد من جانب الله. فدرجات القبول من الله للمؤمنين أيضًا ست من أدنى إلى أعلى؛ الارتضاء ثم التقريب ثم الاجتباء ثم الاصطفاء ثم الاستخلاص ثم الرفع بالإجلال. ودرجات الرد من الله للكافرين أيضًا ست من أدنى إلى أعلى؛ الحط ثم القطع ثم الإبعاد ثم الطرد ثم الخسأة ثم الطرح.٣٨

والإيمان مقرونٌ بالعمل؛ فأصل الأمر في الدين اعتقاد الإيمان وتجنُّب الكبائر وتأدية الفرائض. الإيمان قدرة على العمل.

والعلم قيمةٌ تؤدي إلى المعرفة واليقين. ومراتب اليقين من أدنى إلى أعلى أربعة؛ تبصرة الفطنة، ثم تأويل الحكمة، ثم موعظة العبرة، ثم سنة الأولين. وقد يكون العالم من أهل الحق أو من فروع الحق أو قصده الحق أو ضد الحق. والحق إما ظاهر يُعرَف بنفسه، أو غامض يُعرَف بالدليل. والعلم مُتنوع؛ فالإغراق في علمٍ واحد ليس من شأن العلماء والحكماء أو السراة والرؤساء، بل الأخذ من كل فن. وإنما يتفرد بعلمٍ واحد من يُحب المِراء والتكسُّب. وهو قول ابن شُبرمة.

والعلم من أمور العباد مع الحلم والعفاف والعدالة. ومن أعمال البر العلم بالسنن، والعمل بإصابة السنن، وسلامة الصدر بإماتة الحسد، والزهد بالصبر. وأربعة أشياء تُقوي على العمل؛ التوفيق والعزم والصحة والغنى. وطريق النجاة إما سبيل الهدى، أو كمال التقى، أو طيب الغذاء.

وأشد الناس عداوةً عند الموت العلماء المُفرطون. والعابد الأحمق والعالم الفاجر فتنة لكل مفتون. وممن يلقون الجواب سريعًا الرجل العالم الموفق للخير بتعليم دين الله. وممن ينبغي أن يُسفَّهوا ويُحكَم عليهم بالحمق المُفتي في الدين وهو لا يعرف الفقه ولا يقتبس العلم من موضعه.٣٩
العلم والعمل إذًا واجهتان لعملةٍ واحدة. هما قرينان كمقارنة الروح للجسد، لا ينفع أحدهما دون الآخر. العلم روح، والعمل بدن. العلم أصل، والعمل فرع. العلم والد، والعمل مولود. كان العلم فكان العمل، ولو لم يكن العلم لما كان العمل. والغاية من الكد في العلم الْتِماس صلاح الدين والدنيا، وأفضل البشر ملاك العلم والعمل، وملاك العمل بالسنة وإصابة السنة ولزوم القصد. والله ليس بغافل عمَّا يعلم الإنسان إن لم يعمل بما يعلم. ومن لم يكن كلامه مُوافقًا لفعله فإنه يُوبِّخ نفسه. ولما وجد القوم الكلام أهون من العمل كثُر الواصفون وقلَّ الموصوفون. وقد أبى الله إلا أن يعقل القول بالعمل. ولا تكفي الكتابة دون العمل. المبادرة بالعمل تحمي من كذب الأمل وتحقق قبل الأجل. وأدوم الإخاء العمل الصالح، وأمقت الرجال الفقيه الفاجر.٤٠
والصبر احتمال الأمور المؤلمة والمكاره الحادثة. وهو نوعان؛ صبر على ما تهوى النفس، وصبر على ما تكره. وقد يفضل أحدهما على الآخر. وهو صبر على الطاعات وصبر على المعاصي. الصبر المحمود هو الثبات، ويُقرَن بالشكر، وهو صائر إلى كل ظفر، ويُقرَن به التأنِّي وعدم العجلة؛ فالحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة، إلا أنه في الثقافة الشعبية الصبرُ رذيلة؛ فقد قبِل الناس الضَّيم، واستكانوا له، وتعوَّدوا عليه، حتى أُصيبوا بالنفور واللامبالاة، كما عبَّر عن ذلك أحد المُصلِحين المُحدَثين.٤١ والكمال في ثلاث؛ العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التقدير في المعيشة. وذروة الإيمان أربع خلال؛ الصبر في الحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص بالتوكل، والاستسلام للرب. والصبر حماية من الفتنة وشفقة منها.

والقضاء والقدر من نفس النوع؛ فإذا كان الداء من السماء بطل الدواء، وإذا قدر الرب بطل حذر. القدر علة ما هو كائن، والعمل علة ما لم يكن. والدليل على أن القدر حقٌّ أن الأمور تأتي لأهل الجهل بجهلهم، وتمتنع على العلماء بعلمهم، وكأن الحياة عبث. ومن سرور الدنيا الرضا بالقسم والعمل بالطاعة في النِّعم، وعدم الاهتمام برزق الغد، والعالم كله يهتم بالمستقبليات؛ فالقدر هو الفاعل الحق، والفعل الإنساني باطل.

وإذا كانت خمسة أفعال للبشر بالاجتهاد والعمل كالعلوم والعمارات والصناعات والفروسية والفقه، وخمسة أخرى بالعادة كالأكل والنوم والمشي والجماع والتغوط، وخمسة أخرى بالجوهر، أي بالطبيعة، كالخيرية والتواصل والسخاء والثقة والاستقامة، وخمسة أخرى بالوراثة كالذهن والحفظ والشجاعة والجمال والبهاء، مع أن البعض منه بالاكتساب، فهل هناك خمسة أخرى بالقضاء والقدر، كالأهل والولد والعمر والمال والسلطان؟ إذا كان الإنسان لا يختار أهله ولا ولده ولا عمره، بالرغم من أن الأمراض وحوادث الطريق وأسباب الموت في مقدور الإنسان تجنُّبها بقوانين المرور والطب ووسائل العلاج، فإن المال والسلطان ليسا بالقضاء والقدر، فالمال من كسب الإنسان، والنظام السياسي عقد وبيعة واختيار.٤٢ وذروة الإيمان أربع خصال؛ الصبر في الحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص بالتوكل، والاستسلام للرب. والصبر حماية من الفتنة وشفقة منها.

ومع الصبر والقضاء والقدر يأتي الرضا والتوكل والقناعة؛ فمع الرضا يطيب العيش، وأقل الرجال هم أفضلهم رضًا، وأفضلهم رضًا أقلهم غفلةً عن ذِكر الله وفناء الدنيا. وبصدق التوكل يحصل الإنسان على الرزق، ومن عز النفس لزوم القناعة. والتمسك بالقناعة يؤدي إلى رضا البال، والشعور بالرضا يؤدي إلى الوداعة والتسليم بما يقع. والغنى في القناعة، والسلامة في العزلة، والحرية في رفض الشهوة، والمحبة في ترك الطمع والرغبة. والغنى الأكبر في ثلاثة؛ نفس عالم يُستعان بها على الدين، وبدن صابر يُستعان به على الطاعة لله والتزوُّد بها للمعاد يوم الفقر، والقناعة بما يرزق الله باليأس مما في أيدي الناس. والمُقتنع غني وإن جاع وعري، والمريض فقير وإن ملك الدنيا. القناعة الرضا بالقسم. وقد تُحدَّد القناعة سلبًا بإخراج الطمع من القلب.

ثم يأتي التسليم. وحسن الناس تسليمًا بقول ما ينزل به الله، جوعًا أو شبعًا، عطشًا أو ريًّا. وما أعطى الله عبدًا في نفسه من السلامة ووهب له من العافية في الجوارح أفضل من غرض الدنيا. ولولا مخافة العجز من احتمال الأذى لسأل الإنسان الله كل صباح مثل ما اتفق له منه قبولًا وتسليمًا دون اعتراض أو تساؤل؛ فمن توكَّل على الله حق توكُّله في حسن الاختيار له لم يجب أن يكون في حاله سوى حاله.٤٣
والغنى والفقر من القيم المُتشابهة النسبية وليست المطلقة؛ فقد يُصيب الغني أهله الفرح القليل والحزن الطويل، وقد يكون أغنى الغنى غنى النفس وملك الهوى وليس غنى المال، وقد لا ينقص أهل الفقر عن أهل الغنى إلا أن يكون الغني عالمًا والفقير جاهلًا؛ فالغنى غنى العلم، والفقر فقر النفس. وسقراط مثل على ذلك؛ إذ دعاه أحد الأغنياء فقال له: لو أردتُ أن أعيش عيشك لقدرتُ عليه، ولو أردتَ أن تعيش عيشي لم تقدر عليه. ولما دعا عليه أحد الأغنياء بالفقر قال له: لو عرفت الفقر لشغلك التوجُّع لنفسك عن التوجُّع لسقراط، وأشقى الشقاء الفقر والإثم. وأطول كآبة وحزنًا الفقير بعد الغنى، والذليل بعد العز، والبائس بعد النعمة، وتابع الهوى عند عواقب الأمور وخواتيم الأعمال؛ لذلك لا يجب الاستهانة بالمال؛ فإنه آلة المكارم، وعون الدهر، وقوة على الدين، ومُتآلف للإخوان. كما يؤدي فقدان المال إلى قلة الاكتراث من الناس، وقلة الرغبة إليه والرهبة منه، فيستخفُّ به الناس. فالفقر والغنى ليسا قيمة إلا بقرائنهما مثل الغنى والجاه.٤٤ ومن لا مال له يستقرضه الله. والدليل على أن ما في يد الإنسان ليس له أنه كان لغيره من قبل. والعيش في أمن الفقر خيرٌ من العيش في الخوف من ضياع الغنى؛ فطُلاب الدنيا يطلبون الغنى كيف كان.

أما الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فمن القيم الحكمة، لا فرق في ذلك بين حكمة اليونان وفارس والهند والعرب والمسلمين المحدثين. الدنيا دار عمل، والآخرة دار ثواب. وأفضل من المال ومن حظوظ الدنيا الفانية حظوظ الآخرة الباقية، فلا أسف على ما فات من الثراء. حين يحضر المال يغرب العقل، وحين يحضر العقل يغرب المال. الدنيا ذات تصرُّف وزوال، وأهلها رهائن مصائب ومتالف، متاعها قليل، وفناؤها كثير، والعيش زهيد، والتبعة مخوفة. وبين المقبرة والمزبلة كنز الأموال وكنز الرجال. إذا أقبلت الدنيا على الإنسان أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه؛ لذلك خاف عمر على نفوس الناس عندما نظر في معادهم ووجد المُصدق به أحمق، والمُكذب به هالكًا. كما حذَّر وهب بن مُنبه من سب إبليس علانيةً وصداقته سرًّا. والزاهد في الدنيا من لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود. ورفض الدنيا قبل الالتباس بها أهون من التخلص منها بعد الوقوع فيها.

وتبقى الحكمة بالعمل في العالم الآخر. هكذا أوصى أفلاطون تلميذه أرسطو. وكل ما ينطق به الإنسان فهو مُجازًى به في الدنيا أو في الآخرة، صالحًا أم طالحًا، خيرًا أم شرًّا، سرًّا أم علانية؛ فإن الله لا يخفى عليه شيء. هكذا قال هرمس، مُثلث العظمة بالحكمة والنبوة والملك، قراءة إسلامية للحكمة اليونانية في حكمةٍ واحدة للشعوب.

لذلك كانت أنفع الأمور للناس وأقرها لعيونهم القناعة والرضا، وآخرها وأشنعها عليهم الشره والسخط. وجل السرور بالقناعة والرضا، وكل الحزن بالشره والسخط. وطلب الغنى بالقناعة، وإلا فليس المال مُغنيًا وإن كثُر. هكذا قال هرمس. ولا مال عند من ترك القناعة، ولا خير في الإنسان إن لم يكن قنوعًا. هكذا قال أوميروس الشاعر. والقنية مخدومة. ومن خدم غير ذاته فليس حرًّا. هكذا قال سقراط وعلي بن أبي طالب. ولا يبقى للإنسان في دنياه إلا ذكراه الطيبة عند الآخرين.

ومن ثَم يتعارض العالمان وتكون النتيجة المادية أو التصوف، أو يتجاوران وتكون النتيجة إما الإشباع أو النقاق. فلماذا لا يتَّحدان ويكون العمل في الدنيا طريقًا إلى الآخرة حتى لا يصبح الدين مُخدرًا، وحكمة الشعوب هروبًا. والخطورة في تفضيل الموت على الحياة، واليأس على الأمل. «نعم الدواء الأجل، وبئس الداء الأمل»، أو «الأمل قاطع من كل خير». وهو مُعارَض بحكمة الشعوب أيضًا في رفض اليأس والقنوط، لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، والعمل في الدنيا إلى الأبد، «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا.»٤٥ وكيف لا يكون المرء زاهدًا حتى يزهد في عمره وإلا كان مُتزهدًا؛ لذلك كان الفقيه الواعظ هو الذي لا يُقنط الناس من رحمة الله.
والكمال الإنساني غايةٌ قصوى، واستكمال أي عملية اكتمال. وللإنسان استكمالان؛ استكمال طبيعي، واستكمال منطقي. وكذلك السعادة هي الكمال المطلق. وهي قسمان؛ أحدهما غاية النطق العملي، وهو الكمال الإنسي، وتُسمى سعادةً أدنى، وحدُّها فِعل النفس بفضيلةٍ كاملة خلقية؛ والأخرى غاية النطق النظري، وهو الكمال الروحاني، وتُسمى سعادةً قصوى، وحدُّها فِعل النفس بفضيلةٍ حكمية.٤٦
ويبدأ الكمال بمعرفة الذات. ومراتب التعرف على الذات أربع؛ إجابة على ما هو، ومن، ومِن ماذا، وكيف. ومراتب التعرف على الذات بحسب الغاية أيضًا أربع؛ إجابة على لماذا هو، وكيف السبيل إليه، والذي يحتاج إليه، وما الذي يعوقه.٤٧
والرجال أنواع؛ البخيل والمُقتصد والمُسرف والجواد. والجهاد أربعة أنواع أيضًا من أدنى إلى أعلى؛ شنآن المُنافقين، صِدق المَواطن، نهي عن المنكر، أمر بالمعروف. فدرءُ المفاسد مقدَّم على جلب المصالح. وأشرف المجاهدات قمع الشيطان عدو الله، بسلطان العقل ولي الله.٤٨
والكمال الإنساني كمال البدن، الصحة والقوة. والكمال المعنوي كمال العقل ومحبة الفضيلة، ويصونها عن النقص. فإذا ما عرض له نقصٌ يفتقر إلى القوة التدبيرية والشريعة الإلهية؛ فالله نموذج الكمال الطبيعي والإنساني. والطبيعة ليست منحلَّة ولا صدئة، بل تتَّجه بطبعها نحو الكمال. والإنسان لا يختار الفعل الأخس بل الأفضل؛ تعبيرًا عن الشوق إلى الكمال لاستصلاح لأشرف الجواهر لأشرف القنيات، واستجلاب لأشرف القنيات لأشرف الأغراض.٤٩

وعند العامري اتصال العبد على مراتب أربع؛ المُتقين والمُحسنين والأبرار والصالحين. الأولى نتيجة الخوف، والثانية نتيجة الرجاء، والثالثة نتيجة المحبة، والرابعة نتيجة الإخلاص. وطريقها كلها الاستقامة.

وانقطاع العبد عن مولاه أيضًا على مراتب أربع؛ الإعراض والحجاب والطرد والخسأة. الأولى من لواحق الاستهانة، والثانية نتيجة الاستحقاق، والثالثة نتيجة الإنكار، والرابعة للبعض فحسب. وطريقها السخافة والاعوجاج.٥٠
والطريق إلى الله ثلاثيُّ المراحل، بداية ووسط ونهاية. ولكل مرحلة أربعُ مراتب؛ البداية ماذا هو، ومن جاء به، ومن ماذا جاء به، وكيف كان مجيئه. والوسط مرتبة الشخص من الجوهر الإنسي، وقسطه، زيادة أم نقصان، ثابت أم مُتأرجح. والنهاية لماذا هو، وكيف السبيل إليه، وما الذي يحتاج إليه في التوجه نحوه، وما الذي يعوقه عنه.٥١ فالانتقال من الشريعة إلى الطريقة إلى الحقيقة كما هو الحال في الطريق الصوفي.
والتقرب إلى الله بملازمة الخدمة له. والتقرب إلى الله بالعمل على ثلاث مراتب؛ الأفضال والتفويض والتوبة. أما النعمة لغير المُستحق فهي لثلاثة أسباب؛ الامتحان والعِبرة والاستدراج. والتقرب إلى الله على نحوٍ عقلي خالص، حقًّا محضًا، وروحًا صافيًا، ونورًا إلهيًّا، فيطلع على ما في العالم إلهامًا. فمن أراد أن يسكن في هذا العالم فليتقرب إلى الله رب العالمين تمسكًا بخدمة الشرائع؛ فالشريعة هي المُقومة للخليقة على حسن الخدمة.٥٢
ورأس الحكمة مخافة الله. والطريق إلى الآخرة تقوى الله. فالإنسان بخيرٍ ما اتقى الله، كما قال عمر بن عبد العزيز.٥٣ الحكمة أعظم المواهب التي وهب الله لعباده. يزرعها فيهم حتى لا يمنع أحد عن أحدٍ سُبُل الخير. الحكمة هي سبيل الثقة في الدين، وهي قبس من نور الله. ومن كان ميله غير رضا الله ألقى نفسه إلى التهلكة.

ولا فرق في ذلك بين حكمة اليونان وحكمة الإسلام؛ فوصيَّة أفلاطون لتلميذه أرسطو كلها حِكمٌ إسلامية، أسلوبًا ومصطلحات وفكرًا؛ فهو إبداعٌ حضاري، قراءة الوافد والموروث من خلال الحكمة الخالدة، مثل «اعرف ربك حقه»، «تسأل الله تعالى مالًا يدوم لك نفعه»، «إن الله تعالى لا ينتقم من العبد بالسخط عليه»، سواءٌ قالها أفلاطون أو فيثاغورس أو أرسطو، أو أقوالٌ مأثورة عن الرسول والصحابة والأئمة والصوفية والأولياء. فوصية فيثاغورس المعروفة بالذهبية تعبِّر عن حكمة اليونان وحكمة الإسلام في آنٍ واحد لغةً، الإشراق والينابيع وحلول الله في الإنسان وفي الطبيعة. والقصص القرآني عامل مُوجب، مثل وصايا فيلبس أبي الإسكندر لابنه ساعة الوفاة مثل وصايا يعقوب لابنه ووصايا لقمان لابنه. ومشاهد القيامة مثل رؤيا يوحنا ومعاد الإسلام. وسؤال سفنكس «ما الخير، وما الشر، وما الذي ليس بخير ولا بشر؟» يقوم على قسمةٍ عقلية منطقية أخلاقية إسلامية؛ فالحضارة اليونانية حضارة توحيد وعدل كما تصوَّر المعتزلة. وحكماء اليونان فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو مثل أنبياء الإسلام، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.

ففي حكمة اليونان في وصية فيثاغورس إن الله لا يرضى لنفسه من الناس إلا بمثل ما رضي لهم به منه. وأول وصية بعد تقوى الله تبجيل الذين لا يحلُّ بهم الموت من الله وأوليائهم، وإكرامهم بما تُوجبه الشريعة. يدبِّر الله العالم؛ لذلك وضع في الإنسان وفي الطبيعة جنسًا إلهيًّا يُساعده على التعرف على الأشياء وعلى انتظام الظواهر. كل ما في العالم من هذا المبدأ الإلهي، كما قال إيروقلس، يحمي الإنسان من الغفلة والشهوة. ويحدث التقابل بين البخت اليوناني والتدبير الإسلامي دون تضحية أحدهما بالآخر، ومع ذلك فالنصف الإسلامي هو الغالب. ما يأخذه الناس بالبخت ليس بخير، وما يأخذونه من الملك فهو خير بالصحة، مثل اليسار وحسن الأحدوثة وكثرة البنين والسلطان والجمال والظفر. الله مُعطي الحياة، والحمد لله دائمًا، والتوكل كل التوكل عليه والاستغفار له كما أوصى سقراط. وهو المُنشئ لكل أدب وعلم ولكل تعليم روحاني، كما هو الحال في وصية أفلاطون في تأديب الأحداث.٥٤
ورأس الحكمة مخافة الله. والطريق إلى الآخرة تقوى الله. فالإنسان بخيرٍ ما اتقى الله كما قال عمر بن عبد العزيز.٥٥ الحكمة أعظم المواهب التي وهب الله لعباده. يزرعها فيهم حتى لا يمنع أحد عن أحدٍ سُبُل الخير. والحكمة هي سبيل التفقه في الدين. الحكمة قبس من نور الله. ومن كان ميله غير رضا الله ألقى نفسه إلى التهلكة.
وأمور المعاد، خاصةً الثواب والعقاب، ردع ورجاء، تخويف وترغيب، نتيجة الأفعال ومقدمات لها. وتتَّفق في ذلك حكمة الهند مع حكمة الإسلاميين المُحدثين؛ فإنكار الثواب والعقاب يؤدي إلى إفلات الزمام واتباع الشهوات والعجز عن السيطرة على الانفعالات. المُصرُّ على الخطايا لا يتمنَّى الجنة. ولا يُعصى الله إرضاءً للمخلوقين. ويُعذَّب المرء على الذنب بعد مقامات كثيرة من السر والعلانية، ابتداءً من الخاطر ثم الاهتمام ثم نسيان مولاه ثم قبول الوسوسة ثم الفكر ثم الإرادة ثم العزم ثم الإظهار، ثم الطلب ثم الفعل ثم الإحدراء ثم الطغيان ثم التمادي إلى أن يموت عليه. فإن تاب بعد هذا كله قبل حضور الموت تاب الله عليه. والحذر كل الحذر في الإقدام على جنةٍ عرضها السموات والأرض ليس للإنسان فيها موضع قدم كما قال ابن السماك.٥٦
والثواب والعقاب نتيجة للإيمان بالله العادل، وهما في نفس الوقت دليل على إثبات وجود إله عادل. النتيجة من المقدمة، والمقدمة من النتيجة كما هو الحال عند الفارابي. المكافأة واجبة في الطبيعة، تجب في الأعمال المقرونة بالنيَّات؛ فالمرء لا يُجازى على ما يعمل في نومه وما هو خارج إرادته واختياره، مثل السعال والعطاس وحياته وموته وتنفسه وغذائه واستفراغه، وإن كان فيها بعض الإرادة. ولا يُجازى على النيَّات المجرَّدة. والدليل على وجود المكافأة هو أنه بعد معرفة الله ووحدانيته وتنزيهه ورسوله وزمانه بوضوحٍ وجد في صدره سعة، وفي أحواله استقامة، وعن الأشرار سلامة، وعند الأخيار حظوة، وفي معاشه سدادًا بمقدار ما يفعله وينويه؛ ومن ثَم ينبغي تقديم سياسة لأحواله بقلبٍ قوي، ونيةٍ صادقة، وصدرٍ واسع، وثقة بأن ما يأتيه من ذلك وإن قلَّ يُجدي عليه نفعًا جليلًا. ولا يكفي قول الحق دون صدق النية وصواب الموضع. وصدق النية بالورع والدين والمجاهدة بأحسن الأخلاق.٥٧
وهناك قيمٌ مضادَّة لتقدُّم التاريخ، تدعو إلى أن السلف نموذج الخلف وقدوة له، طبقًا لآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وطبقًا للأمثال العامية والأقوال المأثورة «ما ترك السلف للخلف شيئًا»، أو «بئس الخلف ونعم السلف». والذي أدَّى إلى التصور المُنهار للتاريخ، يقتدي الخلف بالسلف لأن للسلف معونة على الأخلاق، وفي السابقين عصمة للاحقين. ولقد رفع الله لكل خلف أعلامًا من السلف.٥٨ وقيمٌ أخرى تدعو إلى العزلة والوحدة، مثل: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا أنسه بالوحدة. وإذا كان هناك مُواساة واهتمام بالآخرين فعند الجوع.

وقليل من القيم في حكمة الشعوب هي التي تدعو إلى الثورة والغضب والدفاع عن مصالح الناس، والسعي في الأرض والكد والكدح في الدنيا، ومعظمها منسوبة للجاحظ من حكمة الإسلاميين. فالحزم ضد التوكل. والحذر كل الحذر من أن يخدع الشيطان الناس عن الحزم، ويحث على التوكل، والإحالة إلى القدر؛ فقد أمر الله بالتوكل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم للقضاء بعد الأعذار كما ورد في الكُتب المنزَّلة وسنن الأنبياء.

وقد نقد عمر بن الخطاب المُتوكلين وسمَّاهم المُستأكلين؛ فالمتوكل هو الذي يُلقي الحبة في بطن الأرض ويتوكل على ربه. الفعل له، والانفعال للطبيعة. المبادرة له، واستمرارها للقانون. والتناصر عز، والتوكل مذلة، كما قال أكثم بن صيفي، والبطالة نذالة.

وباستصلاح المعاش يصلح أمر العباد. وأحسن الأمور عند الله أحسنها عند الناس؛ لأن الله لا يأمر إلا بالحسنى، ولا ينهى إلا عن القبيح؛ فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند لله حسن كما أقرَّت الملكية، ولا يخاف الإنسان ظلم ربه، ولكن يخاف ظلم نفسه. وكان عمر يشكو إلى الله بلادة الأمين، ويقظة الخائن.

وليس شيء لتغيير نعمة وتعجيل نقمة أقرب من الإقامة على الظلم. إن الله عدل، ولا عيب إلا العدل. والتحدي هو التحول من الصفة الإلهية إلى الأوضاع الاجتماعية.٥٩
١  تم عرض نظرية الفيض بالتفصيل في باب الحكمة النظرية، الفصل الثاني، الطبيعيات والأفعال. وقد يبدو تداخل بين هذا الجزء وذاك.
٢  الفارابي، المسائل الفلسفية، ص٩١.
٣  الفارابي، رسالة في إثبات المفارقات، الفقرة (١).
٤  وهو أيضًا الدليل الأنطولوجي عند أنسيلم، والتحول من majus أعظم إلى melius أفضل (انظر مقدمتنا لترجمة «أُومن كي أعقل»، نماذج من الفلسفة المسيحية).
٥  من العقيدة إلى الثورة، ج٢، التوحيد، ص٣٠٤–٣٣٧.
٦  الفارابي، رسالة في إثبات المفارقات، الفقرة (٢).
٧  السابق، الفقرة (٣).
٨  السابق، فقرة (٤).
٩  الراعي الأجلُّ سيدنا أبو يعقوب السجستاني، الينابيع، تقديم وتحقيق مصطفى غالب، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت، لبنان.
١٠  الله: (١) الينبوع طبيعي وروحاني ومعنى المبدع. (٢) هوية المبدع. (٣) هي إضافة أمر الله إلى طرفَين. العقل: (٤) عالم العقل. (٥) العقل الأول مبدع. (٦) قبل العقل الأول لا يُتوهم شيء البتَّة. (٧) العقل لا يبيد. (٨) العقل ساكن. (٩) العقل تام القوة والفعل. (١٠) إثبات العقل المجرد. (١١) مخاطبة العقل للنفس. (١٢) كيفية اتصال فوائد العقل بالنفس. (١٣) الأيس لا يصير ليسًا. (١٤) الأيسيات مُتناهية وذات غايات. (١٥) سؤال لمَ خلق الله العالم مُحالٌ مُمتنع. (١٦) إبداع العقل إبداع لقوًى كثيرة. (١٧) إثبات النفس الكلية تنبعث منها الجزئيات في البشر. (١٨) ما في البشر أجزاؤه وجوهره من النفس الكلية. (١٩) الأفلاك بجميع قُواها ونجومها وحركاتها في أفق النفس. (٢٠) كيفية حركات الفلك على مُراد النفس واختيارها مع وجود الجبر فيها. (٢١) الله في كل مكان لا يليق بالخلق الأول فضلًا عن المبدع جل وعلا. (٢٢) كيفية ابتداء الإنسان. (٢٣) كيفية عبادة المبدع وهو السابق المبدع. (٢٤) ملائكة الله لا يُحصيها عدد. (٢٥) الشر لا أمثل له في الإبداع. (٢٦) القوى الطبيعية لا قدر لها عن القوى الروحانية. المعاد: (٢٧) الثواب هو العلم. (٢٨) معنى الصليب للمسيح عليه السلام. (٣٢) اتفاق الصليب مع الشهادة. (٣٣) العالم لا صورة له عند المبدع قبل الإبداع. (٣٤) الزوج المركب الذي يتلو الأربعة بعد الستة. (٣٥) لا أحد إلا ويبلغ مرتبة العقل. (٣٦) هوية صاحب القيامة. (٣٧) توهم الكثرة من علة واحدة هو أمر الله. (٣٨) للبشر عود إلى ثواب أبدي. (٣٩) معنى كلمة المبدع. (٤٠) كيفية اتصال التأييد بالمؤيدين في العالم الجسداني (الينابيع، ص٥٨–٦١، ٦٩-٧٠).
١١  أبو الحسن العامري، الفصول في المعالم الإلهية، ص٣٦٣–٣٧٩.
١٣  أبو الحسن العامري، التقرير لأوجه التقدير، ص٣٢٢–٣٢٨.
١٥  من العقيدة إلى الثورة، ج٣، العدل، ص١٨–٣٧٠. وهو يُشبه تحليل بلوندل للفعل في الفلسفة الغربية المعاصرة.
١٦  العامري، إنقاذ البشر من الجبر والقدر، ص٢٦٥–٢٧١.
١٧  مسكويه، الحكمة الخالدة، ص٣٦٦، ٣٧١.
١٨  أبو الحسن العامري، شذرات في الفلسفة الخلقية، ص٥٠٥–٥٢٤.
١٩  «وأن المعجزات حق ممكنة الوجود في الأمر، وأن الدعاء حق وجب ومشفَّع به، وأن الرؤيا والمنامات حق، وأن ما يوصف به الأنبياء من إحاطتهم بالعلوم لا على سبيل التعليم الشاق فهو فن، وأن إخبارهم بالمغيَّبات حق، وأن العبادات واجبة، وأن ما يأتي به الأمر والشرائع والحكام والأمر والنهي حق واجب، وأن الكمال والتمام للإنسان إنما هو بالعلم والعمل معًا، وأن الدرجة الرفيعة والسعادة العظمى إنما هو معد لأولي الحكمة العقلية، والحمد لله كما هو أهله ومُستحقه» (الدعاوى القلبية، حيدر آباد ١٩٤٧).
٢٠  الفارابي، زينون، حيدر آباد ١٩٤٧.
٢١  الفارابي، السياسة المدنية، ص٥٣-٥٤.
٢٢  العامري، الإبصار والمبصر، ص٤١١–٤٣٧.
٢٣  وكما هو الحال في الظاهريات في الفلسفة الغربية المعاصرة، الجانب الذاتي noése، والجانب الموضوعي noeme، ثم التحليل الذاتي الموضوعي l’analyse noético-noématique.
٢٥  السابق، شذرات في النسك العقلي، ص٤٩٥–٥٠٢.
٢٦  زينون، حيدر آباد ١٩٤٧.
٢٧  الفارابي، زينون، حيدر آباد ١٩٤٧.
٢٨  هي الدعوات ١١ + ١٢ + ١٤.
٢٩  هي الدعوات ٢ + ٤.
٣٠  وهو نفس التقابل عند توما الأكويني بين الفيلسوف اللاهوتي صاحب «الخلاصة اللاهوتية» و«الرد على الأمم»، وبين حياته الخاصة كصوفي بكَّاء.
٣١  الفارابي، دعاء عظيم، ص٨٩–٩٢.
٣٢  التفسير ١ + ١٢. قال ٢، قيل ٥، سئل ٢. والمجموع ٩.
٣٣  الأسئلة اللامعة، ص٩٥-٩٦.
٣٤  هو الحديث القدسي الآتي: «يا ابن آدم، إذا عملتَ بما افترضتُ عليك فأنت من أعبد الناس، وإذا اجتنبتَ ما نهيتُك عنه فأنت من أورع الناس، وإذا اقتنعتَ بما رزقتُك فأنت من أغنى الناس» (مسكويه، الحكمة الخالدة، ص١١٢).
٣٥  كان يمكن وضع تحليل «الحكمة الخالدة» في فصل الأخلاق، ولكن نظرًا لأهمية «تهذيب الأخلاق» كخطابٍ فلسفي أخلاقي تم الاقتصار عليه، وترك «الحكمة الخالدة» من العناصر المكونة لفلسفة التاريخ نظرًا لأنه يُمثل حكمة الشعوب.
٣٦  مسكويه، الحكمة الخالدة، ص٤١-٤٢، ٧٦، ٧٨، ١٢٥-١٢٦، ١٤٣، ١٥٠-١٥١، ٢٩٠، ٣٦٥.
٣٧  السابق، ص٢١١، ٢٢٣، ٢٤١–٢٤٣، ١٤٦، ١٦٦-١٦٧، ٢٧٨–٢٨١، ٣٥٢، ٣٧٣.
٣٨  السابق، ص٣٦٥-٣٦٦.
٣٩  السابق، ص٩٢، ١٢٥، ١٤٣، ١٤٦.
٤٠  هذه أقوال أبي سليمان الداراني والحسن والجنيد وبعض النُّساك (السابق، ص٧، ٣٣، ٣٦،  ٦٨، ١٤٣، ١٤٧، ١٥٥، ١٧٢، ١٩٧).
٤١  السابق، ص٨-٩، ١١، ١٥، ٥١، ١٠٤، ١٢٢.
٤٢  السابق، ص٩-١٠، ٣٣، ٣٨، ٦٧.
٤٣  السابق، ص٨١، ٨٣، ١١٥، ١٥٢، ١٥٤، ١٥٦.
٤٤  السابق، ص٣٣-٣٤، ٤٩، ٥٦، ٦٨، ١٥٢، ٢١١.
٤٥  السابق، ص٨–١٠، ١٦، ٢٦–٢٩، ١١٢، ١٣١، ١٤٢، ١٤٦، ١٩٢، ٢١٤-٢١٥، ٢١٨، ٢٢٤.
٤٦  السابق، ص٣٦٩.
٤٧  السابق، ص٣٧٢.
٤٨  السابق، ص٣٤٩، ٣٧٤.
٤٩  السابق، ص٣٥٢-٢٥٣.
٥٠  السابق، ص٣٥٠.
٥١  السابق، ص٣٥١.
٥٢  السابق، ص٣٥٣، ٣٥٦-٣٥٧.
٥٣  السابق، ص١١٧، ٢٨٥-٢٨٦، ٢٨٩، ٢٩١.
٥٤  السابق، ص٢١٩، ٢٢٥، ٢٢٧، ٢٦١، ٢٣٤، ٢٣٦، ٢٣٧، ٢٥٣.
٥٥  السابق، ص١١٧، ٢٨٥-٢٨٦، ٢٨٩، ٢٩١.
٥٦  السابق، ص٩٢، ٩١، ١١٦، ٩٦، ٣٧٤.
٥٧  السابق، ص٢٨٨-٢٨٩، ٣٣٢.
٥٨  السابق، ص١١، ٨٧-٨٨، ١١٥.
٥٩  السابق، ص١٥-١٦، ١١٣، ١٤٠، ١٤٢، ١٧٤، ٣٥٨.