من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ثالثًا: التاريخ الأفقي

إذا كان التاريخ الرأسي يقوم على ثنائية السماء والأرض، الله والعالم، النفس والبدن، الخير والشر، الآخرة والدنيا، البقاء والفناء، هذه الثنائية المُتطهرة المُتعارضة التي يُقضى فيها لأحد الطرفين على الآخر بالضرورة، فإن التاريخ الأفقي يقوم على ثنائية التقدم والتأخر، الأمام والخلف، القيام والقعود، النهضة والسقوط، المثال والواقع، وتحقيق كلمة الله في الأرض والوحي كنظامٍ مثالي للعالم. خطوة نحو بزوغ فلسفة التاريخ.

وقد مثَّل ذلك قصص الأنبياء، سواء عند أهل السنة الذين يتوقَّفون على خاتم الأنبياء، باستثناء الصوفية الذين يُضيفون رمز الولاية خالد بن سنان كما هو الحال عند ابن عربي، أو عند الشيعة الذين يُضيفون الأئمة باعتبار أن الإمامة وريثة النبوة، والقائم خليفة النبي.

(١) قصص الأنبياء ودورات التاريخ

وفي «الأسئلة اللامعة» بعد الارتقاء الرأسي للنفس في الفقرة الأولى، تأتي اثنتان وأربعون فقرةً عن النبوة وتاريخ للأنبياء للتقدم الأفقي، وتسلسل الأنبياء من آدم حتى محمد، مرحلةً مرحلة، في تسع وثلاثين حلقة، بعضها أنبياء، وبعضها أقوام أو أصحاب. ومن الأنبياء يظهر أُولو العزم، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، مع غيرهم من الأنبياء. والفقرة الثانية عن حكم قص أنباء الرسل. والثالثة عن الفرق بين الرسول والنبي. وابتداءً من الرابعة حتى النهاية قص تسعة وثلاثين نبيًّا وقومًا وصاحبًا دون محاولة لإخضاعها لقانونٍ واحد أو دلالةٍ واحدة أو غايةٍ واحدة كما فعل ابن عربي في «فصوص الحكم» في التجلِّي التدريجي للوجود. وهو موضوعٌ قرآني خالص، لا تشكُّل كاذب فيه أو مصطلح فلسفي. يعتمد فيه الفارابي على أقول السابقين مُفسرين أو مُتكلمين دون دراسة خاصة، وكلها أقوال مروية دون إسناد لها. لم يتحقق الفارابي من صدقه لا تاريخيًّا ولا عقلًا ولا أخلاقيًّا؛ فهي ظنيات في ظنيات. ويستشهد بالقرآن أكثر من الحديث.١

وحكم قص أنباء الرسل استشهاد بقول الحكماء، وهي سبعة؛ أولًا إظهار النبوية ودلالتها على الرسالة؛ أي المعرفة التاريخية من أميٍّ وليس عن طريق الأسفار والثقافة الشعبية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية. ثانيًا تثبيت الفؤاد؛ أي تحويل الوعي السياسي إلى وعيٍ تاريخي، واكتشاف التاريخ الماضي كحقل تجارب للحاضر والمستقبل؛ فالمعرفة تتحقق في التاريخ، وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. ثالثًا ذكر درجة الرسول؛ فالرسول علامة على انتقال التاريخ من مرحلة إلى مرحلةٍ دون تشخيص الرسالة في الرسول، وَكَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا. رابعًا عِبرة للأمة؛ أي تذكُّر وتيقُّن من صدق المعرفة بالتصديق الداخلي. خامسًا تعلُّم الوحي بأحوال الأنبياء، وصعوبة الفصل بين الرسالة والرسول تأكيدًا على الوحي الذاتي، وبعيدًا عن المصادر التاريخية. سادسًا الأُسوة الحسنة في الأنبياء السابقين؛ أي تطور النبوة في خطٍّ واحد هو جهاد السابقين، والنموذج القدوة في السلوك. سابعًا بيان النِّعم على الأمة الظاهرة مثل تخفيف الشرائع، والباطنة مثل تضعيف الصنائع كمصدر للأحكام العملية.

والفرق بين الرسول والنبي أن الرسول شارع، في حين أن النبي حافظ شريعة غيره. الرسول يعمُّ البشر والملك في حين أن النبي للبشر فقط. كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا. كما أن فائدة الرسل معرفة الشريعة وإنزال الكتب ومعرفة الحقيقة جمعًا بين النظر والعمل.

وهناك فرقٌ بين أُولي العزم من الرسل وبين الرسل الآخرين. ويعني العزم عقد القلب مسبقًا بخلاف القصد الذي يُقارن الفعل. والنية مثل العزم لا تُفارق بل تتقدم. العزم إرادة فعل الشيء.

وأُولو العزم من الرسل إما سبعة؛ نوح وإبراهيم وإسحاق وأيوب ويعقوب ويوسف وشعيب، أو خمسة؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وإما أربعة؛ نوح وإبراهيم وهود ومحمد. وأصحاب الشرائع ستة بإضافة آدم. والحقيقة لقد استقرَّ الأمر عند المتكلمين أن أولي العزم ستة؛ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. ويُضيف الشيعة القائم.

وهناك أنبياء ورسل من ناحية، وطوائف وأقوام وملائكة من ناحيةٍ أخرى، مثل هاروت وماروت الملكَين، وأصحاب الرقيم، وأصحاب الفيل، وأصحاب الرس، وأصحاب الأخدود، وأصحاب خروان، وقوم سبأ، والرسل الثلاثة الذين أرسلهم الله إلى أنطاكية. ويمكن اعتبار أولي العزم هي المراحل الكبرى في تطور الوحي والتاريخ. وتتداخل المجموعتان، الأنبياء والطوائف، دون أن يكونا مُتتابعين، ولا يتبع الفارابي ترتيبًا زمانيًّا على الإطلاق، بل لكل نبي دلالةٌ نبوية.٢

(أ) الأنبياء والرسل، آدم وإدريس

خلق الله آدم على صورته ومثاله؛ أي إن الإنسان شبيه بالله، والله شبيه بالإنسان، ثم ردها الإنسان إلى الله وتصوره على صورته ومثاله. وهو حديثٌ نبوي وآيةٌ توراتية في نفس الوقت. ويدعمه الفارابي بالقرآن. وهو ما اعتمد عليه الصوفية في الحلول واتحاد والفلاسفة في تكريم الإنسان، والمتكلمون في تصور الله على أنه إنسانٌ كامل.٣ ما سوى آدم خُلِق في الأرحام، وكبر من نطفة فعلقة فمضغة فلحمًا فعظمًا. ولا تعني الصورة بالضرورة المعنى الحسي، بل قد تعني النطق والوجدان والذات والوعي الذاتي. ومعجزة آدم فتق اللسان؛ أي اللغة بتعليم الكلام، كما حدث لمحمد، مع أن الفرق أن آدم تعلَّم الألفاظ ودلالتها على الأشياء في حين أن محمد تعلَّم المعاني مباشرةً ودلالتها في النفوس. والسؤال هو: هل علَّم الله آدم أسماء جميع اللغات التي تكلَّم بها أولاده، أم لغة أصلية أولى توقيفًا تفرَّعت عنها اللغات الأخرى اصطلاحًا؟ ما هي هذه اللغة الأم؛ العبرية أم العربية أم الآرامية؟٤ وهل تلقِّي الوحي الرسالة معجزة أم رسالة طبيعية لإبلاغها للناس؟
وإدريس أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب، الكتابة بعد القراءة، والتدوين بعد الشفاه، وبعد المنطق تأتي الصنعة. وسُمي إدريس لكثرة دراسته للكتاب، صحف آدم وشيث. وكان اسمه أخنوخ في الإسرائيليات. وينتهي نسبه إلى شيث بن آدم. بُعث على شريعة آدم إلى أولاده قابيل بعد أن كفروا حين دعوتهم إلى الإيمان، وقيل رُفع إلى السماء الرابعة أو السادسة مثل معراج أخنوخ في التوراة، وقيل إنه في الجنة مع أرواح أطفال المؤمنين. وهو يُشارك عيسى ومحمدًا في الرفع إلى السماء.٥
نوح وهود وصالح. ونوحٌ شيخ الأنبياء؛ لأنه أكثرهم تعميرًا، واسمه مشتقٌّ من القوم لكثرة نياحته على نفسه. ينتهي نسبه إلى أخنوخ؛ إذ تتوالى الأنبياء بالعقب والذرية، واجتمع بنو قابيل وبنو شيث بالمصاهرة. وترك بنو شيث صالح أعمالهم، وتابعوا فُساق بني قابيل، فبعث الله نوحًا لهم. ولا يعتمد على قصة نوح في القرآن وبه قصةٌ كاملة. وهناك كثير من المرويات الظنية التي لا برهان عليها، والفارابي هو المنطقي صاحب البرهان. وكيف عرف بقاء سفينة نوح في الماء ستة أشهر وتحديدها بالعاشر من رجب حتى يوم عاشوراء؟ هل كانت الشهور العربية قديمةً قِدم نوح؟ وشريعته مستأنفة إلى اليوم؛ لأنها شريعةٌ إنسانية عامة مثل شريعة إبراهيم، وليست خاصة بني إسرائيل.

وينتهي نسب هود إلى نوح، وكأن النبوة مُتعاقبة في الذرية. وبُعِث على شريعة نوح، وهي شريعةٌ عامة وشاملة وباقية بالرغم من التطور التاريخي للأحكام. هي شريعةٌ أخلاقية أكثر منها تشريعات اجتماعية.

وينتهي نسب صالح أيضًا إلى نسب نوح؛ فقد أُرسلَ إلى قبيلة ثمود لأنهم عبدوا غير الله، وأراهم من المعجزات الكثير. وقد سُميت ثمود بذلك لقلة مائها؛ فالثمد هو الماء القليل.٦
إبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب. وقد سُمي إبراهيم خليلًا لتعظيم الحق بالإخلاص في العبادة؛ فهو صديق الله، أو لترقية شأن الخلق بحسن الضيافة كما هو الحال في قصة ضيف إبراهيم. وقيل سُمي خليلًا لبذل نفسه للنيران، وقلبه للرحمن، وولده للقربان، وماله للإخوان.

ولوطٌ اسمٌ عربي، من اللؤط أي اللزوق؛ إذ إن حبه لاط بقلب إبراهيم. والشائع أيضًا أنه من اللواط الذي استشرى بقومه، وهو أيضًا نوع من اللزوق. نسبه يمتدُّ إلى إبراهيم؛ فالنبوة لا تخرج من الذرية عكس مفهوم القرآن لها. أرسله الله إلى خمس مدائن، وهي المؤتفكات. لم يؤمن به أحد، ولم يرتدع قومه عن القبائح.

وإسماعيل وإسحاق ولدا إبراهيم. وعند أكثر المُفسرين أن الذبيح إسحاق، وعند البعض الآخر إسماعيل طبقًا للروايات اليهودية أو العربية. والأظهر أنه إسماعيل بناءً على حديث «أنا ابن الذبحَين»؛ أي إسماعيل وعبد الله أبوه برؤيا عبد المطلب جده.

ويعقوب بن إسحاق استمرار للنبوة في الذرية دون تعليق من الفارابي بأن الذرية ليست من شروط النبوة، قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وقد سُمي يعقوب بإسرائيل لأن الأسر بالعبرية يعني العبد، والإيل اسم من أسماء الله؛ وبالتالي يكون معناه عبد الله. وقد كتب الفارابي حكاية بالفارسية ردًّا على سؤال: إذا كان يعقوب اطَّلع في منامه على مصير يوسف، فلماذا سلَّمه لإخوته؟ والجواب أنه يعلم إذا حاق القضاء ضاق الفضاء. فالفارابي يعبِّر عن الوافد العبري بالوافد الفارسي.٧

ويوسف عند أكثر العلماء اسمٌ عبراني أو عربي من آسفه أي أغضبه، كما في آية فَلَمَّا آسَفُونَا؛ أي أغضبونا. وقد نزلت سورة يوسف عندما طلب المسلمون سورة لا يكون فيها أمر ولا نهي، بل مجرد أخبار القرون الماضية لتسلية القلوب؛ فطاقة البشر على الأمر والنهي محدودة. والإنسان يودُّ التمتع بالقص وإثارة الخيال من أخبار السابقين. وقد تكلَّم شاهد يوسف وهو صغير، كما تكلَّم ولد ماشطة فرعون وصاحب جريح والراهب عيسى.

وأيوب من نسل نبي بالضرورة؛ فالنبوة لا تكون إلا ذرية. الشريعة شريعة إسحاق. قد يكون أصله روميًّا لأنه بُعث في أرض الشام، والشام مستعمَرةٌ رومانية.

وشعيب ينتسب إلى إبراهيم في مدينة مدين كما وردت في أحاديث الرسول، ويمتاز بحسن الجوار.

موسى والخضر وإلياس واليسع وذو الكفل وأشمويل وداود وسليمان ويونس وعزير وزكريا ويحيى. وبالرغم من أهمية موسى إلا أنه لا يذكر إلا نسبه إلى يعقوب، والتماسه النبوة لأخيه وإجابته إلى ذلك من نصٍّ فارسي. وتمنَّى محمدٌ الإيمان لعمه؛ مما يُبين شرف رتبته على رتبة موسى. النبوة أعلى الدرجات، والإيمان أقل منها. وهو خليط من قراءة موسى من خلال محمد، والفارسيات والإسرائيليات. كان في علم الله أن هارون من الأنبياء، فجرى على لسان موسى دعاء، وفي علمه أن أبا طالب لا يؤمن، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ؛ فالتفسير بعلم الله غير مُقنع، ومطلوبٌ إجابةٌ خاصة لسؤالٍ خاص.

وقد أوصى الخضر موسى ضد اللجاج، والمشي بغير حاجة، وبالضحك من غير عجب، وضد تعيير الخاطئين، والبكاء على الخطيئة. وقد سُمي الخضر كذلك لأنه إذا صلَّى في موضعٍ اخضرَّ مكانه. والموضوع أسطوري خالص؛ مما يوحي بأنه ربما يكون العمل كله مُنتحلًا على الفارابي؛ فلا هو أسلوبه ولا فكره، مجرد تصوُّف من مصادر مُتعددة فارسية وإسرائيلية مباشرة، أو من خلال المُفسرين مثل عكرمة.

وإلياس من نسل النبي. الخضر إلى البحار، وإلياس إلى الفيافي تقابلًا بين الماء واليابس، يجتمعان معًا كل عام أيامًا في موسم الحج، ويراهما الصالحون؛ مما يدل على الرؤية الذاتية وليست الموضوعية. وهما باقيان إلى يوم النفخ في الصور، مع أن الكل ميت بما في ذلك محمد، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. لما عصاه قومه خرج، ولحِق بشواهق الجبال يعبد الله، يأكل من نبات الأرض وثمار الأشجار خمس سنين، ثم هرب من قومه حيث صدُّوه، فاستقبلته دابة على صورة فرس من نار، وربما على صورة أسد، فركبها ومرَّت كالريح. جعله الله إنسيًّا ملكيًّا، صورة الإنسان وطبيعة الملائكة، وهي صورة إليا في التوراة مع بعض أساطير الإسراء والمعراج.

واليسع مرتبط بإلياس، كان قبل دخوله الغار من تلامذته، تابعًا له، وأعطاه من الصوف منصبًا له خليفة في القوم، وركب الدابة وغاب، ودعا اليسع قومه إلى الله بالرغم من غيابه، من بقايا صور الإمام المنتظَر.

وذو الكفل استمرار لقصة إلياس واليسع؛ فقد استخلفه اليسع فيما أمره إلياس في عبادته ودعوته. وسُمي كذلك لأنه تكفَّل عن اليسع عمله؛ الصوم بالنهار وقيام الليل والقضاء بين الناس دون غضب أو عجل.

أما أشمويل فهو اسمٌ عبري قد تعرَّب ربما إلى صمويل. لم يُذكَر في القرآن، من نسل يعقوب. تحمله الملائكة، ولا يختص بتابوت ولا سكينة. كان التابوت لآدم بتوارثه الأنبياء صاغرًا عن كابر. به عصا موسى وعمامة هارون وعصاه ومنطقة إسحاق، وكِسر من الألواح التي تحطَّمت بعد أن ألقاها موسى، ولوحان من التوراة، وقفيز من المن، وصاع يوسف، وطست تُغسَل فيه قلوب الأنبياء، أشبه بما حدث لمحمد وهو في الصغر، وخاتم سليمان الذي به يُجري المعجزات، والسكينة وهي شيء كرأس المهرة لها عينان وجناحان ووجه كوجه إنسان، يخرج منه صوت يوم القتال أهيب من صوت الأسد لهزيمة العداء. وربما هي النصرة بها في الحرب. السكينة إذن شيءٌ مادي وليست معنًى مجازيًّا. ويستشهد بالقرآن على التابوت أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ … إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وأيضًا تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَة، وأيضًا إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ.٨

وينتسب داود إلى يعقوب. خصَّه الله بالنبوة والحكمة والملك وتسخير الجبال، والطير يُسبحن معه، والصوت الطيب، وإلانة الحديد، وصنعة الدروع. لم يأكل إلا من عمل يده. وبسط العدل، والسلسلة التي يعرف بها المُحق من المُبطل، رمز التعادل، كِفَّتا الميزان، ثم أظهر المكر والخديعة بعد أن رفع الله السلسلة؛ أي نهاية العدل. القوة في العبادة وشدة الاجتهاد، وأنزل الله عليه الزبور بالعبرانية، مائة وخمسون سورة، كله مواعظ وحِكم دون حلال أو حرام، ولا حدود ولا أحكام؛ فالأخلاق والحكمة سابقة على الحدود، الداخل قبل الخارج، والأخلاق قبل القانون. أكرمه الله بفصل الخطاب؛ أي بيان الكلام أو علم الحكم والبصيرة في القضاء، وربما القضاء بالبينات والإيمان. وكان له سبعة عشر ابنًا.

وابنه سليمان أعظم ملكًا منه وأقضى، وداود أشد تعبدًا؛ ربما لقصة سليمان مع ملكة سبأ. وهو لا يختلف في ذلك عن داود، وقتله الضابط وأخذ امرأته. ولا يوجد استشهاد بقرآن أو بحديث مع أن المادة وافرة فيهما. وقد ورث سليمات داود، وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ، في حين أن الرسول قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ولا نورث.» فالأنبياء لا يرثون دراهم ولا دنانير.

ويونس ابن متى، وهي أمه. ولم يُنسَب نبي إلى أمه إلا يونس وعيسى ابن مريم. كان من عادة القوم قتل النبي إذا ظهر كذبه، فلما لم يأتهم العذاب في الميعاد الذي أوعدهم يونس خشي أن يقتلوه، فخرج من غير أمر لقلة الصبر على قومه والمرارة لهم، وهو ما نهى عنه الله وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ؛ فالغاية من توالي الأنبياء الاستفادة من تجاربهم؛ لذلك أقرَّ الإسلام عدم إعطاء موعد في الدنيا، عدم تحرُّك النبي بلا أمر، والصبر مع القوم ومداراتهم.

وعزير في صورة المسيح دخل القدس على حمار، ومعه عصير في زق، وسلة من عنب وتين، كما دخل المسيح في يده غصن زيتون أو سعف نخل. يُحيي الموتى مثل المسيح. أماته الله مائة عام مثل أهل الكهف، لم يتغير العصير والعنب. أما الحمار فقد تحلَّل وبقي عظامًا بيضًا. وسُمع صوت يجمع العظام البالية فبُعث الحمار، وأول ما أحيا الله من عظام عزير عينه في رأسه، وجعله ينظر إلى عظام نفسه، ذاتًا وموضوعًا، إلى أن كُسي باللحم. وهي آية على إحياء الموتى. آيته أنه كان ابن أربعين سنة، وابنه مائة وعشرون عامًا. وربما كانا أخوَين توءمَين وُلدا وماتا في يومٍ واحد. الأول أربعون عامًا، والثاني مائة وأربعون عامًا. فما دلالة هذه الأرقام؟ وقد ذُكرت القصة في القرآن أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ، قال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.

وزكريا من أبناء ملوك بني إسرائيل بدايةً بالنسب طبقًا لعادة الساميين، عربًا وعبريين. ولا يهمُّ زمان البعثة لأنها تحط مثالي. وربما غاب الهدف منها والقصد ووضعها في مسار تاريخ النبوة؛ لذلك ظهرت النبوات مُتتاليةً مُتجاورة دون تواصل قصدي بينها.

ويحيى لأنه حيي به رحم أمه وهي عقيم؛ ففكرة ولادة العقيم شائعة في التوراة، أو من العذراء بغير أب. وهناك قرابة بين يحيى وعيسى، فمريم بنت خالة يحيى. وهو أكبر من عيسى بستة أشهر. قُتل يحيى لأنه لم يرضَ عما تمنَّاه الملك قبل أن يُرفَع عيسى إلى السماء في جدل الخلاص والهلاك. فهناك أربعة أشخاص صاروا أنبياء بالرغم من صغر سنهم؛ يوسف وسليمان ويحيى وعيسى.٩
عيسى. وسُمي كذلك لأنه يمسح العاهات فيُبرئ، على وزن فعيل بمعنى الفعل كالرحيم والعليم، وربما لأنه كان أمسح الرجل ولم يكن لرجله خمص، فعيل بمعنى مفعول، فهي صفةٌ جسمية ليس لها دلالة رمزية أو إعجازية. وسُمي روحًا تشريفًا له مثل بيت الله، كما سُمي جبريل الروح الأمين والروح القدس. سبب وجوده نفخة جبريل، فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا. مدة حمل مريم ساعة أو ثلاث أو سبع أو يوم أو تسعة أشهر أو ثمانية؛ لأنه لم يعِش مولود ابن ثمانية. وكلها أقوالٌ مُرسَلة بلا دليل. يُحيي الله به الموتى، وكأن الله في حاجة إلى وسائط. كلمة الله لأنه كُوِّن بها في كُنْ، فكان بلا توليد، مع أن اللاهوت المسيحي عند أهله يقوم على التوليد. خُلِق بكلمة الغيث إلى مريم دون معرفة أية كلمة.١٠
محمد. وهكذا دون ألقاب، وكأنه لا يحتاج إلى تعظيم مثل باقي الأنبياء. يمتدُّ نسبه إلى إبراهيم كما يمتدُّ المسيح إلى داود، وهو ما لا يمكن التحقق منه في شجرة الأنساب. وهو برسالته الهدى الساطع والسيف القاطع، وليس بشخصه. وإجابة على سؤال بالفارسية، لماذا شبه الله المصطفى بموسى كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، أنه كان لموسى خمسة أعداء؛ فرعون وهامان وقارون والسامري وعوج بن عنق، وكان لمحمدٍ خمسة أعداء أيضًا؛ أبو جهل، وعاص بن وائل، وأسود بن يعفوت، وأسود بن عبد المطلب، وحارث بن قيس. أهلك الله الأوائل ببليَّةٍ واحدة، وأهلك الأواخر ببليَّاتٍ مُختلفات. الهلاك الجماعي في حالة بني إسرائيل، والعقاب الفردي في حالة أمة محمد. ولا يوجد تأويلٌ رمزي للعدد خمسة، أو أنه إشارة إلى مبادئ كما يفعل الحكماء. وتدخل السيرة أكثر مما تظهر ماهية الرسالة، مولده عام الفيل باليوم والشهر مقارنةً بباقي الأنبياء مثل إلياس واليسع وقيدار، وكفالة جده، واسترضاعه من حليمة من بني سعد. كان أفصح العرب، «أنا أفصح العرب بيد أنِّي من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر فأنَّى يأتيني اللحن؟» ثم ربَّاه عمه حتى اختاره الله رسولًا. وإجابة على سؤال بالفارسية، لماذا لم يُشرفه الله تعالى بأبيه وأمه بشرف الإيمان، حتى لا يلزمه الانشغال بتعظيم أي مخلوق، ولكيلا يغتمَّ بعض أصحابه ممن مات أبوه وأمه على الشرك. سببٌ إلهي أولًا، ثم سببٌ إنساني ثانيًا.١١

(ب) الملائكة والرسل والأصحاب والأقوام

ومع الأنبياء أُولي العزم يُذكَر بعض الملائكة والرسل والأصحاب والأقوام على علاقة بالنبوة أو أنبياء مباشرون. فمن الملائكة هاروت وماروت، معلقان في غار ببابل على رأس بئر، وكانا في زمن إدريس. بالنهار بشر، وبالليل ملائكة. استوجبا العذاب باقتحام الشهوات، والميل إلى امرأةٍ اسمها زهرة، فاختارا العذاب في الدنيا على العذاب في الآخرة. وهو تصورٌ شعبي رمزي قد لا يتَّسق مع تصور الملائكة؛ فالملائكة لا يُخطئون لأن ليس لديهم إرادة حرة وعقل يُميزون به بين الحسن والقبح، بل هم خيرٌ محض، مضطرُّون إليه. لا شهوات لهم ولا يتناسلون، ولا يُعاقَبون ولا يُجازون. ليسوا أنصاف بشر أو أنصاف ملائكة طبقًا للنهار والليل، ولا يليق التعليق على بئر بالملائكة.

وقد أرسل الله رسلًا ثلاثة إلى أنطاكية طبقًا لآية إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ. منهما توءمان؛ بولس وشمعون. دخلا أنطاكية ودعوَا الناس إلى الله فحبسهما الملك، فعلِم شمعون مقدم الحواريين وجاء لعونهما، وتوسَّل إلى الملك وتقرَّب إليه بمعرفة الكتب فأحضرهما، وسألهما أمام الملك عن إحياء عيسى للموتى والبرهان على ذلك، فأتيا بميت لم يُدفَن بعد، وهو ابن حبيب النجار، وكان من خيار المُوحدين سرًّا، فأحيا الله الميت بدعائهما، فحضر الحبيب وسأله ابنه أمام الملك عما يرى، فأخبر أنه يرى شابًّا في السماء الرابعة يدعو لهؤلاء الثلاثة، ويلتمس من الله حفظهم. فخلَّى الملك سبيلهم، فلما خرجوا من عند الملك همَّ الناس بقتلهم، وقالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ، زجرهم الحبيب، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى، فقتلوه. وقد قال النبي: «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، خربيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم.» وواضحٌ الأصل النصراني مع التأويل الشيعي.

وكالب مجرد اسم علَم مع نسبه، خليفة موسى. أحسن الخلافة حتى مات، واستخلف ابنه في أمور الشريعة حتى مات. وهي قصةٌ سطحية لا دلالة لها إلا من تحويل النبوة إلى ملكٍ وراثي. وهو غير مذكور في القرآن، ولكنه وافد من الإسرائيليات.

وحزقيل هو الذي أحيا الله بدعائه الخارجين حذر الموت بعد أن وقع الوباء في الأرض، وخرج الناس هاربين فماتوا كلهم، ثم مرَّ بهم حزقيل فدعا لهم فأحياهم الله بدعائه. وهو مذكور في القرآن على العموم، وفي الإسرائيليات على الخصوص. ولو أراد الله الخصوص لذكره بالاسم. إحياء الموتى ليس بجديد في اليهودية، والمسيح ليس بدعة نظرًا لإنكارهم إحياء الموتى، فجاء الأنبياء بهذه المعجزة باستمرار.

أما لقمان فكان عبدًا حبشيًّا، نجارًا، عتقه مولاه فنام نومةً أُعطيَ الحكمة بعدها، فانتبه يتكلم. مرَّ عليه قومٌ يُعظمهم، واستعجبوا منه وهو النجار، وسألوه عن سبب حكمته، فأجاب بأنها صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعني الفرد.

ومن فرط إعجاب المسلمين بالإسكندر حوَّلوه إلى نبي حاملًا رسالة التوحيد. وسبب تسميته أنه كان في مقدمة رأسه شبيه قرنَين من اللحم، وهو ما لا يمكن تصوره بدنيًّا، قرنان من الشعر نعم، خاصةً وأن اليونان يُحبون الجمال. وربما لأن له ذؤابتَين لطيفتَين من الشعر، والذؤابة تُسمى قرنًا، وربما لأنه طاف قرنَي الأرض، المشرق والمغرب، وربما لأنه دخل النور والظلمة. وقد اختلف الناس في نبوته مما يدل على أنها عملية تأليه وتعظيم. وربما كان من الملوك وليس من الأنبياء بالرغم من صعوبة التمييز بينهما.١٢

أما الأصحاب فهم أصحاب الكهف، وأصحاب الرقيم، وأصحاب الفيل، وأصحاب الرس، وأصحاب الأخدود، وأصحاب خروان. فعلامات التاريخ ليست فقط الأنبياء، بل أيضًا الأهل والأقوام والشعوب والجماعات. وقد تكون جماعة من الأتقياء مثل أهل الكهف، أو من الأشقياء مثل أصحاب الفيل وأصحاب الرس وأصحاب الأخدود وأصحاب خروان وقوم سبأ؛ فأهل الكهف قصة مذكورة في القرآن أكثر غنًى وتصويرًا مما هو وارد عند الفارابي. هم فِتية من أبناء الملوك في سماط دقيانوس الملك؛ أي إنها قصةٌ حديثة نسبيًّا ربما من النصارى. هجروا أوطانهم هربًا من ظلم الملك وقسوته باحثين عن ملكٍ قديم بِرُّه عميم. مكثوا نائمين جسدًا، يقظين روحًا، وألبسهم الله لباس المهابة. وفي الخيال الشعبي أنهم ناموا بالفعل دون مهابة غير حالقي الذقون؛ فهم ليسوا أنبياء، بل أتباع الأنبياء، أتقياء يفرُّون من المظلم، وينتظرون تغير الزمن؛ فثبتوا هم وتغيَّر الزمن.

وأصحاب الرقيم تكرار لقصة أصحاب الكهف مع مزيد من التجسيم؛ فالترقيم لوح من الرصاص فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، فعيل بمعنى مفعول، وقيل اسم لوادٍ فيه الكهف. وكانوا ثلاثةً خرجوا يرتادون لأهلهم إذ أصابتهم السماء، فأوَوا إلى كهف، فانحطَّت صخرة من الجبل، فانسدَّ باب الكهف. وهي مجرد قصة مُصمَتة خالية من الدلالة المباشرة.

أما أصحاب الفيل فقد عزم ملك الحبشة على خراب الكعبة كي يصبح بيته مَزارًا للناس، فأرسل جنده ورئيسهم أبرهة مع الفيلة. فلما وصلوا جبال تهامة أُخبرَ عبد المطلب جد النبي بقدوم أبرهة، فخرج واعظًا له أن لهذا البيت حافظًا يحرسه. فلم يسمع للنصح، وقصد هدم الكعبة، فنزلت آية وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ؛ أي جماعات بعضها وراء بعض، كزرعٍ أُكِل حبه، وبقي لبُّه، أو كحبٍّ أُكِل لبُّه وبقي قشره.

وأصحاب الرس بقية قوم وهود وصالح، نزلوا إلى البئر، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، وكل ركيَّة لم تُطوَ بالحجارة فهي رس. عمروها وشيَّدوا القصور وكثُرت لهم المواشي. وكانوا يعبدون الجواري والعذارى. فإذا تمَّت ثلاثين يقتلونها ويستبدلونها. بعث الله لهم ثلاثين نبيًّا في شهرٍ واحد فقتلوهم جميعًا، فأرسل لهم نبيًّا وأيَّده بنصره حتى انتقم، ثم أرسل الرياح إلى مواشيهم حتى هلكت، وأرسل جبريل حتى أيبس كل بئر وعين لهم، فماتوا، وعددهم ستمائة ألف، عطشًا. وهي قصةٌ شعبية قد تكون مصادرها عربية أو عبرية لا تصمد أمام النقد العقلي، مثل قتل ثلاثين نبيًّا في شهرٍ واحد، وانتصار نبي واحد مِغوار بدافع الانتقام، وهلاك المواشي مع أكثر من نصف مليون إنسان.

أما أصحاب الأخدود فقد أمر ذو نواس الملك بحفر شق بنجران ناحية اليمن، وأوقد فيه النار، وأحرق من آمن بربِّ صبي عرف الله بتعريفه إياه، ثم قتل الصبي بالسهم. فقد عرف الصبي الله معرفةً فطرية، ومصدرها قصٌّ عربي قديم.

أما أصحاب خروان فمصدرها نصراني. وتدور القصة حول رجل صالح بخروان بين صنعاء واليمن، له بستان يُعطي كل سنة عشرة، وكان له عشرة بنين. فلما مات اتفق الأبناء على ألا يُعطوا شيئًا لأحد، وعزموا على جني الفواكه قبل الصبح قبل ازدحام الفقراء والمساكين، إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، فوجدوا قبل الصبح آثار العذاب فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ؛ أي كالرماد الأسود أو الليلة المُظلمة. وللقصة مضمونٌ اجتماعي واضح، حق الفقراء في أموال الأغنياء، وهو ما أثبته الوحي في آخر مرحلة.١٣
أما قوم سبأ فهي قصة تخلط بين القصة المذكورة في القرآن وروافد أخرى؛ فالاسم لرجلٍ من بلد في فلسطين، وهو بلدٌ سهلٌ كثير الأهل، لهم ثلاث ميامن يجتمع فيها ماء المطر، ولها ورقاتٌ مسدودة بالمسامير لأخذ الماء قدر الحاجة، ولهم بساتين وكروم ورغد عيش، فريدة في الأرض. لم يشكروا نعمة الله، كفروا وتضافروا، ولم يسمعوا دعوة النبي. فأرسل الله إليهم سيل العرم كما هو الحال في سورة سبأ؛ أي ماء الحياض، والعرم فأرةٌ برية لثقب موضع الورقات وقطع المسامير، فسال الماء من الحياض، وضُربت البيوت والبساتين. وبدل الأشجار والرياض والبقول نبت الخمط والأثل والحشيش، وهلكوا بالجوع. والقصة خليط في العقاب بين إرادة الله وقوانين الطبيعة وصناعة الإنسان.١٤

وفي النهاية يدل هذا القصص، المفكَّك عند الفارابي، على أن قصص الأنبياء لم يتحول بعدُ إلى فلسفةٍ غائية في التاريخ، بل هو مجرد قصص مُتجاورة مُتراصة بعضها بجوار بعض لا دلالة عامة لها، ولا غاية نهائية منها. تخلط بين المصادر العربية والعبرية والفارسية، بين القصص الشعبي والقصص القرآني. ولا يتبع القصص ترتيًبا زمانيًّا أو رؤيةً بنيوية، بل تُعنى فقط باشتقاق الأسماء وبالذرية والنسب، وتحديد المواقع الجغرافية، وإجراء المعجزات، وبيان التدخل الإلهي. يغلب عليها التصوف والإيمانيات والإشراقيات، وليس الدخول في العالم والالتزام بقضاياه. وكان من الصعب على المنطقي الفيلسوف، خادم بلاط سيف الدولة، أن يحوِّل قصص الأنبياء إلى تاريخ الثورات على الظلم والطغيان كما حاول حكماء الشيعة، وعلى رأسهم أبو يعقوب السجستاني.

(٢) النبوة وتاريخ الكون (السجستاني)

وتثبت النبوة عند السجستاني عن طريق الموجودات الطبيعية؛ فلا فرق بين الوحي والعالم، بين النبوة والكون، بين الإشراق في النفس والفيض في الكون. ولا فرق في القراءة بين «النبوءات» و«النبوات»؛ فقد كانت وظيفة النبوة عند العبرانيين التنبُّؤ بالمستقبل، ثم تحوَّلت في العصر الإسلامي إلى التشريع للحاضر أساسًا مع بعض القصص للإخبار عن الأمم السابقة، وبعض التطلع نحو المستقبل في الدنيا والآخرة. وهو نفس الاشتقاق مع جواز إسقاط الهمزة.١٥
الكون عند السجستاني تاريخ، والعقائد تاريخ الكون. التوحيد والإبداع والخلق والكون والبشر والنبوءة والإمامة والقيامة والبعث مجموعةٌ تُسمى علم الحقائق، أو علم الابتداء والانتهاء، أو علم المبدأ والمعاد. أما التنزيل فيقوم على التفسير وقصص الأنبياء وأركان الشريعة؛ فالتنزيل هو التاريخ وليس الواقع الاجتماعي، وأما التأويل فهو معرفة أساس العقيدة الباطني.١٦
ويقسِّم السجستاني النبوة سبعة مقالات طبقًا للسيارات السبع، وربما الأئمة السبعة أيضًا، وكل مقال إلى اثنَي عشر فصلًا ربما طبقًا للأئمة الاثني عشر.١٧ وهي بنيةٌ قوية تدل على تحوُّل النبوة إلى فلسفة في الطبيعة، ثم إلى فلسفة في التاريخ. تقوم أولًا على إثبات التفاوت في المخلوقات والتعددية في الكون؛ مما يعني مراحل الخلق والتجلِّي والإبداع بالرغم من التصور الشائع للوحدانية والفِرقة الناجية؛ فشرط إقامة فلسفة التاريخ تعددية البداية ووحدة النهاية، تكثُّر الوسائل ووحدة الغاية، ثم تنتقل ثانيًا من الله إلى النبوة؛ فالنبوة فضل وإصلاح، ولا يوجد إله لا يتكلم ولا يرسل ولا يعتني بالعالم ولا يفيض بمعرفته كما أفاض بوجوده، ثم تثبت النبوة من جديد من جهة الطبيعة المادية أولًا ثم الطبيعة الروحانية ثانيًا، مع مزيد من اليقين في الوجود من نشأته الأولى في الماضي إلى الطبيعة المُتكونة في الحاضر، بدنًا وروحًا، جسمًا ونفسًا، ثم تظهر فلسفة التاريخ بوضوح في تعدُّد النبوات، اختلاف في الظاهر واتفاق في الباطن، كثرة في الوسائل ووحدة في الغاية، تعدد في الشرائع ووحدة في القصد، ثم تتحقق فلسفة التاريخ في النهاية في الأكوار والأدوار، وتحديد طبيعة كل مرحلة ودور كل نبي. والمقالة السابعة بالرغم من أنها مفقودة إلا أنها تُعطي الحجج النقلية على صدق هذه التحليلات العقلية الأولى مع نظرية التأويل، وأشهرها وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.١٨
فلا يوجد إلهٌ مُنفصل عن العالم، بل هناك كون ووحي ورسالة وإنسان وإمام؛ فالحديث عن الله حديث عن الكون والإنسان، والحديث عن الكون هو حديث عن الله والإنسان، والحديث عن الإنسان هو حديث عن الله والكون. كل ذلك في رؤيةٍ فنية وأدبيةٍ واحدة. كتاب «النبوات» أقرب إلى الأدب الصوفي الإلهي ومقدمات الأشاعرة الفقهاء وطلاب دار العلوم، مع بعض المصطلحات الفلسفية المطعَّمة ببعض عبارات القرآن الحر.١٩ يظهر الإنسان عند الشيعة أكثر من ظهوره عند السنة في طريقَين مختلفين؛ تحوُّل الإنسان إلى إله عند السنة، فتحوُّل الإله إلى إنسان عند الشيعة. البشر مركز العالم وبؤرته الأولى، والإنسان هو الوسط بين الله والعالم، أو بين العالم والله.

الهدف من إثبات النبوات هو إثبات التاريخ؛ فلا تاريخ بلا نبوة، ولا نبوة بلا إله، ولا إله بلا عالم؛ ومن ثَم وجب إثبات النبوة أولًا ضد المُنكرين لها لأنها تقوم على المعجزات، ولأنها يمكن أن تُدرَك بالتعليم والاجتهاد، ولأنها تقوم قياسًا على المحسوس مع إغفال المعقول.

وطرق إثبات النبوة ثلاثة؛ طريق الحشوية، والذي يقوم على الروايات والأخبار دون التثبُّت من صحتها، سندًا أو متنًا، ودون التحقُّق من صدقها. وطريق التقليد، وحججه ضعيفة تقوم على التسليم وليس على البرهان. وطريق البرهان قبول الحقائق من النبي والتصديق بها والتحقق من صحتها. وإثبات النبوة بالعقل والنفس، بالتصور والمخيلة، شيءٌ طبيعي؛ فالنبوة وظيفةٌ معرفية، اتصال بين عقلَين، في حين أن إثبات النبوة بالطبيعة هو تحويلها إلى تاريخ، وهي الإضافة الجديدة للسجستاني. وإثباتها بالبراهين جديد أيضًا جدة البراهين. وهي أربعة؛ في الألفاظ المنطقية أي اللغة، وفي التراكيب أي القضايا، وفي النفس، وفي الآفاق وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وأيضًا سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ.

وأحيانًا يصل الإحكام النظري عند السجستاني إلى درجة الوقوع في المذهب المغلق والبنية العقلية والموضوعية، والمذهب القادر على تفسير كل شيء، وهضم كل شيء، الكليات القادرة على ابتلاع الجزئيات. وذلك مثل انقسام الجوهر إلى جسم وروح، وأبعاده النامي والحسي والإنسان والرسول، ومُقابل ذلك بالحروف الخمسة للام والهاء والباء والصاد والطاء، وانقسام العالم كله إلى أربعة اتجاهات،٢٠ وتُقابل الموجودات الأربعة الحروف الخمسة باستثناء اللام.

(أ) التفاوت في الوجود

في المقالة الأولى يتمُّ بحث التفاوت في الوجود طبقًا للعلل الأربعة بمصطلحات الكِندي الأولى، الهلية والمائية والكيفية والكمية، إجابةً على أسئلة هل، ما، كيف، لمَ. فالوجود يقوم على ميتافيزيقا التعدد والاختلاف ضد ميتافيزيقا الوحدة الفارغة الصورية التي يتمثلها الحاكم تدعيمًا لسلطانه السياسي. وهذا التفاوت نِسبي؛ فبين المُتفاوتين اختلاف في بعض الوجوه أو اختلاف في البعض الآخر؛ ومن ثَم لا يثبت التفاوت جملةً ولا يرتفع جملة. أما عالم العقل فليس به تفاوت على الإطلاق.٢١
ومن أجل التفاوت تستقيم أمور العالمين؛ فمراتب الوجود من أجل وحدته، والتنوع من أجل الوحدة، والاختلاف من أجل الوصول إلى الغاية الواحدة؛ فالتعددية هي الأصل باسم التوحيد وإلا كان صوريًّا فارغًا مُصمَتًا عقيمًا.٢٢ هو تفاوتٌ نحو الأفضل والأصلح والأكمل، وهو توترٌ نحو الأفضل بعيدًا عن الأرذل؛ فالعالم يتقدم من الأنقص إلى الأكمل، ومن الأقل فضلًا إلى الأكثر فضلًا.٢٣ هو تفاوت من أجل التعاون والتآلف والانسجام الاجتماعي؛ أي تقسيم العمل كما هو الحال عند الفارابي والمحدثين. هذا التفاوت هو شرعية الاختلاف، ورفض تسلُّط الرأي الواحد والشخص الواحد.٢٤
ويثبت التفاوت ليس فقط في الوجود، في الكون والطبيعة، بل أيضًا في البشر؛ فأفضل المُتفاوتين في هذا العالم هم البشر. فتحليل التفاوت والتعدد إنما يتم في النهاية على المستوى الإنساني؛ التفاوت في الجسم والتفاوت في النفس، والتفاوت في الجسم بين الحس والذات، والتفاوت في الحس في الحواس الخمس، وفي الذات بين الكم والمكان والزمان والإضافة والقوة والفعل.٢٥ والتفاوت في النفس بين الفضيلة والرذيلة، وبين أصحاب الفضائل وأصحاب الرذائل.

ويظهر هذا التفاوت في الثنائيات الأخلاقية المعروفة، الفضيلة والرذيلة، الصدق والكذب، العدل والجور، الحق والباطل، الأمانة والخيانة، البر والفجور، العلم والجهل، الحلم والغضب، الخير والشر، الشجاعة والجبن، الكرم والبخل، العفة والشره … إلخ، وكما هو الحال في أحوال الصوفية.

ويتفاوت البشر في الفضائل إلى سبع مراتب، لكل مرتبة سبعٌ من الشُّعب طبقًا للعدد الرمزي الإسماعيلي، من أسفل إلى أعلى؛ البقاء، وإرسال الرسل، وحسن التدبير، وحسن الوضع، والمنطق، والعقل، ومعرفة المبدع. ويكفي فقط ضرب المثل بشُعَب العقل السبع، وهي معرفة العلل والمعلولات، والعدد والمعدود، والبسيط والمركب، والمتقابلات، والعقل نفسه، ومرموزات النفس، والبراءة من التعطيل. وتتداخل الشُّعب فيما بينها مثل معرفة الله والعقل.٢٦

وقد يدرك بعض المُتفاوتين مرتبة غيره؛ فكل مراتب الوجود تقوم بوظيفة واحدة بالرغم مما بينها من تفاوت، مثل الألحان المُتفاوتة في النغم الكلي العام؛ لذلك يدرك كل نبي مرحلتَين؛ المرحلة السابقة عليه، والمرحلة التالية له.

وهو تفاوت في الأخلاق وفي الفضيلة، وليس في العُرف أو الطبقة والنسب. هو تفاوت في ممارسة الحرية والسبق في تحقيق الدعوة وأداء الأمانة.

لقد وقع الدين مُقابل النوع الأفضل وهو الإنسان؛ لأن غايات السياسات وأحسنها إنما هو الدين، وأفضل الحيوان وأعدله تركيبًا وأقومه مزاجًا وأحسنه تقويمًا البشر؛ فلزِم أحسن الأنواع في باب التقويم أحسن السياسات في باب الوضع.٢٧

وفي صورةٍ أعم للمراتب شعبها تشمل معرفة المبدع الطبيعيات والرياضيات والنفس. ويرتبط العقل بالحس، ويتجاوزه إلى النفس، ثم إلى الاستشهاد والاعتبار والاستدلال. والمنطق كله أخلاقٌ ثلاثية بين الشيء وتجربته وضده، إيجابه وسلبه. وحسن التركيب هو بناء البدن، وحسن التدبير العمران والإنسان المدني وعلاقته بالطبيعة.

وإرسال الرسل أره الإنسان والمجتمع وتأسيس الدولة، والبقاء أمور الأخرويات والمعاد بالرغم مما فيه من تشبيه وتجسيم مثل الحشوية. الفضائل العملية جزء من المنطق، وعلم الميزان يصف تقابل كل شيء مع كل شيء، بين الشريعة والحقيقة. وكل ذلك مقدمة للنبوة؛ الإنسان والطبيعة والتاريخ. ٢٨

وأفضل المُتفاوتين من البشر هم الرسل. وهنا تبدأ فلسفة التاريخ بالمعنى الدقيق، تفاوت الرسل أي تفاوت مراحل التاريخ، وتفاوت الفضل في الرسل هو تفاوت المراحل بين السابق واللاحق، المتأخر والمتقدم.

هناك تفاوت في الأنبياء، في اختيار الإنسان؛ فالعلة التي يختار من أجلها الله بعض عباده للرسالة ليعبِّر مما صوَّر الروح الأمين في قلبه من علوم الملكوت بلسان القوم المختلفين عن قبوله، فيجري ذلك في مسامعهم، فيكون بسط العدل ووضع الشيء في موضوعه. وهو معنى تمام الحكمة وأصل العدل. الرسالة علاقة شعور بشعور، شعور الله بشعور النبي بشعور متلقِّي الرسالة؛ أي المكلَّف من أجل تحقيق الحكمة والعدل، ومن الذهاب إلى إطلاق صلاح الناس إلى تنظيم المجتمع وإقامة الدولة. فإذا قام قائم في بعض الأدوار تجمع الناس تحت شريعة واحدة لم يتردد أحد في اتباعه، ولم يشك في سلطة، فيكون في ذلك دوم الصلاح لهم في المعيشة.

ولا يختار الله أحدًا ممن أشرك في الإمامة، وكأن الشرك بالإمامة شرك بالله! فبالإمامة تصح النبوة، وبالنبوة يقوم العالم.٢٩
وقد رخَّص الأنبياء لأنفسهم ما حظروا على أممهم، وحظروا على أنفسهم ما رفضوا لأممهم؛ فالزعامة لها مطالبها وخصائصها. يأخذ الأنبياء أنفسهم بالقدوة حين يحظروا على أنفسهم ما يرخِّصون به لأمتهم في مباهج الحياة، والتمتُّع بطيبات الدنيا والميراث وترمل أزواجهم، ويرخِّصون لأنفسهم ما يحظرون على أممهم مثل الإكثار من الزيجات. وهو ما قد يعتبره البعض كيلًا بمِكيالَين؛ تحريم على النفس ما يحلل على الآخرين بطولة، وتحليل للنفس ما يحرم على الآخرين أقل من ذلك بكثير. وقد ينقص ذلك من عمومية القانون الخلقي وشموله.٣٠

والأنبياء وإن كانوا في غاية الفضل إلا أنهم مُتفاوتون فيه، وهو ليس فضلًا شخصيًّا أو كونيًّا، بل مرحليًّا في مسار التاريخ. فالتفاوت على ثلاثة وجوه؛ تفاوت مع اتفاق، ومعرفة المؤمنين اختلاف الشرائع، واتفاق الماهية. وعبور المراحل من أول الدور إلى آخره؛ أي الإيمان بكل الأنبياء. الأول لليهودية، والثاني للمسيحية، والثالث للإسلام، على ما يبدو من طبيعة كل مرحلة؛ مما يسهِّل مقارنة الأديان والحوار فيما بينها.

والتسخير تسخيران؛ تسخير طبيعي مثل إنزال الأمطار، وتسخير إرادي وهو إرساله الأنبياء. ولا يوجد أحدٌ دبَّر سياسة البشر سياسةً عامة غير الرسل.

(ب) إثبات النبوة الطبيعية

وتثبت النبوة من جهة الأجناس الطبيعية الخمسة؛ الأجناس والأنواع والفصول والخواص والأعراض، ثم تنقسم الأغراض إلى السبعة طبقًا للأئمة الاثني عشر؛ الحركات الكيفية والكمية، والأزمنة أي المتى، والأمكنة أي الأين، والفساد أي الوضع، والقضاء والاختلاف أي الملكية، والإضافة، والأفعال، أن يفعل وأن ينفعل. يستعمل السجستاني اللاهوت الطبيعي وليس «اللاهوت الشخصي» كما هو الحال عند أهل السنة، إثبات النبوة بالطبيعة، والإنسان جزء منها، والعقل والعلم والبرهان أجزاء فيه. هذا الالتصاق بالعالم كله وبالكون عند الشيعة قد يكون رد فِعل على ضياعه وفقدانه كنظامٍ سياسي.٣١ الأجناس والأنواع منطقيةٌ طبيعية نظرًا لوحدة العقل والطبيعة. الجوهر روح وجسم، والجسم غير نامٍ ونامٍ، والنامي غير حي وحي، والحي حيوان وإنسان، بالرغم من تفصيل الحي إلى فرس وبغل، والإنسان إلى محمد وخالد ويزيد.٣٢ النبوة إذن نوعٌ من أنواع الحيوان الطبيعي يجمع صلاح الدنيا والآخرة.
وهو تفاوت في الطبيعة، في حركاتها ومستوياتها، في الحيوان والنبات والمعادن، وهو عالم التراكيب. وفي هذه الحالة لا فرق بين النبوة والفيض، بين المعرفة والوجود، بين العقل والكون، بين الله والعالم، وكلها مظاهر للعقل. ويضم ست مراتب؛ الأول الجوهر، الأفلاك والنجوم والأمهات والنبات والمعادن والحيوان. والثاني الجسم، الأمهات المستحيلة، المعادن والنبات والحيوان، ويبزغ الإنسان المؤيد. والثالث النبات، الحيوان والإنسان المؤيد، ويسقط النبات والمعادن. والرابع الحياة، الحيوان والإنسان المؤيد. والخامس النطق، الإنسان المؤيد، ويسقط الحيوان. والسادس القدس، وهم المؤيدون فقط الذين يفوقون البشر.٣٣
والعبادة تُقابل الأجناس الطبيعية؛ فالعبادة جنس الأجناس، وهي عبادةٌ محضة أو عبادةٌ شريعية. والعبادة الشريعية ست مِلل؛ عبادة الكواكب، عبادة النيران، اليهودية، النصرانية، الإسلام، ثم فِرقه؛ التوحيد والقدرية والمرجئة.٣٤
وإثبات النبوة من جهة الخواص الطبيعية أيضًا ممكن؛ فقوة جذب الحديد مثل قوة جذب القلوب بصرف النظر عن أيهما حقيقة وأيهما مجاز.٣٥ الخاصية ما تعمُّ كل النوع ولا يُشارك في كل وقت، أو ما يعمُّ كل النوع ويُشارك في وقتٍ دون وقت، أو ما يعمُّ نوعًا واحدًا يُشارك غيره، أو نوعًا واحدًا لا يُشارك غيره. وينطبق على الطبيعة والنبوة على حدٍّ سواء.٣٦
والتشابه بين الأعراض في الطبيعة والنبوة أيضًا قائم؛ فالأعراض غير زائلة أو زائلة مثل ثبات الحكم وتجديد الشريعة. والأعراض تحول واستحالة، وهي في النبوة الفسخ، وهي الرفع دون الفساد، وللحامل وكذلك النبوة. وتثبت النبوة من جهة الحركات الطبيعية؛ فإذا كانت الحركة الطبيعية إلى الوسط ومن الوسط وعلى الوسط، فكذلك النبوة إلى الوسط من نزول التأييد من عالم البسيط من قبل السابق والتالي على قلب الناطق والأساس، ومن الوسط من مثل قلب الناطق والأساس لقبول فوائد الأصلين، وعلى الوسط مثل إلزام الشهادة للواحد الفرد للفردانية على جميع الحدود ونفس صفات الخلق عن التوحيد. والحركة الطبيعية ست؛ كون، وفساد، وزيادة، ونقصان، واستحالة، وانتقال. والنبوة أيضًا ست؛ كون الشريعة، فسخ الشريعة، قلب الناطق بالزيادة، نقص ميله إلى الهوى والأعراض، والاستحالة من الإيمان إلى الأذن إلى الجناحية إلى اللاحقية إلى الإمامة إلى الأساسية إلى الناطقية، واستحالات انتقال الأنفس من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وانتقال النفوس بالنبوة من القوة إلى الفعل. والسؤال هو: وهل سكون الطبيعة مُشابه أيضًا لسكون النبوة؟ ومتى تسكن النبوة؟ في حالة الضعف والانهيار؟٣٧
ويزداد الأمر صعوبةً وتعقيًدا إلى درجة الغموض في التعرُّف على التقابل بين النبوة والطبيعة والوقوع في النسق المُغلَق، وكأن التقابل قد أصبح غاية في ذاته كإبداعٍ عقلي أكثر من كونه دلالةً على السياسة أو التاريخ. وبعض الساحات ما زالت فارغة دون تقابل.٣٨
وتسهُل الأمور تدريجيًّا في إثبات النبوة من جهة الإضافة والأفعال؛ إذ تثبت النبوة بإضافة البعث والثواب والعقاب والصلوات. وهو دَور؛ لأن هذه المُضافات قد عُرفت بالنبوة، ولو عُرفت بدونها فما وجه الحاجة إليها؟ والتفسير يكون بالأقل لا بالأكثر. والمضاف نوعان؛ نظير مثل الشريك والصديق والعدو، وغير نظير. وكذلك النبوة نوعان؛ نظير، وهو النبي ثم القائم؛ وغير نظير، وهو النبوة ثم الإقرار بالصانع. وإثبات النبوة من جهة الأفعال؛ فأفعال الطبيعة والنبوة ثلاثة أنواع من أدنى إلى أعلى؛ فِعل طبيعي في كل وقت للبدن، وفعل إرادي في بعض الأوقات لمصالح الأبدان، وفعل ناموسي شرعي، وهو أفضل من الفعل الطبيعي والفعل الإرادي.٣٩

(ﺟ) إثبات النبوة النفسية

والنبوة نتيجةٌ طبيعية للخلق؛ إذ لما ثبت أن لهذا العالم صانعًا حكيمًا وجب أن يكون منه رسول إلى المصنوعين.٤٠ فالتفاوت يؤدي إلى التقارب، والثنائية تحتاج إلى الوحدة. العالم مصنوع، ليس فقط عالم الطبيعة، بل أيضًا عالم الإنسان؛ لذلك كانت النبوة ليس فقط للإنسان، بل للطبيعة كلها. هي إيجاد الواسطة بين الطرفَين، والعلاقة بين العالمَين، الإياب بعد الذهاب. النبوة إذن أحد مظاهر عناية الله بالكون ولطفه به وصلاحه، كما هو الحال عند المعتزلة.

وهذه الواسطة بين الخالق والمخلوق هو العقل حتى قبل لنبوة؛ فالعقل رسول بالمعنى المجازي، وهو القادر على التوسط بين العالمين، بين الروح والطبيعة، بين الذات والموضوع؛ فالالتزام بالعقل هو التزام بالنبوة. وهو مثل قول المعتزلة إن الناس مُتعبَّدون بالفعل قبل الشرع. وقوام العقل هو الأمر والنهي؛ أي الفعل الأخلاقي. وهو فضل على المأمور به وتكريم له مثل النطق.

وقد ظهر العقل في الإنسان في أربعة مواضع؛ في العزيزة؛ أي في الطبيعة، ثم في الرسالة؛ أي في الفكر، ثم في الشريعة؛ أي في الفعل، ثم في التأويل؛ أي الفهم. وهي أربعة وظائف مُتكاملة لا غنى لأحدها عن الأخرى. الموضع الأول وحده، أي العزيزة، يُوقع في التعطيل، والرسالة وحدها تُوقع في العمى والتضليل، والشريعة وحدها تُوقع في الغمة والتشبيه. ومن حصل على هذه الوظائف الثلاثة بالإضافة إلى الرابعة، أي التأويل، استمسك بالعروة الوثقى، واستحقَّ أن يكون حكيمًا بالغريزة، مُتدينًا بالرسول، مُسلمًا بالشريعة، مؤمنًا بالتأويل.٤١ وقد يتحول العقل إلى نوعَين؛ كثيف يشمل الطبيعة والرسالة، ولطيف يشمل الشريعة والتأويل. وهي قسمةٌ إبداعية خالصة لا شأن لها بأنواع العقل الأربعة عند الحكماء، القوة والفعل والمستفاد والملكة والهيولاني والفعَّال والمُنفعل. وقد يكون ذلك تأويلًا للفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان؛ فالغريزة عقلٌ مكتسَب وهي الحكمة، والرسول عقلٌ ناطق وهو الدين، والشريعة عقلٌ مؤتلف وهو الإسلام، والتأويل عقلٌ مكسوب وهو الإيمان.٤٢

وقد تكون الواسطة عند الحيوان هي الأعضاء؛ فالوحي عام للإنسان وللطبيعة، والأمم كثيرة من الجن والإنسان، الحيوان والإنسان؛ فالأعضاء أول رسول من الطبيعة إلى الحيوان. فالواسطة نوعان؛ جسماني للحيوان، وإنساني للإنسان. فطُرُق الوحي ثلاثة؛ الرسول مثل وحي محمد، والوحي المباشر مثل وحي عيسى، والتستُّر من وراء حجاب مثل وحي موسى. ومن ثَم فإن عبادة الله من غير واسطة الرسل في العالم الجسماني باطلة. المُتعبد كالمريض، والعبادة مثل الطب والرسول.

ويسهُل إرسال الرسل بعد أن أصبح النطق في الإنسان جوهريًّا غريزيًّا، وأصبحت العبادة في النطق تُصور فكرته قبل النطق بالعبارة. كذلك الرسالة شيءٌ جوهري في غريزة الرسول، وتكون عبارته شبيهة بعبارة المنطقي، تكشف عما في قلبه من وحي الله؛ فالمعنى من الله، والتأليف من الرسول. الوحي بالمعنى وليس باللفظ.٤٣ والحقيقة أن المنطق ليس كالوحي؛ فالمنطق فكرٌ نظري، والوحي توجُّه عملي. المنطق بحث عن البرهان، والوحي يقين بلا برهان.
لذلك تثبت النبوة من جهة النفس والعقل؛ أي من جهة الأشياء الروحانية؛ فنفس الحكمة وجوب الرسالة. وأول رسالة يؤديها العقل إنما هي معرفة المُبدع. تثبت الرسالة من جهة العقل، والنفس، والأعداد، والفكر والحفظ، والمحبة والغلبة، والسعادات، والكرم والشرف؛ إذ تظهر الأعداد والرياضيات والانفعالات في النفس.٤٤

الحكمة علم وعمل، وكذلك النبوة. والعمل في الحكمة سياسة العامة مثل الأعياد، وسياسة الخاصة مثل تأديب الرجل لأهل بيته، وسياسة خاصة الخاصة، سياسة المرء مع نفسه. وكذلك الأمر في النبوة. والعلم عند الحكماء علم الطب والصناعات للعامة، وعلم التنجيم للخاصة، وعلم اللاهوت لخاصة الخاصة. وكذلك النبوة للعامة، وهي معرفة الأبدان، المنافع والمضار، وللخاصة معرفة السموات والنجوم والأرض، ولخاصة الخاصة معرفة الله والملائكة.

وقد يكون مصدر هذا التشابه أن النبوة هي الباعث على الحكمة.٤٥ كما تتَّفق الحكمة والشريعة في العلم والعمل، تتَّفق أيضًا في الفضائل وفي صلاح العباد وتحقيق العدل في العالم. وإذا كانت الحكمة علمًا وعملًا فالنبوة أيضًا علم وعمل. وإذا كان العلم في الحكمة ثلاثة؛ الأدنى والأوسط والأعلى، فالعلم في النبوة أيضًا ثلاثة؛ العفة والكلام والتأويل. وإذا كان العمل في الحكمة سياسة العامة وسياسة الخاصة وسياسة خاصة الخاصة، فإن العمل في النبوة سياسة الأحوال وسياسة الأبدان وسياسة الأرواح.٤٦
وتمنع الحكمة الإنسان عن كثير من هوى النفس، وكذلك الرسالة تأمر بالطاعات؛ فالرسالة توجب ما توجبه الحكمة، والحكمة توجب ما توجبه الرسالة إيجابًا وسلبًا. والحكمة إعطاء كل ذي حق حقه، وكذلك الرسالة الأولى عن طريق العقل، والثانية عن طريق الناموس، كلٌّ منهما غاية للأخرى. والنفس مُتوسطة بين عالمَين، النطق للإنسان المؤيد بالقوة المُتحركة بالفعل، والنماء للنبات، والحيوان بالقوة الطبيعية الساكنة بالفعل على محورٍ رأسي، وهي مُتوسطة على محورٍ أفقي بين الحس للحيوان، وهو إنسان بالقوة متحرك بالفعل، والقدس المؤيد الناطق الساكن بالفعل.٤٧
وأول رسالة يؤديها العقل إنما هي معرفة المُبدع؛ أي العقل في الوجود وتجلِّي الله في الخلق. هو العقل الكوني وليس العقل الاستدلالي، العقل المجسم الذي يكتشف تخلُّق الموضوع. وهو أيضًا العقل أساس التكليف؛ إذ تسقط الشرائع بانعدام العقل، وبدون العقل ينعدم التكليف. وإذا كان العقل من الله بلا واسطة، والرسالة بواسطة، فالعقل أعلى.٤٨
وتثبت النبوة من جهة النفس. فإذا كانت النفس نامية وحسية ناطقة، فالرسالة هي الناطقة، وأركان الإسلام الخمسة هي القوى الحسية الخمسة. وإذا كانت قُوى النفس ظاهرة للعالم الجسماني، وباطنة للعالم الروحاني، فكذلك حدود الرسالة جسمانية الأساس، واللاحق، واليد، والجناح؛ وروحانية الإعلان، والجد، والفتح، والخيال. النفس علة الحركات الطبيعية، والنبوة علة الحركات الدينية. النفس علة الحركات الكونية، والنبوة علة الحركة في التاريخ. وإذا كانت النفس تنمو من النباتية إلى الحيوانية إلى الإنسانية، فكذلك الرسالة تُنسَخ وتتبدل. وإذا كانت النفس الناطقة أعلاها، فكذلك الإسلام أتم الرسالات، والقرآن معجز بكلامه ونظمه.٤٩
وإن منزلة الحي الناطق غير المؤيد عند الحي الناطق المؤيد كمنزلة الحي الحسَّاس غير الناطق عند الحي الحسَّاس الناطق؛٥٠ فالحياة والنطق والتأييد ثلاثة مستويات للوعي. ونسبة الحياة للنطق كنسبة النطق للتأييد، ونسبة النطق للحياة كنسبة التأييد للنطق. وقد وجب على النفس الخضوع للعقل، وهو علة لها وأنس لوجودها.٥١
وتثبت النبوة من جهة الأعداد؛ فالأعداد من الأمور الروحانية، وهي نفس البيئة الثقافية التي أفرزت رسائل إخوان الصفا. العدد زوج، والشريعة شهادتان؛ شهادة الوحدانية وشهادة الوصاية، والزوج اثنان، وهي الظاهر والباطن. تتَّفق الرسالة مع الأعداد من جهة التقاسيم، الثلاثة ركعات وطلاق وصدقات، والأربعة فرائض ونكاح، والخمسة الزكاة، والستة الأيام، والسبعة الطواف وآيات الفاتحة وعدد أبواب جهنم وتقسيم القرآن، والثمانية مقدار الحبوب … إلخ. وإذا كان العدد من حيث الكم مُنفصلًا كالعدد في الحساب والقول، ومُتصلًا في الخط والسطح والجرم والزمان والمكان، فإن الرسالة أيضًا جمع بين المُنفصل والمُتصل في سبعة؛ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والقائم. الأعداد رسل بعضها لبعض، وكذلك الرسل. وإذا انقسم العدد إلى آحاد وعشرات ومئات وألوف، فكذلك الرسالة مُرتبطة بالأصول الأربعة؛ السابق والتالي والناطق والأساس.٥٢ فصحة الرسالة قائمة على صحة الأعداد، وهو دليلٌ خارجي وليس دليلًا داخليًّا.
وتثبت النبوة أيضًا من جهة الفكرة. وشوق التفكير لا يكون من جهة الاستدلال، بل من جهة البحث والإلهام؛ فالفكر في الحكمة يُعادل الإلهام في النبوة، العقل والقلب، التصور والحدس، ثم يتحول الفكر إلى عبارة في اللسان، والرسالة في القلب قبل النطق. الفكر وسيلة للتحقق من صدق النبوة وصدق الاتباع. التحقق بالفكر صعودًا وليس هبوطًا. ويأتي الصدق بعد الكذب. وكما أن الفكر يختلف بحسب الأزمنة والأوقات والأمكنة والأفعال كذلك الرسالة؛ إذ تنمس النواميس على هيئة الزمان الذي يليق بها. وكما أن الفكرة منها خبيثة ومنها صحيحة مستقيمة، كذلك الرسالة منها الابتداع والكذب ومنها الصدق والبرهان.٥٣

وتثبت النبوة من جهة الحفظ. ويثبت الحفظ بإثبات الحافظ؛ إذا بطل الحافظ بطل الحفظ، وكأن الحفظ يتمُّ بعاملٍ خارجي وليس بعاملٍ داخلي، بالحفظ الذاتي مثل الصدق الذاتي. فإذا ما بقي الحفظ بعد غياب الحافظ كان أيضًا حفظًا صريحًا، وكل حفظ آخر يكون مجازًا بالقياس له؛ فقد حُفظت النبوة بوجود النبي، ثم لم تبطل بعد غيبته، بل حفِظها المشاركون له في النوع، واجتهدوا في الحفظ. وهو أشبه بحفظ الكتاب المقدَّس عند النصارى المشروط بحفظ الكنيسة له، وليس عن طريق التواتر. ومثل ذلك الحفظ في اللوح المحفوظ الذي نُقشت به كل الكائنات التي كانت وتكون إلى نهاية الزمان.

ويمكن أن يكون الحفظ أيضًا بالقلب ابتداءً من الحواس الخمس، مثل حفظ الملموسات والمذوقات والمشمومات والمسموعات والمبصرات، مثل حفظ الحدود الخمسة الروحانية. وهو أيضًا الحفظ في القلب مثل حفظ المُرتادين. والسؤال هو: وماذا عن الحفظ في الواقع وإبقاء الشريعة كنظامٍ مثالي للعالم الذي لا يتم إلا بعمل الأفراد والجماعات والنُّظم السياسية؟٥٤
وتثبت النبوة أيضًا من جهة الذِّكر. والذِّكر مثل الحفظ؛ لذلك يُسمى القرآن الذِّكر. كلاهما في النفس قوة، وكلاهما ذكر للتاريخ وحفظ له في الزمان. والذكر طرفان ووسط مُعتدل، والرسالة أيضًا طرفان ووسط. كلاهما يتجدد باستمرار بدليل النسخ، وكلاهما قوة في النفس الناطقة، كلاهما قوةٌ مزدوجة مع الصورة وهو الذكر، ومع الوصاية بعد النبوة. فالنبوة مثل غيرها من مظاهر العلم والفن في النفس وقواها الداخلية. يتذكر الإنسان أحوال الخلقة من البداية إلى النهاية. وكذلك الرسالة تقوم على التذكر بالخالق وعظمته، وبتاريخ الأمم الماضية للعبرة إيجابًا أم سلبًا، والدروس المستفادة منها. الذكر من قوى النفس الناطقة، وكذلك الرسالة والوصاية والإمامة واللاحقية والجناحية وسائر الحدود.٥٥
وتثبت النبوة من جهة المحبة؛ فمحبة الرسل راسخة في قلوب أتباعهم أكثر من محبتهم لأولادهم وأهليهم وأصدقائهم وآبائهم وأمهاتهم؛ مما يدل على أنها من جهة رسالة خالق لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، والفضل موجود في الشيء، من غيره لا يكون إلا من جهة المحبة. وهو الفضل الموجود في المؤمنين الآتي من الرسالة. كما تُورث المحبة الأُلفة وترفع الشحناء كما تفعل الرسالة.٥٦ ويمكن الاستمرار إلى ما لا نهاية على هذا النحو. كل شيء إنساني يوجد أيضًا في النبوة؛ ومن ثَم يظهر الاتفاق بين الطبيعة والوحي، بين التجربة الإنسانية والنبوة.
وتثبت النبوة أيضًا من جهة الغلبة، وهي غلبةٌ إبداعية يظهر بها الرسل وينتصرون على أعدائهم؛ مما يدل على صدق النبوة بالرغم من تعارض الغلبة مع المحبة. كما أن الغلبة قهر، والقهر ليس برهانًا للصدق؛ فالأقوى ليس هو بالضرورة الأحق. وهي غلبةٌ موهوبة من الله تُمكن الرسل من تحقيق سياساتهم وإضعاف قوة صاحب الملة؛ فهي قوةٌ إلهية مما يُسهِّل استخدامها أحيانًا من السلطة السياسية فيزداد القهر قهرَين، غلبة النبي بالدين، وغلبة الملك بالدولة. وقد تكون الغلبة بالكلام؛ أي الأمر والنهي والشرائع، وبلغة العصر الثقافة والإعلام. وماذا عن المُنكرين للنبوة والوحي، أين غلبة الرسل؟٥٧
وتثبت النبوة من جهة السعادات. فالسعادات نوعان؛ دنيوية وأخروية. والدنيوية أربعة أنواع؛ صحة البدن، وكثرة الأحوال، وكثرة الأولاد والأبوة والبنوة، والعز والرئاسة. والأخروية نوعان؛ الخلاص من العقاب، والوصول إلى الثواب. وكذلك النبوة خاصة النوع الرابع من السعادة الدنيوية التي لا تكون إلا بالرياسة؛ فالرياسة لا تكون إلا من جهة الرسل؛ فرؤساء العالم الذين بأيديهم الأحكام والملك، براهمة وأساقفة أو جواليت أو سوابدة أو علماء أو فقهاء. والسؤال هو: وماذا عن الدول التي لا أديان لها، ألا تعرف السعادة؟ وماذا عن الذين لهم الحكم والسلطة بلا نبوة مثل القادة والزعماء وهم ليسوا أنبياء، هل يكونون أنبياء بالضرورة؟ هل ماركس وماوتسي تونج أنبياء؟٥٨
وتثبت النبوة أخيرًا من جهة الكرم والشرف؛ فإذا كان الإنسان أشرف العالم، وكان كل شيء يستحقُّ أن يكون شريفًا، فالجامع لنوع الإنسان بتملُّكه عليهم أشد استحقاقًا لأنْ يُسمى شريفًا، وهم الرسل المستحقُّون لاسم الشرف. وإن كان شرف الإنسان بمقدار شرف ما يبلغه من أهل الصناعة، فلا أشرف من الرسل الذين أجادوا صناعة التبليغ والإعلان والصدق. وإذا كان الإنسان شريفًا فإنه لا يتعامل إلا مع ما هو شريفٌ مثله. ولما كان الملك شرفًا لذوي المملكة وُجدت النبوة على نمط الملك. الأول للدنيا، والثاني للآخرة. وكثيرًا ما يختلط الأمر فيتحول ملك الدنيا نبيًّا بل وإلهًا كما هو الحال في السلطة السنية، كما يتحول نبي الآخرة ملكًا بل إلهًا كما هو الحال في العقائد المسيحية.٥٩
والأنبياء مُتفقون في الحقائق مُختلفون في الظواهر. هم من معدنٍ واحد ولو اختلفت أوضاعهم؛ فقد عاينوا العالم البسيط، وقدروا على مخاطبة الروحانيين، فوجب أن يكونوا على اتصال بهذين الجوهرين مهما اختلفت أوضاعهم وأزمنتهم وأمكنتهم. وحدة المنبع وتعدُّد المصب. وحدة الأصل وتعدُّد الفروع. وحدة الدين وتعدُّد الشرائع. كما تختلف اللغات والمعنى واحد، وكما تختلف المهن والصنائع وكلها تصدر من منبعٍ واحد وقصدٍ واحد هو القلب. ولو لم يكن الأنبياء من مصدرٍ واحد لما جازت شهادة بعضهم على بعض، وتصديق بعضهم لبعض. وكما أن العدد هو أصل الحساب، والأسطقسات الأربعة أصل الموجودات، فكذلك النبوات أصلها واحد.٦٠

ويقبل الرسل الرسالة من المُرسِل عن طريق الخاطر في النفس، ثم التعبير عنه بألسنة قولهم وبلغاتهم. المعنى من الله، واللفظ من النبي. وبين الخاطرات واللغات مناسباتٌ روحانية ومشاكلاتٌ نفسية سمَّاها الفقهاء «أسباب النزول» قبل تحويل الواقع الاجتماعي إلى ظواهر نفسية.

ويتأكد الناطق بأن اللفظ الذي اختاره النبي مُطابق للمعنى الذي قذفه الروح الأمين في القلب من صناعة الأشياء ليبلِّغه إلى الأمة، فيتأكد الاصطلاح الموضوع ودلالته على الزمان؛ فالناطق هو المفسِّر المُجتهد الفقيه المجدِّد لمعاني الألفاظ طبقًا للحاجات المُتغيرة لكل عصر ومفاهيم الخير والشر والتحليل والتحريم، والدلالة بالكل على الأجزاء، مثل ا ل ل ﻫ التي هي مجرد حروف مُتفرقة، ولكنها مجتمعةً تدل على الله.

النبوة إذن في حاجة إلى واسطة؛ فالمقبول إما عن طريق الوهم بالخاطرات والتفكر في خزائن العقل أو عن طريق السمع بالكلام. ويبطل طريق السمع لأن المُتكلم في حاجة إلى مُتكلم إلى ما لا نهاية، ولا ضرورة لنبي لأن الأمة قادرة على السمع. إذن لا بد من القبول بالخاطرات. وهي نوعان؛ خطرات الرسل التي قد تتعرض لسوء المزاج، وخطرات الأم وهي مقدَّسة. فالرسل ليسوا معصومين في حين أن الأمومة كذلك. وهذه هي الطُّرق الثلاثة التي وصفها القرآن؛ الوحي أي السابق، ومن وراء حجاب أي التماهي مثل حي بن يقظان بين الطبيعة والعقل، وإرسال الرسول وهو الناطق.

فالكلام أولًا في عالم النفس والعقل عند الأساس، وعنصر رابع يتحول إلى وحي بغير صوت ونغم، بل بمجرد بيان أول وتراكيب أولى عند الرسول، ثم يُحوله الناطق إلى كلام بالصوت والتأليف.٦١ الكلام من جهة تأييد السابق، ومن جهة التراكيب، ومن مهمة تأويل الأساس، ومن جهة ما ادَّخره الأئمة. له تأويل، باطن في القلب، ظاهر في الحواس، يفيض إفاضةً محضة في قلوب الناشئين في أدوار الستر.
١  لا تظهر الاستشهادات في كل الأنبياء. هناك قرآن وحديث في سبعة أنبياء؛ آدم ولوط ويوسف وسليمان ومحمد، وقرآن فقط في أحد عشر نبيًّا؛ موسى وشمويل ويونس وعزيز وعيسى وحزقيل وأصحاب الفيل وأصحاب الرس والرسل الثلاثة وأصحاب رضوان وقوم سبأ، وحديث فقط في ثلاثة أنبياء؛ إسماعيل وإسحاق وشعيب. وهناك استشهاد ببعض الإسرائيليات.
٢  السابق، ص٩٠٦–٩٨.
٣  وقد جعل فولتير ذلك أساس التشبيه، وفيورباخ أراد إرجاع صورة الله الإنسانية إلى الإنسان حتى يستردَّ وعيه بذاته ودون أن يقذفه خارجها (انظر دراستنا «الاغتراب الديني عند فيورباخ»، دراسات فلسفية، ص٤٠٠–٤٤٥).
٤  اللغة الأم Ursprache.
٥  الفارابي، الأسئلة اللامعة، ص٩٧-٩٨.
٦  السابق، ص٩٩-١٠٠.
٧  السابق، ص١٠٠–١٠٢.
٨  السابق، ص١٠٢–١٠٥.
٩  السابق، ص١٠٦-١٠٧.
١٠  السابق، ص١٠٨.
١١  السابق، ص١٠٨–١١٩.
١٢  السابق، ص١١٠–١١٤.
١٣  السابق، ص١١٠–١١٤.
١٤  السابق، ص١١٤-١١٥.
١٥  الفيلسوف الإسماعيلي أبو يعقوب إسحاق السجستاني، إثبات النبوات، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية ١٩٨٢.
١٦  السجستاني، النبوات، مقدمة، ص د.
١٧  وهي المقالات السبع الآتية:
  • (١)

    في الإبانة عن التفاوت الموجود في المخلوقين.

  • (٢)

    في أنه لما ثبت أن لهذا العالم صانعًا حكيمًا وجب أن يكون منه رسول إلى المصنوعين.

  • (٣)

    في إثبات النبوة من جهة الأشياء الطبيعية.

  • (٤)

    في إثبات النبوة من جهة الأشياء الروحانية.

  • (٥)

    في أن الأنبياء كانوا مُتقفين في الحقائق وإن كانوا مُختلفين في الظواهر.

  • (٦)

    في كمية أدوار النطقاء وما بين كل دور والدور الآخر.

  • (٧)

    في العجائب الموجودة في القرآن والشريعة والدالة على إثبات نبوة محمد.

١٨  هي مفقودة، وموضوعها التقيَّة، ومطابقة الحروف والكلمات والآيات والسور وعِللها وأسبابها ومعانيها والحكمة من وجودها، وخاصةً في أوائل السور القرآنية، والعلة التي وُجدت من الشهادة والصلاة والحج والزكاة والمحكم والمتشابه في القرآن (النبوات، مقدمة، ص ح – د ب).
١٩  والمقالات السبع مُتساوية كمًّا باستثناء الخامسة (٢٦ص)، والسادسة (١٣ص).
٢٠  السابق، ص١٥–١٧.
٢١  السابق، ص٢٠–٢٣، ٢٧–٢٩، ٤٦–٤٨.
٢٢  السجستاني، النبوات، ص٧، ٢٤–٢٨.
٢٣  وهي فلسفة التفاؤل المشهورة عند ليبنتز في الفلسفة الغربية.
٢٤  انظر دراستنا «حق الاختلاف»، هموم الفكر والوطن، ج١، الذات والعصر والحداثة، ص٢٢٩–٢٣٨.
٢٥  السابق، ص٢٥.
٢٦  السابق، ص٣٠–٣٦، ٤٣–٤٥.
٢٧  السابق، ص٩٠.
٢٨  السابق، ص٣٧.
معرفة المبدع العقل المنطق حسن التركيب حسن التدبير إرسال الرسل البقاء
العلة والمعلول الاعتبار العلم والحكمة الإحاطة، الجهل الدماغ، التمييز في الأبنية وقوع الرغبة البعث
العدد والمعدود الاستشهاد العدل الأمانة الجور القلب، السياسة في الصناعة وقوع الأمان الصراط
البسيط والمركب ترك ما لا بأس به العفة القناعة الحرص الكبد الشهرة في الملابس وجوب المجاملة الميزان
التفات استعمال ما به الحس الجود، الإفضال البخل الرئة النفس بالمنطقة في الحروب لزوم القصاص الحساب
النفس إنكاره على الحس الشجاعة العقوبة الجن الطحال الضحك في النبات ذكر المبدع الجزاء
رموزات النفس بشارته للنفس الرحمة العفو القسوة المرارة اللون في الحيوان حجر الأفعال التحليل
البراءة من التعطيل إفادته للنفس الصدق الوفاء الكذب الكليتان الأحلام في العلوم رسوخ المحبة شرف الجزاء
٢٩  السابق، ص١٥، ١٧، ٣٨–٤١، ٥٣–٥٩.
٣٠  السابق، ص٧٤–٧٦.
٣١  السابق، ص٨-٩.
٣٢  السابق، ص٨٩–٩٣.
٣٣  السابق، ص٣٢٣.
٣٤  السابق، ص٨٩.
٣٥  إثبات النبوة من جهة الأنواع الطبيعية؛ الأجناس الطبيعية، الفصول الطبيعية، الخواص الطبيعية، الأعراض الطبيعية، الأزمنة، الكون والفساد، التضاد والاختلاف.
٣٧  السابق، ص٩٨–١٠٢.
٣٨  السابق، ص١٠٢.
٣٩  السابق، ص١١٥–١١٨.
٤٠  السابق، ص٤٩–٨٥.
٤٢  السابق، ص٥٢، ٥٩–٦٥.
٤٣  وهو نفس الرأي المسيحي من أجل حل قضية تحريف النصوص، وهو أيضًا رأي اسبينوزا والصوفية.
٤٤  السابق، ص١١٨–١٤٤.
٤٥  السابق، ص٩-١٠، ١١٩–١٢٣.
٤٦  السابق، ص١٢١–١٢٣.
٤٧  السابق، ص٤٥.
٤٨  السابق، ص١٢٦-١٢٧.
٤٩  السابق، ١٢٧–١٢٩.
٥٠  السابق، ص٧٤.
٥١  القاضي النعمان، المذهبة، ص٦١.
٥٢  السابق، ص١٢٩–١٣٢.
٥٣  السابق، ص١٣٣.
٥٤  السابق، ص١٣٤-١٣٥.
٥٥  السابق، ص١٣٥–١٣٧.
٥٦  السابق، ص١٣٧–١٣٩.
٥٧  السابق، ص١٣٩-١٤٠.
٥٨  السابق، ص١٤٠–١٣٢.
٥٩  السابق، ص١٤٢–١٤٤.
٦٠  السابق، ص١٤٥–١٨٠.
٦١  السابق، ص١٥١.