من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

سادسًا: خصائص الشعوب وتاريخ الحضارات

وقد ارتبطت فلسفة التاريخ بخصائص الشعوب وتاريخ الحضارات؛ فالتاريخ هو تاريخ الشعوب، والشعوب هي خصائصها الموروثة أو المكتسَبة، وهي التي تُبدع حضاراتها بناءً على هذه الخصائص. ومن الحكماء من يركِّز على خصائص الشعوب، كالفارابي وإخوان الصفا والتوحيدي، وآخرون فضَّلوا تاريخ الحضارات كما بدا في المذاهب والمِلل مثل الرازي، وفريقٌ ثالث جمع بين الاثنين مثل العامري وابن سينا. ولا يخلو ذكر خصائص الشعوب من وصفٍ سلبي للبعض مثل التُّرك والزنج، ووصفٍ إيجابي للبعض الآخر مثل اليونان والروم والفُرس. ولا يخلو ذكر المذاهب والمِلل أيضًا من وصفٍ إيجابي للبعض مثل اليهودية والمسيحية والإسلام عند معظم الحكماء، ووصفٍ سلبي للبعض الآخر مثل الديصانية والمحمرة والمنانية عند الرازي.

ويمكن عرض هذا المصدر المكوِّن لفلسفة التاريخ بعدة طُرُق؛ الأولى التطور التاريخي للموضوع عند إخوان الصفا والرازي والفارابي والعامري وابن سينا والتوحيدي وابن باجه من أجل بيان مراحل تكوينه. وفي هذه الحالة يشذُّ إخوان الصفا؛ لأنهم أفضل من وصفوا خصائص الشعوب، وهم من الشيعة الإسماعيلية في أواخر القرن الثالث عندما كانت الشعوبية مُكونًا رئيسيًّا للحضارة الإسلامية، كما أنها تخلط بين خصائص الشعوب وتاريخ المذاهب والمِلل. والثانية تجميع خصائص الشعوب والمذاهب والمِلل معًا بصرف النظر عن قائلها، خاصةً وأنها مكرَّرة، ولا يتميز حكيم عن آخر فيها؛ ومن ثَم تصبح فلسفة التاريخ هو حصر لثقافات الشعوب، وهي طريقة تُغفِل كلية الحكيم في سبيل الحكمة، وتُبرز الشعوبية وكأنها هي المُكون الرئيسي لفلسفة التاريخ، كما أنها تحتاج إلى تصنيف وخطةٍ شاملة ومعيار، مثل المركز والأطراف أو الإيجاب والسلب أو المثالية والمادية. والطريقة المثلى هي التمييز بين المحاولات الجزئية عند الرازي والفارابي والعامري وابن سينا وابن باجه، والتمييز فيها بين خصائص الشعوب، والمذاهب والمِلل، وبين المحاولات الكبرى عند إخوان الصفا والتوحيدي التي تركِّز أساسًا على خصائص الشعوب طبقًا لتصورَي الوحدة والتنوع عند إخوان الصفا، ومركزية العرب عند التوحيدي.

(١) المحاولات الجزئية

وتعني المحاولات الجزئية الوصف العرضي لخصائص الشعوب في إطار الفلسفة الاجتماعية مع التركيز على شعوب بعينها دون غيرها، وكذلك التركيز على بعض المذاهب والمِلل دون عرض شامل لها كما هو الحال في تاريخ الفِرق في علم الكلام.

(أ) خصائص الشعوب (الفارابي، العامري، ابن سينا)

وأول من عرض لخصائص الشعوب من الحكماء هو الفارابي مُركزًا على التُّرك والعرب، على قومه والقوم الذي يعيش بينهم، ربما لتعاطفه مع اليونان، وتآلفه مع الوافد. وهو لا يُطلِق أحكامه على كل التُّرك والعرب، بل فقط على أهل البراري منهم؛ أي على البدو والهمج منهم وليس على سكان المدن والحضر. وهو الذي كان يعيش في حلب العاصمة الثقافية للشام أيام بني حمدان. وكلاهما نموذج للرياسات الجاهلة التي تقوم على خدمة الأعلى للأدنى، وتبعية النفس الناطقة للنفس الغضبية والشهوية، وتبعية الغضبية للشهوية، وتجنيد قوى النفس كلها، ومحبة الغلبة، وعظم النهم للمأكول والمشروب والمنكوح؛ فهما نموذج الحضارة المادية بلغة العصر. ويفصِّل الفارابي طريقة معاملتهم للنساء؛ إذ يعظم عندهم أمر النساء، ويحسن عند كثير منهم الفسق، ولا يرونه سقوطًا أو عيبًا يمكن تجنُّبه. يتجمَّلون أمامهن ليعظم شأنهم عندهن، ويتبعونهن، ويتمثلون أحكامهن؛ ما تراه النساء عيبًا فهو عيب، وما تراه النساء حسنا فهو حسن. نفوسهم ذليلة للشهوات، ويتبعون شهوات النساء في كل شيء. وكثير من نسائهم مُتسلطات عليهم ومستوليات على أمور منازلهم؛ ولذلك يرفِّهونهن ولا يُشركونهن في الكد، ويلزمونهن التَّرف والراحة، ويتولَّون عنهن كل شيء يحتاج إلى التعب والكد واحتمال المشقة. وكأن الفارابي يصف بعض أثرياء عرب الخليج اليوم، أو حياة السلطان في عصر الخلافة.١
ثم يخصِّص الفارابي العرب كنموذج لمجتمع الغلبة. ولا يُطلِق الفارابي الحكم على كل العرب، بل يُخصصه على قوم من العرب. وتعني الغلبة هنا الإضرار بالغير دون نفع مثل القتل بلا سبب سوى لذة القهر، أو المغالبة على أشياء خسيسة. وهي نماذج شاذَّة لا تُمثل مجتمع الفتح، وشعب الجهاد، وأمة الرسالة؛ لذلك اشتدَّ حد الحرابة ضد قطع الطريق والاعتداء على الآمنين، وجُعِل القصاص فقط حدًّا لإزهاق الروح. وهو مُشابه لحكم ابن خلدون على العرب، ويقصد الأعراب، أنهم إذا دخلوا مدينةً أسرع إليها الخراب.٢

وقد تعرَّض أبو الحسن العامري (٣٨١ﻫ) إلى بعض موضوعات فلسفة التاريخ في «الأمد على الأبد» في ثلاثة فصول من عشرين، تدور كلها حول العقل والحس والمعرفة والسعادة والخير والطبيعيات والإلهيات والرياضيات والعالم العلوي ومراتب النفس الناطقة والإيمان والثواب والعقاب، وكلها تدور في إطار نظرية المعرفة الإشراقية ومراتب الوجود في نظرية العنصر طبقًا للتصور الرأسي للتاريخ.

في فصولٍ ثلاثة، الثاني والثالث والرابع، يتناول أربعة موضوعات؛ الأول بداية التاريخ؛ أي الوعي التاريخي وتحقيب التاريخ. والثاني تاريخ الحضارات ابتداءً من التاريخ الجغرافي؛ أي الأقاليم، بناءً على الاتجاهات الأربعة الرئيسية، الشمال والجنوب والشرق والغرب، بالإضافة إلى وسط الأرض تمهيدًا للتصور المركزي للتاريخ، المركز والأطراف. والثالث المذاهب الفلسفية مثل إنكار المعارف والفِرق الكلامية والدهريون والطبيعيون الذين يُنكرون وجود الله، والمِلل مثل اليهود والنصارى والسامرة والمجوس. والرابع إحصاء الأمم الماضية الكبار ومواقعها الجغرافية، وما تختصُّ به كلٌّ منها من علوم وثقافات.٣

ويبحث العامري عن نقطة بداية للتاريخ غير النقطة الأولى، خلق العالم أو خلق آدم وحواء، كبداية للتاريخ الكوني. يبحث عن تاريخٍ إنساني حضاري. فهناك أربعة تواريخ قديمة معروفة؛ التاريخ الرومي ابتداءً من ذي القرنَين؛ مما يدل على إعجاب المسلمين بالإسكندر الأكبر. والثاني التاريخ الفارسي، يزدجرد بن شهريان تقابلًا بين الغرب والشرق. والثالث تاريخ بختنصر، تاريخ الزيجات، وهو التاريخ البابلي تاريخ الشمال. والرابع التاريخ العربي، تاريخ الهجرة في الجنوب. ومن ثَم تحدَّدت التواريخ الأربعة بالاتجاهات الأربعة، ثم يحدث الخطأ التاريخي في جعل حساب السنين بينها ٤٣٦ سنة، وذو القرنين في القرن الرابع قبل الميلاد، وبختنصر في القرن السابع قبل الميلاد، ويزدجرد بن شهريان في القرن، والهجرة في القرن السابع بعد الميلاد. فالمسافة بينهما ما يزيد على ١٤٠٠ سنة من القرن السابع قبل الميلاد وحتى القرن السابع بعد الميلاد.

ويُبين العامري الأخطاء في التواريخ الثلاثة الأولى، فلا يبقى تاريخٌ صحيح إلا التاريخ الإسلامي؛ فقد أمر الإسكندر اليهود في بيت المقدس بترك تاريخ موسى وتبنِّي تاريخ يونان؛ نظرًا للأخطاء في تاريخ اليهود، والشك في تاريخ آدم والطوفان الأعظم وتواريخ التوراة للشك في نسخها، والمفروض وجود ست وثلاثين نسخة. وقد نسخ النصارى تاريخ اليهود. وكان للسامرة تاريخهم الخاص. وتوجد أخطاء في تاريخ فارس. ولا يُشير إلى تاريخ بختنصر. فلا يبقى صحيحًا إلا التاريخ الإسلامي.

ثم يتخلى العامري عن هذا التحديد التاريخي لبداية تحقيب التاريخ، ويعود إلى التاريخ الأسطوري لتحديد عمر الدنيا بثلاث وعشرين ألف سنة؛ سبعة آلاف منها عمر المسلمين والصابئين والنصارى واليهود دون ترتيب زماني، وهي عمر الكواكب السيَّارة. وعمر المجوس اثنا عشر ألف سنة، عدد البروج. وعمر الهند أربعة آلاف عام، وهو عمر الكواكب. ولا يحدِّد العامري هذه الأعمار إن كانت مُتتالية أم مُتزامنة، ولكنها تعبِّر عن رغبة في معرفة تاريخ العالم وليس فقط تاريخ الحضارة الإنسانية وبدايتها.٤

والأمم الماضية الكبار ست؛ الصين، والهند، والسودان، والبربر، والروم، والتُّرك. وهي موزَّعة على الاتجاهات الأربعة الرئيسية. الصين جنوب مشرق الأرض، والحقيقة أنها شرق الأرض. والهند وسط جنوب الأرض، والحقيقة أنها جنوب شرق. والسودان أو الحبش جنوب غرب الأرض، والحقيقة أنها جنوب فقط. والبربر في الغرب. والروم في الشمال والحقيقة، أنهم في شمال غرب الأرض. والتُّرك في الشمال. وفي الوسط إيران والعرب دون تفاضل أو تمايز. ويتراوح الشمال والجنوب بين البِيضان والسودان؛ أي طبقًا للون البشرة.

وهناك شعوبٌ صغار مثل بابل في الشرق الشرقي، والصقالبة في الشمال الغربي، والأحقاف بين عمان واليمن في الجنوب الشرقي، ومصر في الجنوب. والعجيب اعتبار الحضارات البابلية والمصرية واليمنية القديمة من الحضارات الصغار، وهي من أمهات الحضارات القديمة كالصين والهند، وقبل الروم والصقالبة، ولها الفضل على حضارات السودان والبربر. ولا تُذكَر حضارة الشام، خاصةً الكنعانية.٥

ولم تعرف الصين ولا التُّرك ولا خراسان، أي فارس، النبوة في حين أن القرآن يُقرُّ بأنه وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ. والسبب في ذلك جغرافي؛ أنها تقع على خط عرض لم يمرَّ عليه أحد من الكواكب السريعة! فما زالت الجغرافيا هي المتحكمة في التاريخ، في حين عُرفت الحضارة البابلية التي نشأ فيها إبراهيم بالفلك والنجوم، والحضارة المصرية بالهندسة.

ويحدث تفاعل وتداخلٌ حضاري بين الشعوب نظرًا لتجاورها في المكان؛ فنظرًا لمجاورة اليونان لبلاد الشام ظهرت فيها عبادة الأوحد. وقد وُجد بنو إسرائيل في الشام، فظهرت النبوة فيهم بعد أن غلبوا الكنعانيين، ولكنهم لا يُمثلون حضارةً كبرى أو صغرى، رئيسية أو فرعية، بعد أن ورثتهم الحضارة العربية. أما الأحقاف بين عمان واليمن فقد ظهر فيها عاد بن إرم بن سام بن نوح بن هود بن ثمود بين وادي القرى حتى أرض الشام، وعاش فيها نسل إرم، وهي منطقة ظهور الأنبياء. وظهر في جبال الهند مبادئ التنجيم التي ترجع إلى إمامها الأول هرمس أو إدريس، لا فرق بين شرق وغرب أو شمال وجنوب، بين حضارة الهند أو اليونان أو الإسلام. وهناك تفضيل بين الحضارات؛ فهمهما دل في مواليد الترك والصقالبة على نيل الأدب والحكمة يكون أثره مخالفًا له إذا دل على نيلها في مواليد الهند والروم؛ فثقافة الهند واليونان أكثر حضورًا من ثقافة الترك والصقالبة.٦
وتصل الشعوبية عند ابن سينا إلى حد جواز استعباد التُّرك والزنج؛ إذ لا بد لأناسٍ أن يخدموا أناسًا جبرًا في المدينة العادلة. فالخادمون بعيدون عن تلقِّي الفضيلة، عبيد بالطبع، نشئوا في غير الأقاليم الشريفة التي كان يمكن في أحسن أحوالها أن تنشأ فيها أُممٌ حسنة الأمزجة صحيحة القوائم والعقول؛ فالحضارة غير مشروطة بالأقاليم بالضرورة.٧
والسؤال هو: هل هناك سادة بالطبع وعبيد بالطبع بين الشعوب؟ ولماذا يكون التُّرك والزنج من العبيد؟ ألم يصبح الأتراك دولة الخلافة فيما بعدُ يستعبدون شعوب البلقان؟ وماذا عن تحرُّر الزنج وثقافة الزنج وفنون الزنج في عصرنا؟ وهل يجوز للمدينة العادلة استخدام وسائل غير عادلة مثل العبودية والاسترقاق للشعوب؟ ألا يكون التمايز بينها في التقوى والعمل الصالح، التقدم والتخلف، وليس الخادم والمخدوم، الأعلى والأدنى؟ وهل من العدل استرقاق الشعوب وهو ما زال ساريًا حتى الآن في دول الخليج؛ استئجار الآسيويين من باكستان والهند والفلبين والبدون؟ أين المساواة بين الشعوب والقبائل طبقًا للتوجه القرآني يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا؟ وهل تأتي العبودية من الأماكن الشريفة للأماكن الأقل شرفًا؟ وما مقياس شرف الأمكنة؛ الجغرافيا، التاريخ، الاقتصاد، الثقافة، الاجتماع؟ وما هي المناطق في العالم الإسلامي الأكثر شرفًا والأقل شرفًا؟ ألا يُبرر ذلك الاستعمار الأوروبي لأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟ وماذا يختلف ذلك عن العنصرية الأوروبية الحالية واستعباد إسرائيل لشعب فلسطين؟ أليس التفوُّق العنصري في العقل والإبداع حسب الأمزجة وصحة الغرائم أبشع أنواع العنصرية البيولوجية النفسية المزاجية العقلية، كما كان الحال في القرن التاسع عشر في الغرب؟ ألا يُعطي ذلك صحة لبعض المستشرقين لاتهام الحضارة الإسلامية بالعنصرية ضد الزنج، وإذا كان الصراع بين العرب والسادة في الشمال والزنج والعبيد في الجنوب وتجارة العرب في الرق؟٨
وتتحول الشعوبية من مستوى خصائص الشعوب إلى خصائص الثقافات، فيتحدث ابن سينا عن الفِرق الصوفية عند الأتراك. ويعني بالأتراك كل القبائل التركية غير العربية والفارسية المُنتشرة شرق الأناضول في أواسط آسيا. فيذهب الأتراك إلى شيخ الطريقة الذي يستعمل السماع حتى يُغشى عليه وهم يردون وراءه، وهو يلفظ بأشياء غامضة يبنون عليها.٩ أما العرب العاربة والعبرانيون الأجلاف فإنهم يتسارعون إلى العقائد، ويعتبرون عقائد الإيمان، التوحيد والمعاد، معدومة أصلًا؛ لهذا ورد التوحيد تشبيهًا كله لعجزها عن تصور المجردات. والتشبيه في القرآن أكثر مما يُحصى، حقيقة ومجاز. وأمور المعاد مجاز وليست حقيقة.١٠

(ب) المذاهب والمِلل

ويمكن لأكثر من شعب اعتناقها؛ فهي أوسع نطاقًا من الأقوام والشعوب. ففي السير الفاضلة من «الطب الروحاني» للرازي (٣١١ﻫ) نقدٌ للسير الجائرة مثل الديصانية والمحمرة والمنانية؛ إذ تُجوز الديصانية والمحمرة غش المُخالفين لهم واغتيالهم. وتُجوز المنانية منع المُخالف لهم من الطعام والشراب إن كان مريضًا، وقتل الأفاعي والعقارب ونحوها من الزواحف والحشرات المؤذية التي لا طمع في الاستفادة منها في وجه من وجوه المنافع، ويتركون التطهر بالماء، وغيرها من الأمور التي تعود بضرر على فاعلها أو على غيره. وكان من المستحيل تخليص هؤلاء وأشباههم من هذه السيرة الرديئة إلا عن طريق الجدل في الآراء والمذاهب. تُجيب المنانية النفس إدا نازعتها إلى الجماع وأضناها الجوع والعطش، وتتَّسخ باجتناب الماء واستعمال البول مكانه. كذلك يقوم أهل الهند بعدة أمور يدفعها العقل من أجل التقرب إلى الله، مثل إحراق الأجساد وطرحها على الحدائد المشحوذة. وأقل من هذا ما يستعمله النصارى من الذهاب والتخلِّي في الصوامع، وما يقوم به كثير من المسلمين من لزوم المساجد وترك المكاسب، والاقتصار على اليسير من الطعام وبشعه، والمؤذي من اللباس وخشنه. فإن ذلك كله ظلم منهم وإيلامهم لها؛ ومن ثم تخرج عن حد الفلسفة أحوال الهند والمنانية والرهبان والنساك وعن السيرة الذاتية.١١
وينقد العامري مذهب المُتسمين بالفلسفة المشهورين بالحكمة الإلهية الذين يُنكرون المعارف الحسية والعقلية، مثل الشُّكاك، دون الإشارة إلى فِرقة بعينها في حضارةٍ معيَّنة. كما ينقد الطبيعيين والدهريين الذين يُنكرون وجود الله والاقتصار على الطبيعة والدهر.١٢
ويُحور العامري حديث الفِرقة الناجية، وافتراق الأمة ثلاثًا وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدة، إلى افتراق الأمة ثلاثًا وعشرين فرقة، ثلاث طبقات في أربعة مقاصد في ثلاث وسائل يكون مجموعها ستة وثلاثين مضروبةً في اثنين؛ إذ إن لكل منها مُجاهرًا ومُداجيًا، فيكون المجموع اثنتين وسبعين فرقةً روحية واجتماعية. فطبقات الناس إما ملوك أو خلفاء أو سوقة، ولكل طبقة مطالب؛ الملوك الرياسة، والخلفاء المحمدة، والسوقة الثروة أو اللذة. والوسائل ثلاثة، إما السنة أو القهر والغلبة أو المكر والخديعة.١٣

لم يتعامل ابن سينا مع اليونان وحدهم، بل وعى تجارب الأمم كلها دون تحديد، واعتمد على كتبهم وصحفهم بما في ذلك أنبياء بني إسرائيل وحواريي المسيح؛ فالقول بالمعاد ليس في الإسلام بدعًا بين الأمم أو الديانات أو الصحف. هذا هو الوافد بجوار القرآن كمصدر للموروث، إدخال النصارى مع المسلمين، وإدخال المجوس والثنوية والمانونية وأهل التناسخ ضِمن الفِرق بعد أن تحوَّل الوافد إلى موروث.

يرفض ابن سينا أقوال النصارى بالمعاد للنفس والبدن معًا. وهو أيضًا رأي جمهور المسلمين، وهو قول بالتناسخ بطريقة أو بأخرى، رد النفس إلى بدنٍ غير البدن الأول. يأخذ ابن سينا طرفًا لا وسطًا، ويقبل طرف المعاد الروحاني بعد مقابلة التناسخ ونقده، وفي نفس الوقت ينقد ابن سينا النصارى في إنكارهم لذة البدن بالرغم من عودة البدن إلى الروح في المعاد. خشُوا من تصورهم الأمور جسديًّا خشيةً من الضلال فيها. وقد كرَّم الله أمَّة محمد بقدرة التأمل، مع أن التأويل موجود لدى كل الأمم وفي كل المِلل. وهجوم ابن سينا على الثواب الروحاني والعقاب الروحاني بلا بدنٍ يجعل هناك تمايزًا بين موقفه القائل بالمعاد الروحاني المُشابه لقول النصارى، ونقده لهم بإنكارهم المعاد الجسماني.

وتتَّفق أكثر الأمم على أن الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان، وأنها كانت في العالم الذي هو ثانٍ بعد هذا العالم، وأن عودها إليه إلى الخير الأفضل منه، وهو الجنة والعيون، وللشقي إلى الخير الأوحش منه وهو الجحيم والسجين. وكثير منهم يرون أن أب الإنسان وأمه وردَا من ذلك العالم فاتصل معهما نسلٌ يعود إليه. وهو مدوَّن في كتب الأوائل وصحف الأنبياء المُتقدمين من الإسرائيليين والحواريين.١٤
وتنهار الدول بسبب سيادة قيم الطبقة العليا عند ابن باجه، وهي القيم المستمدة من الصور الجسمانية وليست الروحانية الخاصة أو العامة، وهي قيم اللذة مثل السكر ولعب الشطرنج والصيد ومثلها. تنهار الدول ولا تنهار الطبقات. تنهار الدول وتبقى الطبقات. يذهب التجمل بالمال ويؤدي إلى الإسراف، ويتوسل المال والرشوة وطلب المدح به. التبجل بالمال مذمَّة ومذمَّة. وأكثر الناس في هذه السيرة يهواها في سره، ويهرب عنها ويذمُّها في جهره. يُصور ابن باجه أحوال ملوك الطوائف في عصره، وأن «تدبير المُتوحد» مشروع نهضة أمة، ورد فِعل على انهيار الأندلس.١٥
وتنهار الدول عندما تسُود القيم المستمدة من التخيل؛ أي الانفعال مثل لبس السلاح والنياشين، كما يفعل الملوك أمام العامة والغرباء، وآخر ما يقال في بهاء السلطان. فغاية الأفعال الإنسانية ثلاثة؛ الصور الجسمانية فقط، أو الصور الروحانية فقط، أو الصور الروحانية الخاصة الوسط بين الاثنين. وتمتد من الكمال نزولًا إلى الالتذاذ إلى التخيل إلى الحس المشترك.١٦

(٢) الحضارة بين الوحدة والتنوع

ويعتمد الإخوان على المعارف العامة، كل شيء في كل شيء، وأخذ ثقافات الشعوب من الشرق والغرب، من فارس والهند واليونان والرومان، ومن كل المِلل والنِّحل السماوية والأرضية، اليهودية والمسيحية والإسلام، والزرادشتية والمانوية، ليصبَّ الجميع في بؤرةٍ واحدة، توحيد الثقافات وجمع الحضارات من أجل صبها وتوجيهها نحو غاية واحدة؛ التوحيد. ويستعملون أسماء جميع الآلهة، فالخلاف في الأسماء وليس في المسمَّى؛ لذلك كثُرت الأسماء اليونانية والفارسية والمصطلحات العربية. التاريخ هو تاريخ أديان وثقافات، لا فرق بين ديانات الوحي، اليهودية والمسيحية والإسلام، والديانات التي لم يذكرها القرآن، البوذية والهندوكية في الهند، وأبنائهم وحكمائهم مثل بلوهر، والديانات الثنوية في فارس، ونِحل حكماء اليونان، سقراط وفيثاغورس وأفلاطون، وكل من يُمثل الحكمة البشرية المُتعالية.١٧
وتتجلى الحضارة في اللغة والدين والموسيقى والشعر والثقافة والرياضيات بناءً على توجُّه قرآني، خلق الناس من مختلف الألسنة والألوان والأخلاق والطبائع والأمزجة والصناعات والعلوم والمعارف. وتتَّفق لغات الشعوب في الأعداد، وتفضيل المثمَّنات والمسبَّعات؛ فالثنوية تفضل المثنويات، والنصارى المثلثات، والطبيعيون المربعات، والخرمية المخمسات، والهنود المسدسات، والكيالية المتسعات.١٨
وهناك موسيقى تظهر في الشعر مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفُرس والروم، ويستلذُّ كلٌّ منها بالألحان ويفرح بها. وتظهر خصوصيات الشعوب في لغاتها وكتاباتها، تختلف الحروف من لغة إلى لغة كالعربية والفارسية والسريانية والقبطية والعبرانية واليونانية والهندية. وتتكون من ثمانية وعشرين حرفًا، وكلها من العربية آخر اللغات تطورًا، وأنها لا نسخ فيها.١٩ وتختلف اللغات بالأصوات، ولكلٍّ منها حروف وكتابة وصناعة وأسماء مختلفة كالسريانية والرومية واليونانية والفارسية. كانت الحروف أولًا تسعة يُعرَف بها أسماء الأشياء وصفاتها على ما هي عليها، حتى تكاثر أولًا بنو آدم وتكلَّموا السريانية، وهي أكثر تطورًا من اللغات الأولى، وتكلَّم بعضهم النبطية. وهناك تشابه بين اللغات، مثل الخمسة أيام الملقَّب أسماؤها بالعدد في كل اللغات في العربية والفارسية.
وتتعدد الشعوب لدرجةٍ لا تُحصى، حوالَي سبعين شعبًا بين أهل، وأهل بلاد، وبلاد.٢٠ ويُلاحَظ على هذا التقسيم للشعوب بين أهل وبلاد وأهل بلاد، أنه يجمع بين التقسيم الجغرافي، الإقليم، الناحية، المدينة، والثقافي الديني مثل أهل الشرع أهل بلاد الإسلام، بين الواقع الجغرافي والخيال الأسطوري مثل يأجوج ومأجوج والخالدات.

(أ) تعدد الثقافات

ومن الصعب تحليل المضمون لرسائل الإخوان لأنها موسوعةٌ فلسفية أدبية اجتماعية دينية علمية، ولا تتَّسم بوحدة الخطاب الفلسفي. ومع ذلك يمكن القول بأن تصوُّر الإخوان لتعدُّد الثقافات تصورٌ حضاري خالص، لا يرتكن إلى خصائص جوهرية أو سمات طبيعية للشعوب كما هو الحال في الشعوبية القديمة والعنصرية الحديثة.

ولما كان إحصاء القديمة من اختصاص الحكماء فهم فلاسفة التاريخ، يقسِّم الإخوان الحضارات إلى أربعةٍ كبار؛ الهند وفارس والروم والعرب أو الإسلام، اثنان من الشرق، وواحدة من الغرب، والعرب أو المسلمون هم جماع الشرق والغرب. وحتى تكتمل الصورة قد يكون العرب أقرب إلى اليونان؛ ومن ثَم يُمثل العرب والمسلمون الجنوب الغربي، ويصبح الوسط، مركز الحضارة، فارغًا.

ويعني انتقال الحضارة من الشرق إلى الغرب أثر الفلسفة الشرقية على الفلسفة اليونانية كما يُلاحظ «صاحب العزيمة»، الحكيم الباطني.٢١ ويتجلى هذا المصدر الشرقي عند المصريين والعبرانيين، ولا يُخصص لهم الإخوان حضاراتٍ مُستقلة. وقد تفرَّق الحواريون غربًا وشرقًا وجنوبًا وشمالًا؛ واحد إلى بلاد المغرب، وآخر إلى الحبشة، واثنان إلى روميا، واثنان إلى أنطاكيا، وواحد إلى فارس، وواحد إلى الهند، واثنان إلى إسرائيل، ومجموعهم عشرة.٢٢
ومرورًا من الشرق إلى الغرب، من الهند إلى فارس إلى العراق، يتم التوقف عند النبط، وهم قومٌ يجمعون بين العلم والأسطورة، بين العقل والخيال. عرفهم العرب وترجموا لهم «الفلاحة النبطية». ومنهم أفريدون النبطي، وربما منهم متوجهر الحريري ودارا التميمي.٢٣
تتداخل الحضارات القديمة، الهند والروم والمسيحيون، قولوس وآروس وأسطرونيتوس، ويختلط تاريخ الأديان بتاريخ الشعوب، والتاريخ الثقافي بالتاريخ السياسي، وتتغلب أحيانًا النِّحل على المِلل. وديانات الطبيعة على ديانات الوحي، واستعراض تاريخ الشعوب والحضارات على هذا النحو المتداخل يمثل بدايات الوعي التاريخي، لا فرق بين التاريخ والسياسة، فكلاهما يكشفان عن الصراع بين الخير والشر، بين بني العباس وبني مروان، مثل نجاة آل حمير من عذاب آل تبع. وغارات السباع على الحيوان ليست بأكثر من غارات البشر على بعضهم البعض؛ فظلم الإنسان لأخيه الإنسان أكثر من ظلم الحيوان للحيوان.٢٤ ويختلط الواقع بالخيال كما هو الحال في القصص والروايات القديمة، يأجوج ومأجوج الساكنان من وراء السد، صورة آدمية ونفوس سبعية، لا تعرفان التدبير ولا السياسة ولا البيع ولا الشراء ولا الحرفة أو الحرث والزرع والصيد من السباع والوحوش والسمك، والنهب والغارات على بعضها البعض، ويأكل بعضها بعضًا.٢٥
وتظهر الصين على استحياء. وتظهر أقوامٌ أخرى مثل الزط ربما من أصلٍ هندي، مختلفة في اللسان والألوان والطباع والعادات والأعمال والصنائع والآراء والمذاهب من أهل المدن والقرى والسودان والسواحل والجزائر والبداري، نحو ١٧٠٠٠ مدينة، ١٠٠٠ ملك. وهناك شعوبٌ أخرى لا يتم التركيز عليها إلا من حيث مكانتها من العلم، مثل الأكراد والأعراب والزنج والتُّرك، وهي أمم لا تتعاطى العلوم والصنائع والآداب. في طبائعهم نكاح الغِلمان وعشق الرواية.٢٦ وكثير من هذه الأحكام في حاجة إلى مراجعة؛ فعِشق الغلمان عند كل الشعوب حتى الغرب الحديث، والأتراك أهل علم وحفَظة تراث، وهم أهل عسكر وحرب.
  • أولًا: مصدر الحكايات كما هو واضح في «كليلة ودمنة»؛ مما يُبين أهمية الأدب الرمزي من ناحيةٍ أخرى. تحتاج حكاياتها إلى تأويل الحكماء، مثل قصة تُبين استقلال الأخلاق عن الدين، ومع ذلك تحتاج الأخلاق إلى دين ووحي وأنبياء كدعامة للأخلاق.٢٧ فالهند بلد الأنبياء والحكماء لفهم البدو والبرهميين وبوذاسف وبوهلر وبرزويه الطبيب، وغيرهم من حكماء الهند وعلمائهم وأقوالهم في الضمير؛ أي البعد الداخلي الذي تجتمع فيه الحكمة والنبوة.٢٨ فلفظ الحكيم غير مقصور على اليونان. ويتم اختيار حكايات الهند الدالة على الحياة الإسلامية مثل موضوع الخلافة. فالأمة إذا تركت وصية نبيها، واختلفت بعده، واعتمدت على رأيها، وأرادت أن تُملك ملكًا وتنصب خليفة من دون معرفة من رسول أو وصية أو إرشاد منه، واعتمدت على إجماعها ومشورتها، خير نموذج للقربان في الهند. والدرس المستفاد هو رفض تولية أقارب الملك حتى لا يصير الأمر وراثة، وتفضيل أهل الورع والدين على نقيض الحكام الأمويين، وانهيار الملك بسبب الاتجار بالدين، وتمليك الأقارب، وتحويل الملك إلى وراثة.٢٩ وكثير من القصص على لسان الحيوانات تخفيًا وتعمية عن الحكام؛ فما من طاعة إلا وفوقها طاعة.٣٠ كما ضرب حكماء الهند المثل بالإنسان لتفهيم الناس الفلك؛٣١ فالهند موطن علم الفلك، ويُحال إلى الفلك الهندي، ويُشار إلى الزيج، وهو كتاب تُعرَف به أحوال حركات الكواكب ويؤخذ منه التقويم.
    وتظهر الهند بوضوح في رسالة اللغات والكتابة وفنون التأليف والحروف التي خرجت إليهم من الجنة بعد هبوط آدم منها؛ فقد استعملت الهند الحروف العربية الحسابية، وهي التي علَّمها الله لآدم. بدأت الهند بتسعة حروف، وانتهت في العربية بثمانية وعشرين حرفًا؛ فالعربية مُتطورة عن الهندية؛ لذلك انتسبت فرقة الهند إلى العدد تسعة، في حين انتسبت فِرق أخرى إلى السبعة والخمسة والأربعة والثلاثة والاثنين والواحد.٣٢
    وقد لاحظ زعيم الهند في رسالة الحيوان أن بني آدم أكثر الحيوانات عددًا، وهي رؤيةٌ هندية لكثرة سكان الهند. ولها عدة فضائل؛ أنها بلاد الاعتدال، فضيلة اليونان والإسلام وحياة الجنان، ومتصلة ومتفاعلة مع باقي الحضارات. ذهب إليها أحد الحواريين، وقال أفلاطون إنه أرسل نفرًا من أصحابه إليها. وجزيرة سرنديب جزء منها، خلفية قديمة للصراع مع التاميل.٣٣
    يقولون بالتناسخ وحمل الذنوب عن الأدوار السابقة، الفرد عندما يتحول إلى تاريخٍ دائري بين الحياة والموت، بين الزمان والخلود. ويعتمد أهل الهند وحكماء اليونان على القوة المُتخيلة للإتيان بأعمالٍ عجيبة اعتمادًا على الرياضيات والميتافيزيقا. ويقتل البراهمة أنفسهم ويحرقون أجسادهم طلبًا للخلاص.٣٤
    والهندي أسمر، نحيف الجسم، طويل اللحية، موجزر الشعر، مُتوشٍّ بإزارٍ أحمر على وسطه. وفي رسالة «الحيوان» بعد الحمدلات والبسملات يتحدث باسم الشرق. وتظهر البيئة الجغرافية المحلية ووصف الطبيعة مستعملًا بعض الألفاظ الفلسفية المجردة مثل الفرد، الصمد، القديم، السرمد. وتتمثل فضائل الهند في أربع؛ أولًا ظهور الأنبياء؛ ومن ثَم لا فضل للعراق على الهند، ولا فرق بين أنبياء العرب المذكورين في القرآن وأنبياء الهند الذين لم يُذكَروا طبقًا للتوجه القرآني وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ. ثانيًا ظهور الحكماء، فلا فضل لليونان على الهند من البدو والبراهميين وبوذاسف وبوهلر؛ فالحكمة ليست حكرًا على اليونان. ثالثًا ظهور العلماء، فلا فضل للعراق على الهند أو اليونان في السحر والعزائم والكهانة، صور العلم القديم. رابعًا الشجاعة والحركة من الصفات البدنية والوثب والجسارة والتقدم نحو الموت. وفي نفس الوقت ينقد صاحب العزيمة، حكيم الحكماء الذي يُمثل الحكمة الخالدة، الإنسانية كلها؛ الهند لحرق الأجساد، وعبادة القرود والأصنام، وكثرة أولاد الزنا، واسوداد الوجه مما يُوحي بأهمية اللون، وأكل التوابل الذي قد يعتبره البعض ميزة، وكانت أحد أسباب احتلال الهند في الغرب الحديث.٣٥

    وصورة الهند هي الهند الأولى قبل دخول الإسلام لها ونُشوب الصراع بين الإسلام والهندوكية، وأهمية الإسلام في الوحدة والعلم وليس التفرُّق والأسطورة؛ فالهندوكية تقوم على تعدُّد الحقائق، والإسلام على وحدتها. كما تقوم على الخيال والأسطورة، والإسلام يقوم على العقل والعلم.

  • ثانيًا: تظهر فارس مع الهند في رؤيةٍ إسلامية واحدة، شاهنشاه مع كييانويه مع يوسف الصديق؛ مما يجعل حضور الشرق في الرسائل أكثر من حضور الغرب؛ ربما لأن بفارس سعادة الفقراء والطبقات الشعبية، في حين أن في الغرب اليوناني سعادة الأغنياء وطبقة الأرستقراطيين؛ مما يوحي بأن الإخوان من أنصار حكمة فارس مثل مسكويه، كما أن البِيروني من أنصار حكمة الهند والفلاسفة من أنصار حكمة اليونان.٣٦
    وتُذكَر كثير من الأسماء الفارسية لما يُقابل القيامة والزمهرير؛ فالثقافة لا تكون إلا بلغتها الأصلية. وتتداخل أسماء فارس والهند والروم؛ فالحضارات ليست دوائر مُنعزلة ومُنغلقة على ذواتها. ثنوية فارس من خلال بعض الطبائعيين اليونان، وأسماء فارسية في حكايةٍ هندية في بيئةٍ إسلامية بلغةٍ عربية بروحٍ دينية. وتُذكَر قبائل الجن وأسماؤها رموزًا على شرور لبني أميَّة، الجنود والأعوان من قبائل الجن من بني ساسان وبني خاقان أولاد شيصبان. وكل مجموعة من العلماء من قبيلة فارسية؛ قضاة الجن من آل جرجيس، ولغتها من بني ناهيد، وأهل الرأي من بني بيران الحكيم، والحكماء من آل لقمان، وأهل التجارب من بني هامان، والحكام والفلاسفة من بني كيوان، وأهل الصرامة والعزيمة من آل بهرام. ونجا آل ساسان من عذاب اليونان، كما نجا آل عمران من عذاب أردشير.٣٧
    ورجل من أهل فارس عالم بحساب النجوم، وله كتاب هو الذي يعرف قصة الخلق، آدم وحواء، لا فرق بين دين فارس ودين إبراهيم في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فحساب النجوم ليس خاصًّا بالهند وحدها. نشأ الدين في فارس، والقرآن مُتعاطف معها، وكذلك الحديث. وأردشير بابك الفارسي جمع بين الملك والنبوة، مثل داود ويوسف وسليمان ومحمد. فالملك والدين توءمان حكمةٌ فارسية. وحكيم الغرب برزجمهر يُقر على نفسه بالعجز عن فهم الأمور التي يُقدرها الله كالمتكلم الأشعري. ويتم الاستشهاد بابن أردشير وزرادشت على أفضلية صناعة الأبناء على الآباء، وأولوية الجديد على القديم. وهي رؤيةٌ إسلامية يقوم عليها الاجتهاد. وملوك الفرس في الشرق مثل الطوائف في الغرب. ويتم حوار بين رئيس قريش وكسرى حول حاجة الضعفاء إلى الأقوياء، والصغار إلى الكبار.٣٨ وتاريخ الفُرس هو الخلفية الثقافية لطرح أسئلة المسلمين حول الحدود والرسوم.٣٩
    وقد ذهب أحد الحواريين إلى فارس؛ فلا فرق في الأفكار بين الحضارات في نوع من التداخل الحضاري، مثل مغادرة النفس البدن، هندية فارسية يونانية إسلامية، وأهل السموات وسكان الأفلاك، الملائكة الذين يسمعون ويُبصرون ويُسبحون مثل داود ومزاميره، وإيوان كسرى وغنائه، لا فرق بين فارس والأندلس، بين خراسان والمغرب، بين فارس والهند شرقًا، وفارس واليونان غربًا، بصرف النظر عن الحضارة الأم أو الأصل، والحضارة النهاية والمبتغى. التاريخ وحدةٌ واحدة خارج الزمان، بلا بداية ولا نهاية، فلسفةٌ خالدة.٤٠
    ويتداخل التاريخ والأسطورة، بيرات الحكيم الملك العادل القاضي بين شكوى الحيوان ضد الإنسان ملك الجان في جزيرةٍ جيدة معتدلة، بها الثمار والأزهار رمزًا للعدل، والعدل من فارسي وليست من عربي. والجن والشياطين أحد الموضوعات النظرية في علم أصول الدين.٤١ ثم يعود الواقع من جديد. فمن خصائص العجم في جملتهم الاحتراس من البرد بالغطاء والادثار، وأكل الحار مثل الثُّوم والفُلفل والعسل!

    ويرمز الخراساني إلى فارس، فخراسان قلب فارس؛ لذلك يُسمى الخراساني أحيانًا، والفارسي أحيانًا أخرى. وفي خطابه في رسالة «الحيوان» تظهر في مقدماته ثنائيات الصوفية في الأحوال، وقد تكلَّم مرتين، ويبدو في ألفاظه التجلِّي والاستبصار والتعالي والنور، وهو عظيم الجثة، قويُّ البنية، حسن النبرة، ناظرًا بيده نحو السماء، يُدير بصره مع الشمس كيف دارت.

    وخراسان أكثر البلاد عمرانًا؛ مدن وأسواق ومنازل وقلاع وحصون، وأكثر البلاد غنًى في ثرواته الطبيعية؛ أنهار وأشجار وجبال ومعادن وحيوان ونبات، وأكثر البلاد غنًى في ثرواته البشرية؛ رجال في قوة الجمال، وخيال في عظم الجبال، ونساء في قوة الرجال. مدحهم الأنبياء ضد العرب المخلفين، ووصفوهم بالبأس الشديد، والقوة المتينة، ومحبة الدين، واتباع المرسلين. يجمعون بين الإيمان والعمل، ويستعدُّون للآخرة والتزوُّد للحصاد، يؤمنون بكل الأديان، ويقرءون الإنجيل دون معرفته، ويؤمنون بالمسيح ويُصدقون به، ويقرءون القرآن ويُرتلونه ولا يعرفون معناه، ويؤمنون بمحمد وينصرونه، يثأرون للحسين ويلبسون السواد بعد استشهاده، ويثورون ضد بني مروان، ويطردون البغاة والمُعتدين على حدود الله والدين، الإمام المنتظر من عندهم ربما طبقًا للخبر والأثر. ويستمر الفارسي في رصد مناقب فارس؛ فالعلم في فارس، ومن الفُرس الملوك والأمراء والخلفاء والسلاطين، ومنهم الرؤساء والوزراء والكُتاب والعمال وأصحاب الدواوين والحُجاب والقُواد والنقباء والخواص وخُدام الملوك وأعوانهم من الجنود؛ أي جهاز الدولة والدواوين التي استعارها عمر منهم، ومنهم التجار والصناع وأصحاب الزروع والنسل؛ أي أرباب الحِرف، ومنهم الدهاقون والأشراف والأغنياء وأرباب النعم وأصحاب المروءات؛ أي أصحاب رءوس الأموال، ومنهم الأدباء وأهل العلم والورع وأهل الفضل، ومنهم الخطباء والشعراء والفصحاء والمتكلمون والنحويون وأصحاب الأخبار ورواة الحديث والقُراء والعلماء والفقهاء والقضاة والحكام العدول والمزكون والمذكرون والحكماء والمهندسون والمنجمون والطبيعيون والأطباء والعرَّافون والمفسرون والكهنة والمعبرون والكيميائيون وأصحاب الطلسمات وأصحاب الأرصاد. هي مجموعة من العلماء مُتضاربة المشارب، تجمع بين علوم الفقه والكلام والحديث والقراءة والفقه، والعلوم الإنسانية كالحكمة والهندسة والفلك والطبيعة والطب والكيمياء، وأيضًا العلوم الخرافية مثل العرافة والكهانة.

    وينقد رئيس الفلاسفة وليس صاحب العزيمة فارس والفرس في أنهم جُفاة الطبع، فحش اللسان، ينكحون الغلمان، ويتزوجون الأمهات، يعبدون النيران، ويسجدون للشمس من دون الرحمن. وواضحٌ أنها ديانات فارس القديمة وعاداتهم قبل الإسلام، في حين أن محاسنهم مكتسَبة بعد الإسلام.٤٢
  • ثالثًا: الروم، وهو اليونان وليس الرومان. وأسطورة التبعية لليونان الخلق العبقري الأصيل الذي على غير مِنوال سابق تدحضها رسائل الإخوان التي تُثبت تتلمذ اليونان على حضارات الشرق، وأن الإبداع الفلسفي والعلمي سابق على حكماء اليونان، ثم استثمرت اليونان حضارات الشرق، الهند وفارس والنبط، قبل الوصول إليهم. ومن الشرق أخذت أصل الخط المستقيم والقوس؛ القوس العربي، والمستقيم الرومي. ونقل ملوك اليونان الحكمة من الشعوب المفتوحة كما نقل سليمان الحكمة من الشعوب المفتوحة، مثل الكنعانيين والجيبوسيين. تاريخ الحضارة إذن تاريخٌ ممتدٌّ من الشرق إلى الغرب، ومن الهند وفارس اليونان. الأصل السريانيون والمصريون، هرمس ولومهرس وأراطس. ومن هرمس خرج اليونانيون، صابئة وحرانية التي فيها نشأت الفيثاغورية والأرسطانونية والأفلاطونية والأقعوروسية. ولا يهمُّ التحقُّق تاريخيًّا من الفِرق اليونانية بقدر ما يهمُّ أصلها الشرقي؛٤٣ فاليونانيون لا تُطلَق على اليونانيين وحدهم، بل هو اسمٌ جامع لشعوب الشرق. اليونان تلاميذ الشرق وامتداد لهم، وليسوا أصحاب حضارة مستقلة. والمصادر الشرقية للفكر اليوناني منذ أيام بطليموس وإسرائيل ومسيطوس من مصر. ولحكمة الهند فضلٌ خاص على اليونان فيما يتعلق بالقوة المتخيلة، بل إن علوم إسرائيل نفسها مستمدة من الشرق القديم؛ فقد أخذ سليمان علوم الشعوب الأخرى من الكلدانيين والبابليين والأشوريين والمصريين بما أُوتيَ من قدرة على معرفة اللغات. وما فعل سليمان مع غيره فعله الروم حيث غلبوا اليونان، وما فعله اليونان عندما غلبوا غيرهم؛ فالحضارات مُتواصلة بين الغالب والمغلوب. وشهور الروم والقبط في كل منزلة، في وعيٍ تاريخي واحد بين الروم ومصر، وهي نفس التواريخ الموجودة حتى الآن، الميلادي والقبطي.
    والروم أهل حرب وغلبة، قاتل أم مقتول، غازٍ أم مغزو، طبقًا للمثل: «الروم إن لم تُغزَ غزت.» وهذا سبب قتالهم الكفار، وسبب حرب المسلمين لهم بالرغم من الجوار الجغرافي والأسرى المتبادلة. وهو توجهٌ قرآني الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * … وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ دون ذكر فارس، وذكر مصر في القرآن دون تخصيص حضارة لها في الرسائل.

    وفي رسالة «الحيوان» يستعمل اليوناني في مقدمة خطابه لغة الفلسفة؛ الهيولى والصورة والعقل الفعَّال والجوهر والنفس الكلية. اليوناني يقتصر على الفكر، والرومي يصف الشعب؛ مما يكشف عن طبيعة اليونان العقلية، والرومان الحسية. ويتكلم الرومي مرةً ثانية وعلى رأسه مشدَّة، قائمًا في الملعب، بين يدَيه آلات الرصد ليصف خصائص الشعوب، ردًّا على مدح الحيوان للجن، وتكرار اتهام الإنسان بالعدوانية، ودخول الإنس بدايةً بخطاب الروم.

    ويقدِّم اليوناني نفسه ببعض السمات هي فضائل ونِعم من الله، شهادة إسلامية على المحاسن اليونانية؛ فهم أهل البقول والنعم، أنصار الملوك الفاضلة والخصال الحميدة والسير العادلة، يتميزون برجحان العقول، ودقة التمييز، وجودة الفهم. برعوا في العلوم والصناعات، الطب والهندسة والنجوم والأفلاك والحيوان والنبات والمعادن وآلات الرصد والطلسمات والرياضة والمنطق والطبيعيات والإلهيات، وآمنوا بالسعادة في الدنيا والآخرة. وهي قراءةٌ إسلامية للفلسفة اليونانية.

    وينقد صاحب العزيمة الذي يُمثل الحقيقة الموضوعية المطلقة اليونان بأنهم أخذوا علومهم من المصدر الشرقي من إسرائيل أيام بطليموس، ومصر أيام مسيطوس، واعتراف اليونان بذلك نظرًا لأن التقاء الحضارات واردٌ عند الكل، اليونان والفرس والهند وإسرائيل؛ فقد أخذ الفرس علوم النجوم والأفلاك وآلات الرصد من الهند، وأخذت إسرائيل علم الحيل والسحر والعزائم والطلسمات واستخراج المقادير، أخذها سليمان من خزائن ملوك سائر الأمم حين غلبهم، ونقلها إلى لغة العبرانيين وإلى بلاد الشام، وبعضها أخذتها إسرائيل من كتب الأنبياء عن طريق الوحي من الملائكة، سكان السموات. تكثُر العلوم في أمة في وقتٍ دون وقت، وتغلب إذا صار الملك والنبوة فيها، وتأخذ علومها من الأمم المغلوبة وتنسبها إلى نفسها. ويعترف اليونان بنقد صاحب العزيمة لهم، وأخذهم من الشعوب المُجاورة؛ إسرائيل ومصر، وبالدورات الحضارية بين الأمم.٤٤
  • رابعًا: العرب، وهم أقل الأمم الأربع ذكرًا وتفصيلًا مع أنهم حمَلة الإسلام خاتم الرسالات. اقتصر العرب بالزجر في الجاهلية، والفأل في الإسلام، ووضعوا فيه الكتب. ولهم أيضًا أمزجتهم؛ فأهل الحجاز يكشفون الأبدان، وأسرع قبولًا لما جاء به الرسول، وهم أصحاب سفر وصناعة وحضارة. يستخرجون اللآلئ من قعور البحار، ولهم آثار ومدن وقُرًى ومنارة الإسكندرية والأهرام.

    دورت الإسلام الحضارات القديمة، من الهند إلى فارس إلى اليونان، من الشرق إلى الغرب إلى العرب. ولم تفقد خصوصيتها العقلية العلمية وسط هذا التراث الشرقي الإشراقي القديم أو لصالح الشعوبية.

    وفي رسالة «الحيوان» يُسمي الإخوان العربي «القرشي» زبد العرب. وتمتلئ مقدماته الإيمانية بصورٍ فنية حُرة من القرآن. كما أن الخطاب مُتجه إلى رغد العيش وحب الدنيا، وهي صورة العربي الآن في شبه الجزيرة العربية. رد عليه زعيم الطيور، الهزار واستان (العندليب)، بأنه يتصور أنه الرب، وأن الحيوان عبيد له. وهو أسمر شديد السمرة، نحيف الجسم، عليه ثوبان، إزار ورداء، شبه المحرم، راكعًا ساجدًا يتلو القرآن، ويُناجي الرحمن.

    ويُبين العربي فضائله التي كرَّمه الله بها، وهي الإسلام خير الأديان، وأمه صاحب الفرقان، وتلاوة القرآن، وشهر رمضان، والطواف حول بيت الله الحرام والركن والمقام وعرفة، وليلة القدر، والزكاة، والطهارة، وصلاة الجماعة والأعياد، والمنابر والخطب، وحقة الدين، وسنن النبيين، وسيرة الربانيين، وأخبار وأحوال الأولين والآخرين، وحساب يوم الدين، والوعد بثواب النبيين وشهداء الصالحين في دار النعيم.٤٥
    ينقد صاحب العزيمة العربي بالردة بعد وفاة النبي، وبالشك والنفاق، وبقتل الأئمة الخيرين الفاضلين طلبًا للدنيا والدين.٤٦

(ب) وحدة الحضارة الإنسانية

وبالرغم من تعدُّد الثقافات إلا أن الحضارة الإنسانية واحدة. تختلف في نقطة البداية؛ أمزجة الشعوب وطبائعها، وتتفق في النهاية؛ عالم الخير والفضيلة. والرسالة الثانية من الجزء الثاني من الرسائل «الجسمانيات والطبيعيات» عن خصائص الشعوب ابتداءً من شكل البدن. وهي جزء من رسالة في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها. وبعد وصف جسد كل شعب ممثَّلًا في الفرد يتمُّ رصد الرذائل والفضائل فيه. والسؤال هو: هل يمكن التعميم على الشعب من خصائص الفرد؟ وتُذكَر خصائص الشعوب في رسالة «الحيوان»؛ فالكل فضائل.

ويُكمل الإخوان باقي الشعوب لعدم الاكتفاء بالأربعة الرئيسية، الهند والفرس والروم والعرب، بثلاثةٍ أخرى؛ العراق، والعبرانيون، والسريانيون. والعراق يتأرجح بين العراق القديم والعراق الجديد، بين الأشوريين والبابليين القدماء والعراق العربي الحديث.

فالعراقي مُعتدل القامة، مستوي البنية، حسن الصورة، مليح البزَّة، لطيف الجملة، صافي البنية، حلو المنظر، خفيف الروح. وتُسمى العراق بلاد إيرانشهي، وهو الاسم الفارسي للعراق، وتوصيف العراق من خلال إيران ربما من آثار التضاد بين الشيعة والسنة، أو لوجود آثار الشيعة في العراق؛ فهي الموطن الديني لفارس في كربلاء والنجف.٤٧
ويبدأ خطاب العراقي أيضًا بالحمدلات والبسملات؛ فالدين هو الجامع بينهم؛ فكل الطوائف تتذرع بالأديان، الملك والقضاء والاتهام والدفاع. الحضارة دينية بطوائفها وطبقاتها، جلَّاديها ومسجونيها، الكل يستدعي الدين لاستمداد الشرعية. وكلها تشبيهاتٌ إنسانية تدل على عجز الإنسان على السيطرة على العالم، في حين أن الله هو الجامع بين الأضداد.٤٨ والكثير منها تعبيراتٌ قرآنية، وكأنه تركيٌّ يتكلم في العصر المملوكي، وكأن الفارابي لم يستطع التخلِّي عن تُركيته. وتبدو البيئة المحلية الزراعية مع المقدمات الدينية. وتُركز ثقافة العراق على الأرض والزراعة والهواء والتربة والأشجار والثمار؛ أي البيئة الطبيعية في موقعٍ جغرافي وسطي. وتقوم على صفاء الذهن ورجحان العقل وذكاء النفس؛ أي الثروة البشرية. وتُبدع في العلوم والصنائع؛ أي النهضة العلمية وما يتبعها من عمران. وفي العراق نشأت الدول والنُّظم السياسية، وظهرت النبوة والرسالة مثل نوح النبي، وإدريس الرفيع، وإبراهيم الخليل، وموسى الكليم، وعيسى المسيح، ومحمد المصطفى؛ فلكل نبي لقبٌ مميَّز لرسالته. وفيه ظهر الملوك؛ أفريدون النبطي، وسليمان بن داود، ومتوجهر الحريري، ودارا التميمي، وأردشير الفارسي، وبهرام، وأنوشروان، وبرزجمهر. العراقي قمَّة البشر، والبشر ذروة الحيوان، والحيوان كمال النبات، والنبات جوهر المعادن، والمعادن حصيلة الأركان.٤٩ ولما رد عليه الأسد أثبت العراقي الاصطفاء والاختيار والمناقب والمواهب والكرامات، مثل حسن اللباس في مُقابل خشونة لباس الحيوان وكشف عوراتها.

ومع ذلك للعراق عيوبه؛ الطوفان الذي أغرق الأرض من نبات وحيوان، اختلاف الألسن، تبديل العقول وتغيير الألباب، نمرود الجبار وطرح إبراهيم في النار، ونبختنصر الذي ضرب إيليا، وحرق التوراة، وقاتل أولاد سليمان وآل إسرائيل، وطرد آل عدنان من شط الفرات إلى بلاد الحجاز، والمتمرد والجبار والفتاك السفاك للدماء. وقد يرى البعض امتداد ذلك إلى عراق اليوم.

والسؤال هو عن خصوصية العراق؛ فالعراقي هو الذي يبدأ بالخطاب، وهو المصطفى؛ فالاصطفاء ليس خاصية لبني إسرائيل. ويتداخل العراق مع فارس، وفيها ظهور ملوك من العرب والفرس والنبط والعبرانيين والحِميريين؛ فقد كانت العراق في فارس بوَّابة العرب الشرقية كما يُقال اليوم. فيها الْتَقى شرق الجزيرة في فارس مع جنوبها؛ النبط وحمير، مع غربها؛ سليمان، وشمالها؛ إبراهيم.

ولا تكتمل الصورة دون العبراني والسرياني؛ أي دون اليهود والنصارى. فالعبراني صاحب كتاب، يقرأ ويهتز، استقرَّ في الشام، وهو عبراني من أهل العراق ربما مند زمان الأسْر البابلي. فليس العبراني فقط من الشام؛ مما يدل على اختلاط الملة مع الإقليم. وهو طويل، مرتدٍ برداءٍ أصفر، بيده مدرجة، ينظر فيها ويُزمزم ويترجح قدامًا وخلفًا. ويُركز في مقدمته الإيمانية في رسالة «الحيوان» على أهمية الخلق، واصطفاء الأنبياء، وأن الخالق رب، والآخرين عبيد له. وقد ردَّ عليه زعيم الطيور.

ويتَّسم العبراني بصفاتٍ أربعة؛ الأولى اصطفاء آدم وذريته، نوح وإبراهيم وإسرائيل وموسى والتوراة، وتكليم الله موسى وتأييده بالمعجزات؛ والثانية إغراق الأعداء، والثالثة إرسال المن والسلوى، والرابعة الملك. وكلها أقرب إلى المعجزات. وينقد صاحب العزيمة العبرانيين في أربع؛ أولًا لعنة إسرائيل وتحويلهم إلى قردة وخنازير، ثانيًا عبادة الطاغوت وعبوديتهم له، ثالثًا ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبوء بغضب الله، رابعًا الخزي في الدنيا وعذاب الآخرة جزاء أعمالهم.٥٠
والسرياني القس يُمثل آل المسيح، طويل عليه ثياب من صوف، وعلى وسطه منطقة من السيور، وبيده بيرم عود يطرحه، ويبخر فيه النار، رافعًا صوته، يقرأ كلماته ويُلحنها. وفي مقدماته الإيمانية في خطابه في رسالة «الحيوان» يجمع بين التوحيد والتثليث عن طريق الصيرورة. ويتَّسم السرياني بصفاتٍ ثمانٍ؛ التجسيد في مريم العذراء، تجسُّد اللاهوت في الناسوت، روح القدس، المعجزات والعجائب، إحياء بني إسرائيل من موت الخطيَّة، الحواريون أشياع المسيح وأنصاره، الرهبنة والقس، التواضع وعدم الاستكبار في الأرض، الرحمة في القلوب. وينقدهم صاحب العزيمة لعدم رعاية الأمانة حق رعايتها، والكذب على الله وقول الزور والبهتان، والكفر، والتثليث، القول بأن الله ثالث ثلاثة، وعبادة الصليب، وأكل لحم الخنزير في القربان.٥١

وتتأكد وحدة الحضارة الإنسانية بالرغم من خصوصية الثقافات؛ فكل ثقافة لها خصوصيتها في اللباس والعادات والتقاليد والأمزجة والطباع والألسنة، بل والخصائص الفيزيولوجية مثل لون البشر وبنية البدن. وتتجاوز صفات البدن إلى الملابس مثل الهندي الأحمر، وإلى الطريقة في العلم مثل اهتزاز العبراني وهو يقرأ، وإلى الدين مثل الهندي البرهمي والعربي المسلم، وإلى الطائفة أو الفرقة مثل السرياني القس، أو إلى السمة الذهنية مثل اليوناني الرياضي العالم.

وواضحٌ من هذه الصفات التراوح بين الدين والفلسفة، وأولوية الفلسفة على الدين؛ وبالتالي أولوية اليوناني الرياضي العالم على الهندي البرهمي، والعبراني اليهودي، والقس المسيحي، والعربي المسلم. وتنتهي كل خطابات الشعوب في رسالة «الحيوان» بالبسملات والحمدلات والشكر والثناء والاستغفار، لا فرق بين هندي وفارسي، بين عبراني وسرياني، بين يوناني وعراقي؛ فالدين مقدمة وخاتمة، بداية ونهاية عند الكل. والعدد سبعة عددٌ رمزي عند الكل. نظر الملك إلى جماعة من الإنس، حوالَي سبعين رجلًا من مُختلفي الهيئات واللباس واللغات والأشكال والألوان.٥٢
وتظل العلاقة بين الشعوب هي تعدُّد الثقافات الخاصة ووحدة الحضارة الإنسانية العامة، ربما توجهًا لا شعوريًّا من آية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا. تختص كل أمة باتجاه رئيس غالب على ثقافتها وعلمها. وأحيانًا يكون الوصف للعلم وليس للشعب؛ فالفُرس التربية، والسيرة صوفية. والعرب الدين، والأخلاق ملكية. والعراق الأدب، والرأي رباني. والعبراني المخبر، والعرف إلهي. والشامي النسك، والمذهب حنفي. والمسيحي المنهج، واليوناني العلوم، والهندي البصيرة. والفاضل العالم الخبير الذكي هو الذي يجمع بين هذه الصفات كلها.٥٣

وكل تعميم يُجانبه الصواب، وغلبة محور لا يعني غياب المحاور الأخرى؛ فالعرب ليسوا أهل دين فحسب، بل أهل لغة وأدب وشعر وبلاغة وفصاحة. والفرس ليسوا أهل تربية؛ أي السياسة بوجهٍ عام كتربية للمجتمع، ولكنهم أيضًا أهل أدب وعلم. ولماذا ينفرد الشامي بالنسك وقد بدأت حركة الزهاد والنساك والعباد في العراق، والنسك والرهبنة معروفان في الهند والمسيحية؟ واليونان عُرفوا بالفلسفة والعلوم أحد أقسامها. والعراق عُرِف بالأدب كما عُرِف بالفكر والنحو، إلى آخر ما هو معروف في مدارس الكوفة والبصرة وبغداد. وقد عُرفت الرياضيات أيضًا في الهند، الحساب والهندسة. وعند الحديث عن المذاهب، لماذا جعل المذهب الحنفي هو الفقه؟ وحين الحديث عن المِلل لماذا كان يختص المسيحي بالمنهج، والمنهج عام وشائع بين كل المِلل؟ ولماذا يختصُّ العبراني بالمخبر وهو شائع عند كل الشعوب قديمًا وحديثًا إذا كان المقصود هو التاريخ أو حتى المظهر؟ قد يكون المذهب حنفيًّا لأن القرن الرابع قرن العقل قبل ردة الغزالي في القرن الخامس، ولكنه أيضًا قرن ردة الأشعري عن العقل إلى النقل. ولماذا تكون السيرة صوفية بالضرورة إذا كان المقصود بالتصدق الأخلاق؟ ولماذا تكون الأخلاق ملكية بالضرورة إلا إذا المقصود الملائكية؟ وماذا عن أخلاق الواقع والضرورة والموقف؟ ولماذا يكون الرأي ربانيًّا؟ وهل يوجد تعارض بين الرب والمربوب؟ ولماذا تكون المعارف إلهية؟ وهل هناك تعارض بين المعارف الإلهية والمعارف الإنسانية بدليل أسباب النزول والناسخ والمنسوخ؟

وتتوحد الثقافات بقراءةٍ إسلامية لها. عبراني من أصلٍ عراقي، العراقي اليهودي. الاختلاف بين ثقافات الشعوب في رواية الحدث وتفسيره وقراءته كلٌّ طبقًا لهواه وثقافته وتكوينه النفسي؛ فعندما رأى الملك حيوانًا يحمل الطين ليس له رجلان ولا جناحان، أجاب العبراني مُتهمًا الجن بحمل الطين مكافأةً لها على أكل عصا سليمان، فمات وهرب الجن طبقًا للتصور الأسطوري، وتعاطَف اليوناني مع الحيوان الظريف الخلقة العجيب الطبيعة؛ فاليونان عالم طبيعي وصاحب تفسير طبيعي. ووافق الصرصور وصف اليوناني مُكتشفًا الحكمة في الخلق والعناية، ومُكملًا علم اليونان بالحكمة الحيوانية الإلهية، وهو التصور الإسلامي على لسان الحيوان مع تعادل الصفات الجسمية مع الصفات النفسية في الخلق. فالفيل عظيم الجثة ذليل النفس، والجرادة الأرضية ودودة القز ودودة البحر والنحل والنمل صغيرة الجثة قوية النفس. وجعل الله في الجبلَّة حب الحرير والديباج شكرًا لله على نعمائه. ومع ذلك فهم غافلون ساهون لاهون طاغون باغون كافرون جاحدون مُنكرون مُفتخرون مُتعدون جائرون ظالمون.٥٤
وقد كرَّم الله الإنسانية كلها، بني آدم، بأهم الفضائل؛ التكريم بالوحي والنبوات والكتب المنزَّلة والآيات المُحكَمة، وما فيها من حلال وحرام، وحدود وأحكام، وأوامر ونواهٍ، وترغيب وترهيب، ووعود ووعيد، ومدح وثناء، وتذكار وأخبار، وأمثال واعتبار، وقصص الأولين والآخرين، وصفات يوم الدين، والوعد بالجنان والنعيم، والإكرام بالغسل والطهارة والصوم والصدقة والزكاة والأعياد والجمعات، والذهاب إلى بيوت العبادات والمساجد والبِيع والصلوات، ولهم المنابر والخطب والأذان والمواقيت والإفاضات والإحرام والتلبيات والمناسك.٥٥

ويُمثل القاضي الذي لا ينحاز وحدة الشعوب ووحدة الحضارة الإنسانية القائمة على العدل، ويعتمد على صاحب العزيمة الذي يذكر الشعوب بنقائصها وهي مشغولة بمحامدها. وهو القادر على المعارضة والمواجهة. وهو أحد أفراد الجن؛ لأن البشر لا يمدحون إلا أنفسهم. وقد ذكر الببَّغاء الفارسي بأنه نسي نقائصه وأفاض في ذكر مناقبه؛ فقد كان الفارسي أكثر الأقوام شعوبية، وهو في نفس الوقت المُدافع عن التوحيد، وليس العربي أو القرشي أو الحجازي أو العراقي. فعندما يقدم الإنس حجة الكيف ضد الجن، وحدانية الصورة في الإنس، وكثرة الحيوان في الصور والأشكال؛ مما يبرر رياسة الإنس على الحيوان؛ فالرياسة والربوبية بالوحدة، والعبودية بالكثرة. يردُّ الحيوان ممثَّلًا في الهزاردستان بأن تكثُّر الصور واختلافها صحيح إلا أن النفوس واحدة، في حين أن الإنس صورتهم واحدة ولكن نفوسهم كثيرة؛ نظرًا لكثرة آرائهم واختلاف مذاهبهم وفنون دياناتهم، كلٌّ منها يُكفر الآخر ويلعنه ويقتله ويُحل دمه. يتشتَّت الإنسان في الديانات؛ هذا يهودي، وذاك نصراني، وثالث صابئي، ومجوسي ومشرك وعابد أصنام وميزان وشمس وهمر ونجوم وكواكب. كما يختلف أنصار الدين الواحد إلى مذاهب؛ في اليهودية بين سامري وغيابي وجالوقي، وفي المسيحية بين نسطوري ويعقوبي وملكاني، وفي الديانات الفارسية بين مانوي وخرماني ومزدكي وديصاني وبهرمي، وفي الإسلام بين خارجي ورافضي وقدري وجهمي ومعتزلي وسني وجبري.

والفارسي هو الذي يُدافع عن الإنسان، إله واحد ورب واحد لا شريك له، إله خالق ورزَّاق، يُحيي ويُميت. والاختلاف في المذاهب لأنها طُرُق ومسالك ومحاريب ووسائل، ولكن الغاية والمقصد واحد فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ. أما القتل فليس من الدين؛ لأن لا إكراه فيه، إنما السبب الملك أو السياسة؛ فالدين والملك توءمان لا يفترقان، ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر. الدين هو الأخ المقدَّم، والملك هو الأخ المؤخَّر. لا بد للملك من دينٍ يدين به الناس، ولا بد للدين من ملكٍ يأمر الناس بإقامة سنته طوعًا أو كرهًا. كل ملك يريد انقياد الناس أجمع لسنة دينه وأحكام شريعته. قتل الأنفس سنة في جميع الديانات والمِلل والدول، إلا أن قتل النفس في سنة الدين هو قتل طالب الدين نفسه، المُتنبي، أو الشهادة. وفي سنة الملك أن يقل طالب الملك غيره. قتل الملوك غيرها طلبًا للملك ظاهر، وقتل طالب الدين نفسه في سائر الديانات وفي الإسلام. وهي كلها أحكام في حاجة إلى مراجعة، مثل إقامة الملك سنة الدين طوعًا أو كرهًا مع أنه لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وقتل النفس في الدين شهادة أو قصاصًا ليس مثل تقتيل الهندي والمانوي والثنوي نفسه زهدًا؛ فالقتل له معنًى حقيقي وليس معنًى مجازيًّا.٥٦
والخطيب الحجازي المكي المدني يُقدم حجة الإيمان بالمعاد، وكأنه وحده هو وريث الدين لإثبات أفضلية الإنسان على الحيوان. وهو خطيب وليس حكيمًا، بضاعته اللغة وليس البرهان. لقد وعدهم الله بالبعث والنشور والخروج من القبور وحساب يوم الدين والجواز على الصراط ودخول الجنان، جنات عدن، والفردوس والنعيم والخلد والمأوى ودور السلام والمقام والمتقين وشجرة طوبى وعين السلسبيل وأنهار الخمر للشاربين والعسل المصفَّى واللبن والماء العين ودرجات القصور وتزويج الحور العين ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام والتنسُّم بالروح والريحان. وتدعيم هذه الصور كلها بحوالَي سبعمائة آية قرآنية مباشرة. ويرد الهزاردستان بأن الإنس أيضًا قد وُعدوا بعذاب القبر وسؤال منكر ونكير وأحوال القيامة وشدة الحساب والوعيد ودخول الناس عذاب جهنم والجحيم والسعير واللظى وسقر والحطمة والهاوية وسرابيل من قطران وشرب الصديد وأكل شجرة الزقوم ومجاورة مالك الغضبان وحوار الشياطين مع جنود إبليس؛ وبالتالي تكافأت الأدلة بين الثواب والعقاب، والوعد والوعيد؛ فلا مِقياس للتفضيل بعد تساوي الأقدار بين الإنسان والحيوان. ويرفض الحجازي تساوي الأقدار لأن الإنسان له الخلود دون الحيوان، بطاعة الأنبياء والأولياء والأئمة والأوصياء والحكماء والأخيار والفضلاء والأبدال والزهاد والصالحين والعباد العارفين المُستبصرين وأولي الألباب وأولي الأبصار وأولي النُّهى المصطفين الأخيار، وللإنسان الشفاعة. ولا يوجد رأي للعراقي والسرياني. وهل الجنة الحسية أو الدين الغيبي سبب للتفضيل؟ وواضحٌ أن الخطيب أشعري يقول بالشفاعة.٥٧
ويُقدم زعيم الهند حجة الكم من الإنس ضد الحيوان نظرًا لكثرة عدد الهنود؛ فبنو آدم أكثر الحيوانات عددًا وأممًا وأجناسًا وأفرادًا وأشخاصًا، وأعرف بفنون تصاريف أحوال الزمان ومآربه وعجائبه؛ فالربع المسكون من الأرض يضمُّ حوالَي ١٧٠٠٠ مدينة مختلفة الأمم كثيرة العدد، مختلفة الألوان والألسنة والأخلاق والطباع والآراء والمذاهب والصنائع، والسير والديانات، لا يُصلحها إلا الله الذي يعلم سرهم ونجواهم، مستقرهم ومستودعهم. وذلك يدل على أنه أفضل من غيرهم، وأكرم من سواهم من الأجناس في الأرض، وأنهم أرباب الحيوانات، وهي لهم عبيدٌ مماليك. ويردُّ عليه الضفدع أن السبب في ذلك لا يعلمه إلا الله، وليس تفضيل الإنسان على الحيوان وربوبيته له. كما أن أجناس الحيوانات من ماء وأجسام وآجام وأنهار لا تُحصى ولا تُعَد، ولا يعلمها إلا الله، وكلها عبيد له وحده. وخفت من الحيوان الخلائق الروحانية والصور النورانية والأرواح الخفية والأشباح اللطيفة والنفوس البسيطة والصور المفارقة في عالم الأفلاك من أصناف الملائكة الروحانيين. وفي رأي الحكيم لا تدل الكثرة على ربوبية أحد على أحد، ولا يُغني الكم عن الكيف. وماذا عن يوم حُنين إذ أعجبت الكثرة؟ وماذا عن نقد الكثرة في القرآن ومدح الأقلية؟٥٨
والحكم النهائي هو أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهو قرارٌ من حكماء الحيوانات وحكماء الجن أجمعين على الإنسان المتهم؛ فإن خصائص الشعوب والأديان والعلوم كلها تشترك في إنسانيةٍ واحدة عامة هي الإنسان الكامل. والأرباب هي الأوصاف والأفعال وليست طائفة بعينها. والسؤال للإنس عن الأوصاف الحقيقية من الإنسان، وفي هذه الأوصاف فليتنافس المُتنافسون. وهذا الإنسان هو العالم الخبير، والفاضل الذكي المُستبصر؛ فالأولوية للعلم والخبرة على الفضل والذكاء والاستبصار؛ أي العلم والأخلاق. وهو الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآدابي، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النُّسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة، الملكي الأخلاق، الرباني الرأي، الإلهي المعارف الصمداني. فالشعوب السبعة لكلٍّ منها صفة؛ النسب للفارسي، والدين للعربي، والآداب للعراقي، والمخبر للعبراني، والمنهج للمسيحي، والعلم لليوناني، والبصيرة للهندي. وتظهر مناطق جغرافية مثل نسك الشام، والمذاهب الفقهية مثل المذهب الحنفي السائد في بلاد التُّرك. كما تظهر باقي العلوم الإسلامية مثل التصوف للسيرة، والملكية للأخلاق. هؤلاء الذين يجمعون بين هذه الصفات هم أولياء الله وصفوته من خلقه؛ أوصاف حميدة، وأعمال زكية، وعلوم مقننة، وصفات جميلة، ومعارف ربانية، وأخلاق ملكية، وسير عادلة قدسية، وأحوال عجيبة. الحيوانات خاضعة لأوامرهم ونواهيهم، مأمورون لهم حتى يُستأنف الدور؛ فالتاريخ له دورات، وهذه دورة الإنسان، وقبلت الحيوانات الحكم، آمين!٥٩

والسؤال هو: هل الإنسان الكامل أو هذه الإنسانية الشاملة لها وجودٌ فِعلي أم إنها مجرد تمنٍّ؟ أليست هي مجرد تمنٍّ للكل، من كل بستان زهرة؟ وهل الحكم عادل أم ظالم، عبودية الحيوان لبني الإنسان؟ وهل دافع القاضي أي الجن عن الحيوان أم نصر الإنسان؟ هل تغيَّر واقع العلاقة بين سيادة الإنسان وعبودية الحيوان أم إن الأمر بقي كما هو عليه؟ ولماذا لم يُصدر القاضي حكمًا بتحرير الحيوان من عبودية الإنسان؟ هل هذا تأويلٌ جديد لمفهوم التسخير؟ هل ينتظر الحيوان دورًا تاريخيًّا آخر يتخلص فيها من ربوبية الإنسان وعبودية الحيوان، ويبدأ دور ربوبية الحيوان وعبودية الإنسان طبقًا لجدل السيد والعبد؟ هل هو رضاء بالأمر الواقع وانتظار الخلاص في المستقبل كما هو الحال في عقائد الشيعة؟

(٣) مركزية الثقافة العربية

وهو اختيار أبي حيان. والصعوبة فيه هو مدى نسبة الأفكار إليه أم إلى أبي يعقوب السجستاني، وأن أبا حيان ما هو إلا مجرد عارض لها. وقد يعني العرض التأليف غير المباشر والحديث على لسان الآخرين، وتبنِّي نفس الأفكار وإعادة صياغتها بأسلوبٍ أدبي يتجاوز التحليل الفلسفي المجرد.

ويتضمن فكر أبي حيان في فلسفة التاريخ نوعين؛ الأول التصور التاريخي الدائري للتاريخ عرضًا لأبي حيان في إطار الفلسفة الإشراقية، الدور بعد الدور، والكور بعد الكور. في هذا العالم اشتياق إلى الكمال والجمال، في الغاية والنهاية. وتغير العالم كل ساعة ووقت إلى حال آخر بما يفيض عليه من الحق الأول والوسائط الأولى بالجود؛ لأن العالم مُتوجه نحو الكمال والجمال؛ نحو الوحدة.

ويظهر تطبيق ذلك في تحوُّل الملك من فارس إلى العرب، ثم ذهابه من العرب مرةً أخرى دون أن يُقال صراحة عودته إلى الفرس. ويظهر ذلك في الليلة الثالثة والثلاثين من المُمالحة، وكيف دارت الدائرة على العرب، من لا شيء إلى كل شيء إلى لا شيء، وكما عبَّر عن ذلك ابن خلدون بعد أربعة قرون في وصف دورات حياة الأفراد والقبائل. تحول الملك من العجم إلى العرب، وتم القضاء على نمرود الفرس. وقد تنبَّأ حكماؤهم بانهيار دولتهم، وعرف العرب ذلك؛ فقد رأى رستم في المنام أن النبي أخذ سلاح الفارس وختم عليه ودفعه إلى عمر، فارتاع رستم وأيقن أنه هالك. كما تكشف الخطابات السياسية المتبادلة عن قانون التاريخ في عصر الفتوح؛ فقد كتب سعد بن أبي وقاص إلى رستم: «إسلامكم أحبُّ إلينا من غنائمكم، وقتالكم أحبُّ إلينا من صلحكم … قد علمتم أن الله يريد أن يُحول الملك عنكم إلى غيركم، وقد أخبركم بذلك حكماؤكم وعلماؤكم، وتقرَّر ذلك عندكم. وأنتم إنما تدفعون القضاء بنحوركم، وتتلقَّون عقابه بصدوركم … والآن لما صار الله معنا صارت ريحنا عليكم.» وهو تصورٌ شعوبي لعصر الفتوحات الإسلامية التي لم تقم على أسسٍ شعوبية، بل على تحرير الشعوب جميعًا تحت راية «لا إله إلا الله».٦٠
والثاني خصائص الشعوب وإيداعاتها الحضارية التي تعتمد على العقل الذي يعني اشتقاقًا العقال، وهو كذلك بالرومية والهندية؛٦١ فالعقل الخالص والبحث النظري المجرد هو مقياس التصنيف بين الشعوب.٦٢
ويصعب التمييز هنا بين آراء أبي حيان وآراء من يعرضهم مثل الجاحظ ومسكويه وابن المقفع والسجستاني. هل يعرض أم يستعمل الآخر كتعبير عن الذات؟ وهل يستدعي الموضوع هذه الآليات من التخفِّي أم إنه كان مُتطرقًا إليه؛ فقد كانت الشعوبية والتفاضل بين الشعوب في الفكر والممارسة؟ كما تتمثل صعوبة أبي حيان في عدم وجود موضوع نسقي بما في ذلك فلسفة التاريخ؛ إذ ينتقل من موضوع إلى آخر كمقابسات للإمتاع والمؤانسة عبر الليالي، أو كهوامل تحتاج إلى شوامل مثل النثر والنظم، النحو والمنطق، العلم والعمل، وهي موضوعاتٌ موجهة وإشكالاتٌ نظرية يتم حولها نسج الأفكار كما يفعل كل فيلسوف.٦٣ ويذكر أبو حيان أن أبا زيد له كتاب في «أخلاق الأمم» أفاد منه، وهو على طريقة الحكماء، يتوخَّون من الأمور لُبابها، فله سبق التقدم. فهل هو مسكويه في «تجارب الأمم» بالرغم من العداء الذي يُكنُّه له أبو حيان كما وضح في «الهوامل والشوامل»؟
وليست اللغة هي العامل الحاسم في شخصية الشعوب؛ إذ يمكن للعربي النطق بالرومية أو الهندية دون أن ينال ذلك من معنى العقل بمعنى العقال؛ وبالتالي يمكن الوصول إلى لغةٍ واحدة على جهةٍ واحدة وإيجاد المعنى المضاد؛ أي الإطلاق والسرح وليس العقل.٦٤ إنما المقياس هو البحث عن الفضائل السارية في الأجناس. وتقوم خصائص الشعوب على فلسفة القصد والغاية؛ فالغاية لا تبلغ إلا بالقصد. ومن نشأ على الراحة الجسمية فاتته الراحة العقلية. العاجلة تنصرم، والآجلة تدوم.
والغرض من رصد سمات الشعوب وخصائصها هو التفاضل بينها في بيئةٍ سياسية تقوم على المنافسة والتفاخر بين الشعوب. وتتفاضل الشعوب في موضوعين؛ الأول خصائصها من حيث نشأتها؛ أي أخلاق الشعوب بالاختيار الجيد والرديء والرأي الصائب والقائل والنظر في الأول والآخر. فلكل أمة فضائل ورذائل، محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعاتها وحلها، وعندها كمال وتقصير. الكل تعمُّه الخيرات والفضائل والشرور والنقائص. والثاني قيام الدول وانهيارها في التاريخ؛ لذلك ارتبط موضوع خصائص الشعوب بفلسفة التاريخ.٦٥ وبهذا المقياس لا فضل «موضوعيًّا» لأمة على أخرى؛ إذ إن لكل أمة خصائصها ودورها في التاريخ. كل الخصائص مُتساوية موضوعيًّا؛ مما يؤدي أيضًا إلى تساوٍ موضوعي بين الشعوب بالرغم من التفضيل. ولا يدخل البعد الديني مثل الاختيار الإلهي المسبق في تحديد خصائص الشعوب؛٦٦ إذ تنشأ الشعوب نشأةً طبيعية، وتُقيم دولها في التاريخ طبقًا لقوانين التاريخ؛ لذلك يستعمل فعل «خُص» مبنيًّا للمجهول لعدم الإشارة إلى فاعل من خارج الطبيعة؛٦٧ فالصراع بينها هو صراع باضطرار الفطرة.

وقد كان تفاضل الشعوب موضوعًا شائعًا يتَّفق مع تفاضل الأئمة والطبقات والصحابة والعلماء دون الوصول إلى اتفاق فيه. هو شيء في طبائع الشعوب؛ فالفارسي بطبيعته ونشأته لا يعترف بفضل العربي، والعربي بجبلَّته ودينه يُقرُّ بفضل الفارسي، وكذلك الهندي والرومي والتركي والديلمي.

وقد توجد خصالٌ مشتركة بين الشعوب، فيكون الخلاف بينها في الدرجة وليس في النوع؛ وبالتالي يتعاون أهل الفضل والكمال، ويتلاقى أهل الخسَّة والرذيلة من كل شعب. تتجاوز الإنسانية إذن قسمة الشعوب إلى الأخيار والأشرار من كل الشعوب، وهي قسمةٌ أخلاقية تتَّفق مع التفاضل الإسلامي، «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح». هناك إذن إمكانية لإقامة أخلاق شاملة لكل الشعوب في مقابل الأخلاق الخاصة بكل الشعوب.٦٨
ليست خصائص الشعوب سماتٍ جوهريةً ثابتة، بل تتغير وتتبدل. هناك الفطرة والاكتساب، هناك النشأة الطبيعية وهناك التكوين والتربية الاجتماعية. وتختلف الشعوب فيما بينها في سرعة التغير من الفضيلة إلى الرذيلة أو من الرذيلة إلى الفضيلة طبقًا للمزاج؛ فإن تحوُّل العربي من البخل إلى الكرم أسهل من تحوُّل الرومي، كما أن تحوُّل التركي من الجبن إلى الشجاعة أسهل من تحوُّل الكردي.٦٩ وهي أحكامٌ مُطلَقة تنقضها شجاعة صلاح الدين الكردي وقتال التُّرك العراقيين. ويدرك أبو حيان خطورة إطلاق الأحكام وتعميمها على كل الأفراد داخل الشعب الواحد.

ويظهر موضوع خصائص الشعوب عند أبي حيان، خاصةً العرب والعجم، كأحد موضوعات فلسفة التاريخ، وهو موضوع الشعوبية الأثير الذي كان مُسيطرًا على حياة العرب والمسلمين منذ القرن الثاني الهجري واتجاه الأمويين نحو العرب، والعباسيين نحو الفرس. وقد تعرَّض له أيضًا النظَّام.

ويُصور أبو حيان الشعوب؛ العرب في المركز، وباقي الشعوب في الأطراف، وهو ما يُعادل الآن العرب بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، العرب بين روسيا وأمريكا وأوروبا وأفريقيا.

ويركِّز على أربع أمم؛ اثنان في الشرق، فارس والهند، واثنان في الغرب، اليونان والروم، كما هو الحال عند إخوان الصفا. وهو ليس إحصاءً كاملًا؛ إذ لم يذكر السودان والحمران. وأحيانًا يكون شرقًا وغربًا مثل قسمة اليونان الشعوب إلى يونان وبرابرة.٧٠
وأساس هذه القسمة الرباعية تصوُّر شعب كامل جمَع بين خصالٍ أربع، ويُمثل الإنسانية جمعاء؛ إذ ينزل الحكم على أربعة طُرُق؛ رءوس الروم، وألسن العرب، وقلوب الفُرس، وأيدي الصين. فرءوس الروم الذين يضمُّون اليونان الفكر، وألسن العرب الخطابة، وقلوب الفرس الوجدان، وأيدي الصين ويقصد الهنود العمل. وهو ما يُعادل قسمة مصادر الطاقة إلى الفكر والقول والوجدان والعمل.٧١

(أ) الثقافة العربية

وتقوم أخلاق العرب على ثنائيات، كلاهما صحيح حسب الظرف والموقف؛ فالجانبان في الإنسان، وهو ما استمر حتى العصر الحاضر بلغته في الجمع بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة؛ لذلك أُعجبوا بثنائيات اليونان وجمعوا بينها مثل الصورة والمادة، ما بعد الطبيعة والطبيعة، الكيف والكم، النفس والبدن، الحركة والسكون، الجوهر والعرَض، الزمان والمكان.٧٢ ويضرب أبو حيان المثل بالحلم والتأثر، الشجاعة والاحتياط، الكرم والبخل، الصبر والغضب. وهو ما سمح بتحديد الفضيلة بأنها وسط بين طرفَين.
ويُفصل أبو حيان نقلًا عن أبي سليمان خصائص العرب بالحِرف (بكسر الحاء) أي الصنعة، أو بالحَرف (فتح الحاء) وتعني التكسُّب بالأدب لضيق الرزق في الصحراء، يُتاجرون بكل شيء لأن أرضهم جدباء، وخصبها عارض. لا يعرفون الشبع؛ لذلك كان العرب أصحاب فقر وضر؛ مما دفعهم إلى الترابط الاجتماعي، والانكفاء على القبيلة. وهم أهل شجاعة لا يعرفون الرعب. وهذا هو الفرق بين البدو والحضر. زادتهم شبه الجزيرة شرًّا، ولكنهم عُوضوا عن ذلك بالفطنة والبيان والسلوك المفيد والاقتدار الظاهر لخلو أجسادهم من الفضول. وبالرغم من أنهم مُخفقون في الفهم إلا أنهم وصلوا بحدة الذهن والقريحة إلى كل معنًى معقول، وصفاء المنطق، مغروزًا في النفوس دون صنعة؛ لذلك انتشرت فيهم النبوة والوحي لسرعة الذهن وجودة القريحة، واعتمادهم على الحدس والإدراك المباشر.٧٣

ما زالت النظرية الجغرافية هي السائدة مع تنويع عليها بالتحليل الاجتماعي؛ فالجغرافيا هي التي تفرض وسائل الكسب والمعاش كما يقول ابن خلدون. الحِرف والترابط الاجتماعي تعبير عن الجدب، واللانهائي في العقيدة تعبير عن اللانهائي في الصحراء، والوحي والنبوة تعبير عن سرعة الذهن، والبديهة والحدس. وكثير من الأحكام في حاجة إلى مراجعة، مثل بخل العرب الناتج عن فقر الأرض الذي قد يؤدي أيضًا إلى الكرم وإيثار الغير على النفس كما هو معروف عند العرب. وقد يكون التقابل بين البخل والكرم معكوسًا، ليس بين البادية والحضر، بل بين الحضر والبادية. كما أن سمات النجدة والكرم والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان قد لا توجد بالضرورة عند كل فرد، بل هي الخصال الشائعة عند أكثرهم، قد يخلو البعض منها كليةً، وقد يتَّسم البعض الآخر بأضدادها. وهي سمات قد لا تستمر عبر التاريخ، وتتغير بتغير العصور والأزمان؛ إذ يُضرَب المثل اليوم في عصر النفط بغنى العرب وحياة البذخ والإسراف وليس الفقر والجدب.

ويروي أبو حيان عن ابن المقفع خصائص خمسًا أخرى إيجابية في العرب.
  • أولًا: ليس للعرب أول تؤمُّه، ولا كتابٌ يدلُّها. هم أهل بلد وفقر ووحشة من الإنسان. احتاج كل واحد منهم إلى فكره ونظره وعقله. معاشهم من نبات الأرض. وصفوا كل شيء بصفته، ونسبوه إلى جنسه، وعرفوا منفعته، رطبه ويابسه، وقته وزمنه، وما يصلح منه للإنسان والحيوان.٧٤ عرفوا الفصول الأربعة، ووضعوا الأنوار لارتباطها بالسماء، وعرفوا منازل القمر، وانتشروا في الأرض، واهتدَوا بنجوم السماء؛ فالعرب أمة على الفطرة.٧٥ وهو ما يحضُّ عليه القرآن بالتوجه بالفطرة نحو الطبيعة؛ فالوحي تعبير عن الفطرة العربية. وأتاها الكتاب بعد ذلك والرسول والقائد تأكيدًا للفطرة. وهذا هو شرط الإبداع؛ أمية الطبيعة. الفقر والصحراء يُساعدان على الطبيعة وليسا ضدها، والتوجه نحو الطبيعة يساعد على اكتشاف عللها، ووضع الأسماء للأشياء.٧٦ الفطرة من الله؛ لذلك أعطاها دين الفطرة؛٧٧ فأخلاق العرب هي أخلاق الطبيعة والفطرة، أخلاق البدو كما يصفهم ابن خلدون.
  • ثانيًا: وقد دفعهم ذلك إلى وضع قواعد ينتهون بها إلى الفكر، وتُرغبهم في الجميل، ويتجنَّبون بها الدناءة، وتحضُّهم على المكارم حتى مدحوا المكارم كلها، وذمُّوا المساوئ كلها. ووضعوا ذلك في جوامع الكلم، في اصطناع المعروف والنهي عن المنكر، وكأن الشريعة كانت تلبية للفطرة. ووضعوا القواعد الاجتماعية للتعويض والديات قبل أن يصبحا أجزاءً من الشريعة؛ فالعزلة أساس الحياة الاجتماعية.٧٨
  • ثالثًا: الحرص على الجماعة وحفظ الجار وبذل المال وابتغاء المحامد، ما يُقوي العلاقات الاجتماعية؛ لذلك أتى الدين الكامن في الثقافة الجامع بين التوحيد والأسباب ليُكمل وحدة العرب في الصحراء بما لديهم من صفاء الفكر والفطنة. ويتَّسم العرب بجودة البنية واعتدال الهيئة، وصحة الفطرة، وخلاء الزرع، واتقاد الطبع.٧٩ كما يتَّصفون بالشجاعة والنجدة، والضيافة والكرم، والبذل والسخاء، والحفظ والوفاء، والخطابة والحمية والأنفة، وحب الثناء، والبعد عن الهجاء والذم بالرغم من أن الهجاء من فنون الشعر.٨٠
  • رابعًا: وصل العرب إلى ذلك بفطنتهم وفكرهم. لا يتعلمون ولا يتأدبون، بل بالفطرة والبديهة؛ فهم أعقل الأمم لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وإذكاء الفهم. فالعقل الطبيعي هو وسيلة المعرفة؛ لذلك أتى الوحي والعقل والطبيعة نسقًا واحدًا. الجمال والأخلاق والعلم أساس الدين الجديد، وهي سمات العرب العاربة التي إذا طلبت شيئًا فإنها تناله، إما عن طريق وضع الأسماء للأشياء لتحديدها، أو وصف الأشياء بالاقتناع دون جدل واتهام، أو بالبرهان القائم على الحجة، أو بالتقليد الجاري على السنة والعادة.٨١
  • خامسًا: ويحدث من ذلك جوامع الكلم والأمثال العربية؛ فقد وضع العرب حكمتهم في الشعر العربي، على الطبيعة دون صنعة وتكلف. تتكلم العربية أولًا ثم بعد ذلك تضع النحو. تقرض الشعر أولًا ثم بعد ذلك تضع العروض. يُنشد الأعرابي الشعر على السليقة، من وحي الموقف. يُفرق بين الأصيل والغريب، بين العربي والأعجمي الذي يضم كلام الزنج والروم. اللغة طبيعية مثل الدين الطبيعي، دين الفطرة دون بِيع وصلوات. العرب لغة وإن ذهب التاريخ. واللغة العربية أولى اللغات نشأةً وآخرها تطورًا؛ لذلك عُرفت بالإيجاز. قيل: خير الكلام ما لم يحتَجْ معه إلى كلام.٨٢
واللغة العربية تزخر بإمكانياتٍ أكبر بكثير من باقي اللغات؛ فهي قادرة على أن تنقل إليها باقي اللغات، سريانية أو يونانية، اختراعًا أو تعريبًا. لها منطقها الخاص الذي يُغني عن منطق أرسطو.٨٣ وهي لغةٌ اشتقاقية ولو من حرفٍ واحد. ويمكن أن تُعِير اللغات الأخرى كلماتها؛ فالمعاني لا تكون في اللغات بل في العقل، مع أن اللغة العربية تستعير أيضًا من باقي اللغات كالفارسية والحبشية واليونانية والرومية. وهي تُشارك العبرية في الاشتقاق.٨٤
والنحو العربي فطرة، وعقل الفرس فطنة. والكمال في اجتماع الفطرة والفطنة. النحو منطقٌ عربي، والمنطق نحوٌ عقلي. فوائد النحو مقصورة على العرب بالقصد الأول، قاصرة على عادة غيرهم بالقصد الثاني. النحو يتبع ما في طباع العرب. الأولى بموجب اللسان العربي، والثانية بقضية الاعتبار النظري. والنحو واللغة العربية والمنطق مترجم بها ومفهوم عنها؛ ومن ثَم فالعرب أهل منطق أكثر من باقي الشعوب. فالنحو العربي منطق العرب، ولغة النطق آلة وسبب مستعارة بلغة العرب، في حين تأتي الأخطار من اللغات الأخرى.٨٥
وثقافة العرب في لغتها، في نثرها ونظمها. إذا كانت تفرق بين النفس والروح لغةً فهي كذلك معنًى. ومسائل القرآن باعتباره ثقافة العرب لا تُفهَم إلا بلغة العرب؛ لذلك كان العلم باللغة العربية أحد شروط الاجتهاد.٨٦ والعجيب من قدرة أبي سليمان الأعجمي على فهم اللغة العربية؛ فالعروبة في اللسان، والعربية قادرة على تقريب الأعاجم. العرب أفضل من الفرس. وأحيانًا يُشارك العجم العرب في صفاتٍ واحدة هي الشجاعة في الحروب، وأيام الهياج والاعتزاز، والانتساب إلى الآباء والأجداد، وأيام مشهورة، وأفعال مذكورة.٨٧

ويستفيض أبو حيان في شرح خصائص اللغة العربية، بلاغتها وسحرها وتجلِّيها في الأدب؛ فهي أعلى وأفضل من باقي لغات الشعوب. وتكشف عن خصائص العرب؛ فالشعوب وثقافاتها وحضاراتها ودياناتها وعاداتها وأعرافها وتاريخها في لغاتها. ويُفصلها كأصوات وحروف، وألفاظ ومعانٍ، وتراكيب، ونحو وصرف، وبيان وبديع، وبلاغة وعروض. فالحروف العربية ثمانية وعشرون حرفًا، تُركَّب ثنائيًّا وثلاثيًّا ورباعيًّا، وكلها مُتناهية مُحصاة لأن أصولها كذلك.

استطاعت اللغة العربية أن تنقل كلام الحكيم الشافي لقدرتها على التمييز بين المعاني، وإيجاد الألفاظ لكل معنًى مثل الجود والسرف والتبذير. وما لا يتفق مع المعاني العربية لا ألفاظ له مثل البخت؛ لأنه ليس من كلام العرب، بل من كلام اليونان، تسمية المصادقة في مقابل الضرورة. كل لغة تكشف عن عالم من المعاني، والذي يكشف بدوره عن خصائص للشعوب؛ فالعرب تختص بالعرافة وزجر الطير أكثر مما تختص به الأمم الأخرى، بالرغم من وجود صفات لغوية مشتركة بين سائر الشعوب.٨٨
واللغة العربية لها أساليبها وطرقها، تذكيرها وتأنيثها، اللفظ والاستعارة والإيجاز والاتساع والتصريف والسحر باللسان.٨٩ ومن جحد بلاغة العرب في الخطابة، وجولاتها في كل مجال، وتميُّزها باللسان، فقد كابَر. ويعرف العرب جوامع الكلم والأمثال والحِكم والمواعظ والنوادر، حتى لقد تحوَّل ذلك إلى نوعٍ أدبي. ويمتلئ كتاب «الصداقة والصديق» بهذه الأمثال دون بنية ودون تعريفات نظرية أو تصورات فلسفية، أقرب إلى الأدب منه إلى الفلسفة، تجميعًا لأقوالٍ مُتفرقة في جُملٍ قصيرة كأمثال وحِكم،٩٠ في حين يجمع «الإمتاع والمؤانسة» بين الأدب والفلسفة. وتزيد الفلسفة في «المقابسات» وفي «الهوامل والشوامل»، ويعمُّ التصوف «الإشارات الإلهية». وكذلك أوزان الشعر تتَّفق مع كلام العرب. والشعر العربي يعتمد على الذوق العربي.٩١
ومع ذلك للعرب مثالب ثلاثة؛ أولًا: قد يقع العرب في تناقض بين الصفات، فيجمعون بين النقيضَين؛ الحلم مرةً، والصبر والكظم مرةً أخرى. فقد اقتضت الظروف المتناقضة الصفات المتناقضة؛ العداوة والصداقة، المحبة والكراهية.٩٢ ثانيًا: في نفس الوقت الذي يتَّجه فيه العربي نحو الجماعة، فإنه يُغلب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة؛ إذ سئل أعرابي: أتريد أن تُصلَب في مصلحة الأمة؟ فقال: لا، ولكني أحب أن تُصلَب الأمة في مصلحتي. وهو تعميم لحكم من واقعةٍ جزئية. ثالثًا: العربي حِسي، نهم على الطعام والشراب والنكاح واللباس كما لاحظ الفارابي من قبل؛ إذ سئل أعرابي: هل تخمت قط؟ فقال: أما من طعامك وطعام أبيك فلا! وفي الأعرابي غلظة وخشنة من طبيعة الصحراء، وهو ما لا يتفق مع الذوق الشعري.٩٣

(ب) الثقافات غير العربية

وهي عدة ثقافات طبقًا لأهميتها؛ الفرس، والهند والصين، واليونان والروم، والترك والزنج، طبقًا للشعوبية؛ فقد كانت المنافسة بين العرب والفرس أحدَّ من المنافسة بين العرب من ناحية والهند والصين من ناحيةٍ أخرى. أما اليونان والرومان فثقافتهم قد تم إصلاحها حتى بدت مُتفقة مع الثقافة العربية. أما الترك والزنج فلا ثقافة لهم إلا الحرب للترك، والرقص للزنج.٩٤
ففارس أعقل الأمم. تتطلب مصادقتها والتقارب معها مع أنها علمت فتعلَّمت، ومُثل لها فمثلَّت واقتدت وأطاعوا. ليس لهم استنباط أو استخراج علم. قدراتهم عملية وليست نظرية. تعلَّمت العجم. اقتدت وقلَّدت دون استنباط. ويتميز الفرس بالسياسة والآداب والحدود والرسوم. ولا تعني الحدود والرسوم المنطق، بل تعني القوانين والدواوين والنُّظم الاجتماعية التي استعار منها عمر الكثير. ومن دفع ميزة الفرس في سياستها وتدبيراتها وترتيب الخاصة والعامة بحق مالها وما عليها، فقد عانَد. وهم أيضًا شعب الحِكم والأمثال بالرغم من نقد أبي سليمان أسلوب المثل. وإبداعات العجم في الرياضيات والعلوم مشهود لها. وقد تم تعريب بعض المصادر الفارسية، وتحوَّلت إلى ثقافةٍ عربية، مثل قول أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.٩٥ وإذا كان العرب قد غزَوا الفرس دينيًّا، فإن الفرس قد غزَوا العرب ثقافيًّا في رأي عيسى بن فرخان؛ لذلك تعاطف ابن المقفع مع ثقافة فارس.٩٦

وينقد العرب الفرس لإيمانهم السابق بالمجوسية. ويُحاور العامري ماني في موضوع النظر الحال في النفس بعد الموت على الظن والوهم، مع أن ماني عاش قبل العامري بقرون؛ فالحوار يتم خارج الزمان بين حكيمَين إشراقيين. وماني لا يؤمن بخلود النفس على عكس العامري.

واللغة الفارسية ينقصها الحياء؛ فلفظ دابة بالفارسية درباست، وهو حيوان إذا طلبه القانص استلقى على ظهره وأراه أنه لا خصية له، كأنه قد علم ما يطلب منه. وهو إسقاطٌ جنسي من الإنسان على الحيوان.٩٧
وقد عدَّد الجميهاني مثالب العرب في أربعةٍ أخرى وهو في معرض مدحه للفرس، وقد كان مُنتسبًا للثقافة الفارسية القديمة ومذهب الأثنينية. ويرد على أبي حيان، ويعيب على العرب أربعة أشياء قبل مدح الفرس؛ فخير وسيلة للدفاع الهجوم.
  • أولًا: أكل اليرابيع والضباب والجرذان والحيَّات. ويتعاورون ويتهاجَون ويتفاحشون كأنهم تحوَّلوا إلى وحوش وخنازير. وقد كان كسرى يُسمي ملك العرب سكان شاه؛ أي ملك الكلاب.
  • ثانيًا: لم يمنح الله العرب أيًّا من النِّعم، بل أشقاهم وعذَّبهم، في حين أنه شرَّف الفرس، وأعزَّ ملوكهم، وأفاض عليهم من النِّعم، ووسَّع عليهم القسم، وبوَّأهم الجنان. والحقيقة أن الله إذا كان قتر عليهم في العقل فقد وسَّع عليهم في النبوة. ونِعم الله على العباد نوعان؛ عام غامر بلا استحقاق، وهو العدل المغمور بالإحسان، وخاص يُستحق بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد، ويكون له الجزاء. ويرى أبو سليمان أن العرب أذهب مع صفو العقل؛ فالأمم كلها شرعٌ واحد في عدم الكمال، إلا أنها مُتفاضلة بعد هذه فيما نالوه بالخلة الأولى وبالاختيار الثاني.
  • ثالثًا: ليس لدى العرب علم، لا كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا بطليموس، ولا كتاب فلاحة ولا طب ولا علاج، ولا ما يدخل في مصالح الأبدان وخواص الأنفس. والحقيقة أن العرب لديهم هذا العلم بنوعٍ إلهي، وباقي الشعوب الأخرى بنوعٍ بشري. والإلهي يتَّفق مع الطبيعي، والبشري يعني الصناعي. وليس لدى الفرس ذلك وهم عجم، ولا عند اليونان وهم عجم أيضًا، توجيهًا للنقد إلى الخصم. والخلاف بينها في القدر والأولوية بين الإلهي والبشري؛ فالعرب لم يرفضوا علوم العجم، بل عرفوها ترجمةً وشرحًا وتلخيصًا واحترامًا وتقديرًا. تمثَّلوها وشرحوها وأكملوها حتى يتفق مع علوم الشرع. طوَّروها وأبدعوا فيها وزادوا عليها، واستكمالًا للقدماء، ثم أعطَوه للغرب فبنى عليه علومه الحديثة.٩٨

    ولم يفرض زرادشت تعاليمه بالنبوة، بل بقوة الملك كراهيةً لا طوعًا، وترهيبًا لا ترغيبًا. وكيف يُرسل الله نبيًّا يدعو إلى إلهَين؟ ولم يعرف ذلك أهل الكتاب ولا الصابئة وهم أعرف الناس بالديانات وتاريخها. وكيف يُحلل الله الخبائث من المنكوحات؟ ولم يذكر زرادشت الأنبياء السابقين عليه. ولو كان دينه حقًّا لأيَّده العقل. وقد قبِل الفرس مزدك ثم رفضوه، فلماذا لا يرفضون زرادشت بالعقل أيضًا؟ حكَّموا العقل في مزدك وأيَّدوا ملك زرادشت. فكل شيء خارج الحكمة الإلهية والعقلية والطبيعية مردود وساقط.

    ويمكن الرد على أبي حيان ليس دفاعًا عن فارس، ولكن لبيان ضعف حججه؛ فالهجوم لديه على ديانات الشرق كلها أكثر من الهجوم على ديانات فارس. وهناك دياناتٌ آسيوية لم يذكرها العرب، وعربية لم يذكرها الآسيويون. ولقد أخبر القرآن أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير. وقد يكون أنبياء فارس والهند والصين أنبياء من عند الله لم يذكرهم القصص القرآني لأنهم لم يكونوا معروفين في شبه الجزيرة العربية. خصَّ القرآن فقط أنبياء بني إسرائيل والديانات السامية خاصةً دين إبراهيم. والعقل سلاحٌ ذو حدَّين، فما يُخالف العقل عند قوم قد يتفق مع آخرين. ويرى كل شعب أن ميزاته من الله؛ فهو دعاءٌ مشترك بين الجميع. والشرائع مُتغيرة فيما يتعلق بالحلال والحرام؛ فالتحليل والتحريم ليسا مقياسًا للنبوة، فلا ضير أن يغيِّر زرادشت شريعة مزدك، ولا ضير أن يغيِّر ماني شريعة زرادشت. ومقياس النبوة هو التوحيد لا الشرك، ومعظم ديانات الشرق تُشارك في التوحيد والعدل. وفي النهاية، كل ذلك جدل مع الخصوم، وتحويل الهجوم على الفرس إلى هجوم على العرب، أو الهجوم على العرب إلى دفاع عن الفرس.

  • رابعًا: العرب أكثر الناس هياجًا على النساء والغلمان، يختصُّون بالشبق الشديد كما يبدو في تشبيبهم وأشعارهم. وكان وأد البنات سنةً متبَعة، وهو أقبح مما كان عند زرادشت ومن قبله من الفرس. وهو ما قاله الفارابي من قبلُ على العرب من ولعهم بالمأكول والمشروب والملبوس والمنكوح. والحقيقة أن العرب أيضًا عُرفوا الغزل والحب العذري. وقد كان وأد البنات في الجاهلية وأدانه القرآن. وليس أسوأ مما جعله زرادشت من القبائح، وقد كان أيضًا سائدا في الهند، وأن مجموع الخطأين لا يكون صوابًا؛ فإن وأد البنات في الهند لا يُقلل من جُرمه عند العرب. والهجوم على الفرس من العرب يُساوي الهجوم من الفرس على العرب، حجةً بحجة، ونقدًا بنقد. الآلة واحدة، والموقف واحد؛ الشعوبية. واتهام العرب بنقص الذهن والعقل والطباع الأرضية جهل من الفرس بآثار الطبيعة وأسرار الشريعة؛ لذلك أزلَّهم الله، وسلبهم الملك، وضرب عليهم الذلة والمسكنة. وفي الجدل يُدخل كلُّ فريقٍ الله إلى جانبه تقويةً لموقفه في الاتهامات المتبادلة بين الفريقَين.
وتزعم المجوس أن الشريعة معرجة من الملك، فما تأتي به لا يتوجه إلى الملك، بل يُوكل الملك إلى من يقوم به على أحكام الدين؛ لذلك قال حكماء فارس: جرَّبنا الملوك؛ فإذا ملكَنا السمح الجواد أجادت علينا السماء والأرض، وإذا ملكَنا البخيل بخلت. وكأن الملك هو الأساس وليس الدين.٩٩

والهند أصحاب وهْم ومَخرقة وشعبذة وحيلة، وتتميز بالفكر والرؤية والخفَّة والسحر والأناة، والوهم والحدس والظن. تُقدم البنات قربةً في بيوت الأصنام كعادة وأدهم عند العرب. وهم إلى الإفك أميل، وفي أبوابه أدخل. ولغة الهند غير لغة الروم، وكذلك الصناعة والعقيدة.

وتظهر ثقافة الهند في الليلة العاشرة في الإمتاع والمؤانسة عن طباع الحيوان؛ فلا يوجد في الهند خنزير. وتتولد الكلاب الهندية من كلب وسبع شبيه بالكلب. والتمساح لا يوجد إلا في النيل وفي نهر الرسيس في الهند، ويبيض كبيض الأوز، ويُجامع ستين مرة في حركةٍ واحدة ومحلٍّ واحد.١٠٠ والدودة الهندية هي دودة القز. وإذا حملت زوجة مضى بها إلى الهند فأخذ من هناك حجرًا كهيئة الجوزة، إذا حرك سمع بصوت حجر آخر يتحرك في وسطه كصوت الجرس، يوضع تحت الزوجة في حال عسر الولادة.
والبقل الرطب في الهند. وتعريف الهندي للشبع أنه مُحال لأن الشبع من الأرز النقي الأبيض، الكبار الحب، المطبوخ باللبن الحليب، المغروف على ألجام البلوريات بالسكر الفائق، مُخالف للشبع من السمك المملوح وخبز الذرة. وعلى هذا يختلف الأمر في الشبع. ويستمر الهندي في الطعام إلى أن يقع له أنه إن أراد لقمةً زهقت نفسه إلى النار. ومن دفع ما للهند فليس من شخص.١٠١

وواضحٌ أن هذا الوصف أقرب إلى العادات الشعبية لحضارة الهند منه إلى الوصف العلمي التاريخي مثل البيروني؛ فللهند رياضياتها وهندستها ومنطقها وأخلاقها وحكمتها السياسية وأدبها الرمزي كما هو واضح في «كليلة ودمنة».

أما الصين فأصحاب أثاث وصنعة لا فكر وروية. ومن كان في بلاد الصين فإنه يُسمى الإنسان والفرس والحمار والبقر بها بتعالم أهلها بينهم.١٠٢ وواضحٌ قلة العلم بالصين وعمومية الأحكام عليها. صحيحٌ أنهم أصحاب أثاث وصنعة، ولكنهم أصحاب فكر وروية كما تبدو في دياناتها وأخلاقها وعلومها. والإشارة إلى اللغة الصينية المرئية دقيقة، التسمية عن طريق الرسم.
ومع الصين تُذكَر أقاليم وسط آسيا مثل سمرقند وفرغانة؛ فقد عرَّف السمرقندي الشبع بأنه إذا جحظت عيناك وبكم اللسان وثقلت الحركة. وتُذكَر فرغانة وتاهرت في السؤال عن سبب تصافي شخصَين لا تشابه بينهما في الصورة.١٠٣ وواضحٌ انتباه أبي حيان لكل ما هو غريب لأديب.
كما يذكر أهل الشام والعراق امتدادًا لآسيا. فإذا أراد أهل الشام صيد السمك ألقَوه في سفينة، ولا يستطيعون قطعه بفأس أو كسره بحجر. ويذكر العراق كمثال للمعارف الضرورية، صورة بغداد وخرسان والبلاد التي تشاهد مرة، ثم منازلنا بها، وصور أصدقائنا فيها.١٠٤
أما اليونان فهم أهل أبدان دقيقة وأصحاب بناء وهندسة، إشارةً إلى كمال الأجسام والعمارة اليونانية. فقد تقاسمت الشعوب الفضائل بين الفطرة والتنبيه، وبين الاختيار والتقدمة، فصار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر ليونان. ومن أنكر تقدُّم يونان في المعاني من أماكنها والصناعات بأسرها وبحثها عن العالم الأعلى والأوسط والأسفل، فقد بهت، إشارةً إلى الفلسفة والعلم عند اليونان. وهي إشاراتٌ دقيقة وجوهرية تخلو من السخرية والثقافة الشعبية، وفي نفس الوقت عامةٌ تخلو من التفصيلات عن الفلسفة والطب والشعر والقانون والسياسة.١٠٥
والرومي وصف لآلةٍ موسيقية هو الأرغن، لم يسمع عنه أبو حيان إلا خبرًا دون رؤيته؛ مما يدل على أهمية المعرفة التجريبية. ويروي عن الروم قولهم إن السِّنَّور يتولد من مجامعة الفهد لبعض السباع، إشارةً إلى بعض الأساطير.١٠٦
ثم تأتي الشعوب المضادَّة للعلم الأقرب إلى الحيوان منها إلى الإنسان مثل التُّرك والزنج. فالترك سباع للهراش؛ أي قوة عضلية مثل إسبرطة، يمتازون بالشجاعة والإقدام. والعرب تُشاركها في الشجاعة إما بالزيادة أو بالمساواة. وينبغي للقائد العظيم أن تكون له خصالٌ عشر من ضروب الحيوان؛ سخاء الديك، تمني الدجاجة بنجدة الأسد، حملة الخنزير، روغان الثعلب، صبر الكلب، حراسة الكركي، حذر الغراب، غارة الذئب. ويعرِّف التركي الشبع بأنه الأكل حتى الموت. وليس للتركي بعد هذا خط ولا دراية إلا بقسط من الظل من الشخص، في حين أن العرب لها منطقها البارع؛ المزية المعروفة على الترك في السياسة وإن كانت قاصرة. ولا يذكر أبو حيان الترك في «الهوامل والشوامل» إسقاطًا لهم من الحساب. ولا يذكر للترك فضيلة حفظ التراث وجمعه كإطارٍ مرجعي لباقي الشعوب، اتفاقًا واختلافًا، زيادةً أم نقصانًا.١٠٧
أما الزنج فهم بهائم هاملة غلبت عليهم الغسولة، وشاكلت البهائم الضعيفة كما شاكلت الترك السباع القوية. وأحيانًا يُسمون السودان في مقابل الحمران. السودان أطرب وأجهل، والحمران أعضل وأكثر فكرًا وأشد اهتمامًا. والفرح من الدم، والحمران أكثر دمًا وأعدل مزاجًا، وأوجد لأسباب الفرح وآلات الطرب، وأقدر على الدنيا بكل وجه. والزنوج أيضًا لهم الفرح والنشاط، وسببه اعتدال الدم فيهم. وهي دماء رقيقة أبدًا صافية؛ لذلك تقلُّ الشجاعة فيهم. فأما الحمران، وأكثرهم من ناحية الشمال والبُلدان الباردة، فعلى العكس. ويتميز الزنج بالصبر والكد والجهد والعمل كما يتضح ذلك في تفوقهم الرياضي في هذا الزمان.١٠٨والحبشي مثل السوداني يتدلل بالماء والغسول. لا يستفيد بياضًا، بل يستفيد نضارًا شبيهًا بالبياض.١٠٩
وواضحٌ التحليل الفيزيولوجي لشخصيات الشعوب كما هو الحال في النظريات العنصرية النازية والفاشية والصهيونية في الغرب الحديث، خصائص الشعوب بالدم والجسم والمزاج والطباع الثابتة. والتقابل بين السودان والحمران مثل التقابل بين السود والبيض في الغرب الحديث دون ذكر «الأسود الجميل».١١٠

وهذا الموضوع كله التفاضل بين الشعوب قد يكون خارجًا عن نطاق روح الإسلام الجديد الذي ساوى بينها، وجعل التقوى والعمل الصالح فقط هما أساس التفاضل، «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح»، ويضع الشعوب كلها داخل الأمة الواحدة. وفضلها ليس في خصائصها الثابتة، بل في ممارستها العملية؛ فهي خير أمة أُخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

١  الفارابي، السياسات المدنية، ص٨٠-٨١.
٢  السابق، ص٧٣.
٣  هذه الفصول كالآتي: (١) إثبات المعرفة الحسية والعقلية. (٥) العقل والنفس. (٦) العلم اليقيني. (٧) الحكيم. (٨) النفس الناطقة. (٩) السعادة. (١٠) المعرفة. (١١) الخير. (١٢) الطبيعيات. (١٣) الرياضيات. (١٤) الإلهيات. (١٥) الطبيعيات والإلهيات. (١٦) العالم العلوي. (١٧) الدهريون والطبيعيون. (١٨) مراتب النفس الناطقة. (١٩) الثواب والعقاب. (٢٠) الإيمان.
٤  العامري، الأمد على الأبد، ص٦٢–٦٩.
٥  السابق، ص٦٨-٦٩.
٦  العامري، التقرير لأوجه التقدير، ص٣٢٣-٣٢٤.
٧  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، ج٢، ص٤٥٣.
٨  وذلك مثل برنار لويس في كتاب «العِرق واللون في الإسلام».
٩  ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ج٤، ٢٥٠.
١٠  ابن سينا، الأضحوية، ص٤٤-٤٥.
١١  الرازي، الطب الروحاني، ص ٩١-٩٢؛ السيرة الذاتية، ص١٠٥–١٠٧.
١٢  العامري، الأمد على الأبد، ص٥٩–٦١، ١٤١–١٤٥.
١٣  السابق، ص١٦٣.
١٤  ابن سينا، الأضحوية، ص٣٦، ٦١–٦٤.
١٥  ابن باجه، تدبير المُتوحد، ص٧٥، ٧٧.
١٦  السابق، ص٨٨.
١٧  إخوان الصفا، ج١، ١٤٩؛ ج٤، ٧، ١٧٥ .
١٨  السابق، ج١، ٥، ١٩٦، ٢١٧، ٢١٩؛ ج٣، ١٧، ١١٣-١١٤، ١٤٤، ١١٧، ١٤٧–١٤٩؛ ج٣، ٢، ٢٠٧.
١٩  ومن ثَم تسقط دعوات اليوم التي تجعل اليونانية أصل اللغات، أو كتابة اللغة العربية بحروفٍ لاتينية.
٢٠  أهل مثل: الهند، الصين، السند، الشرع، اليمن، الحجاز، الحبشة، نجد، بلاد النوبة، مصر، برقة، قيروان، البربر، البوادي، طنجة، كيوان، كرماية. وأهل بلاد مثل: النوبة، الصعيد، الإسكندرية، يونان، الشام، الخالدات، مسروحانة، كلة، الأندلس، الإسلام، وحاج وحاجين، والجزائر، والدادات والجبال والفلوات والسواحل. وبلاد فقط مثل: الرومية، القسطنطينية، دجلة، مقدونية، برجان، الصقالبة، الروسية، أملاج، الأبواب، أذربيجان، أرمينية، جيلان وديلمان وطبرستان وجرجان، نيسابور، فارس، حكرابة، كابلستان وحولتان وكيلان، خوارزم، جوج وجوج وفرغابة، صعانيات، كيمانة، خاقان وسيستان، حوجير، حقيث (ج٢، ٨، ٣٦٩-٣٧٠).
٢١  قال صاحب العزيمة: من أين لكم هذه العلوم والحكمة التي ذكرتها وافتخرت بها لولا أنكم أخذتم بعضها من آل إسرائيل أيام بطليموس، وبعضها من علماء أهل مصر أيام مسيطوس، فنقلتموها إلى بلادكم ونسبتموها إلى أنفسكم؟ (السابق، ج٢، ٨، ٢٨٨).
٢٢  السابق، ج٤، ١، ٤١٨؛ ج٤، ٣، ٣٠.
٢٣  السابق، ج٢، ٨، ٢٨٠.
٢٤  منذ قابيل وهابيل، وأيام رستم وأسفنديار، وأيام جمشيد وتبع، والضحاك وأفريدون، وأيام سيواس ومتوجهر، وأيام دارا والإسكندر، وبختنصر وآل داود، وآل بهرام وآل عدنان، وأيام قسطنطين وأهل بلاد اليونان، وأيام عثمان ويزدجرد، وأيام بني العباس ومروان (ج٣، ٨، ٣٣٥).
٢٥  السابق، ج٤، ١١، ٣٠٦؛ ج٢، ٨، ٢٣٣، ٢٨٠، ٢٩٦؛ ج٤، ٧، ١٥٩؛ ج٣، ٧، ٢٧٧.
٢٦  والشعوب المذكورة: الترك، الحبش، الزنج، النوبة، السند، الصين، النبط، الزط، الأكراد، يأجوج ومأجوج، السياسان (ج٤، ٧، ١٥٩).
٢٧  مثل قصة ملك من الهند حسن السيرة ومُحب للعدل، يعبد الأصنام، ولم يعرف شيئًا عن الأنبياء، وليس بالضرورة عن المعاد والغيبيات. سأل المُنجمين عن وقت مولد ابنه، فأخبروه أنه يعيش ويفخر وينال الملك والسلطان، ويصبح ملك السماويين وسلطان الروحانيين. فكر الابن واعتكف عن الدنيا بعد أن أحضر له الخادم حكيمًا من عامة الشعب. وهي قصةٌ شبيهة بقصة بوذا. ويهدف الإخوان منها إلى تجنيد الشباب وأبناء الملوك. وقصةٌ أخرى لملكٍ يعبد الأصنام ذي أخلاق حسنة، ووزيره عارف بالنبوة، في حوار بين العقل والنقل، والحكمة والشريعة، وكأن الله قد أرسل إلى الهند أنبياء ورسلًا من غير المذكورين في القرآن (علماء الهند، ج٤، ١١، ٣٦٦؛ حكماء الهند، ج٤، ١١، ٣٦٠-٣٦١، ٣٥٠-٣٥١؛ أقوالهم في الضمير، ج٥، ٣، ٤٠٠).
٢٨  السابق، ج٤، ٧، ١٤٩-١٥٠؛ ج٢، ٨، ٢٨٢؛ ج٢، ٦، ١٢٤.
٢٩  السابق، ج٣، ١٧، ١٦٧-١٦٨.
٣٠  مثل قصة ثعالب وجدت جملًا ميتًا وخشوا الخلاف على الرزق، فأمَّروا عليهم ذئبًا لأن أباه كان ملكًا مُحسنًا. عدل الذئب أول يوم ثم أخذ الغنيمة. فذهبوا إلى الأسد، ففتك به وردَّ لهم الغنيمة. وللقصة دلالاتٌ كثيرة؛ الرزق مصادفة، جمل ميت، خلاف البشر على جيفة، الإمارة شر، دليل الإمارة ليس الأب بل الشخص، تغير سلوك الأمير من عدل إلى جور، عجز الثعالب عن التغيير بنفسها، ذهابها إلى قوةٍ أعظم مثل الله؛ الحل الخارج (ج٣، ١٧، ١٧٠-١٧١؛ ج٤، ٧، ١٤٨، ١٥٢؛ ج٤، ١١، ٣١٠؛ ج٤، ٥، ١١٣).
٣١  دوران الكواكب حول الأرض مثل ملك بنى مدينةً دورها ٦٠ فرسخًا، وأمر سبعة نفر بالدوران حولها. الأول كل يوم فرسخًا، والثاني فرسخَين، والثالث ثلاثة، حتى السابع سبعة، حتى يلتقوا أمام الباب. كانت المشكلة في السابع، فاستأنفوا الدوران حتى اجتمعوا بعد ٤٦٠ يومًا. الأول سبعة أدوار، والثاني ١٤، والثالث ٢١، والرابع ٢٨، والخامس ٣٥، والسادس ٤٢، والسابع ٦٠ (ج٢، ٢، ٤٠–٤٢؛ ج٣، ٥، ٢٥١).
٣٢  السابق، ج٣، ١٧، ١٤٨، ١٤١-١٤٢؛ ج٣، ٢، ٦؛ ج٣، ١، ١٨٠.
٣٣  السابق، ج٢، ٨، ١٦٩؛ ج٤، ٣، ٣١؛ ج٤، ١١، ٤١٩؛ ج٢، ٨، ٢١٨؛ ج٤، ١١، ٣٢٣.
٣٤  ج٣، ٩، ٣٦٥، ٣٧٠، ٣٦٧، ٤٣١؛ ج٤، ١، ٤١٧-٤١٨؛ ج٢، ٨، ٣١٩.
٣٥  السابق، ج٢، ٨، ٢٨١-٢٨٢.
٣٦  السابق، ج٣، ٧، ٢٩٢؛ ج٣، ٨، ٣٢٤؛ ج٤، ٧، ١٥٥؛ ج٤، ١١، ٤٢٤.
٣٧  السابق، ج٢، ٨، ٢٠٩، ٢٢٤–٢٢٦؛ ج٢، ٨، ١١٣.
٣٨  السابق، ج٣، ١٧، ١١٢؛ ج١، ٤، ١٦٦، ٤٩٦؛ ج٢، ٦، ١٤٥؛ ج٤، ١، ٥٠٨؛ ج٤، ٨، ٢٩٢؛ ج٢، ٨، ٢٠٨؛ ج٣، ٦، ٢٧٧.
٣٩  السابق، بحر فارس، ج٣، ١٠، ٣٩١؛ ظلمة أهرمن ونور أرمزدا ونسخة أفريمون، ج٤، ٣، ١٩؛ الحكيم وزير خيشوان ملك الهيالطة، وفيروز ملك الفرس، ج٤، ٣، ٥–٢٢؛ بلوهر وبوذاسف، ج٤، ٤، ٥٨؛ زرادشت وماني، ج٤، ١، ٤٦٢؛ ج٤، ٧، ١٧٥؛ حكماء الفرس، ج٤، ٧، ١٧٥؛ ج٤، ١١، ٣٤٦–٣٤٩؛ ملوك الفرس، ج٤، ١١، ٣١٥.
٤٠  Philosophia perennis.
٤١  السابق، ج٢، ٨، ٢٠٤؛ ج٢، ٨، ٢٠٥، ٢٢٤؛ أيضًا من العقيدة إلى الثورة، ج١، المقدمات النظرية، ص٦٢٢–٦٢٦.
٤٢  السابق، ج٢، ٨، ٢٨٨–٢٩٠، ٣٣٨.
٤٣  السابق، ج٣، ٢٧، ١٤٨-١٤٩؛ ج٤، ١١، ٢٩٥، ٤٤٤؛ ج٤، ١، ٤١٨؛ ج٢، ٨، ٢٨٨.
٤٤  السابق، ج٢، ٨، ٢٨٦–٢٨٨، ٣٠٩. وهذا ما أكَّده أيضًا مارتن برنال في كتابه «أثينا السوداء»، المصادر الأفريقية الآسيوية للحضارة اليونانية. انظر عرضنا للجزأين الأولين أثينا السوداء، وأتينا المصرية، مجلة، القاهرة نوفمبر، ديسمبر ١٩٩٥.
٤٥  السابق، ج٤، ١١، ٣٤٣؛ ج٥، ٣٨-٣٩، ٤٣؛ ج٥، ٥٣٦؛ ج٢، ٨، ٢٨٤-٢٨٥.
٤٦  السابق، ج٢، ٨، ٢٨٥-٢٨٦، ٣١٥-٣١٦.
٤٧  السابق، ج٤، ٨، ٢٧٨؛ ج٢، ٨، ٢٧٩–٢٨١، ٣٢٩-٣٣٠.
٤٨  وهي وظيفة مركب الموضوع عند هيجل.
٥٠  السابق، ج٢، ٨، ٢٨٢-٢٨٣.
٥١  السابق، ج٢، ٨، ٢٨٣-٢٨٤.
٥٢  السابق، ج٢، ٨، ٢٧٨–٢٩٠.
٥٣  السابق، ج٢، ٨، ٣٧٥-٣٧٦.
٥٤  السابق، ج٢، ٨، ٣٦٢–٣٦٦.
٥٥  السابق، ج٢، ٨، ٢٨٣.
٥٦  ج٢، ٢٦٠، ٢٨٢–٢٨٤، ٢٨٦، ٢٨٨، ٢٩٠، ٣٠٠، ٣٠٥، ٣٧٠، ٣٧٤؛ ج٢، ٨، ٣٦٦–٣٦٩.
٥٧  السابق، ج٢، ٨، ٣٧٤–٣٧٦.
٥٨  السابق، ج٢، ٨، ٣٧٠–٣٧٤.
٥٩  السابق، ج٢، ٨، ٢٧٦-٢٧٧.
٦٠  أبو حيان، المقابسات، ص٢٩٤-٢٩٥؛ الإمتاع والمؤانسة، ج٣، ٦٧، ١٠٢، ١٠٤. ولأبي سليمان رسالة عن الأدوار والأكوار.
٦١  أبو حيان، المقابسات، ص٣٧١-٣٧٢.
٦٢  وذلك مثل ماكس فيبر وهوسرل في الغرب الحديث.
٦٣  الإمتاع والمؤانسة، الليلة السادسة، ج١، ٧٠–٩٦؛ الهوامل والشوامل، مسألة خاصة، رقم ٨٦، ٢٠٨–٢١٠، والمسألة ٨٧، ص٢١٠–٢١٢.
٦٤  أبو حيان، المقابسات، ص٣٧١؛ الإمتاع، ج١، ٧٣.
٦٥  كما هو عند فوييه A. FouiIIée في الفكر الفرنسي في القرن التاسع عشر.
٦٦  كما هو الحال في الصهيونية المعاصرة في الغرب.
٦٧  أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٧٣. وكما هو الحال عند دارون ونيتشه في الغرب المعاصر.
٦٨  السابق، ج١، ٧٤-٧٥. وهو ما يُسمى في الغرب global ethics.
٦٩  السابق، ج٣، ١٢٩.
٧٠  وأيضًا قسمة الأوروبيين باقي الشعوب إلى أوروبية وغير أوروبية، بيضاء وملوَّنة، مُتقدمة ومُتخلفة، عقلية وسحرية، علمية وخرافية، مبدعة ومستهلكة، وقسمة اليابانيين الشعوب إلى يابانية وغير يابانية، والصينيين إلى صينية وغير صينية، والأمريكيين إلى أمريكيين وغير أمريكيين، واليهود إلى يهود وغير يهود، والنازيين إلى ألمان وغير ألمان. ويذكر أبو حيان أن رجلًا من العرب قال لرجل من العجم: رأيت في النوم كأني دخلت الجنة فلم أرَ فيها ثنوية. فقال له الثنوي: أصعدت إلى الغُرف؟ فقال العربي: لا. قال الثنوي: فمن ثَم لم ترَهم. هم في الغرف! (أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، ج٣، ١٧٦).
٧١  من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل، الإمامة، ص٥–١٣.
٧٢  وكما أحاول الجمع في علاقة الفكر الإسلامي بالغربي الحديث بين المثال والواقع، العقل والحس، التصور والتجربة، الاستنباط والاستقراء، الأنا والآخر، الليبرالية والاشتراكية، الشرق والغرب … إلخ.
٧٣  أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، ج٣، ١٠٢-١٠٣؛ المقابسات، ص٢٦١.
٧٤  قال عمر: العرب لا تصلح ببلاد لا تصلح بها (الإمتاع والمؤانسة، ج٢، ٦٦).
٧٥  أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٧٢-٧٣.
٧٦  مثل ما قاله أوستين في كتابه الشهير How to do things with words.
٧٧  العرب تقول بالإلهام لصفاء القريحة والذهن الوقَّاد والمعاينة الحرة والأعراف الكريمة والعادات السليمة (الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٩٤).
٧٨  وذلك مثل حالة الفطرة والطبيعة التي يصفها جان جاك روسو.
٧٩  السابق، ج١، ٧٢-٧٣.
٨٠  المقابسات، ص١٢٣.
٨١  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٧٢-٧٣؛ ج٣، ١٣٥-١٣٦.
٨٢  السابق، ج٢، ١٣٩-١٤٠. استهجن عربي كلامًا فقال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا. وقال آخر:
ما زال أخذهمُ في النحو يُعجبني
حتى سمعت كلام الزنج والرومِ
وأنشد آخر:
ماذا لقيت من المُستعربين ومن
تأسيس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إني نشأت بأرض لا تشبُّ بها
نار المجوس ولا تُبنى بها البيع
كم بين قوم قد احتالوا لنطقهمِ
وآخرين على إعرابهم طُبعوا
وأمثلة أخرى في الإمتاع، ج١، ٢٤-٢٥، ٧١-٧٤، ٧٦–٧٩، ٨٠، ٨٢-٨٣، ٨٦-٨٧،  ٨٩، ٩١–٩٦؛ ج٢،  ١٣٩،  ١٤٦،  ١٨٥،  ١٩١–١٩٣،  ١٩٧-١٩٨؛ ج٣، ١١–١٤،  ٢٦، ٢٨، ٣٠، ٣٢، ٣٥-٣٦،  ٤٢،  ٤٨، ٥٦،  ٦٧، ٨٢، ٨٥، ١٠٥، ٣٤٧.
٨٣  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٣٠، ١٠٩–١١١، ١١٤، ١٢٢، ١٧٤، ٢١٢، ٢٢١؛ ج٢، ٦٧، ٩٤، ١١٣، ١٣٩، ١٤٦.
٨٤  يقول أبو سليمان: أترى هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها، ولا يجوز أن يُعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟ (السابق، ج١، ١١٧).
٨٥  عند أبي سليمان، نحو العرب فطرة، ونحونا فطنة. فلو كان للكمال سبيل لكانت فطرتهم مع فطرتنا أو كانت فطنتنا مع فطرتهم (الإمتاع، ج٢، ١٣٩؛ المقابسات، ص١٣٧، ١٦٩، ١٧١، ١٧٧؛ الإمتاع، ج١، ١١٠، ١٢٢).
٨٦  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ١٧٤، ٢١٢، ٢٢١؛ ج٢، ١١٣؛ ج١، ٣٠.
٨٧  السابق، ج١، ٧٠–٧٢؛ الهوامل، ص٢٥٥.
٨٨  أبو حيان، الهوامل والشوامل، ص٧، ٣٠-٣١، ٥١، ٧٢، ٩٥، ٣٣٩، ٣٤١.
٨٩  السابق، ص٢٠٤، ٢٦٧-٢٦٨؛ الإمتاع، ج١، ٢١١-٢١٢.
٩٠  مثال ذلك؛ قلت لأعرابي: كيف أنت؟ قال: كما يسرُّك إن كنت صديقًا، وكما يسوءك إن كنت عدوًّا (الصداقة، ص٣٧٩). وقال أعرابي: خير الجلساء من إذا أعجبته عجب، وإذا فكهته طرب، وإذا أمسكت تحدَّث، وإذا فكَّرت لم يُكلمك (السابق، ص٣٨١). وقال أعرابي لصاحبه: لا تُنكرني لك فأعرف نفسي بك، ودع سرح قلمي محميًّا، وثمر الفؤاد مجنيًّا، فيُوشك أن تبعد الطية على غير أُهبة ولا أدبة (السابق، ص٣٩٨). وقال أعرابي واصفًا آخر: لسانه سِلمٌ مُوادع، وقلبه حربٌ مُنازع (السابق، ص٤٦٦). وقال أعرابي: آخِ منيعًا يكن عدوك صريعًا (السابق، ص٤٦٩). وقيل: من لم يُدارِ عيشه ضل (السابق، ص٧٦). السؤال عن الصديق أحد القرابتين (السابق، ص١٥٤). المودة قرابةٌ مُستفادة (السابق، ص ٣٤٦). ورفيقٌ كسلان، وجليسٌ وسْنان، ووكيلٌ ضعيف، ومركوبٌ قطوف، وزوجةٌ منبذة، ودارٌ ضيقة (السابق، ص٣٤٦-٣٤٧). وصول معدوم خيرٌ من جافٍ مُكنز. اللهم أعوذ بك من حاكمٍ جائر، ونديمٍ فاجر، وصديقٍ غادر، وغريمٍ ماكر، وقريبٍ ناكر، وشريكٍ خائن، وصريفٍ مائن، وخدمٍ هافٍ، وحاسدٍ مُحافظ، وجارٍ مُلاحظ. وأمثلة أخرى كثيرة في الصداقة (ص ١٤١-١٤٣، ١٦٦، ١٧٩-١٨٠، ٢٢١-١٨٠، ٢٢١–٢٢٨، ٢٣٦، ٢٥٨، ٢٦٢، ٣٢٣، ٣٢٥، ٣٤٤–٣٤٧، ٣٧٦–٣٧٠، ٣٧٦، ٤٠٠).
٩١  الهوامل والشوامل، ص١٠٣، ٢٨٣-٢٨٤.
٩٢  وهو ما يُسمى أخلاق المواقف Situational Ethics.
٩٣  الإمتاع والمؤانسة، ج٣، ٩٨-٩٩، ١٠١؛ الصداقة والصديق، ص٣٨١. أمثلة كثيرة من الشعر في الهوامل، ص٥٨، ١٢٥، ١٧٦، ١٧٨، ٢٠٤-٢٠٥، ٢٢٣.
٩٤  أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٧٠–٧٢، ٧٤-٧٥، ٢١١-٢١٢.
٩٥  السابق، ج٣، ٤٠. والنماذج كثيرة من أقوال برزجمهر عن الصداقة (الصداقة والصديق، ص٤١، ٥٦-٥٧، ٦٤؛ الهوامل، ص٢٠٦). ونماذج أخرى عن الرؤية والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبودية والربوبية (الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٢١١-٢١٢).
٩٦  الصداقة والصديق، ص٤١٢.
٩٧  الإمتاع والمؤانسة، ص١٨٠.
٩٨  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٧٩، ٨٦–٨٩، ٩١-٩٢.
٩٩  السابق، ج١، ٩٢–٩٤؛ ج٣، ٢٢-٢٣. وهو ما يُقال بلغة العصر: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة.
١٠٠  حتى الآن يُباع في السودان بذرة من قضيب التمساح للقوة الجنسية.
١٠١  السابق، ج١، ٧٠–٧٢، ٧٤-٧٥ ، ٩٤، ١٦٥، ١٦٩، ١٧٤، ١٨٩، ١٩٣، ٢١١-٢١٢؛ ج٢، ٦٣؛ ج٣، ٢٢-٢٣.
١٠٢  السابق، ج١، ٧٠–٧٢؛ ج٣، ١٢٤.
١٠٣  السابق، ج٣، ٢٢-٢٣؛ الهوامل، ص١٢٩.
١٠٤  الإمتاع، ج١، ١٩٤؛ الهوامل، ص١٢٧.
١٠٥  الإمتاع، ج١، ٧٠–٧٢، ٢١١-٢١٢.
١٠٦  الإمتاع، ج١، ١٧٣؛ الهوامل، ص١٦٣.
١٠٧  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٧٠–٧٢، ٧٤-٧٥، ٢١١-٢١٢؛ ج٣، ٢٢-٢٣؛ الهوامل، ص٢٠٨.
١٠٨  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ٧٠–٧٢، ٧٤-٧٥، ٢١١-٢١٢؛ الهوامل، ص٢١٠، ٢١٢.
١٠٩  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ١٤٨-١٤٩.
١١٠  هو شعار الأفارقة الأمريكيين black is beautiful.