من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

سابعًا: تاريخ العمران

ربما تبلغ ذروة فلسفة التاريخ في تاريخ العمران السياسي والاجتماعي، وذروة الذروة في قيام الدول وسقوطها، وهي التي تُحدد مراحل التاريخ. ولا يوجد وصفٌ مباشر لدورات التاريخ بين القيام والسقوط، بل بطريقٍ غير مباشر عن طريق التاريخ السياسي، وصف الدولة وخصال السلطان كما فعل مسكويه، أو عن طريق التاريخ الاجتماعي وصف تطور المجتمع ثم انهياره كما فعل ابن خلدون.

(١) التاريخ السياسي

لما ارتبط قيام الدول وسقوطها بطبيعة نُظُمها السياسية، أصبح التاريخ السياسي هو مسار التاريخ. ويتجلَّى التاريخ السياسي في الوعي التاريخي العام قبل أن يتحول إلى وعيٍ سياسي خاص كما هو الحال عند الكِندي، وكان يمكن لهذا التاريخ السياسي أن يدخل في فصل الاجتماع والسياسة، ولكنه كان أفضل في فلسفة التاريخ؛ لأن السياسة هنا ليست مقصودة لذاتها، بل لأنها أحد أسباب قيام الدول وسقوطها؛ أي «الحراك السياسي»، وليست السياسة كنُظُم للحكم؛ أي «الثبات السياسي».

(أ) الوعي بحركة التاريخ

في رسالة الكِندي «في ملك العرب وكميته» هناك وعي بالتاريخ، وقيام الملك العربي ومقداره؛١ فالكِندي فيلسوف العرب دون وعي سياسي لأسباب قيام الملك وانهياره. ربما حاول الكِندي فيها تنظير حوادث بمصر،٢ ثم تحوَّل الوعي التاريخي إلى وعيٍ سياسي عند إخوان الصفا في رسالة «الحيوان» عن شكوى الحيوان من بني الإنسان، ثم عاد أبو حيان التوحيدي للتركيز على الجانب الاقتصادي للدولة مثل الحظوظ والأرزاق، وهو أقرب إلى موضوعات العدل في علم الكلام في الآجال والأرزاق والأسعار والفقر والغنى. وفي نفس الوقت ربط قيام الدول وسقوطها بخصائص الشعوب أكثر من ربطها بشخصية الحاكم وطبيعة النظام السياسي؛ فالسياسة الصريحة قليلة عند أبي حيان مثل الآيات القرآنية. كما يوجد بعض النقد لأحوال العصر، والسؤال عن وجوب التسليم والانقياد لها، وعن عيوب البشر هل هي لغاية لا يعلمها إلا الله.٣ وتدور الدائرة على العرب إذا خرجوا عن فطرتهم، من البداوة إلى الحضارة، ومن الصحراء إلى العمران، كما هو الحال عند ابن خلدون.٤

(ب) الوعي السياسي بالظلم

ثم تحوَّل الوعي التاريخي الخالص عند الكِندي إلى وعيٍ تاريخي سياسي عند إخوان الصفا، إما صراحة أو في رسائل رمزية مثل رسالة «الحيوان». وهي من الطبيعيات إلا أنها رسالةٌ سياسية بالأصالة عن شكوى الحيوان من طغيان بني الإنسان، من الظلم والقهر والطغيان الذي يُعانيه الحيوان من الإنسان؛ فسبب انهيار الدول هو الظلم والجور، وسبب الثورة وقيام الدول الجديدة هو العدل والمساواة.

وإذا كان طغيان بني الإنسان مع بعضه البعض فالأولى طغيان الإنسان على الحيوان، ما فعله فارس في الروم، وما فعلته الروم في فارس، وما فعلته الهند بالسند، والسند بالهند، والحبشة بالنوبة، والنوبة بالحبشة، وما يفعله العرب والأكراد والأتراك بعضهم ببعض، لا فرق بين مولًى وعبد، سيد ومسود؛ ومن ثَم تسقط حجة تكريم الله للإنسان بالخلافة على الأرض، وتسخير الطبيعة له بما في ذلك الحيوان للركوب، والطعام والسكن والزينة والدفء.

ويشكو الخنزير، أي الطبقة الدنيا، من الإقلال من شأنه، واعتباره من السباع وليس الأنعام لأن له أنيابًا، ويأكل الجيف؛ مما يكشف عن وضع الخنازير في الثقافات الشعبية وفي الشرائع والديانات؛ فهو حرام عند المسلمين واليهود، حلال عند الروم والنصارى؛ مما يكشف عن التحيز ضد الخنزير في بعض الثقافات. وقد يكون السبب في التحليل والتحريم العداوة بين اليهود والنصارى، أي عامل بشري وليس تشريعًا إلهيًّا. ويستقبح المسلمون صورة الخنازير ويطعنونها، ويستثقلون أرواحها، ويستقذرون لحومها، ويتشاءمون من ذكرها. واليهود يشتمونها ويلعنونها من غير ذنب ولا جناية. والروم والأرمن يتنافسون في أكل لحومها، وقرابين يتبرَّكون بها إلى الله مثل باقي الأنعام، واليونانيون يتداوَون بشحومها في أدويتهم.٥
وتُبين رسالة «الحيوان» الاستعباد المتبادل بين البشر على لسان الحيوان باسم الشعوبية، بالرغم من اختلاط بعض الدلالات وضرورة تأويلها. فالعراقي له اسمٌ إيراني؛ مما يكشف عن خلفية الصراع بين العرب والفرس حتى الآن في حرب الخليج الأولى. والشامي عبراني من آل إسرائيل؛ مما قد يكشف عن الصراع العربي الإسرائيلي. والسريان ليس لهم منطقةٌ جغرافية، بل مجرد لغة ودين وثقافة. والقرشي من تهامة وليس الحجاز، إقلالًا لسلطة قريش. والإنسي عراقي أو عربي، والزعيم فارسي.٦
إن حكم السلطان الجائر قصير العمر؛ فالله قاصم الجبَّارين كما هو الحال في شعار الثورة الإسلامية المعاصرة في إيران. الله قاصم كل جبار عنيد، ومُهلِك كل مارد، ومُنصِف كل مظلوم، كما تدل على ذلك الكتب المنزَّلة.٧
ويعتمد الإخوان على الحكايات عن ملك وأبنائه والرياسة والسياسة والدولة؛ أي الحكاية السياسية حيث تظهر فيها العلاقة بين الدين والدولة.٨ وتدخل حكاية داخل حكاية كما يُقال في النقد الأدبي المعاصر «التناص» واسترجاع الذكريات.٩ هي أشبه ﺑ «ألف ليلة وليلة» الدينية، كما أن «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان «ألف ليلة وليلة» الفلسفية، مملوءة بالدين والجنس والسياسة، المحرَّمات الثلاثة في الوجدان العربي المعاصر حتى الآن.١٠ كما يعتمد الإخوان على اللغة والأسلوب. وأحيانًا تبدو بعض الألفاظ الإنشائية الاصطلاحية مثل «بحر الهيولى» «أسر الطبيعة» لسلب اللُّب وإثارة الخيال للمبتدئين. كما تستعمل بعض الأمثال للدلالة بها على الآخرة بأمور الدنيا. ويُطعم ذلك في كل الآيات على أهمية الشباب، مثل إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ؛ مما يكشف عن أهمية الأقلية المؤمنة، أو «جيل قرآني فريد»، وكأننا أمام أجهزة الإعلام للتكرار لمزيد من الإقناع.١١
وتدل الحكاية باستمرار على النظرة التطهرية، الخطيئة والخلاص، آدم والمسيح، آدم والإخوان. تتدخل قصة آدم لتفسير الخطيئة وضرورة الخلاص. ميزتها التشاؤم في الماضي، والتفاؤل في المستقبل. فهي ليست سرًّا خفيًّا؛ فطريق الإخوان هو طريق الخلاص الجديد، كراهية الدنيا المسلوبة مسبقًا، وليست بالإرادة واكتشاف فنائها. إلى هذا الحد بلغ خداع الدنيا، جماع جثة لرائحتها الطيبة.١٢ والسؤال هو: هل التطهر طبيعة أم وهم؟ وهل الخلاص من الدنيا أو بالعودة إليها؟ وتمثل النبوة، وهي الطريق الأعم للخلاص، الإخبار عن الماضي وخلق العالم، والبعث والمعاد؛ أي المستقبل، واختلاف الأوامر والنواهي في الحاضر طريقًا لعادات الشعوب؛ فالنبوة تتضمن عناصر مُكونة لفلسفة في التاريخ، الماضي في مراحل الوحي السابقة وقصص الأنبياء، والمستقبل في المعاد، والحاضر في الأوامر والنواهي والإيمان والعمل والدولة. الأول التاريخ العام، والثاني التاريخ المُتعين. وهناك إشارات ورموز ليست في الأحكام حتى تُصحح الأفعال. التشابه في الغيبيات، والإحكام في العمليات.١٣
وتُنكر الحكاية مرةً ثانية داخل الحكاية الأولى للدلالة على عدم ارتباط الأخلاق بالدين؛ إذ يمكن أن توجد أخلاقٌ حسنة مع عبادة الأصنام؛ فالإلحاد لا يعني بالضرورة فساد الأخلاق. وهناك شخصيتان باستمرار في كل حكاية كما هو الحال في «حي بن يقظان» يدلَّان على صلة الحكمة بالشريعة؛ فالوزير عارف بالنبوة، والملك يرفض سماع نصيحة وزيره لطول عادته في عبادة الأصنام؛ مما يدل على أهمية العادة في رفض التغير العقائدي وإن استمرَّت الأخلاق.١٤
ونظرًا لأن الملك عادل مُحبٌّ للخير دون إيمان بأمور المعاد، فإنه يقع في عيوب الملوك، وهي: سكرات السلطان، وسكر الشباب والتفاخر والخُيلاء، وحب الشهوات، والجهالات. ويحمل الملك هموم الملك، وهي: مُحاربة الخوارج، وشغب الجند، وطلب الأرزاق، وتظلُّم الرعية، ومحاسبة الكُتاب، والتعازي والتهاني، والخاصة والعامة، والقصص والتوقيعات، والكتب والأخبار. أما الحكماء فإنهم يذمُّون الدنيا لأنها تصغُر في أعينهم بالمقارنة بملكوت السموات؛ فهم الحكماء المؤمنون، فلماذا لا يجتمع الدين والدنيا؟ ووجد الملك والوزير فقيرًا وفقيرة سعداء، فعلِم الملك أن السعادة ليست في حُطام الدنيا حتى بالنسبة للملوك؛ فالملك مُحاصَر بين الدنيا والآخرة. وتتمُّ الهداية على أيدي النُّساك وليست على أيدي الثُّوار. النُّساك هم البقية الصالحة التي بها يتم خلاص العالم، ويستمر الإيمان في التاريخ. تعتمد عليها اليهودية في الخلاص الجماعي حتى ولو أذنب الكل وبقي واحد فقط صالحًا فيهم؛ مما يُناقض المسئولية الفردية. هذه البقية الصالحة هم الصوفية والأنبياء الذين ترثهم الإخوان.١٥
وقد أوصى أحد ملوك الهند المسلمين أبناءه الملوك بوصايا عشر للحفاظ على الملك وقيام الدولة؛ الإقرار بالتوحيد مع الابتهال إلى الله، الإقرار بالرسل وتصديقهم، التصديق بالكتب المنزَّلة، حفظ الناموس وسياسة الناس، التواضع لله وترك الفخر، ترك الظلم والجور؛ فالظالم خصيم الله، وخصيم الله مخذول بالضرورة، ترك مخالطة النساء لأنهن مَفسدة لعقول الرجال، ترك شرب الخمر لأنه ضد العقل، والعقل خليفة الله، الكرم والسخاء وسماحة النفس والتفضل على سائر الناس عدوًّا أم صديقًا، وصدق القول وأداء الأمانة إلى البر والفاجر. فالإيمان بالله والإقرار بالنبوة والتصديق بالكتب المنزلة هي الوسيلة لتطبيق الشريعة، ومراعاة العدل وترك الغرور، وإكمال الأخلاق بالبعد عن أهواء النفس.١٦
فإذا كان الدين أساس الأخلاق فإن الأخلاق أساسها السياسة. ويتَّضح الأساس الأخلاقي الخالص قبل أن تنشقَّ الأخلاق عن الدين وتتحول إلى سياسة في الخصال العشر الأخرى التي تؤدي إلى نفع الدنيا، وتزيد الخير والرزق والبركة، مثل حسن الخلق، حسن الأدب، صدق الوعد والوفاء بالعهد، العفو عند المقدرة، واصطناع الرجال وترك الحسد، وعدم معاداة أحد، والإحسان بالعدو عقوبة له حتى يكفيه الله، وترك التفريط في وديعة الله وفعل كل ما يؤدي إلى التقرب إليه، وغلبة المروءة على الشهوات، وعدم تأثير الدنيا على الآخرة وإلا سلَّط الله الدنيا على الإنسان يستخدمها فتستخدمه، وعدم النظر فيما لا يعني الإنسان، وعدم الانشغال عن الله.١٧ وهي أخلاقٌ تظلُّ مرتبطةً بالدين في أربعة من عشر خصال.
والسؤال هو: هل السياسة أخلاق أم مصالح وتوازن أو صراع قُوًى؟ هل هي وصف ما ينبغي أن يكون أم تحليل ما هو كائن كما يفعل أنصار الجغرافيا السياسية أو دعاة السياسة الواقعية؟١٨ هناك فرق بين الأخلاق السياسية وعلم السياسة، بل إنه لا يمكن تناول السياسة كأخلاق دون تحليل البنية الاجتماعية والقوى السياسية والاقتصادية في المجتمع. وإن رد كل شيء إلى الأخلاق هو تحوُّل من الموضوعية إلى الذاتية، ومن الجماعة إلى الفرد، ومن الواقع إلى المثال.١٩

وهل السياسة وصايا مثل وصايا الملك لوليِّ عهده مثل وصايا لقمان لابنه؟ وهل النصائح تُجدي أم تغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للسلوك البشري؟ فالأفراد في بيئةٍ اجتماعية، والسلوك نتيجة التوتر بين مُتطلبات الواقع ومُقتضيات المعيار. وهي نصائح عامة للناس جميعًا ليست للسلطان وحده؛ ومن ثَم لا توجد خصوصية في التعامل مع السلطة السياسية.

وإذا كانت الخصال العشر الأولى دينية وشرعية، والخصال العشر الثانية أخلاقية اجتماعية، فإن الخصال العشر الثالثة سياسيةٌ صِرفة، وهي تفقد المملكة والعلم بكل شيء فيها. وهي قضية الوعي بمشاكل الجماهير وعدم الانعزال عنها، مجازاة كل فرد طبقًا لعمله؛ فالعمل أساس القيمة، وليس النفاق أو الانتهازية والوصولية، وشمول العدل بين الناس، وعدم الجور عليهم. وهي نفس قضية العدل سلبًا نظرًا لأهميتها وتأكيدها مرةً إيجابًا ومرةً سلبًا، وعدم المساواة بين العلماء والجهال في العطاء وفي الأثر، في الإعلام وفي الإدارة، وتولية الأخيار والأحرار وليس العبيد والسوقة نظرًا لنسبة أفعال الولاة إلى السلطان عدلًا أو جورًا، وعدم استشارة المُخالف في الدين فإنه لا ينصح، وإن نصح غش كما هو الحال في الاعتماد على الدول الغربية الآن، وتعيين أرفع الناس قدرًا وليس أصغرهم حتى لا يكون عبدًا للمنصب، وإنصاف المظلوم من الظالم والضعيف من القوي، وتأكيد صفة العدل مرةً ثالثة، ورد الحق إلى أهله والانتصار لهم استمرارًا لتأكيد صفة العدل. ومن ثَم تكتمل الخصال الثلاثون التي تؤدي إلى كمال الدين والدنيا، ورفعة الملك والسلطان وقيام الدولة.٢٠
بالإضافة إلى ذلك يؤكد الإخوان على دور العلماء، أهل الحل والعقد في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثل: تقوى الله أي الأولوية للأخلاق الدينية، وطاعة الولاة دون تحديد هل هي طاعة مطلقة أم مشروطة بطاعة الله، والوحدة دون الخلاف إلا في الحق، وعدم طمع العدو فيهم، بل وعدم التحالف معه أو تبرير صلح السلطة معه،٢١ وعدم نقض عهد السلطان، والحرص على مثل الوحي مجتمعةً أو متفرقة. وهي سياسةٌ أقرب إلى عهد الإمام عند الشيعة منها إلى البيعة عند أهل السنة.٢٢
وفي الدولة طوائف عدة، لكل منها طريقةٌ خاصة لدعوتها من الإخوان، الدعوة المناسبة في الزمان المناسب وفي المكان المناسب. ففي المجتمع أربع طبقات سياسية؛ أولاد الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكُتاب، وهي النخبة الحاكمة؛ وأولاد الأشراف والدهاقين، وهم حكام الأقاليم ورؤساء الفلاحين؛ وأولاد العلماء والأدباء والفقهاء في الدين، وهي النخبة المثقَّفة؛ وأولاد الصناع والمُتصرفون وأُمناء الناس.٢٣ والهدف من الدعوة التنبيه من الغفلة والجهالة، وتوصية السلطان عليهم بحسن معاملتهم. وجميع الطُّرق سلمية، مثل التعاون مع الأغنياء ومُواساة الفقراء، قضاء حوائج الناس قبل الدعوة الفكرية سواء عن حكمة أو انتهازية، عدم كتم الأسرار خوفًا من السلطان ضد الدعوة السرية، عدم حسد أحد أو مقاومته كنوع من المقاومة السلبية المعروفة في عصرنا والمخالفة لروح المقاومة الفعلية، التعاون بالعلوم والمعارف لا بقوة الأجسام، وأخيرًا عدم معاداة أحد، والقدرة على تجميع الكل في حوارٍ وطني شامل بلغة العصر.٢٤ ويتم الاعتماد على كتب الأنبياء وكتب الإخوان الطبيعية العامة والإلهية النفسية الخاصة. وهي كلها طُرقٌ يتساءل هذا العصر عن جدواها وفاعليتها، مثل مُهادنة الأغنياء ومُواساة الفقراء.
يبدو عند الإخوان أنه لا فرق بين السياسة الإلهية والسياسة البشرية؛ فالثانية ما هي إلا انعكاس للأولى، والأولى ما هي إلا انعكاس للثانية. البشرية تطبيق على مستوى البشر للسياسة الإلهية، والإلهية ما هي إلا تطبيق للسياسة البشرية على مستوى الله. الفرق في المستوى؛ السياسة الإلهية «عُلوية»، والسياسة البشرية «سفلية». وتتَّسم السياسة، إلهية أم بشرية، بطابعٍ ثنائي؛ طابع ومطبوع، ومخدوم وخادم، صورة ومادة، قالب ومقلوب.٢٥
وما زالت الإرادة الإلهية هي الفاعل الأول في السياسة والتاريخ، والسلطان ما هو إلا خليفة الله في الأرض، يُقارب عدله. لولا العناية الربَّانية والسياسة الربَّانية ما تم شيء في الكون ولا في المجتمع والتاريخ، ذهاب السلف وبقاء الخلف، وتفرُّقهم في الأقاليم. ويتم التدخل الإلهي إلهامًا للحكيم ومشيئته في انتشار اللغات أو وحيًا للأنبياء.٢٦

(٢) الدين والسلطة والجنس

وفي الحكمة الخالدة لمسكويه، وهي مستخلَصة من حكم الشعوب، تحليل للسلطة الدينية والسلطة السياسية، الله والسلطان، كأساس لقيام الدول وسقوطها. تقوم الدولة إذا كان الله سلطانًا، والسلطان إلهًا؛ وتنهار الدولة إذا كان الله إلهًا، والسلطان سلطانًا؛ توحيدًا بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. ولا فرق بين الملك والسلطان؛ إذ يُستعملان على التبادل كرمز للسلطة السياسية.٢٧

فإذا وجبت الطاعة له فإنها تجب أيضًا للسلطان. لله التعظيم والشكر، وللسلطان الطاعة والنصيحة. خير الملوك أشكرهم لله، وأقضاهم بالحق، وأرأفهم بالرعية، وأحسنهم نظرًا فيما يُصلح البلاد ويُعمرها. ولا يتم ذلك إلا بالعقل. وأحق ما يفرح به الملك الخيِّر الذي يُصاب منه، وما احتاط فيه للرعية بسبب ما يستوجب به منهم الشكر، ومن الله الأجر والمثوبة. فشكر الله وشكر السلطان واجب. الله قاهر عادل، وكذلك السلطان المستبد العادل. القاهر العادل في الدين، والمستبد العادل في السياسة. قامت السموات والأرض على العدل، والعدل أساس الملك. وأجفى وأصعب الأشياء السلطان الصائب ذو القلب القاسي. وتجري الأمور بمشيئة الله إذا كان الفيلسوف ملكًا، أو كان الملك فليسوفًا؛ فالإرادة الإلهية واجبة في حال الملك والنبوة.

ويستمدُّ الإنسان قيمته من الله، وشرفه من السلطان. والانقطاع إلى الله خير من الانقطاع إلى الملوك. والبنية واحدة، واتجاه الإنسان نحو الله ونحو السلطان اتجاهٌ واحد، ما ينبغي لله الحمد والشكر، وللنفس الاجتهاد علمًا وعملًا واجتناب المآثم، وللسلطان الطاعة والنصيحة، وللأقربين المحبة والصلة، وللأصحاب اللِّين والمساواة؛ فالبنية واحدة.٢٨

والإيمان بالله والإيمان بالسلطان واحد، والثقة بالله والثقة بالسلطان ثقةٌ واحدة؛ إذ لا ينبغي لأحدٍ أن يشكَّ في أربع خصال؛ واحدة في التسليم له، والثانية العمل بالخير، والثالثة ألا يستقيم ملك إلا بشريعة، والرابعة قضاء الملوك. وتقوى الله وتقوى السلطان شيءٌ واحد؛ إذ ما ظفر الناس ملوكهم وسوقتهم بشيءٍ أعظم وأسعد وأزين وأجمل من تقوى الله وتعظيمه، وتصغير النفس، والإقرار له بالعزة، ولأنفسهم بالذلة. فمن حسنت نيته، وخلصت سريرته، ودامت طلبته، ظفر بمعرفة ما يحقُّ عليه لله، ولزم التقوى؛ إذ اتبع سنة الله في عدله وحكمته. البنية النفسية واحدة؛ العزة لله وللسلطان، والذلة للنفس. ويعرف الوالي رضا الرب عنه ما رضي الله عنه ما لا يدع لذَّاته وهواه، ولا يترك لشهواته في إصلاح رعيته وبسط العدل فيهم ورفع الظلم عنهم. وإن أعظم ما أنعم الله على خلقه في ابتدائهم بالخلق نعمتان؛ الرسول الهادي الذي لا يُصاب الدين إلا من قِبله، والثاني الوالي العادل الذي لا تصلح الدنيا إلا عليه؛ فعدل الوالي من عدل الرسول من عدل الإله في الخلق. والسرور الذي يغتبط به الملك ما كان معه رجاء لحسن معاده، وما سوى ذلك مطروح من ذوي الألباب. ونور الدين يجعل لذوي السياسة مركبًا، ونور التنزيل يجعل للحكماء مركبًا، ونور الإلهام يجعل لذوي التدبير مركبًا، ونور التوفيق يجعل لذوي الاجتهاد مركبًا، ونور الحرية يجعل لذوي الجود مركبًا؛ فالدين مقدمة، والسياسة نتيجة.

(أ) واجبات السلطان تجاه الرعية

وأفضل السلاطين الأحقُّ أن يُغبَط الملك الصالح المظفَّر. وهو نموذج للأمة وخادمها. آخر من يأكل وآخر من يلبس وآخر من يسكن، حتى يطمئنَّ على كفاية الناس. يثق به البريء، ولا يأمنه المُريب؛ فإن ثقة البريء تزيده اجتهادًا أو مناصحة، وخوف المُريب يزيده رعبًا وهيبة. ومع الاجتهاد بالمناصحة العافية والسلامة، ومع الخوف والرهبة الاستقامة والطاعة. وأفضل الملوك سعادةً من كثُر علمه ووُفِّق للعمل به. وأكثر ما ينتفع به السلطان صحبة العلماء والاستكثار من العلم؛ فإن من فضيلة العلم أن صاحبه كلما استكثر منه أحبَّ أن يزداد منه، وهذا هو الحرص الممدوح. وأحسن أخلاق الملوك أوقرهم عند الغضب، وأكثرهم حلمًا ودعة، وأحسن ما عُوشِر به الملوك البشاشة وتخفيف المئونة.٢٩ ومن عدم العقل فلن يزيد السلطان عزًّا. وإذا قيل: هل السعادة أنفع للملوك أم العقل؟ قيل السعادة مقرونة بالعقل، وإنما تتبين آثاره بالدلائل. السلطان هو من كان على نفسه سلطانًا أولًا قبل أن يكون على غيره.

ولا يجب على السلطان قبول الهدايا؛ فالهدية إما من صغير لكبير لطلب ميزة، أو من كبير لصغير لطلب طاعته. وإن كانت فهي بين الأكْفاء للتحاب، والملوك ليسوا في حاجة إليها. وإذا كان الملك قد أمن الفقر، يكون غناه اقتناء الحمد وابتغاء المجد. وأزين ما يُوسَم به الملوك التعفُّف عن المحرَّمات وعمَّا في أيدي الرعية، وألا يُعرَف بالحرص حتى يُنسَب إليه، ولا الجشع حتى لا تذهب عنه بهجة الوقار. ويجمع الملوك الحمد، وهو أنهم إذا همُّوا بالخير أنصفوه. وما يجمع لهم الحزم هو الاستظهار في الأمور. وما يجمع لهم الذم إذا أُغضبوا أقدموا.

يحتاج الملوك إلى هذه الخصال؛ فهم الساسة والرؤساء، وسائر الناس تابعون لهم. تصلح الرعية بصلاحهم وتفسد بفسادهم؛ فلا قوام للرعية إلا بالراعي، ولا قوام للبدن إلا بالرأس، ولا قوام للملك إلا بالهيبة، ولا هيبة للملوك إلا بالعدل. ومن ظلم من الملوك فقد خرج على كرم الملك والحرية، وصار إلى دناءة الشره والنقيصة والتشبه بالرعية والعبيد. والظالم نادم وإن مدحه قومه، والمظلوم سالم وإن ذمَّه قومه. ويسمع الله دعوة المظلوم على باب الولاة والحكام. والحاكم العادل يتَّقي الظلم. الجور مهانة، والجود مهابة. ومن بالَغ في الخصومة ظلم، ومن قصَّر فيها ظُلم. فالعدل والظلم ليسا فقط من سلوك الحكام، بل أيضًا من سلوك البشر. الحق هو العدل لأنه علة كل حسن، وكذلك الجور هو القبح لأنه عله كل قبح؛ فالقبح هو ما خرج عن ميزان الاعتدال. بالعدل ركب كل العالم؛ فجزيئاته لا تقوم بالجور. العدل ميزان الله في أرضه، به يؤخذ للضعيف من القوي، وللمُحق من المُبطل؛ فمن أزال ميزان الله عما وُضع له بين عباده جهل أعظم الجهالة، وأعور أشد الأعوار. وقد اختار الله العدل لنفسه، وأمر بالقيام عليه واستعماله في خلقه. العدل لازم لذوي العقل، والجور لاحق بالجهال.٣٠
وأسوأ السلاطين السفيه الغَشوم. وأحق الناس بالاتِّقاء السلطان الغشوم، والعدو القوي، والصديق المُخادع. والمال لا يحفظ من سرقة ومن خيانة ومن جور السلطان. وأحق الناس أن يُحذَر منه السلطان الجائر. الجور مُفسد للعدل. وجمع المال لمصائب الزمان وجور السلطان. وأدومُ تعبٍ صحبة السلطان السيئ الخليقة. ولا يوجد شيءٌ أسرع من تقلُّب قلب الملوك. ومن خمسة أشياء تقبح بأهلها ضيق ذرع الملك. وأقبح أخلاق الملوك الحدة، وضيق الذرع، وقلة الفهم، والفظاظة، وغلبة البخل، والقسوة، وقلة الاهتمام بأمر العامة. ويتطيَّر الملوك من ذكر الموت، في حين يذكر الحكماء من ذكره لأنهم ينظرون في بقاء ملكهم وتدبيره، والحكماء ينظرون في فراق ملكهم وتدبيره ما بعده.٣١
وأشد شيء تهجينًا للملوك صغر الخطر. ولا يجب التودُّد إلى السلطان بالدالة وإن كان أخًا، ولا بالحجة إن كانت للإنسان، ولا بالنصيحة إن كانت له؛ فالسلطان له القدرة دون الكرم، والحمية دون النصفة، واللجاج دون الحظ. ومن ثلاثة أشياء لا يستصلح فسادهن بشيء من الميل الركاكة في الملوك، واستعمال الملك الهزل؛ فالهزل آفة الجد، يُذهب الهيبة، ولا يُعتبر الملك الكذوب ملكًا.٣٢
والسلطة الملكية وراثية، يرث السلطان ولاة الأمور من بعده. ومع ذلك هناك عشر مؤسسات يحكم من خلالها، وعلى كلٍّ منها رئيس أو صاحب، وعلى كلٍّ منهم واجبات. الأول كاتب الرسائل، وهو ما يُعادل رئس الوزراء؛ فالكاتب هو لسان السلطان والمُخبر عن غائب أمره، عليه اختصار الطريق إلى الفطنة والإحاطة بمرور الأمور، والبداية بالأولى فالأولى. والثاني صاحب الخراج، أو ما يُعادل وزير الاقتصاد والمالية، واجبه العدل بين السلطان والرعية، وإجراء الأمور على مواردها، وعدم التقصير في إتقانها، وعدم الاتكال على الغير فيما يُحيط به نظره ويبلغه علمه. والثالث صاحب الجيش، وزير الدفاع، وهو الحصن من العدو، والمؤتمَن على عدة الملك، وعليه استدعاء المناصحة بالرغبة والطاعة بالرهبة، والاحتراس بالتيقظ، والإسراع في مواضع الفرس. والرابع صاحب الحرس، قائد الحرس الجمهوري أو مُدير المخابرات العامة، وهو جُنة السلطان وعينه، واجبه التحفُّظ والاستعداد والأُهبة، وعدم استبطان المُريب، والأخذ بالشبهات مثل زُوار الفجر. والخامس صاحب الشرطة، وزير الداخلية، وهو ظل السلطان في رعيته، والقائم بسوط الأدب، عليه إلباسهم البراءة، أو إشعارهم المخافة بالريبة، وعدم الخوف في إيثار الحق لومة لائم. والسادس الحاجب، رئيس الديوان، وهو العدل على مراتب الخاصة، والمُحافظ على مكانتهم من السلطان. يجب عليه النظر بعين السلطان، وجعلهم على قدر منازلهم من اللوم والإبطاء على باب السلطان، وزرع محبته في قلوب الجميع. والسابع الخادم، والسكرتير الخاص، مدير مكتب المعلومات، وهو الأمين على ما به حياة الرعية، بصلاحه صلاح الملك والأجناد، عليه حفظ الوارد، واستبطاء الغائب، وتعجيل الجاري اللازم، وتأخير غير اللازم. والثامن صاحب الخاتم، وزير العدل؛ فالتدبير يصدر منه، والأمر ينفذ به. يقتصر على أوامر السلطان وتنفيذها. والتاسع صاحب ديوان النفقات، وزير التموين، وهو والي خاصة كل ما يعني السلطان، والقائم بما يعود نقصه وضره، عليه الاحتياط بما تدعو الحاجة إليه في النفقة، واستبعاد ما تتوق إليه الشهوة. والعاشر صاحب الإمام، وهو المستشار، مستودع سر السلطان، ومالك زمام أمره، ومكانة رأيه، وكتمان سره، وتحمُّل ثقل مخالفته، وعليه ألا تأخذه رأفة في حظوظ السلطان.٣٣

وما ينبغي للملك أن يصنعه حنى يعمَّ صلاحه أهل مملكته تولية خيارهم، وولاية الناس بلاء عظيم. وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه؛ الاجتهاد في التخير للعمال والوزراء؛ فقد يكون رجل بألف، والمبالغة في التقدم إلى الوصية، والتأكيد على العمل، وكسب كل لبيب يعرف وجوه الأمور والأعمال، والتعهد الشديد حتى يكون الوالي سميعًا بصيرًا، والعامل مُتحصنًا حريزًا، والجزاء العتيد؛ إثابة المحسن ومعاقبة المسيء.

والهيبة التي تنفع السلطانَ في سلطانه وتكون أعمَّ نفعًا في رعيته هيبةُ العدل والنزاهة، وحسم بوائق الأشرار وأهل الريب.

والناس أربعة أصناف؛ فارسٌ يذبُّ عن البيضة، وزارعٌ يسعى في العمارة، وعالمٌ يشتغل بالديانة، ورجرجة بين ذلك تُكدر الماء وتُغلي السعر. فالمهن أربعة؛ الجندي والفلَّاح والعامل والتاجر أسوَؤها. فضيلة الفلاحين التعاون بالأعمال، وفضيلة التجار التعاون بالأموال، وفضيلة الملوك التعاون بالآراء والسياسة، وفضيلة الالهيين التعاون بالحِكم الحقيقية. ويتعاون الجميع على عمارة المدن بالخيرات والفضائل. وكما أن اللواء لا يأخذه إلا القوي، والغذاء لا يأخذه إلا من يهضم، كذلك لا يُنصب للرياسة إلا الناهض بأعبائها، وهو الأكمل في الفضائل الخمس، وهي العفَّة والنجدة والحرية والعدالة والحكمة. والناس على مراتب؛ أعلاها من الناس العلماء، ومن الملوك الزهاد، ومن الأشراف المُتقون، ومن الغوغاء القصاص، ومن السفلة الظلمة.٣٤
والسلطان لا يعمل بمفرده، بل بمؤسسات الدولة، وأهمُّها العلماء والفقهاء وأهل الحل والعقد الذين يقومون بدور الاستشارة والنصح. وهم السلطة الفعلية التشريعية، وما السلطان إلا السلطة التنفيذية، لا يتم إحكام أمر أو تدبيره إلا بالمشورة بالوزراء والناصحين المُستحقين لرتبهم. والمُستشير مُتحصن عن السقط، والمُستبد مُتهور في الغلط. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحقاق الثناء، والمجاهد على الحق. ويستغني الناصح عن النصيحة لمن لا يقبلها، والإشارة على المُعجَب برأيه، والمجادلة لكف حرص الحريص. ومن عشرة يُعنون بأنفسهم وغيرهم؛ المُستغني برأيه عن المشاورة ثم يُطالب الرأي فلا يجده، ومن يصحب الملوك بالغش والخيانة. شرائط صحبة السلطان النصيحة وحفظ السر، ومجانبة الغش له، وليس تزيين أمره أو إيثار هواه وتقدير الأمور على موافقته في الكره والرضا. لا يرغب بنفسه عن شيء يُوافقه، ولا يتسخط من قليل عطيَّته، ولا ينظر كرامته، ولا يستعمل الدالة عليه، ولا يكذب إذا سأل، ولا يستثقل حمله، ولا يسأله إذا جفاه، ولا يأمنه إذا أرضاه، ولا يغدر له من لام، ولا يلوم له من يغدر. وإذا استبدَّ الملك برأيه عميت عليه المراشد. وسلطان العلم أقوى من سلطان الملوك؛٣٥ لذلك كان أشد شيء تهجينًا للمروءة العالم الصلف، وللفقيه اتباع الهوى. وقد خُيِّر سليمان بين الملك والمال والعلم، فاختار العلم، فأُعطيَ المال والملك.

والسلطان لا يُستطاع إلا بالأمناء والنصحاء، وهم لا يوجدون إلا مع المودة، والمودة لا تتم إلا بالمشاركة وليس بالاستئثار. ولما كانت أعمال السلطان كثيرة، فإنه لا يمكن استرجاع الخصال المحمودة في واحد؛ فعلى السلطان أن يكون عالمًا بأمور الدنيا عن طريق من يستعين بهم، وندب لكل عمل من يعرفه بالنفاذ والأمانة والرأي والرقابة عليهم ومراجعتهم، وإحسان المحسن وعقاب المسيء. ولا يُحارب ملك ملكًا يعتمد على المشاورة ولا يتبع هواه.

وأحق الناس بصحبة السلطان من صرفه عن عيوبه، واحتمل ثقل نصائحه في حظوظه، وليس من ساعده على أهوائه، وألهاه عن ذكر عاقبته. ولا يعيب مدح الملوك لكثرة الممدوحيه الذين هم أولى بالذم منهم للمدح. والمعارضة جزء من الدولة؛ فقد كلَّم رجلٌ بعض السلاطين بغليظ الكلام، فلما أخبره السلطان أنه تجرَّأ عليه قال له: لأني كلَّمتك بعز اليأس بذل الطمع. ومن ذا الذي لم يُصاحب السلطان ودامت سلامته؟ ولا تُرَد سطوة الملوك بمثل الذل والخضوع. وطاعة الملك فيما يُوافق الحق؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثلاثة يلقَون الجواب سريعًا؛ منهم الملك يأمر وينهي ويُعطي ويقسم من خزائنه. ومن أربعة أشياء تعمل في حينها، ويتقدم فيها، الرجل المُكايد لعدوه في الذب عن الملك قبل حضور الناس. ومن أربعة المال أحب إليهم من أنفسهم من يقترض مع الأمير الخارج للحرب.٣٦

وخليقة السلطان تطبيق الشريعة وتنفيذ القانون؛ فأكره شيء للملوك اللجوء إلى ترك السنة، وألا تستنج لهم الأمور إلا ببسط العقوبة. وعلى الملك أن يعمل بثلاث خصال؛ تأخير العقوبة عند سلطان الغضب، وتعجيل مكافآت المحسن، والأناة فيما يحدث. ففي تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة بالطاعة من الرعية والجند، وفي الأناة إفساح الرأي وإيضاح الصواب. ولذة العقوبة يلحقها حميد العاقبة، ولذة التشفِّي يلحقها ألم الذم والندامة. ومن خمسة أشياء تقبح بأهلها كذب القضاة. ومن ستةٍ تشتدُّ عشرتهم على مُعاشريهم، الملك الفظ والقاضي المُرتشي.

وعلى الملوك تأديب الرعية بعد التمييز والترتيب دون إماتة القلوب والإلحاح، وإقامة الرؤساء على الرؤساء، ألوف ومئات وعشرات، ولا يقبل أعذار الخيانة والكذب. وإذا ما التزم السائس نفسه التمسك بالشريعة، وجعل رعيته أصدقاء له، يملأ مدينته بالخيرات العامة. وإذا جعل نفسه عبد الشهوة، وجعل رعيته غولًا، يملأ مدينته بالشرور. فإذا ما رُوعيت الثروة والرياسة على موجب الشريعة رقت النفس إلى الكرامة الحقيقية، وهما الحكمة والعدالة، وليس البدن هو المكرَّم أو الصحيح أو القوي، بل المستعمل لجماله وصحته وقوته على ما يُفيد الأمن والسلامة طبقًا لمقتضى الشريعة. وكما يكبح العنان جِماح الفرس، كذلك تكبح الشريعة جماح النفس بتدبرها الحكمة. وكمال الملك وكمال العالم لا يرضيان بالانحطاط.٣٧

وسلطان ملوك الدنيا إنما هو على الأبدان لما ملكوا وعلى ما يبدو ومن ظواهر أمورهم. فأما نيَّاتهم وما يغيب عنهم من أمورهم فلا سبيل لهم عليه؛ لأنه غيبٌ محجوب عنهم. فلا ينبغي للملوك أن يأخذوا الرعية إلا بما يظهر لهم منهم، ويتركون التظنِّي فإن التظنِّي يدعو إلى التهمة، والتهمة تدعو إلى البلايا. وعلى حسن كثرة الرعية يعلو شأن السلطان. السلطان لا يُغلق بابه في مواجهة الرعية. فلا يحتجب الوالي إلا لثلاث خصال؛ إما رجلٌ عيي يكره أن يطَّلع الناس على عيِّه، وإما رجلٌ مُشتمل على سوءة يكره أن يرى الناس منه ذلك، وإما بخيلٌ يكره أن يُسأل.

والسياسة صنفان، وأغراضها اثنان، ولوازمها حالتان. أحد صِنفَي السياسة الإمامة من أجل تكميل الخليقة، ولازمها نيل السعادة. والآخر التغلب من أجل استعباد الخليقة، ولازمه الشقاء والمذمَّة.٣٨
والسلطان هو الذي يُحقق مصالح الناس؛ فأفضل الملوك هو الذي يسوس بالخير، ويُقرر في زمان ملكه العافية الشاملة. وأحق الناس بالملك أشدهم محبةً لإصلاح الناس، وأعلمهم بالتدبير، ثم أشدهم سلطانًا على هواه وأقهرهم له؛ فالإفساد اتباع هوى النفس. وأنفع الملوك للرعية من عمل بالسنة المعروفة فيهم، واستعمل خيارهم، وحقن دماءهم، ونفى العدو عن أرضه. وأسعدهم من ساس الناس في الزمان الذي قدر لهم بالرخاء والخير المشاع. وإنما يصلح الملك إذا حسنت سياسته لرعيته، وكان ما يعلمهم آثر عنده من بلوغ هوى نفسه، وطلب النفع للخاصة والعامة. وقد كان يوسف كثير الصوم وهو على خزائن الأرض خشية أن يشبع وينسى الجائع. والكسب لا يكون إلا الكسب الطيب. وأفضل الملوك أرأفهم بالرعية، وأعظمهم عفوًا وأحرصهم على المعروف. وكان أحد الملوك إذا أراد محاربة ملك يبحث عن أخباره وأخبار رعيته ليعرف ثلاث خصال؛ ما يرد عليه من أمور رعيته هل هي على حقائقها. وما ينبغي للملوك في رعيتهم أربع خصال؛ حسن ملاك سلطانهم، الحيطة من ورائهم، والقيام بسنتهم فيهم، والإحسان إلى عامتهم وإصلاحهم، وكف الظلم عنهم. ويجب على الملوك للرعية أن يُنصفوهم ويُنصتوا لهم، ويؤمنوا سربهم، ويحرسوا ثغورهم، وعلى الرعية للملوك النصيحة والشكر.٣٩
ويحقُّ على الملوك أن يأخذوا للضعيف من القوي، وللفقير من الغني بحصصهما من الحق، ونصيبهما من العدل، وأن يكونوا للضعيف والفقير أشد نظرًا، وبهم أشد لطفًا، وعن أمرهم أكثر فحصًا؛ لأن القوي والغني يمتنعان من أجل الظلم والغنم. أما الفقير والضعيف فإنما يكون امتناعهما بضر سلطانهما وقرتهما بمعونته إياهما. وصلاح العباد وأمن البلاد بصلاح الإمام؛ فالناس على دين ملوكهم. ولا يستصلح الملك رعيته وهو فاسد، ويُرشدهم وهو غاوٍ، ويهديهم وهو ضال؛ فصلاح الغير بصلاح النفس، ولا تصلح الرعية إذا فسد أولو الأمر؛ فالوالي من الرعية كالروح من الجسد. يُصلح الأئمة المؤتمين بفضل قوتهم، ولا يُصلح المؤتمون الأئمة. وللسلطان العادل حق لا يصلح لخاصة ولا لعامة أمر إلا بأدائه. فالعاقل حقيق بأن يُخلص لهم النية والنصيحة، ويبذل لهم الطاعة والمحبة، ويكتم سرهم، ويُزين سيرتهم، ويذبَّ باللسان واليد، ويتوخى مرضاتهم، والمواتاة لهم، وإيثار رأيهم وهواهم على رأيه وهواه. فإذا وُجد الرئيس ذو الخصال الحسنة فلا ضير أن توضع في أيديه أموال الرعية وأملاكها ليُديرها لهم. وينبغي لذوي السلطان أن يعلموا أنهم لا يقدرون على أن تنطق العامة بعيب فيهم، وألا يُبصر الناس ما فيهم. وليكن اجتهادهم في ألا يكون لهم عيب ولا سبيل للقالة عليهم.٤٠

وعبرة الملوك لأنفسهم. وليس للسوقة التفكر في سرعة انقضاء دولتهم وقصر أعمارهم، أو إفراط رغبتهم في الأوزار. والتمتع والتلذذ بالملوك أقبح للملوك من السوقة نظرًا لقصر العمر. وقد يؤيد الله بالملك الغشوم والأهواء المختلفة أركان دولته حتى تتم وتنقضي حدتها، مثل دول التتار والمُغول والتُّرك.

تقوم الدولة إذا قام الملك بإنارة القلوب المُظلمة في الصدور الخربة، وكنز فيها الحكمة، وأمات فيها الجهالة. وتنهار الدولة إذا ما استلَّ الجهل سيفه، وأفلت من أسْره، وعز بعد ذله، وفغر الحرص فاه مُتوقدًا مُتضرمًا مُستوليًا غالبًا، فتغلب خساءة الناس ودهماؤهم على الحكماء والعلماء الصالحين فأذلوهم وهجروهم، وانقطعت مواد العقول، وضمرت النفوس، ودخل الحزن عليها؛ فتتبدَّد الدولة ويعيش الناس في كدر.

والدولة فانية يجري عليها قانون الحياة والموت، مثل كل الظواهر الإنسانية؛ فقد نظر بعض الملوك إلى ملكه فأعجبه فقال: إنه لملكٌ لولا أنه بعده لهلك، وإنه لسرور لولا أنه غرور، وإنه ليوم لو كان يوثق له بغد. وقال رجل لوزير: لئن أصبحت الدنيا بك مشغولة لتُمسين منك فارغة. ولا تمييز بين عظام الملوك وعظام العبيد. الملك في الدنيا والآخرة، بالزهد في الدنيا الفانية، والتمسك بالآخرة الباقية. والمَفتون في الدنيا لا يسمع صيحة الآخرة. والملك الأعظم هو أن يغلب الإنسان شهواته. والمرء حقيقٌ أن يطلب الحكمة ويُنبتها في نفسه أولًا، ولا يغيِّره الغنى والسلطان.٤١ ويزول السلطان بطول العداوة، وتنهار الدولة إذا كان الغنى في أنذال القوم وليس في أشرافهم.٤٢

(ب) واجبات الرعية تجاه السلطان

إذا كان مسكويه قد ركَّز على واجبات السلطان، فإن ابن المقفع والفارابي قد أبرزا واجبات الرعية تجاه السلطان في خمس وعشرين وصية للأمان من السلطان واتقاء شره، وليس للسلطان كي يكون سلطانًا عادلًا؛ ففي مُقابل الواجبات هناك الحقوق. واجبات السلطان عليه تجاه الرعية، وحقوق السلطان له من الرعية. وإذا كانت واجبات السلطان قد جمعها مسكويه من حكماء فارس وملوكهم، فإن كيفية معاملة السلطان من آداب ابن المقفع ووصاياه، وكلها لاتقاء شره وعدم التعرض للهلاك لمعارضته؛ فهي نصائح تعايشية وظيفية ليس فيها مقاومة السلطان الجائر.

وتحتاج الولاية إلى ثلاث خصال؛ رضا الرب فوق الجميع، ورضا السلطان فوق الرعية، ورضا الصالحين تحته. ويحرص السلطان على معرفة أخبار عماله؛ فإن المُسيء يستمدُّ خبرته منه قبل أن توقع العقوبة عليه، والمُحسن يستبشر بصلحه قبل أن يأتيه معروفه. والملوك ثلاثة أنواع؛ ملك دين، وملك حزم، وملك هوًى. ملك الدين يُقيم الحق في أهله ويستسلم الناس لحكمه، وملك الحزم يقوم بالأمر دون أن يسلم من الطعن والسخط، أما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر.٤٣ وعلى السلطان فتح أبوابه لرعيته حتى تحصل على خيراتها وتأمن من خوفها.

ومن أخطر الأمور على السلطان الرجل الثاني في الحكم، وزير السلطان أو واليه أو أحد عماله، استنادًا إلى ألاعيب الحاشية ومؤامرات البلاط وأهواء البشر، وفي مقدمتها الحسد والغيرة والطمع كما حدث في نكبة البرامكة. والطريق إلى مواجهة ذلك ليس بالغضب أو الانتقام، بل بالوقار والحلم والحجة. والحلم أفضل من الغلبة والقوة. ولا يجوز شتم الوالي أو الإغلاظ له.

ومن النصائح أيضًا عدم مخالفة السلطان، واتباعه على هواه، وقهر النفس إذا أرادت المخالفة؛ فالسلطان هو السلطان. وهو ما يتعارض مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن أعظم شهادة قولة حق في وجه سلطان جائر. ولا يزيد الود إذا صار الأخ سلطانًا؛ فأخلاق السلاطين تتغير بعد الولاية. وتستمر النصائح على هذا النحو كنوع من العلاقات العامة ليس على السلطان وحده، بل مع كل الناس، مثل الاحتراز من الغضب، وضرورة الجهاد، والصبر، والسخاء، وحب العلم، ومعرفة العدو. كما يستحيل إخفاء شيء على السلطان؛ إذ يبدو كل شيء على الوجه كما هو معروف في علم الفِراسة.٤٤
ولا يجوز للوالي مدح السلطان حتى لا يعرفه الناس كمدَّاح للسلطان ويغتابوه. وإن قابِل المدح كالمدَّاح نفسه. والممدوح الحقيقي هو الراد للمدح والرافض له. كما أنه يحب قبول مدح الآخرين للإنسان حتى ولو كان على حق، إظهار المحاسن اتقاءً لحسد الوالي وعدم إبعاد الأنظار عنه؛ فالكرامة الحقيقية ليست من علائق المدح. كما يجب مجانبة المسخوط عليه والظنين عند السلطان، وعدم الاجتماع به في منزلٍ واحد أو الثناء عليه حتى لا يبلغ ذلك السلطان وحتى يسكن غضبه، بل يجب الرفق بنظراء الإنسان من وزراء السلطان وأخلَّائه، واتخاذهم خلَّانًا أفضل من أن يظهر الإنسان بفضلٍ أكثر منهم فيحسدوه ويحقدوا عليه، أو بفضلٍ أقل منهم فيحتقروه ويستصغروه، أو مثلهم فيُنافسوه. ولا يجوز الهمس في أذن أحد عند السلطان حتى لا يظن سوءًا؛ فالأسرار معلنة. وإذا سأل الوالي أحدًا فلا يجوز للإنسان أن يُجيب بدلًا عنه استخفافًا بالمسئول والسائل. وإذا سئل الإنسان فلا تواثب في الإجابة ولا تكلف ولا صنعة، إنما التؤدة والعلم والمعرفة بأقوال الآخرين؛ الأصدقاء والخصوم. ومن الأفضل عدم التعبير عن الخلاف في الرأي مع الآخرين في حضرة الوالي والبروز عليهم؛ حتى لا تُثار كراهيتهم وحسدهم علنًا أم سرًّا. ولا تجب المنافسة على القرب من السلطان، ولا المنافسة مع المقرَّبين إليه للإحلال محلهم لفضل في النفس ونقص في الغير.٤٥
وفي نفس الوقت لا تجوز معاتبة السلطان إن ابتُلي أحد بصحبته دون أن يحدث الاستئناس أية غفلة أو تهاون. إذا جعل السلطان صاحبه أخًا فيجعله الأخ سيدًا، زيادة بزيادة. وإذا كان الصاحب من الإنسان بمنزلة ثقة من الوالي، فالعدل معه دون ملق أو كثرة الدعاء له. أما إذا كان الوالي لا يبغي الرعية ولا يريد صلاحها، فإما أن يميل الصاحب مع الوالي ضد الرعية وهو هلاك للدين وللمروءة، وإما الميل إلى الرعية ضد الوالي وهذا هلاك الدنيا والنفس. ولا حيلة حينئذٍ للصاحب إلا الموت أو الهرب. وإن كان الوالي سيئ الخلق والسيرة فلا سبيل إلا الفراق الجميل. وإن صابر الصاحب فعليه أن يعرف محاسن الوالي ومساوئه، وإبراز المحاسن وتجنُّب المساوئ بحذرٍ شديد؛ حتى تقوى المحاسن وتكثُر، وتضعف المساوئ وتقل. والأفضل البقاء مع الوالي على الطبيعة والفطرة؛ لأن الناس تلقاه على التصنع، ويتقرب إليه الأشرار دون الأخيار، فيعتبر الخونة أُمناء، أو الغدرة أوفياء، ويجهل أهل الفضل الذين يُبعدون أنفسهم عن أهل التصنع والتجهل. ومن الأفضل عدم تذكير الوالي بحقوق الأصحاب عنده دون التنازل عنها. وتجديد النصيحة له أفضل وسيلة للتذكير بها، فيتذكر الوالي الغائب بالشاهد. ولا داعي لعتب الوالي حتى لا يتعنت ويقسو قلبه ويُنكر حسنات الصاحب الماضية.٤٦
وإذا ابتُليت الرعية بالسلطان فعليها التعوُّذ بالعلماء. وإذا تقلَّد أحد أمرًا من أمور السلطان فإما أن يُنفذها تبريرًا أو يُعارضها نقدًا، وهو مسخَّر لخدمة الله وخدمة السلطان. والأولى عدم الهلاك. وأهل الدين والفضل هم الإخوان والأعوان والبطانة وأهل الثقة. واستشارة الآخرين ليس للفخر بل للانتفاع؛ فصاحب الفضل والذكي لا ينفرد برأيه. ولا بد من الصبر على من خالف السلطان من ذوي النصيحة، وتحمُّل مرارة قولهم وعذلهم. ولا يقوم بذلك إلا ذوو العقل والسن حتى لا يجترئ على السلطان سفيه. ولا يجب الاغترار بسلطان عند «جدة دولة» قد استقام أمره بغير رأي، وأعوان اجترءوا بغير فضيلة، وعمل نجح بغير حزم؛ فالأمر الجديد له حلاوة في النفس، ويستتبُّ أمره بلا عناء، وتتم الأمور على أصولها وقواعدها. وإن لم تتم قام الوالي بتحقيقها بقمع السفلة مع الحذر من الكريم الجائع، واللئيم الشبعان؛ فإنما يصول الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.٤٧
ولا يستطيع أحدٌ إرضاء جميع الناس، والأولى إرضاء المُخالفين، وإرضاء أهل الجور والضلالة والجهالة. يكفي رضا الأخيار وذوي العقل. ويمكن تعهُّد الصلحاء بالمُصافاة، والأكْفاء بالمكارمة، وذوي التنصل بالمغفرة، وذوي الاعتراف بالرأفة، والجيران بالرقة، والأقرباء بالمواساة، والمصاحبين بالمساعدة، والرؤساء بالتفريط، والملوك بالطاعة، والمعيشة بالإصلاح.٤٨

ولا يجوز أن يشغل الإنسان نفسه إلا بعظائم الأمور حتى لا يصغر شأنه ويُضيع الكبير؛ فالوقت لا يتَّسع لكل شيء؛ لذلك يحسُن تفريغه للمهم. والمال لا يتَّسع لكل شيء، فيُصرَف في الأهم. والكرامة يُحافظ عليها في الأمور الجسيمة. ولا يجوز الغضب حتى لا يعبس وجه الإنسان في وجه الناس، وتخرج منه الألفاظ السيئة لمن لا ذنب له، ثم يرضى على من ليس أهلًا للرضا، ويُعطي من لا يستحق. ولا يحسد الوالي من دونه لأنه أقل عذرًا من السوقة الذين يحسدون من فوقهم. والناس على دين الوالي إلا من نافقه الوالي بالبر والمروءة حتى لا يقع الفجور والدناءة في مملكته. والإنسان الكامل لا يجب أن يكون قريبًا من السلطان، بل من الملك الذي يهب المُلك. وحيث يوجد الملك يوجد المُلك، ولا ينعكس الأمر. وهي كلها وسائل تربوية أخلاقية للسياسة عن طريق الدخول إلى نفس الوالي أو السلطان، وتقوية الفضائل على الرذائل دون قوانين أو مؤسسات. وهي أقرب إلى العلاقات العامة منها إلى الحقوق والواجبات، الموضوعية بصيغٍ قانونية ودستورية. هي أقرب إلى العلاقات الشخصية وكيفية التعامل مع الآخرين طبقًا للكياسة والفطنة والذوق.

ويذكر مسكويه الفارابي ويعرض آراءه في السياسة طبقًا لتقسيم الناس إلى طبقاتٍ ثلاث، العليا والوسطى والدنيا، وكيفية تعامل الإنسان مع الرؤساء ومع الأكْفاء ومع المرءوسين، وطبقًا لطول الخدمة وقصرها، طول الوقت أو بعض الوقت أو بعيدًا عنه كليةً. وتبدو فيه أيضًا أخلاق الطاعة؛ طاعة المرءوسين للرؤساء، وتبعية الرعية للراعي. الرئيس كالسيل المُنحدر، قوةٌ غاشمة لا يمكن إيقافها؛ فالتعامل معها بالتكيف والملاطفة. فكل شيء في العالم له وجهان؛ جميل وقبيح. فالسيل المُنحدر يُفيد ويُدمر، والناصح للسلطان كيف يُجعل مفيدًا وليس مُدمرًا. وإن اعترض على شيء فلا يظهر ذلك عليه؛ فالسلاطين لا يُحبون الاعتراض عليهم، بل الموافقة والتأييد وطبقًا لطباع كل الناس. ويمكن أن يُخبر الرئيس بشيءٍ دون الأمر به، فشتَّان بين الخبر والإقرار. وإذا ظهر القبيح ينسبه الناصح إلى نفسه وليس إلى الرئيس. كما يجب على الرعية التلطف في نيل المنافع من الرؤساء، وليس منعها منعًا باتًّا. ولا يجب السؤال والإلحاح؛ فالشره يؤدي إلى الرفض. ويمكن طلب أسباب المنافع وليس المنافع حتى تكون المنافع مستمرة ودائمة. واستدراج الرئيس لتحقيق المنافع العامة نوع من الذكاء. ولا يجب مزاحمة الرئيس في ممتلكاته، وفي نفس الوقت الحذر من امتلاك كل شيء. فإذا مل الرئيس من الفصحاء فلا تجب الشكاية أو إظهار الضيق منه، ووضع اللوم على النفس وليس عليه.٤٩

والسؤال هو: أين النصيحة في هذا كله إذا كان المقصود هو تحسين كل ما يفعله السلطان ويقوله؟ وهل النصيحة تبرير أفعال السلطان وقراراته وحسن العلاقة معه على حساب المصالح العامة؟ هل هناك خاصة للرؤساء دون غيرهم، أم إن التعامل مع الناس بالحق سلطانًا كان أم من الرعية؟ وكيف يكون ذلك مع استهجان مدح السلاطين والتقرب إليهم؟ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يقتضي الوقوف في مواجهة السلطان، وأعظم شهادة كلمةُ حق في وجه إمام جائر. وواضحٌ أن الأمر كلها مزاجٌ شخصي، علاقاتٌ عامة بين الرعية والسلطان والنصحاء دونما حاجة إلى مؤسساتٍ قضائية ودستورية ونيابية وإعلامية تقوم بهذا الدور. واضحٌ أن الفكر السياسي عند الفقهاء أفضل بكثير من الفكر السياسي عند الحكماء؛ فالأول يقوم على القانون، والثاني على المزاج. الأول موضوعي، والثاني شخصي. الأول دستوري، والثاني علاقاتٌ عامة. الأول فيه ثورة وغضب، والثاني به تبرير ورضًا.

أما التعامل مع الأكْفاء فإن الأكْفاء ثلاثة مستويات؛ الأصدقاء والأعداء والوسط بين الاثنين. فالأصدقاء المُخلصون تجب ملاطفتهم مثل السلطان، والأصدقاء في الظاهر فحسب تجب مجاملتهم ومراعاتهم عند الحاجة. أما الأعداء فإنه يجب الاحتراس من ذوي الأضغان والأحقاد، وعدم إغاظة الحساد وإثارتهم. أما الوسط بين الاثنين فالنصحاء منهم يجب الاستماع إليهم، والصلحاء يجب مدحهم، والفقهاء الحلم معهم، وأهل الكبر معاملتهم بالمثل.

أما التعامل مع من دونه من الناس فهم الضعفاء. وهم إما المتعلمون المشتغلون بالعلم، ذوو الأخلاق الطاهرة، أو البلداء النقَلة للعلم، أو ذوو الطبائع الرديئة، وإما المُحتاجون أصحاب الفاقة، ومنهم الضعفاء الصادقون أو الكاذبون أو المُلحون.٥٠
وأفضل تعامل هو التعامل مع النفس، رجوع المرء إلى خاصة أحواله قبل التعامل مع الآخر. ويتم إصلاح النفس من حب المال عن طريق فضيلة السخاء، ومن الجاه بدافع اللذات. والمال والجاه قرينان، ولكن لذة الجاه أولى من لذة المال. ويأتي المال من عطايا السلطان أكثر مما يأتي من الكسب والعمل اليدوي، مال الهبات والعطايا وليس مال الاستحقاق. وطريقه ليس الدباغة والكناسة والتجارات الخسيسة والقمار. وهي وجوه لا يقرب منها ذو المروءة.٥١
وهناك طريقة لتحصيل الأسرار وتحصينها من كل من هذه الطوائف الثلاث. تحصل الأسرار من الرؤساء بالثقة والاستدراج، ومن الأكْفاء بالحوار والجدال، ومن المرءوسين بالترغيب والترهيب. ثم تحصن الأسرار من كتمانها وعدم إذاعتها من أجل سلامة الدولة وتخزينها مع أخبار السابقين من أجل الاستفادة بها ضمن أحاديث السياسة؛ أي بداية تكون الوعي التاريخي. وتُعرَف الأسرار من الأمور الظاهرة الباطنة، الظاهرة ما يبدو على الرئيس من العزم والإعداد والأهمية في الأمور التي كان فيها من قبلُ مُقصرًا، وتفريق المجتمعات، وتجميع المُفترقات، والإمساك عن أمورٍ سابقة، وإدناء القاصي وإقصاء الداني، والتطلع إلى الأخبار وسماع الأحاديث. والأمور الباطنة مثل استطلاع أحوال البطانة والخدم، وإمساكهم عن الأمور، واستعجال ما كانوا مُمسكين عنه؛ فهم أقرب إلى الرئيس وأعوانه، وسماع حديث العجم والصِّبيان والجهال والنساء، وهم قليلو التمييز والعقول. وليس لديهم حصافة، ولا عندهم رزانة. وإذا كثُرت الثرثرة فإنها تُخرج ما في الضمائر.٥٢ فهذا هو علم الفِراسة السياسية. الغاية منه جمع المعلومات كما هو الحال في مراكز الاستخبارات الدولية وإدارات المخابرات العامة.٥٣
ويمكن الظفر على الأعداء عن طريق العلو على العدو في كل فضيلة تخصُّه إن كان من أهل الفضل، وعلم العدو بذلك يُضعفه، وإحصاء وعيوبه ومثالبه ونشرها على الناس بصدق، ومعرفة أخلاق العدو وطباعه لمقابلة كل واحد منها بما يُناقضه، ومعرفة ما يُقلقه ويُضجره وأسباب ذلك. والدافع على ذلك طلب السلامة منه ومن مكائده، مع طلب النكاية فيه. والأرَب هو معرفة العورات، وطلب العثرات، والتطلع إلى ما عند الناس، والتباعد عن الناس حتى لا يعرفوا ما عند المرء، والقصد بغير المقصود، والبداية بالعطاء من الأدنى فالأدنى إلى الأعلى فالأعلى، وتحصيل الأصعب ثم الأخف، وعدم إظهار الغضب ولا الرضا بإفراط، والمطل إذا تعقبه الإنجاح، والصبر حتى الظفر بالفرصة، والتقديم للأمور، والحديث بلسان الغير. فهي أقرب إلى الحملات الإعلامية ضد العدو، والتوجيه المعنوي في الدخل، مثل الحرب النفسية والدعائية.٥٤

(ﺟ) واجبات المرأة الجميلة

ومن الصعب معرفة هل المرأة جميلة، أو بلغة العصر سيدة المجتمع أو السيدة الأولى، أحد أسباب قيام الدول وسقوطها، وهل هي خير أم شر، وهل هي قريبة السلطان أم بعيدة عنه؟ المرأة رمز للجنس في الثالوث المقدَّس/المحرَّم، الدين والسلطة والجنس، كأبعاد للوعي الإنساني، أو مشخَّصةً في الله والسلطان والمرأة. وتجتمع على ذلك حكم الهند وفارس والعرب واليونان، وهي إلى حجم الهند أقرب؛ فقد شغلت المرأة الذهن الهندي لدرجة عبادة المرأة ممثَّلةً في الفرج طبقًا لعبادة مصادر الحياة؛ البقرة للحيوان، والمرأة للإنسان. ولا حياء في الدين؛ لذلك كانت حِكم النساء أقرب إلى الأدب المكشوف. ولا تُذكَر المرأة بمفردها في مثلٍ سائر أو حكمةٍ شائعة إلا نادرًا، وإنما تُذكَر مع الله أو السلطان، كأحد الأطراف في العلاقات الإنسانية.

تبدو المرأة كموضوعٍ جنسي قبل أن تكون فردًا في علاقاتٍ اجتماعية خيِّرة أو شِريرة؛ ففي طب الهند مثلًا لا يُجامع الرجل وهو مشدود الوسط، ولا مربوط العضو، ولا مهموم، ولا مشغول الفكر بشيء من الأمور، ولا سكران ولا غضبان؛ فالجماع في حاجة إلى حريةٍ بدنية وتركيزٍ ذهني. والمرأة هي التي تطلب الرجل أكثر مما يطلب الرجل المرأة. حاجتها إلى الجنس أكثر من حاجته. فمن ثلاثة يلقون الجواب سريعًا المرأة الجميلة التي تُدل على من يهواها من ذوي الثروة. ومن النادر أن يوجد رجلٌ جاوَر النساء ولم يُفتَن. ومن علامات الرقاعة مُداومة عِشرة النساء. ومن ثلاثة ينبغي أن يحزنوا من يتزوج المرأة الحسناء ذات الحسب، ولا يستطيع أن يكون معها كما ينبغي، فلا تزال تفحش عليه؛ فالجنس عند المرأة مقدَّم على الفضيلة. ومن ثلاثة يُضيعون ما آتاهم الله، الرجل التاجر الذي يتزوج المرأة الحسناء الشابة ثم يغترب عنها في أسفاره وتجارته. ومن ثلاثة يجنون على أنفسهم ويؤلمون أبدانهم، الشيخ الكبير الفاني ينكح المرأة الجميلة، فلا تزال تسبُّه وتتمتع بكل شاب أجمل من الآخر، وربما سعت في هلاكه. ومن أربعة ينبغي أن يسخر منهم ويهزأ بهم، المرأة التي تزعم أنها بِكرٌ عذراء وهي ثيِّبة غير طاهرة، ولا مُمتنعة على الرجال، فتوهم أنها بِكر وتعلم كيف هي.٥٥

ومن أربعة أشياء لا يكاد أحدٌ يقدر عليها، المرأة التي قد ذاقت الأزواج وتمتَّعت وتطعَّمت الرجال أن ترضى برجلٍ واحد. ومن سبعة لا ينامون، صاحب الزوجة الفاسدة. ومن عشرة لا يزالون في سخط الناس، البخيل بالجماع. وما دامت المرأة موضوعًا جنسيًّا فإن مهمة الرجل إشباعها، وإن لم تُشغَل المرأة فإن الدواهي في الفراغ. ولم يكن هذا التصور عيبًا عند القدماء؛ فالنساء عورات عند عمر بن الخطاب يجب سترهن بالبيوت، ومُداواة ضعفهن بالسكوت، وتخويفهن بالضرب، وإبعادهن عن الرجال، وعدم إسكانهن بالغُرف أو تعليمهن الكتابة، وتعويدهم العُري حتى لا يخرجن ويلزمن بيوتهن، ورفض طلباتهن؛ فإن الاستجابة لهن تُغْريهن بالأسئلة.

ويجب حجاب المرأة وحجبهن حتى تكفَّ أبصارهن؛ فالحجاب خيرٌ من الارتياب. وليس خروجهن أشد من دخول من لا يوثق به عليهن. ومن الأفضل ألا يعرفن أحدًا. ولا يجب تمليك المرأة من أمرٍ يُجاوز نفسها؛ فإن ذلك أنعم لبالها وأدوم لحالها. المرأة ريحانة وليست قهرمانة. فلا تعدُ بكرامتها نفسها، ولا تجز لها الشفاعة. ولا يجب إطالة الخلوة عندهن حتى لا يمتلكن أحدًا، والغيرة في غير موضعها تجعل الصحيحة سقيمة.

ومن ضِمن أربعين ألف نصيحة يتم اختيار أربع فقط؛ «لا تتقن بامرأة» مع عدم تحميل المعدة فوق طاقتها، وحفظ اللسان، وأخذ ما يكفي. عدم الثقة بالنساء وعدم إفشاء السر إليهن من حكم أذرباد. ولا يجوز مشاورة النساء؛ فرأيهن أفن، وعزمهن وهن. ومن علامات الرقاعة مداومة عِشرة النساء مع الدالة على السلطان والقصص على الكراسي. ومن خصال الملوك والأشراف مجالسة الأحداث والنساء ومشاورتهن، مع التعظم وترك ما يحتاج إليه من الأمور فيما يعمل باليد ويحضر بالنفس. ومن أرفع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأخسرها للعقل، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغرام بالنساء، والتوق إلى ما ليس عندهن عند غيرهن حتى ولو كنَّ دميمات. وهذا هو الحمق والشقاء؛ ومن ثَم يجب ضبط النفس وحمايتها من الهوى. والنساء خدعة؛ ظاهرٌ فارغ، وباطنٌ قبيح.

ومن أشد الأشياء تهجينًا للمروءة قلة الحياء للنساء، مع البغي للشجاع، والكذب لعامة النساء. ومن خمسة أشياء قبيحة بذاءة النساء.٥٦
ومن ألزمِ الأذى الزوجة غير المُوافقة مع الولد السوي. والمرأة السوء تُشبه الربَّة والعدو والسارق. والمرأة التي تتزين لتذهب لترى المدينة فإنها في الحقيقة تريد المدينة أن تنظر إليها، كما لاحظ سقراط. المرأة ميدان العذاب والغم والحسرة والألم والوجع، كما هو الحال في لوح قايس. فالمرأة التي بيدها سوط تدل على العقوبة وسوط العذاب. والمرأة التي دلت رأسها بين ركبتيها تدل على الغم والحسرة. والمرأة الواشية التي تنتف شعرها تدل على الألم الحسرة وشدة الوجع. والمرأتان الواقفتان بالقرب من المتسليتين الفقيرتين إحداهما تدل على الحزن والويل والعويل، والأخرى تدل على الحزن الطويل. والمرأة الواقفة عليها سيماء الجلالة والبيئة الجميلة تُسمى عند الجمهور الأدب، وهي ليست أدبًا مُقابل أدب زورًا.٥٧
ومع ذلك، هناك صورةٌ إيجابية للمرأة؛ فالمرأة الخيِّرة هي التي لا يدل ظاهرها على باطنها. فقد تتزين المرأة، لكنها معلقة بما تمتاز به من الشرف الأبدي، وهي الحكمة والعدالة. وعتق المرأة ضروري في الدنيا. ومن يعتق المرأة حين يأتيه الموت يعصي الله مرتين؛ للبخل بالشيء وهو في يده، والإسراف فيه إذا كان في يد غيره. وقد تبلغ المرأة درجةً عالية من الزهد والعبادة والتصوف مثل رابعة العدوية ومعاذة العدوية، يقمن بالليل، وسعيدة بنت زيد التي ترى أن من فكَّر في أنعم الله ثم فكَّر في تقصيره في الشكر استحيا من السؤال، وأم كلثوم العابدة تشغلها رؤية القادر عن رؤية القدرة.٥٨
وأقرب الأشياء للعبد الزوجة الموافقة مع الولد النجيب. ومن أربعة يُحسنون أعمالهم وحكمتهم المرأة التي تصنع الخير بولد السوء. ومما يكرم به النساء على بُعولهن، الكفاية والعفة والهيبة لأزواجهن، وحسن التبعل، وقلة المعاتبة والإحجام في الغيرة. وخير القرناء عند المسكنة المرأة الصالحة، تُشبه الوالدة والأخت والصديق والأمة، وتقبل سوء خلق؛ فأسوأ منه من جعله كذلك. وزواج الجميلة بالدميم يؤدي بهما إلى الجنة؛ لأنه شكر عندما أُعطي، وهي صبرت، والشاكر والصابر في الجنة. ومن أربعة أشياء ينبغي للكريم أن ينذر فيها النذور حتى لا تزول عنهم، المرأة العاقلة المُستجيبة لزوجها المُوافقة له. وفي النحو يُقال «تزوَّجت امرأة»، وليس «تزوَّجت بامرأة»؛ فالزواج اقتران وازدواج وليس مجرورًا بحرف جر، وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. وقد اكتفي الرجل بزوجةٍ واحدة، ولا يمد عينه إلى حرمةٍ أخرى، عاملًا بالسنة، رافضًا سيرة الفساق. ومن خمسة مُفرطين في خمسة أشياء، فهم أبدًا نادمون، المُفارق للزوجة الصالحة إذا ابتُلي بالطالحة. والعجلة محمودة في الكريمة إذا خطبها كفؤها وزفَّها.٥٩

(٣) التاريخ الاجتماعي

والعجيب أن الذي عُرِف بأنه مؤسِّس فلسفة التاريخ في الحضارة الإسلامية ليس حكيمًا، بل مؤرخ في مقدمةٍ نظرية في علم التاريخ الذي هو علم العمران؛ أي التاريخ البشري.٦٠ فقد تأسَّست فلسفة التاريخ الإنساني خارج علوم الحكمة. فإذا كان التاريخ كما هو الحال عند البيروني في «الآثار الباقية من القرون الخالية»، والجغرافيا كما هو الحال في بعض رسائل إخوان الصفا؛ أي العلوم الإنسانية، جزءًا من علوم الحكمة؛ فإن ابن خلدون بتأسيسه علم التاريخ إنما قد ساهم في أضعف جزء في علوم الحكمة وهو ليس حكيمًا.
بل إن ابن خلدون له موقفٌ مُعادٍ للحكمة كما هو الحال عند الفقهاء المتأخرين مثل ابن الصلاح، في فتاويه الشهيرة ضد الفلسفة؛ فقد كتب ابن خلدون فصلًا «في إبطال الفلسفة وفساد مُنتحليها».٦١ ولا يختلف عن الغزالي في شيء. وإذا كان المعتزلة هم أقرب الفِرق إلى الحكماء لقولهم بالتأويل وإعمالهم العقل، فإن ابن خلدون أشعري حتى النخاع، مُعادٍ للعقل وإن لم يكن مُعاديًا للتجربة والمشاهدة.
وقد حدَّد ابن خلدون طبقًا لعنوان المقدمة أهدافًا أربعة لها، هي:
  • (أ)

    في فضل علم التاريخ دفاعًا عنه ضد ذمه، وكما هو معروف من كتاب «التوبيخ لمن ذم التاريخ» للسخاوي باعتبار أنه علم رواية وليس علم دراية، علم الأمم الماضية، والأقرب إلى القصص منه إلى العلم.

  • (ب)

    تحقيق مذاهبه لأن هناك عدة تصورات للتاريخ؛ التاريخ الجغرافي، والتاريخ البشري، والتاريخ البدوي، والتاريخ الحضري، وتاريخ العمران.

  • (جـ)

    مغالط المؤرخين في المناهج، والروايات الموضوعة، والصراع بين الرواية والمشاهدة، بين السمع والبصر، بين الخبر والرؤية، بين المعرفة والتحقق.

  • (د)
    معرفة أسباب هذه الأخطاء من أجل وضع مناهج عملية دقيقة لكتابة التاريخ.٦٢

(أ) فلسفة التاريخ

وموضوع الكتاب الأول هو موضوع المقدمة كلها؛ نظرًا لأن الكتب التالية هي في «تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، وعنوانها «في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب»؛٦٣ فهي تضمُّ ستة موضوعات لكلٍّ منها باب، على النحو التالي:
  • (أ)

    في طبيعة العمران في الخليقة، وتتضمن النظرية الجغرافية الشهيرة طبقًا لأقاليم الأرض السبعة وآثارها على حياة البشر (الباب الأول).

  • (ب)
    ما يعرض للعمران من حياة البدو (الباب الثاني) والحضر (الباب الرابع)، والتغلب (الباب الثالث)، والكسب والمعاش والصنائع (الباب الخامس)، والعلوم (الباب السادس)، وذروتها الدولة، الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية؛ فالدولة ذروة العمران، قبلها البدو، وبعدها الحضر. وفي الدولة تبدأ الحياة الاجتماعية والعلمية.٦٤ والغاية من ذلك كله الاعتبار كما هو واضح في العنوان «العبر» وهو التوجه القرآني في قصص الأنبياء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً.٦٥

ولا توجد فلسفةٌ مباشرة في التاريخ إلا على نحوٍ غير مباشر. ويمكن تجميع عناصرها المباشرة التي يذكر فيها لفظ التاريخ مُضافًا إلى علم أو فن؛ فالعنوان الأول «فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها»، وهو عنوان مقدمة الكتاب الأول؛ أي مقدمة المقدمة. وهي المرة الوحيدة التي ظهر فيها لفظ التاريخ مُضافًا إلى علم وليس إلى فلسفة. ويُسميه أيضًا «فن التاريخ».

وعيب المؤرخين القدماء هو جمع الأخبار وخلطها بالدسائس والروايات الكاذبة والأخبار المبتدَعة. واتَّبعه المؤرخون اللاحقون، فوقعوا في الغلط والوهم؛ لذلك وجب التحقُّق من صدق الرواية قبل استعمالها كمصادر للمعرفة التاريخية. ويتم ذلك عن طريق معرفة طبائع العمران وقوانين التاريخ؛ أي التحقق من صدق الرواية بالتجربة والمشاهدة؛ ومن ثَم يتحول التاريخ من فن إلى علم، ومن هواية إلى فهمٍ دقيق. كما يمكن ذلك عن طريق معرفة العلل والأسباب؛ فعلم التاريخ يدرس الظواهر الاجتماعية المُتراكمة عبر الزمان لمعرفة قوانين تطوُّرها، كما يدرس علم الطبيعة الظاهرة الطبيعية لمعرفة أسبابها. فالتاريخ، وموضوعه العمران، علمٌ طبيعي. لا فرق إذن بين التاريخ كعلمٍ إنساني والطبيعة كعلمٍ طبيعي. العلم واحد من حيث المنهج وإن اختلف الموضوع.

ويبغي ابن خلدون الاختصار والتركيز باحثًا عن الأسباب العامة وراء الأخبار الخاصة، ويُحذر من الإسرائيليات، ويرفض المغالاة في الأحكام حتى ولو كانت في الروايات لخضوعها لمنطق القصص والخيال الشعبي. وغاية ذلك نقد التفسير التاريخي للقرآن الذي يقوم على هذه الروايات الخيالية. ويعتمد في تحليل التجارب البشرية على الشعر. وقد كان أحد أسباب أخطاء الروايات خضوعها لأهواء السياسة ومدح الحكام وتجريح الخصوم. يُفرق ابن خلدون بين القطعي والظني في الرواية كما هو الحال في الأحكام عند الأصوليين، وهو الفقيه. كما ينشأ الخطأ من الذهول عند تبدُّل الأحوال والأمم والأجيال بتبدُّل الأمصار ومرور الأيام؛ أي بإغفال التصور الحيوي للتاريخ.

ويتكلم ابن خلدون عن الحضارة في الأمصار من قبل الدولة، وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها؛ فالدولة هي حاملة العمران، والحضارة زائدة عن الضرورة من أحوال العمران طبقًا لأحوال الأمم على مدى الأيام. والدولة هي التي تجمع أموال الرعية وتُنفقها في مظاهر الجاه، وتعظم الحضارة في وسط الدولة ومركزها، وتقل في الأطراف. والأمثلة على ذلك كثيرة من حضارات اليهود والقبط والروم واليونان والعرب في الأطراف والعراق والنبط والفرس والكلدانيين.

وفي نفس الوقت الذي تكون فيه الحضارة غاية العمران تؤذن بفساده، طبقًا لجدل الإيجاب والسلب؛ فكل حضارة تحتوي على عناصر فسادها.٦٦ فالملك والدولة غاية العصبية، والحضارة غاية البداوة، والعمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمرٌ محسوس. والجيل أربعون سنة. وكلما كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. غاية العمران الحضارة والترف. والحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران والدولة.٦٧ رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو رسوخ الحضارة وطول أمده؛ لأنها كلها عوائد للعمران. والأمثلة من الأندلس وملوك الطوائف، وسابقًا الدولة الأموية، وفي الغرب دولة القوط، وحضارة صنهاجة في تونس.
وأخطاء المؤرخين القدماء في عدم التحقق من صدق الروايات امتدَّت إلى المُفسرين؛ فقد كان أوائل المُفسرين هم المؤرخون مثل الطبري؛ فقد أخطَئوا في تفسير أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ بجعل لفظ «إرم» اسمًا لمدينة ذات عماد.٦٨

وقد أسَّس المحدِّثون علم الجرح والتعديل لضبط الرواة، خاصةً في خبر الواحد، مثل استحالة مدلول اللفظ وضرورة تأويله إذا لم يُطابق العقل حتى يمكن استنباط أحكام شرعية عملية يقينية منها، حتى ولو كانت ظنية على مستوى النظر، بالإضافة إلى أحكام العدالة والضبط. العدالة في الصدق والإسلام والإيمان والضبط بحسن السماع والحفظ والتبليغ خلال سلامة الحواس الظاهرة مثل السمع واللسان، والباطنة مثل الحفظ والتذكر.

أما الأخبار أي الروايات التاريخية، فهي علم الوقائع والأحداث، ويكون صدقها في المطابقة؛ مطابقة الرواية مع وقوع الحدث التاريخي وإمكان وقوعها. وهو ما يتجاوز صدق الروايات في علم الحديث عن طريق الجرح والتعديل للرواة من أجل استنباط الأحكام علي نحوٍ إنشائي لغوي، في حين أن صدق الروايات التاريخية من حيث الإمكان والاستحالة على نحوٍ خبري وإصدار الأحكام بالصدق والكذب.

ومن هنا لزم العمران البشري لمعرفة طبائع العمران. وهو الواقع التاريخي الذي تتم مطابقة الروايات التاريخية عليه، وهو علمٌ مستقل بنفسه ذو موضوع هو العمران البشري والاجتماع الإنساني. وهو علمٌ جديد يتجاوز علم الخطابة وعلم السياسة المدنية؛ فالخطابة تحليل للرواية والخطاب، والسياسة المدنية تدبير المنزل والمدينة بمقتضى الأخلاق والحكمة من أجل حفظ النوع والبقاء كما هو الحال عند الفارابي.٦٩
ولا تنفصل فلسفة التاريخ عن باقي العلوم الإسلامية لأنها أحد مُكوناتها. لا تنفصل عن علم الكلام والفِرق الإسلامية ليس فقط النبوة في قصص الأنبياء، بل أيضًا حكاية الخلق والبعث والإيمان والعمل والإمامة، وموقف الفِرق الإسلامية منها. فشرط الإيمان الصحيح العمل الصالح كما قال القرآن لنوح بصدد ابنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. وكما قال الرسول لفاطمة: «يا فاطمة، اعملي فلن أُغْني عنك من الله شيئًا.»٧٠ وهو ما أثبته أيضًا علم أصول الفقه في إثبات اللغات وحاجة البشر إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع، وتعليل الأحكام بالمقاصد مثل الزنا وخلط الأنساب وإفساد النوع مثل القتل، وإيذان الظلم بخراب الديار؛ فالمقاصد الشرعية بدايات علم العمران.
ويُحيل ابن خلدون إلى المُتكلمين، معتزلة وأشاعرة؛ فالمعتزلة يُنكرون الكرامات لأنها ليست من أفعال العباد، ويُنكرها الأشاعرة كدليل على صدق النبوة لأنها إن صدقت تتطلب التصديق والهداية واختلطت بالمعجزة. ويُنكرون الإمامة مثل الأصم وبعض الخوارج؛ إذ لا مستنَد لها من العقل والشرع، ويكفي تطبيق الشرع ومبادئ العدل، في حين تجعل الشيعة الإمامة بالتعيين، وهي ركن الدين وقاعدة الإسلام. ٧١
ويؤيد ابن خلدون موقف الصوفية من الجوع الذي لا يؤدي إلى التهلكة، ويرفض رأي الأطباء من أن الجوع مُهلِك.٧٢ ويُفرق المتصوفة بين خوارق الأنبياء العظمى وكرامات الأولياء الصغرى التي تقتصر على الإخبار بالمستقبل. ومن الصوفية قوم بلاليل معتوهون أشبه بالمجانين منهم إلى العقلاء، صحَّت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين. وأهل الذوق منهم غير مكلَّفين، يُخبرون عن المغيَّبات، ويُطلقون كلامهم في شطحات ولا يتقيدون بشيء، ويقولون بسقوط التكاليف عنهم. وهو غلط؛ لأن الولاية لا تصلح إلا بالعبادة.
وبالرغم من مُعاداة ابن خلدون للفلسفة إلا أنه يعتمد على آراء الحكماء في السياسة المدنية، وأن الإنسان مدني بالطبع، يجتمع في مدينة، وهو معنى العمران.٧٣ وما عناه ابن خلدون بالعمران البشري الذي لا بد له من سياسة لينتظم بها أمره بوازع من حاكم يرجع الناس إليه ومستندًا إلى شيء أو إلى سياسة عقلية تعرف المصالح العامة ثوابًا في الدنيا والآخرة أو نفعًا في الدنيا فقط. هو ما عناه الحكماء باسم السياسة المدنية وهي قوانين مراعاة المدينة الفاضلة.٧٤ وقد أخطأ ابن رشد عندما اعتبر نزول قوم بمدينة كافيًا في تكوين مجتمع؛ لأنه تربَّى في بلد لم تعرف العصبية، وذلك في تلخيص الخطابة في ذكره الحسب. ومن الحكماء يستشهد بابن سينا الطبيب في أرجوزته في الطب على أن اللون تابع لمزاج الهواء. وينقد الكِندي في تفسيره خفة السودان وطيشهم وكثرة الطلب فيهم لضعف أدمغتهم، وما ينتج عنه من ضعف عقولهم. وقد نقله المسعودي أيضًا، وهو كلام لا محصل ودون برهان.

كما لاحظ الحكماء وجود حاسة طبيعية في الحيوان والحشرات مثل النمل والجراد، وهو الانقياد والاتباع لرئيسٍ مُتميز عنها في الخلقة، بالفطرة والخلقة وليس بالرؤية والسياسة. كما يعتمد على الحكماء في تقسيم أقاليم الأرض، ونسبة العمران في كلٍّ منها، وفي أن الربع الشمالي أكثر عمرانًا من الربع الجنوبي لإفراط الحر وقلة ميل الشمس. ويعتمد على الفلاسفة في أن الطبيعة جبلَّة في الأجسام. لما خلق الله العالم كانت في تمام الكرة ونهاية القوة (الكمال)، وكانت الأعمار أطول، والأجسام أقوى. وهو رأيٌ يقوم على التحكم وليس على علةٍ طبيعية. وليس المطلوب الإمكان العقلي، بل الإمكان المادي.

بل اعتمد الفلاسفة على ذلك لإثبات النبوة بالدليل العقلي، والاعتماد على حاجة البشر للحكم الوازع، وهو لا يكون إلا بشرع من الله مُبلغ إلى واحدٍ مُتميز عنهم. وهي قضيةٌ غير برهانية في رأي ابن خلدون؛ فقد يتم ذلك بما يفرضه الحاكم أو بالعصبية؛ أي بالملك والعصب؛ ومن ثَم يغلط الحكماء في محاولة إيجاد دليل عقلي على النبوة؛ لأن مدركها الشرع كما هو مذهب أهل السلف من الأمة. ويذكر رأي الحكماء في الخوارق؛ فالخارق من فِعل النبي خارج فعل القدرة بناءً على مذهبهم في الإيجاب الذاتي، ووقوع الحوادث بعضها عن بعض مُتوقف على الأسباب، والشروط الحادثة مستندة إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار. كما ذهب بعض الحكماء إلى أن النور الأعظم مع النبوة ينقطع؛ لأن كل نبوة تقتضي وضمًا فلكيًّا معينًا.

لم يعتمد ابن خلدون على اليونان؛ فالكتاب المنسوب إلى أرسطو في السياسة المتداول بين الناس فيه جزءٌ صالح، والباقي غير مُستوفٍ ولا مُعطًى حقه من البراهين، ومختلط بغيره. استفاد من حكماء الفرس، الموبذان وأنوشروان مثل: «العالم بستان، سياجه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسةٌ يسوسها الملك، والملك نظامٌ يعضده الجند، والجند أعوانٌ يكفلهم المال، والمال رزقٌ تجمعه الرعية، والرعية عبيدٌ يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم؛ فهي ثماني قواعد.»٧٥

ومع ذلك فقد كان لدى ابن خلدون إحساس بالجدة في تأسيسه للعلم الجديد بالرغم من كثرة مصادره وإحالاته؛ فقد نشأت فلسفة التاريخ عنده «من غير تعليم أرسطو ولا إفادة الموبذان». وفاقد الشيء لا يُعطيه. اعتمد ابن خلدون على مصادر داخلية خالصة مثل ابن المقفع وآرائه السياسية، والطرطوشي في سراج الملوك الذي اتبع ابن خلدون ترتيبه، مع أنه «لم يُصادف فيه الرعية ولا أصحاب المشاكل، ولا استوفي المسائل، ولا أوضح الأدلة». ويستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلماتٍ مُتفرقةً عن حكماء الفرس مثل برزجمهر والموبذان، وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس. ولا يكشف عن التحقيق، ولا يعتمد على البراهين، نقل وركب المواعظ. حوَّم عن الغرض ولم يُصادفه أو يتحقق من قصده إذا استوفى مسألة. وقد ألهم الله ابن خلدون مقدمته إلهامًا؛ فالعلم إما النقل أو الإلهام. وكأنه لا يوجد تراكمٌ تاريخي طبيعي أدَّى في النهاية إلى تأسيس فلسفة في التاريخ في نهاية المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية في القرون السبعة الأولى.

وبتحليل مضمون عناوين الأبواب والفصول لمعرفة أهم الألفاظ المُكونة لفلسفة التاريخ عند ابن خلدون، تتصدر الدولة فردًا وجمعًا؛ ففلسفة التاريخ هي حياة الدولة، قيامها وانهيارها، ثم بعد ذلك يأتي لفظ الملك؛ فالدولة هو نظامها السياسي، ثم الأمصار؛ أي البقاع والأماكن والمناطق والبلدان والأقاليم، ثم العمران، خاصةً العمران البشري؛ أي مظاهر الحياة الإنسانية من وجود الكسب والصنائع والعلوم والبنيان والهياكل، ثم العصبية مُحرك التاريخ وتماسك المجتمع، ثم البدو مع البادية والبوادي والبداوة مع الحضارة والحضري والحواضر، ثم تظهر ألفاظ الأمة والأمم، والقبيل والقبائل، والأوطان، والبشر، والأقطار تُبين حجم التجمع البشري، ثم المدن والاجتماع عن التجمعات البشرية وأنواعها وأحجامها. وأخيرًا تظهر ألفاظ السلطان والخلافة والإمامة والرئاسة والحسب والنسب والسياسة مع الجيل والأجيال لتُبين قمة النظام السياسي وبؤرته، كما هو الحال عند الفارابي. ومن الشعوب يتكلم عن العرب واللسان العربي ولغة العرب وأشعار العرب، والعربية في مُقابل باقي الشعوب، مثل العجم والبربر ومن عاصرهم من النبط والسريان والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة. وتعرَّف بعد رحلته إلى الشرق على أخبار العجم مُقارنًا المشرق بالمغرب.٧٦

وذلك كله أقرب إلى الضرورة منه إلى الحرية، لا فرق بين الضرورة الدينية والضرورة الطبيعية؛ فإرادة الله هي سنن الكون. فمن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام؛ فالعالم لا يستقرُّ على وتيرةٍ واحدة، بل يتغير ويتبدل في الأشخاص والأوقات والأمصار، وهي السنن الكونية سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا. ومن الأغاليط الغفلة عن طبائع الأكوان وتبدل الأعقاب، مثل استيلاء الدول المستجدة على الدول المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة، وقوانين الطب والمجتمع والبدو والحضر والكسب والمعاش.

وهي سننٌ مُطردة في التاريخ تنطبق على كل الأمم والدول، مثل قيام الدولة وانهيارها سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وهي نفس السنن في الدنيا والآخرة؛ فالآخرة استمرار لقوانين وتحصيل نتائجها سنة الله في الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين.

وفي شرح انهيار دولة بني إسرائيل يستشهد بآية وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ.

فالله هو مُحرك التاريخ، ومُقيم الدول ومُسقطها إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ، وذلك من خلال عقد العصبية أو حلها، البقاء في البدو أو التحول إلى الحضر. وكما يُقدر الله الليل والنهار «وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»، وهو الواحد القهار لا شريك له، يُقدر أعمار الدول قيامًا وقعودًا، نهضة وسقوطًا.٧٧
وهو الذي يُقدر أفعال البشر وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، كما هو الحال عند الأشعرية المُتاخمة للجبرية. وهو الذي يقبض ويبسط، يخلق ما يشاء ويختار، وهو العليم القدير. خلق كل شيء ثم هدى. وهو الذي خلق السموات والأرض وسخَّر البحر والفلك والأنعام، واختلاف الألسنة والألوان، وهو الخلاق العليم. وهو الذي يخلق من الطين كهيئة بإذنه، وينفخ فيه فتكون طيرًا. فالله وراء المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع، وكل ما يفعله البشر في العالم. والله هو الغني، والناس هم الفقراء.٧٨

ما يحدث في التاريخ من حياة أو موت للأفراد والشعوب يقع بإرادة الله، وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ. ومع ذلك فالإنسان يأكل من عمل يده كما قال الرسول: «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت، لم ينتفع به في شيء.»

وقيام الدولة وسقوطها موضوع علم الجفر والحدثان. وهو علمٌ يقوم على أساسٍ نفسي؛ فمن خواص النفوس البشرية التشوق إلى معرفة عواقب أمورهم من حياة وموت وخير وشر، والحوادث العامة مثل بقاء الدنيا وعمر الدول. حاول ذلك الكهان في أخبارهم والرَّاءون في أحلامهم بناءً على طلب السوقة والملوك. وقد أصبح ذلك صفة في المدن، وممارسات شعبية مثل ضرب الودع والخط على الرمل وضرب الحصى والحبوب وقراءة الفنجان والنظر في المرايا والمياه، وهو ضرب المندل. ويطلبه خاصة من النسوان والصِّبيان وضعاف العقول. وقد ذمَّته الشريعة؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله، أو ما أطلع عليه الأنبياء والأولياء. ويتطلع إليه الملوك والأمراء لمعرفة مستقبل دولهم، ويُسمى حينئذٍ الحدثان. وقد كان في العرب كُهان وعرَّافون يُخبرون بأعمار الدول، وفي الحديث: «إن فيكم مُحدَّثين.» وتُرجمت كتبٌ مُماثلة تحتوي على كلام المُنجمين والقرانات والطوالع وعلم التنجيم، واعتمد المؤرخون على ذلك للتنبؤ بأعمار الدول اعتمادًا على المنقول، مثل القول بأن بقاء الدنيا خمسمائة سنة، وهو كذب دون تأويل وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. وفي الأحاديث: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشمس.» ربطًا بين أعمار الأفراد وأعمار الأجيال. وأيضًا: «بُعثت أنا والساعة كهاتَين.» وأشار بالسبَّابة والوسطى. وأيضًا: «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم.» لمزيد من التوبة، إشارةً إلى قِصر مدة الدنيا من أجل الحث على العمل. وقد ساهم حساب الجُمل لأوائل حروف السور على ذلك، وهي من المتشابهات مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ. ويُروى أن الرسول قام خطيبًا وما ترك شيئًا يقع حتى قيام الساعة إلا وأخبر أصحابه به؛ مما يدل على الهداية وليس على وقائع التاريخ.٧٩

ويتم الاعتماد أيضًا على كتاب «الجفر» الذي دُوِّن فيه كل شيء عن طريق الآثار والنجوم. ويُروى أنه كان مع الزيدية، ومنسوب إلى جعفر الصادق، ويتضمن علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص عن طريق الكرامة والكشف. وسُمي الجفر باسم الجلد؛ لأن الجفر في اللغة هو الصغير. وكان يتضمن تأويلًا باطنيًّا للقرآن. ومنها أحاديث المهدية وآخر الزمان في مجتمعات الاضطهاد. وقد ساهم الكِندي مُنجم الرشيد في ذلك حتى في ملك العرب وكميته، وسُمي «الجفر الصغير»، ويُسمى أيضًا «الملاحم». ويُطلقه العامة على الحاضر والمستقبل، ويُصاغ ذلك نثرًا وشعرًا لأنه جزء من الثقافة الشعبية وسير الأبطال.

(ب) طبائع العرب

ولا تنفصل فلسفة التاريخ عند ابن خلدون عن طبائع الشعوب، خاصةً العرب والعجم والبربر.

فجيل العرب في الخلقة طبيعي لا بد منه في العمران؛ فالعرب جزء من تطور التاريخ البشري وأحد مراحله؛ أي سكان البادية. يقتصرون على الضروري من إشباع الحاجات الأساسية دون التحسينات والكماليات. والعرب أشد الشعوب بداوةً، ومُختصُّون بالقيام على الإبل، في حين تقوم باقي الشعوب على الشاه والبقر مثل البربر والأعاجم والترك والتركمان والصقالبة والأكراد بالمشرق.

والصريح من النسب إنما يوجد للمُتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم؛ فالأنساب والتوحش والقفر مقرونٌ ذلك كله بالعرب، وهو أحد مظاهر التجمعات البشرية الأولى، وهو ما زال قائمًا حتى الآن في الكنية والتسمية بأسماء الأسر؛ وذلك لما اختصُّوا به من نكد العيش ومشقَّة الأحوال وسوء المواطن ورعاية للإبل. أما باقي العرب في الشام فاختلطت الأنساب بالتلول والمراعي لاتساع الرزق وتنوُّع المراعي.٨٠

والعرب لا يتغلبون إلا على البسائط؛ لأنهم بطبيعة التوحش أهل انتهاب وعبث من غير مُغالبة أو ركوب أخطار يفرُّون إلى مُنتجَعهم بالقفر، ولا يذهبون إلى المزاحمة والمحاربة إلا دفاعًا عن مَعقلهم وعن أنفسهم، ويُغيرونه إذا كان صعبًا في الدفاع عنه، والقبائل في بطون الجبال بمنأًى عنهم. أما على البسائط فهم أقدر بفقدان الحامية وضعف الدولة. هي نهب لهم وطعمة، يغارون عليها لسهولتها إلى أن يتغلبوا على أهلها، ويتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم.

والعرب إذا تغلَّبوا على أوطانٍ أسرع إليها الخراب؛ لأنهم أمةٌ وحشية باستحكام عوائد التوحش حتى صار لهم خلقة وجبلَّة بعد أن كان ملذوذًا لما فيه من الخروج على الحكام وعدم الانقياد للسياسة، وهي طبيعةٌ مُنافية للعمران. غايتهم الرحلة والتغلب وهو يُنافي السكون. والاستقرار شرط العمران. ينقلون الأحجار من المباني والأخشاب من السقوف، والبناء أصل العمران. وفي طبعهم انتهاب ما بين أيدي الناس دون حد. رزقهم في أسنَّة رماحهم، فبطلت سياسة حفظ أموال الناس وخرب العمران. ولا يُعطون للصنائع أي قيمة، وهي أصل المكاسب والمعاش، ولا يعتنون بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد، ويفرضون الغرامات والأموال دفاعًا عن أموالهم وحبًّا في الجباية. وهم أقرب إلى الفوضى منهم إلى الحكم، والفوضى المهلكة للبشر المفسدة للعمران، وهم مُتنافسون في الرئاسة ولو كان الآباء والإخوة أو رؤساء العاشر، إلا في حالاتٍ نادرة يغلب عليها الحياء؛ فتكثر الأحكام، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، ويفسد العمران. والأمثلة على ذلك في اليمن والعراق والشام وإفريقية والمغرب والسودان. ولم يضرب المثل بمصر بدولتها المستقرَّة عبر التاريخ.٨١

والعرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغةٍ دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ وذلك لأن توحُّشهم جعلهم أصعب الشعوب انقيادًا، ولما فيهم من غلظة وأنفة وبُعد الهمة والمنافسة على الرئاسة وتضارب أهوائهم؛ فالدين وازعٌ قوي ليسهل انقيادهم وجمع كلمتهم، وأن يتم ذلك بأمر الله ليُذهب عنهم الخلق الذميم، ويتحلَّوا بالخلق الكريم، وتحويلهم من قبائل مُتباغضة إلى دولة وملك. وهم أسرع قبولًا للحق لسلامة الطبع وبراءة الذمة والفطرة الأولى، وكل مولود يُولَد على الفطرة.

والعرب أبعد الأمم عن سياسة الملك؛ لأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد في القفر وأغنى عن حاجات الوديان والتلال، فاستغنَوا عن غيرهم، وصعب انقياد بعضهم لبعض، ولم يجدوا أمامهم إلا العصبية لإيلافهم للدفاع بها عن النفس. وتقتضي سياسة الملك وازع القهر حتى لا يأخذوا ما في أيدي الناس، فإذا ملكوا أمةً انتقموا منها، وأخذوا ما في أيديها، وأكثروا من الجبايات وتحصيل الفوائد؛ فتنمو المفاسد، وينشأ الخراب، وتعمُّ الفوضى في الأمة؛ لذلك بعدت طباع العرب عن سياسة الملك، ولزم تغيير طباعهم بسياسةٍ دينية، وتحويل دولتهم إلى ملة، وارتباطها بالشريعة المُراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا. فلما نبذوا الدين نسوا السياسة، ورجعوا إلى قفرهم، وجهلوا عصبيتهم، وبعدوا عن الانقياد والنصَفة، وعادوا إلى التوحش الأول. ولم يبقَ لهم من الملك إلا ذكريات الماضي، وأنهم من جنس الخلفاء. ولما انتهت الخلافة ضاع الأمر كله، وغلبهم العجم. ولما نسوا الدين رجعوا إلى أصلهم من البداوة. وقد يحصل لهم أحيانًا غلبة الدول المستضعَفة في المغرب، فيُخربون ما يستولون عليه من العمران. والأمثلة على ذلك كثيرة من تاريخهم، دول عاد وثمود والعمالقة وحِمير والتبابعة، ومضر في الإسلام وبني أمية وبني العباس.٨٢

والعرب أبعد الناس عن الصنائع؛ لأنهم أعرق في البدو، وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع، في حين أن العجم في المشرق وأمم النصرانية وراء البحر الرومي أقدر الناس عليها؛ لأنها أعرق في العمران الحضري، وأبعد عن البداوة، ليس لديهم إبل أو مَراعٍ أو رمال؛ لذلك استورد العرب الصنائع من الأمم الأخرى، العجم والصين والهند والترك. والبربر مثل العرب لرسوخهم في البداوة وقلة الأمصار في قطرهم باستثناء صناعة الصوف والجلود. وفي حين رسخت الصنائع في فارس وعند النبط والقبط وبني إسرائيل واليونان والروم، أما شعوب شبه الجزيرة العربية فإذا ملكتهم شعوب الحضارة أصبحوا مثلها، وإذا ملكهم العرب قلَّت فيهم الصنائع.

ومع ذلك فللعرب لغتهم وشعرهم، لغة العرب مُستقلة مُغايرة للغة مضر وحمير؛ فالدلالة والتركيب مختلفان في اللسانَين، وكذلك القدرة على الاختصار والتركيز؛ لذلك قال الرسول: «أُوتيت جوامع الكلم، واختُصر لي الكلام اختصارًا.» وقد دسَّ التشيع مقالة نهاية بلاغة العرب، في حين قد حفظها القرآن والحديث.

واللسان المُضري غير صناعة العربية ومُستغنية عنها؛ لأن صناعة العربية في معرفة قوانينها ومقاييسها، وهي قوانين الأعراب التي وضعها سيبويه في كتابه مع الشواهد العربية، وحصول ملكة اللسان بكثرة حفظ الشواهد حتى يرتسم في ذهنه القانون.٨٣

وكما أن العرب أهل لغة فإنهم أيضًا أهل شعر مثل باقي الأمم الأعجمية، فارس واليونان، لا فرق بين عرب عاربة ومُستعربة. وقد أبدع أهل الأندلس الموشَّحات والأزجال نظرًا لاختلاف الألسنة والألوان، «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ».

والنبوة تحتاج إلى عصبية أو ثروة طبقًا لحديث: «ما بعث الله نبيًّا إلا في منعة من قومه.» وفي روايةٍ أخرى: «في ثروةٍ من قومه.» والعصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه. وقد يقع اختلاط في الأنساب عن طريق القرابة أو الحِلف أو لولاء أو لفرار من قومه لجنايةٍ ارتكبها.

والغاية من العصبية الملك. والملك والدولة العامة يحصلان بالقبيل والعصبية. أما إذا استقرَّت الدولة وتمهَّدت فقد تستغني عن العصبية. وقد ظنَّ الطرطوشي أن الجند هم حماة الدولة بإطلاق بما فيهم المرتزقة، ولم يفطن إلى كيفية الأمر منذ أول الدولة، وأنه لا يتم إلا لأهل العصبية. وقد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولةٌ تستغني عن العصبية.

والدعوة الدينية تزيد في أصلها قوةً على قوة العصبية؛ فالدولة أساسها الدين أو العصبية، والدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، والدولة العامة الاستيلاء العظيم الملك أصلها الدين، نبوة أو دعوة حق.٨٤
ولا تكون الرئاسة إلا في أهل العصبية، ولا تكون في غير نسبها. وشرف الموالي وأصل الاصطناع بمواليهم لا بأنسابهم. ويستظهر صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين، وهو أشبه بالمرتزقة اليوم أو الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو الأسرة أو جماعات الضغط أو رجال الأعمال أو شركات توظيف الأموال التي تُضحي بالوطن في سبيل «الشلة»، وتُضحي بالجماعة الكبيرة في سبيل الجماعة الصغيرة. ويتفاوت الموالي في الالتحام بالدولة وصاحبها؛ فالولاية والرق تقوم بدور العصبية، وعادةً ما يكون ذلك في آخر الزمان عندما تضعف العصبية.٨٥ ويستعين الملك بالوزير كما هو الحال في آية وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. وقد يقع السلطان في يد البلاط، جماعة أو فردًا، وبدلًا من أن يستبدَّ السلطان بهم يستبدُّون هم بالسلطان كما حدث في ثورة البرامكة. ومع ذلك فالمُتغلبون على السلطان لا يُشاركون في اللقب الخاص بالملك، بل يسلبون وظائفه وسلطاته. يأخذون المضمون منه، ويستبقون الصورة والأشكال والرسوم والألقاب له.٨٦
والعصبية لفظٌ قرآني لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ، وتنصُّ عليها السنة؛ فالبيت بالشرف والأصالة والحقيقة لأهل العصبية، ويكون لغيرهم بالمجاز والتشبيه اعتمادًا على حديث: «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.» في الجاهلية بلا شرط، وفي الإسلام بشرط الفقه؛ أي العلم. وأيضًا: «ما بعث الله نبيًّا إلا في منعة من قومه.» فالعصبية حامل الدين. وتتم العصبية بتدخلٍ إلهي لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.٨٧
وفي نفس الوقت يُبين ابن خلدون موقف الشرع من رفض العصبية وذمها طبقًا لحديث الرسول: «إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. أنتم بنو آدم، وآدم من تراب.»٨٨ كما يُبين القرآن أنه لا نفع في الأرحام لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.
ويتكلم عن العرب ولغة العرب وأشعار العرب واللسان العربي، كما يتحدث عن الملة الإسلامية والأمصار الإسلامية وحمَلة العلم في الإسلام، وأحيانًا يذكر الأمصار والدول والمدن والأقاليم دون صفة عربية أو إسلامية. ويُخصص آخر جزء من المقدمة في علوم اللسان العربي، علم النحو، وعلم اللغة، وعلم البيان، وعلم الأدب. واللغة ملَكةٌ صناعية. ثم يصف لهجات العرب ولغاتهم، لغة مضر وحمير، وأن لغة أهل الحضر والأمصار قائمة بذاتها، وكيفية تعليم اللسان المغربي، وهي غير صناعة العربية ومُستغنية عنها في التعليم. ولا يُحصل المُستعربون من العجم الذوق ولا يتحققون من معناه كما يفهم أهل البيان، ويقصر أهل الأمصار عن تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تُستفاد بالتعليم، ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها أصعب وأيسر. وينتقل الكلام العربي إلى فن النظم والنثر، ولا يمكن الجمع بين الإتقان في كليهما إلا للأقل. ويصف ابن خلدون صناعة الشعر ووجه تعلُّمه. وصناعة النظم والشعر في الألفاظ لا في المعاني. وتحسن الملكة بجودة الحفظ، ويقبح فيها الانتحال.٨٩
ويوجد العرب في الإقليم المُعتدل؛ فهم أعدل أجسامًا وألوانًا وأخلاقًا وأديانًا. ظهرت النبوة فيهم؛ فالنبوات لا تظهر إلا في الأقاليم المُعتدلة. وهذا هو معنى آية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.٩٠
ولا يُشير ابن خلدون إلى شعوبٍ أخرى بالرغم من أن العنوان يتضمن العرب والبربر، ولكن في تحليلاته يُقارن العرب بشعوب المغرب العربي والمشرق العربي والشمال عند القوط والفرنجة في إطارٍ مقارن.٩١وتتعدد الشعوب والألوان والألسنة دون وقوع في خصائص ثابتة للشعوب وميزات للآباء؛ فهذه من الأغاليط الناتجة عن الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات، وأنها كلها تتبدل في الأعقاب ولا تستمر.٩٢ ويُشير ابن خلدون إلى العجم وهو المغربي القادم إلى الشرق؛ فالذوق العربي لا يحدث للمُستعربين من العجم.٩٣ ويتقدم أهل الفرس؛ فقد كان أكثر حمَلة العلم منهم، وطبقًا لحديث: «لو تعلَّق العلم بأكتاف السماء لناله قوم من أهل فارس.»٩٤

(ﺟ) قيام الدول

والملك مَطلبٌ طبيعي للإنسان؛ لأنه يُمثل نشأة السلطة نشأةً طبيعية في المجتمع لمنع التنازع بين الأفراد وتحقيق الصالح العام، وهو ما أكَّده الشرع.٩٥ ومن طبيعته الانفراد بالمجد والتسلط.٩٦
وتقوم الدولة بالوحشية؛ فإذا كانت الأمة وحشية فإن ملكها أوسع. وهو قانونٌ تاريخي للإظهار والانتصار لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ؛ فالأمم الوحشية أقرب على التغلب عمن سواها.٩٧ ومع ذلك كل دولة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها طبقًا لامتدادها الطبيعي وما تستطيع أن تُسيطر عليه؛ لذلك قلَّ أن تستحكم دولة في الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب.٩٨ كما أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمرها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة؛ فاتساع الدولة ليس فقط مشروطًا بالمساحة، بل أيضًا بالسلطة وقدرتها على الاستيعاب؛ مرةً من الرعية، ومرةً من الراعي. وآثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها. الحضارة في الأمصار من قبل الدولة، وترسخ باتصال الدولة ورسوخها.٩٩
ومن دعائم الملك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، «من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.» ومن علاماته أيضًا التنافس في الخلال الحميدة؛ فالملك طبيعي في الإنسان، والإنسان أقرب إلى الخير منه إلى الشر لقوته الناطقة.١٠٠
وتقوم الدولة بالملك، الخلافة والإمامة؛ أي بالسلطة المركزية؛ لذلك أقرَّها الشرع من ضِمن سننه، بل إن الخلافة هي الغاية من الخلق، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، ولفظ الخليفة لفظٌ قرآني إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وهذا هو لبُّ القصيد في المقدمة ومركزها.١٠١

وإقامة السلطة من الشرع وبمقتضى سنته، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ مِنْ نُورٍ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ، وقد طلب سليمان من الله الملك، رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا.

ويُجازى الناس على أعمالهم، الراعي والرعية، «إنما هي أعمالكم تُرَد عليكم.» فالغاية من الدنيا هي الآخرة يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.١٠٢ ومن مُقتضيات الملك الطاعة لأولي الأمر، وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
وبالإمامة تتحقق مصالح الأمة المُفوضة إلى نظر الخلق. الإمامة في قريش عند البعض استنادًا إلى حديث: «الأئمة من قريش.» ويُنكر البعض الآخر شرط القرشية، «اسمعوا وأطيعوا وإن وُلي عليكم عبدٌ حبشي ذو زبيبة.» بينما الإمامة عند الشيعة بالنص والتعيين، وهو معنى أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وهو علي بن أبي طالب.١٠٣

وإذا كانت حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع مُتصرف في الأمرين؛ في الدين بمُقتضى التكاليف الشرعية، وفي الدنيا برعاية المصالح في العمران البشري. والخطط الدينية الشرعية هي الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة، وكلها مُدرَجة تحت الإمامة الكبرى، وهي الخلافة، وتصرُّفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية. والعدالة وظيفةٌ دينية تابعة للقضاء، والسكة النظر في النقود المُتعامَل بها بين الناس. أما وظائف الإمارة والوزارة والحرب والخراج فصارت وظائف سلطانية. ويُلاحظ ابن خلدون أن وظيفة الجهاد بطلت ولا تُمارسها إلا بعض الدول القليلة!

ولقب أمير المؤمنين من سمات الخلافة، وهو مُحدَث في عهد الخلفاء. ومن أجل المقارنة يشرح ابن خلدون اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية، واسم الكوهن عند اليهود، ثم يعود إلى مراتب الملك والسلطان وألقابها؛ الوزارة والحجابة، وديوان الأعمال والجبايات، وديوان الرسائل والكتابة، وقيادة الأساطيل. وتتفاوت مراتب السيف والحكم في الدول. وللملك والسلطان شاراتٌ خاصة، مثل الآلة ونشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون والسرير والمشير والتخت والكرسي والسكة والخاتم والطراز والفسطاط والسياج والمقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة.١٠٤
والحروب طبيعة في البشر واقعة في دولة الخلافة، غيرةً أو منافسة أو عدوانًا أو غضبًا لله والدين أو غضبًا للملك وسعيًا لتمهيده.١٠٥ فالحروب أربعة أنواع؛ الأول ما يجري بين القبائل المُتجاورة والعشائر المُتناظرة. والثاني العدوان بين الأمم الوحشية الساكنة في القفر. والثالث المسمَّى في الشريعة الجهاد. والرابع حروب الدول مع الخارجة عليها والعاصية لها. الأولان حروب بغي وفتنة، والأخيران حروب جهاد وعدل. والحروب ضربان؛ إما الزحف أو الكر والفر. وقد تقلُّ الجباية وتكثر. وفي أواخر الدولة تزداد المكوس، وتكون إيذانها بنهايتها. والتجارة من السلطان مضرَّة بالرعايا ومفسدة للجباية؛ لأنه في مركز سلطة، ولا تُجمَع السلطتان السياسية والاقتصادية. وتكون ثروة السلطان وحاشيته في وسط الدولة وهي في ذروتها. وينشأ نقص العطاء من السلطان بسبب نقص الجباية.
وتوجد الدول من المدن والأمصار ثانية عن الملك؛ فالملك يدعو إلى نزول الأمصار. ويُشبه الملك الكبير المدن العظيمة والهياكل المُرتفعة. ولا تستقيم دولةٌ واحدة ببناء الهياكل العظيمة. وتجب مراعاة أوضاع المدن حتى لا يذهب البنيان. وهناك مساجد وبيوتٌ عظيمة في العالم مثل البيت الحرام بمكة والقدس الشريف. والمدن والأمصار بأفريقيا والمغرب قليلة، كما أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها وإلى كل من قبلها من الدول. وتتفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها ونفاق الأسواق، وهو تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة؛ لذلك يحتاج المُتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة لما يتطلب العقار والضياع، بناءً وحفظًا، من مالٍ وفير.١٠٦ يتآتل العقار والضِّياع في الأمصار وحال فوائدها ومستغلاتها. ولا يكون التآتل دفعةً واحدة ولا في عصرٍ واحد.
وفي المدن تتحدد أسعار البضائع في الأسواق والأقطار في اختلاف أموالها بالرفقة والفقر في الأمصار. وتختصُّ بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض.١٠٧ والتجارة محاولة للكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالأجل، وقد تقوم على الغش والتطفيف المُجحف بالبضائع والمُضلل في الأثمان، والجحود والإنكار لرأس المال، وعدم التقيد بالكتابة والشهادة. أهل النصَفة من التجار قليل؛ لذلك كانت خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك، بعيدة عن المروءة. وتتَّسم بها أخلاق الطبقة السفلى مثل المناحكة والغش والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان ردًّا وقبولًا. والتاجر البصير لا ينقل من السلع إلا ما يحتاج إليه، والاحتكار مشئوم، ويعود على المُحتكر بالتلف والخسران. ورخص الأسعار مُضرٌّ بالمُحترفين، في حين أنه نافع للمُستهلكين.١٠٨
والفلاحة من أحطِّ الأعمال طبقًا لحديث: «ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل.» إشارةً إلى المحراث، بل إن الغناء له حكمٌ شرعي في حديث: «لقد أُوتيَ مزمارًا من مزامير داود.» ويعني حسن الصوت وليس شرعية الغناء.١٠٩
والصنائع لا بد لها من العلم؛ فالصناعة ملَكة، وكمالها بالعلم، وتكمل بكمال العمران الحضري وكثرته. وقد تحصل ملكة الصناعة لصاحبها، وقلَّ أن يُجيد صناعةً أخرى. وأمهات الصنائع الضرورية في العمران الفلاحة والبناء والخياطة والتجارة والحياكة. والشريفة بالموضع التوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب. والصناعة تُكسِب صاحبها عقلًا، خصوصًا الكتابة والحساب.١١٠ ورسوخ الصنائع في الأمصار يكون برسوخ الحضارة وطول أمده. وتُستجاد وتكثُر إذا كثُر طالبها. ويتكون المجتمع من طبقاتٍ مهنية؛ العامل وصاحب العمل، الرئيس والمرءوس، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وقد يكون ذلك دون أخلاق الخضوع والتملق.١١١ والكسب قيمة الأعمال البشرية؛ فالعمل مصدر القيمة بلغة المعاصرين.١١٢ ويكون السعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل والمعاش هو ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله، ويكون إما مغرمًا وجباية أو اصطيادًا أو فلحًا أو صناعة أو تجارة؛ فالمعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة. والإمارة ليست مذهبًا طبيعيًّا للمعاش، والفلاحة متقدمة على باقي وجوهه، وهي في معاش المُتضدعين وأهل العافية من البدو.
والخدمة ليست معاشًا طبيعيًّا مثل الجندي والشرطي والكاتب، يترفَّع عنها المُشرفون. والخادم قد يكون مُطلعًا موثوقًا به، أو مُطلعًا غير موثوق به، أو غير مُطلع موثوق به، أو غير مُطلع وغير موثوق به. والأفضل الأول على الإطلاق، ولكنه مُستغنٍ عن الخدمة؛ لأنه حينئذٍ يكون صاحب رياسة. والمُطلع غير الموثوق أرجح؛ لأن الحكمة إصلاح خيانته، وهو مثل النقاش الدائر في التفاضل بين أهل الحكم وأهل الخبرة. كما أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاشٍ طبيعي، أو هو ما يُعادل الميراث والنفط.١١٣
والجاه مُفيد للمال جمعًا بين السلطة والثروة، كما تحصل السعادة والكسب لأهل الخضوع والتملق؛ فالثروة إما من أعلى أو من أسفل. والعلماء والأدباء وأرباب القلم أقل الناس ثروةً في الغالب، باستثناء فقهاء السلطان أو المُتكسبين بالعلم من عامة الناس.١١٤
والعلم والتعليم طبيعي في العمران البشري، وهو من جملة الصنائع، وتكثُر العلوم حيث يكثُر العمران وتعظم الحضارة. ويصف ابن خلدون العلوم المُتراكمة في عصره، وهي عقليةٌ طبيعية في الإنسان أو نقلية. الأولى يهتدي بها الإنسان بفكره مثل علوم الحكمة، والثانية نقليةٌ وضعية مُستندة إلى الخبر والرواية إلا في فروعها، حيث يمكن استعمال القياس المستند إلى الخبر. والعلوم النقلية مثل علوم اللغة والقرآن والقراءة والحديث والتفسير والسيرة والفقه، وهو علم الفرائض. وعلم أصول الفقه هو الذي يجمع بين النقل والعقل، الاستدلال على الأحكام الشرعية من أدلتها اليقينية، وكذلك علم الكلام. ويعتبر ابن خلدون التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، أقرب إلى علم الأخلاق، وكذلك علم تعبير الرؤيا.١١٥
أما العلوم العقلية فهي علوم الحكمة، المنطق والطبيعيات والإلهيات والتعاليم والهندسة والحساب والفلك والموسيقى، وتشتمل أيضًا العلوم الطبيعية مثل الطب والفلاحة والكيمياء. وكما يُبطل الفلسفة ويُثبت فساد مُنتحليها، يُبطل صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها. ويُنكر ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها.١١٦ والعجيب وضع علوم السحر والطلسمات من ضمن العلوم، وهي علوم التأثيرات في عالم العناصر بمعين من الأمور السماوية.١١٧
ويُبين ابن خلدون مناهج التربية والتعليم وطرق تحصيل العلوم، ويجد أن كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل، وأن كثرة الاختصارات في العلوم مُخلَّة بالتعليم. ووجه الصواب في التعليم وتحقيق الفائدة منه أن يكون على التدريج، وألا يتم توسُّع الأنظار أو تفريع المسائل في العلوم الإلهية. ويتعلم الولدان القرآن في الصغر دون شدة؛ لأن الشدة على المُتعلمين مُضرَّة بهم. وحين الكبر تكون الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشايخ حتى يكمل العلم. والعجيب أن يجعل ابن خلدون أكثر العلماء من البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها، وهو غير مُطابق للواقع مع العياذ من علم لا ينفع.١١٨

(د) سقوط الدول

ولا تقوم الدول إلا لكي تسقط، ولا تتقدم إلا لكي تنهار، طبقًا للتصور المُنهار للتاريخ الذي تؤيده أحاديث، مثل: «خير القرون قرني والذي يلونه.» أو «الخلافة ثلاثون سنة ثم تعود ملكًا عضودًا.» فالملك غايةٌ طبيعية للعصبية ليس عن اختيار، بل عن ضرورة الوجود وترتيبه. وكل شريعة أو ديانة تُحال إلى الجمهور تقوم على العصبية كضرورة للملة.١١٩

والتدافع سنة الكون، صراع الممالك التي تُجسد صراع العصبيات، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. توجد العصبية في الأمصار، ويتقلب بعضها على بعض، وتنهار المجتمعات إذا انتهى الصراع، وآثَر قومٌ التخاذل والتخلف والارتهان إلى الأرض؛ لذلك نقد القرآن الخوالف والقاعدين والتثاقل كما فعل بنو إسرائيل قائلين لموسى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، وقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ؛ فالمذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم من عوائق الملك، مثل حرث الأرض وترك الفتح والجهاد في سبيل الله، كما قال الرسول لما رأى سكة المحراث في دور بعض الأنصار: «ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل.»

وقد انعكس هذا التصور الحركي للتاريخ على التصور النظري لله؛ فإذا كان التاريخ هو سنن الوقوف على عمر الحضارة والدولة فإن الله يدرك هذا التغير ويتابعه، «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ».١٢٠
وتقوم الدول وتنهار، وتنهض الممالك وتسقط، وتتصارع القبائل وتتزاحم، ويبقى الله؛ يرث الأرض ومن عليها، «والله وارث الأرض ومن عليها»، «والله خير الوارثين»، وهو الذي يؤتي ملكه من يشاء، وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ.١٢١
ويبدأ التقدم والانهيار معًا في التحول من حالة البداوة إلى حالة الحضارة. أجيال البدو والحضر طبيعية. والبدو أقدم من الحاضر وسابق عليه. والبادية أصل العمران، والأمصار مدد لها. والبدو أقرب إلى الخير والشجاعة من أهل الحضر. ولا يسكن الباديةَ إلا القبائلُ أهل العصبية، في حين أن الملوك في الأمصار والمدن هم مركز السلطة. وانتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة انتقالٌ طبيعي، هي أطوارٌ طبيعية للدول، ويقصر أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران.١٢٢
ومعاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم، ذاهبة بالمنفعة منهم، تذللًا للأحكام أو تجنبًا للرؤساء فتتكسَّر شوكتهم.١٢٣ ويتعود الناس على هذه الأحكام منذ الصبا ويتربَّون عليها؛ فهي أحكامٌ سلطانيةٌ تعليمية.

ومن عوائق الملك المَذلَّة للقبيل والانقياد إلى سواهم؛ أي بلغة العصر الاستعمار والغزو والسيطرة والأحلاف والتبعية السياسية والاقتصادية. وإذا غلبت الأمة وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء. ومن علامات الشعوب المغلوبة الاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده، إحساسًا منه بالنقص، ورغبةً في التفوق عليه. ومع ذلك البوادي من القبائل مغلوبون لأهل الأمصار؛ لأن عمران البادية ناقص عن عمران الأمصار.

وإرهاف الحد مُضرٌّ بالملك ومُفسد له في الأكثر؛ فمن مصلحة الملك القوة والسيطرة والشكيمة، والإضافة إليها وليس النقص منها حفاظًا على هيبتها. ولا يكون ذلك بالقهر والعقوبة حتى لا تتحول الرعية إلى نفاق في الظاهر وعداء في الباطن، فتتقلب عليه وتخذله في أوقات الشدة. قلة الإفراط في الذكاء أحد شروط الملك، والذكاء المُفرِط ضارٌّ به؛ لذلك قال الرسول: «سِيروا على سير أضعفكم.» فالكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة؛ لأنه إفراط في الفكر، كما أن البلادة إفراط في الجحود. والطرفان مذمومان، والتوسط محمود.١٢٤
ويقع الخلل في الدولة لعدة أسباب؛ فإذا كان الملك يقوم على الشوكة والعصبية، أي الجند والمال، فإن الخلل قد يعرض فيهما معًا. ويقع الخلل في العصبية عندما يجدع الملك أنوف عشيرته، فيُحيط بها القهر والترف. وقد يتحول القهر إلى القتل والتشريد والإهانة وسلب النعمة والترف، فتشتد العصبية؛ فالعصبية تشتد بالقرابة والرحم، والأمثلة على ذلك كثيرة من تاريخ العرب في الإسلام من الهند إلى الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا. أما خلل المال فإن الدولة تكون في بدايتها بدويةً ترفق بالرعايا، وتقتصد في النفقات، وتتعفف في الأموال، وتُقلل الجباية. فإذا ما عظم الاستيلاء واستعجل الملك أدَّى إلى الترف وكثرة الإنفاق لتعاظم نفقات السلطان، فيخلف الوهن بالدولة، ويتجاسر عليها أهل النواصي فتنحل، وتنتهي إلى الهلاك. والترف قد يزيد الدولة في أولها قوة، قوة التسهيلات المادية. وتوجد وفرة في العمران آخر الدولة، وتقع فيها كثرة الموتان والمجاعات. ١٢٥

وإذا تحكَّمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والبدعة، أقبلت الدولة على الهرم كالأشخاص؛ فالدولة تقتضي الانفراد بالمجد، فيتكاسل باقي العصبة، ويرثون المذلة والاستعباد، ثم يُربَّى الجيل الثاني على الهِبة والعطاء وتهن الدولة، وتضعف الشوكة، ويهلك الفقير والمترف، ويقلُّ الغزو، وتبدأ الانقلابات حتى يأذن الله بالفناء. وهو نتيجةٌ طبيعية للترف. وينتج أيضًا عنها الراحة والدعة التي تُساعد على نهاية الدولة. والأمثلة كثيرة من التُّرك والمماليك والمُوحدين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويقع الخراب في الأمصار؛ إذ يبدأ العمران بمساكن قليلة وبناء من الحجر والجير قبل الزليج والرخام والزجاج والصدف والفسيفساء، ثم يعود العمران كما كان أولًا يدويًّا بدائيًّا حتى تخرب القصور.

والأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها؛ إذ تشهد الصنائع بعظم الحاجة إليها وكثرة الطلب عليها، فإذا ما تناقص الطلب وقلة الحاجة وتم الاقتصار على الضروري تذهب الصنائع، ويختفي الصناع النقاشون والصواغ والكتاب والنساخ، وكما انقضت دمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة العباسيين، والقاهرة عاصمة الفاطميين والأيوبيين والمماليك. وإذا ما قاربت الأمصار الخراب انقضت منها الصنائع؛ فالعلوم لا تكون إلا في وقت قيام الدول وأسباب نهضتها. ١٢٦
وتنهار المجتمعات إذا ما فسدت أخلاق الطبقة التجارية التي اغتنت عن طريق التجارة والتحايل على المكوس، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.١٢٧ وبالرغم من أن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون قائمة على الاستقراء والمشاهدة ووصف أحوال الأمم وإعمال العقل لاستخراج العلل والأسباب المطردة، إلا أنها أيضًا تقوم على المنقول وكأنه ما هو إلا تصديق للآية كنوعٍ جديد من التفسير التاريخي العلمي الذي يقوم على التصديق والتحقق.
فقوانين التاريخ هي قوانين الأخلاق؛ أي الممارسات الفردية والاجتماعية مثل آية إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. إذا ذهبت الأخلاق ذهب الملك، «وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ»؛ فمن علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة.١٢٨
وأسباب انهيار الدول كثيرة، منها الظلم المؤذِن بخراب العمران؛ فالعُدوان على أموال الناس يذهب بالآمال في التحصيل والاكتساب فيتوقفون عن السعي. وبقدر العدوان يكون انسحاب الرعايا من الكسب. وفي نصائح الفرس أن الملك لا يتم إلا بالشريعة وطاعة الله، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل هو الميزان بين الرب والخلق، والملك هو القيِّم على هذا الميزان؛ فإذا ظلم الملك انهار النظام السياسي الكوني الاجتماعي كله، وضاعت مقاصد الشرع الضرورية الخمسة، حفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال، وهو معنى آية وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. ومن أوجه الظلم تسخير الرعايا بغير حق؛ لأن العمل مصدر للرزق، وشراء ما في أيدي الناس بأبخس الأثمان.١٢٩
وفي مُقابل هذا التصور المُنهار للتاريخ هناك التصور الارتقائي له، وأن المستقبل أفضل من الماضي. في المستقبل يتحقق العدل كما وقع الظلم في الماضي. ويُمثل ذلك ما يُقارب نصف الأحاديث المذكورة في المقدمة في أمر «الفاطمي». وهي ليست فقط نصوصًا، بل تراثٌ شعبي وإيمان للعوام بظهور المُخلِّص إذا ما اشتدَّ الضيق وعظم البلاء، وهو الذي سيُحقق العدل والرخاء.١٣٠

(ﻫ) مراحل التاريخ

وتبدو فكرة المراحل عند ابن خلدون مثل الأدوار والأكوار عند الشيعة؛ فنهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء؛ فالكائنات الطبيعية ذاتها كائنة وفاسدة بالمعاينة. كل شيء مثل العلوم والصنائع تنشأ وتدرس، رئاسة وشرف ثم قحة وابتذال. ومن الأجيال الأربعة اثنان مُبدعان واثنان مُقلدان، اثنان للقيام واثنان للسقوط، وتلك سنة الكون، توالي الأمم والشعوب إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ. وهو مُتفق أيضًا مع ما قال الرسول: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.» وهو مُتفق مع التوراة بأن الله مُطالَب بذنوب الآباء للبنين على التوالت والروابع؛ فالأربعة أعقاب في النسب والحسب، والشرف يأتي لمن كان له ثلاثة آباء مُتتالية واتصالهم بكمال الرابع.١٣١

والدولة لها أعمارٌ طبيعية كالأشخاص، حوالَي مائة وعشرين سنة، وهي مدة قرانات الأقلال، وهو عمر نوح. فالدولة ثلاثة أجيال، والجيل أربعون عامًا كما قال القرآن حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وهو معنى آية فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ.

وتختلف أحوال الدولة باختلاف الأطوار، وهي خمسة؛ الأول طور الظفر بالبغية والاستيلاء على الملك واكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة. والثاني دور الاستبداد والانفراد بالملك واصطناع الرجال والموالي. والثالث دور الفراغ والدعة للتمتع بثمرات الملك وتخليد الآثار وتشييد المباني والهياكل، وهو آخر أطوار الاستبداد. والرابع طور القنوع والمسالمة والتقليد والسكون. والخامس طور الإسراف والتبذير والإنفاق في سبيل الشهوات واللذات حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والله خير الوارثين.١٣٢
وانهيار الدولة قانونٌ طبيعي؛ فإذا نزل الهرم بالدولة لا يرتفع كما هو الحال في الكائنات الحية. وقد لا تنفع حركات الإصلاح أو التجديد والنهضة؛ فالدعة والترف لا يتحوَّلان إلى جهاد ونضال، والعصبية التي لا تذهب لا تعود، ويغيب التأييد الإلهي والنصر السماوي.١٣٣

ويعظم الحجاب في الدولة عند الهرم؛ فالبداوة شعار العصبية والدولة في البداية، ويغيب عنها التنازع في الملك إن كان قيامها بالدين. وإن كان قيامها بالغلبة تتغلب البداوة؛ فإذا بدأ الانفراد بالملك زاد الحجاب وظهرت البطانة، وتكرَّر الحجاب وتكاثر.

قد تقوم الدولة بعد انهيارها وتتجدد؛ إذ تنهار الدولة وتعوم من جديد بطريقتين؛ الأولى استبداد ولاة الأعمال في الدولة القاصية عندما تتقلص السلطة المركزية، فيكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه، ويغلب من له القوة. والأمثلة من دولة بني العباس. والثانية الخروج على الدولة ممن يُجاورها من الأمم والقبائل بدعوةٍ جديدة أو بشوكةٍ وعصبية؛ لذلك كان أول مظهر من مظاهر الهرم انقسام الدولة الواحدة إلى دولتين. وتستولي الدولة المستجدة على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة؛ فإذا ذهب الملك عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عودته إلى شعبٍ آخر منها ما دامت له العصبية، وليس بالضرورة نفس الشعب.١٣٤

قد يبدو ابن خلدون مُتشائمًا في فلسفته للتاريخ؛ فالبداوة خشونة وفظاظة تغلُّب وتفرُّد بالملك، ونهب وسلب واستيلاء على أموال الناس، والحضارة ترف ودعة وترهُّل وحرص على الدنيا وإيذان بالنهاية، والتحول من البداوة إلى الحضارة بنبوة وولاية أو ملك؛ أي بسلطة دينية أو سياسية، وليس تحولًا طبيعيًّا عن طريق نمو طبيعي بالتفاعل الحضاري والتعليم والتثقيف. والتاريخ لا يقوم إلا لينهار في أربعة أجيال؛ أي في قرن ونصف، ولا يوجد تراكمٌ تاريخي يظهر من خلاله مفهوم التقدم وكأن التطور دائري، عود على بدء، وليس مُستقيمًا مُطردًا أو حتى حلزونيًّا؛ لأن البدو لا يتعلمون ولا الحضر، ولا يوجد تراكمٌ تاريخي كافٍ للموعظة والعبرة من دروس التاريخ.

ويُشير ابن خلدون إلى الإفرنج؛ فقد عرف المسلمون شمال البحر المتوسط من خلال أسبانيا وصقلية. وألَّف الإدريسي «نزهة المشتاق» لملك صقلية من الإفرنج، بعد خروجها من إمارة مالقة.١٣٥ وقد بلغ ابن خلدون أن سفائن من الإفرنج مرَّت بجزر الإقليم الأول، فقاتلهم المسلمون وغنموا منهم، وسبَوا وباعوا بعض أسراهم بسواحل المغرب الأقصى، وصاروا إلى خدمة السلطان. فلما تعلَّموا اللسان العربي أخبروا عن حال جزائرهم في الزراعة والبناء والرعي وفنون القتال ودياناتهم وأدوات ملاحهم مثل «الكومباس». وقد كان لدولة الإسلام اتصال بالقوط، وملكت الفرنجة سواحل المغرب قبل الإسلام. عرف ابن خلدون أسبانيا، ويتحدث عن برسلونة وسرقوسة وجزر البحر الأبيض المتوسط مثل مالطة والساحل الجنوبي لأوروبا إلى الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، وبلاد غشكونية من أمم الفرنج. كما عرف دول البلقان وأوروبا الشرقية، وشمال أوروبا حتى أيسلندا؛ ومن ثَم يكون ابن خلدون قد وصف أوروبا وآسيا وأفريقيا، العالم القديم كله، والعالم الإسلامي في مركزه.
كما عرف المسلمون بلاد الشرق، فارس والهند والصين. وعرفوا بلاد الجنوب، بلاد الزنج. وعرفوا بلاد الوسط، اليهود في مصر والشام. فالعرب وسط العالم، شرقهم شعوب آسيا، وغربهم أسبانيا، وشمالهم أقوام أوروبا، وجنوبهم أفريقيا؛ الأحباش والزنج.١٣٦

فإذا كان ابن خلدون قد وصف تحوُّل العرب من الوحشية إلى الملك بفضل الإسلام، ثم عودتهم إلى التوحش من جديد في القرون السبعة الأولى، فإن بداية المرحلة الثانية للحضارة العربية الإسلامية في القرون السبعة التالية لابن خلدون، منذ ابن تيمية قبله بقرن حتى القرن الرابع عشر تحوَّل العرب من الملك الأول إلى الملك الثاني في عصر الخلافة العثماني التي ضمَّت الأمصار في آسيا في المشرق وأوروبا في المغرب. ومنذ القرن الماضي وقد بدأت حركةٌ إصلاحية جديدة خرجت منها حركات التحرر الوطني بالرغم من تعثرها، وقد بدت مرحلةٌ ثالثة للحضارة العربية الإسلامية ترنو إلى قرونٍ سبعة ثالثة من القرن الخامس عشر الهجري حتى القرن الواحد والعشرين الهجري وليس الميلادي وبداية الألفية الثالثة.

تحتاج الحضارة العربية الإسلامية إلى ابن خلدون جديد قادر على ضم القرون السبعة التالية له في منظورٍ أوسع، واستبصار القرون السبعة القادمة في رؤيةٍ عامة وشاملة للتاريخ. وبدلًا من وصف قيام الدول وسقوطها في الماضي يصف قيام الدول وتعثرها في الحاضر، وبدلًا من أن يُحلل أسباب الانهيار يضع شروط النهضة. وهو ما تنبَّأ به ابن خلدون نفسه في آخر المقدمة، كما تنبَّأ به ابن سينا من قبلُ في آخر كتاب الشعر.١٣٧

(و) خاتمة: من اليونان القديم إلى الغرب الحديث

إذا كانت علوم الحكمة القديمة قد نشأت وتطوَّرت واكتملت في عصر الحضارات القديمة، اليونان والرومان غربًا، وفارس والهند شرقًا، مع صدارة اليونان، فإن علوم الحكمة في طورها الجديد تتعامل مع أوروبا وأمريكا غربًا، والهند والصين شرقًا. وكما ورث اليونان الرومان قديمًا، ورثت أمريكا أوروبا حديثًا؛ ومن ثَم تستأنف علوم الحكمة طورها الثاني في تعاملها مع الغرب الحديث في مراحل النقل، تدوينًا وترجمة وشرحًا، ومرحلة التحول عرضًا وتأليفًا وتراكمًا حتى مرحلة الإبداع في الحكمة النظرية والحكمة العملية. وما زِلنا نمرُّ بمرحلتَي النقل والعرض منذ أكثر من مائتَي عام ولم نصِل بعدُ إلى مرحلة الإبداع. الفلسفة الغربية جزء من الفلسفة الإسلامية في طورها الجديد؛ فليست الفلسفة الإسلامية مرحلةً واحدة في التاريخ ثابتةً ساكنة هي اللحظة اليونانية، بل هي لحظاتٌ مُتجددة مع دورات التاريخ. وقد عرف الباحثون لحظة العصر الوسيط الأوروبي، حيث بدأت الترجمة العكسية من العربية إلى اللاتينية أو العبرية، وبدأ النقل العكسي من الإسلام إلى الغرب حتى عصر النهضة وقبل أن يبدأ الغرب مساره الخاص، من النقل إلى الإبداع. وعرف رُواد النهضة العربية المعاصرة منذ قرنين لحظة العصور الحديثة، ولكنها لم تتحول بعدُ من فكر إلى فلسفة، ومن الترجمة إلى التأليف، ومن الشرح والملخَّصات إلى الإبداع.

فالحكيم اليوم هو الذي يعرف تجربة القدماء ويُساهم في تجربة المُحدَثين، هو الذي يعلم اللحظة الماضية، لحظة اليونان القديم، ويستأنفها في لحظة الغرب الحديث. الحكيم اليوم ليس مُتفرجًا ولا مؤرخًا، ولا مُتكسبًا بالكتاب المقرَّر، ولا مؤلفًا في ظروف المعيشة وأحوالها، الترقيات الداخلية أو الإعارات الخارجية، ولا مُستشرقًا يُقلد مناهج المستشرقين، بل هو خليفة الحكماء القدماء ووارثهم. يستأنف أدوارهم، ويوحِّد ثقافة الأمة بين الموروث والوافد بدلًا من الصراع بينهما الذي يصل إلى حد التحزب والتعصب وسفك الدماء، صراعًا على السلطة السياسية؛ فالحقُّ في جانبٍ واحد، والصواب في مصدرٍ واحد. هو صاحب الدار الذي يحمي ثقافة الأمة من ازدواجيتها وتبعيتها إلى الموروث القديم أو الوافد الحديث؛ من ثَم يتم تجاوز التخصصات المعاصرة التي تقوم على صراع المصالح أكثر من تحقيق الأهداف المشتركة؛ فلو كان ابن رشد حيًّا بيننا وأستاذًا معنا لصعب تحديد تخصص له، إسلامية أو يونانية. وإذا فرَّق القدماء بين علوم العرب وعلوم العجم، بين علوم الوسائل وعلوم الغايات، فإن الفلسفة الغربية اليوم هي علوم العجم المُحدَثين، وعلوم العرب هي علوم الغايات. فماذا ينبغي أن يقدم قبل تعلُّم الفلسفة؛ ديكارت، هيجل أرسطو العصر؟ ولو بُعث ابن سينا الآن، فكيف يُبوِّب الحكمة الجديدة، منطقًا وطبيعيات وإلهيات؟ ولو بُعث الفارابي الآن، فأي حكيمين يوفِّق بينهما؛ هيجل وماركس؟ ومن ثَم فالجبهة الثانية في مشروع «التراث والتجديد» الموقف من التراث الغربي هو استئناف للجبهة الأولى «الموقف من التراث القديم». ويكون «علم الاستغراب» أقرب إلى العرض والتأليف والتراكم؛ أي في مرحلة تحوُّل من النقل إلى الإبداع في علاقتنا بالغرب الحديث؛ حتى تستطيع الأجيال القادمة أن تنتقل إلى الإبداع الخالص الذي سمَّاه ابن سينا «الشعر المطلق».

١  الكندي، رسالة في ملك العرب وكميته.
٢  تدل الرسالة على أن الكندي شهد عهد الخليفة المستعين بالله، وشهد الفتنة التي قُتل في أعقابها في آخر رمضان ٢٥٢ﻫ.
٣  في الحظوظ والأرزاق، أبو حيان، المقابسات، ص٢٤١-٢٤٢، ١١٧.
٤  كتب حذيفة إلى عمر بن الخطاب: إن العرب قد تغيَّرت ألوانها وشحومها. فكتب عمر إلى سعد: ارتد للعرب منزلًا مراجًا. فارتاد لهم الكوفة. وقال عمر: كانت العرب أسدًا في جزيرتها يأكل بعضها بعضًا، فلما جمعهم الله بمحمد لم يقم لهم شيء (أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، الليلة الثالثة والثلاثون، ج٣، ١٠٢-١٠٣، ٧٦–٨٥).
٥  الرسائل، ج٢، ٨، ٢١٤، ٢١٨.
٦  الرسائل، ج٢، ٨، ٢٧٨، ٢٨٤-٢٨٥، ٣١٥، ٣٢٩-٣٣٠، ٣٣٧.
٧  السابق، ج٣، ١٧، ١٧٢.
٨  كان الملك واسع الحكمة، حسن السيرة، محبًّا للعدل، ولكنه مُتدين بعبادة الأصنام، ولم يعرف شيئًا عن أخبار الأنبياء وملكوت السموات والوحي والتنزيل والسنن والتأويل والمبدأ والمعاد والبعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والنجاة. وكان الابن صافي الذهن، حي القلب، كثير التفكر في ملكوت السماء وكيفية المبدأ والمعاد، وأحوال القرون التي مضت أو انقرضت. فهل يمكن أن يكون الإنسان أخلاقيًّا سياسيًّا دون الجانب الغيبي؟ (السابق، ج٤، ٧، ١٤٨-١٤٩).
٩  وهو ما يُسمى في النقد الأدبي والسينمائي flash back.
١٠  انظر مقالنا «المقدسات الثلاثة» الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١، ج١، الدين الثقافة الوطنية، ص١٦٧–٢٦٩.
١١  وهو تعبير سيد قطب في «معالم في الطريق»، ص١٤–٢٣؛ السابق، ج٢، ٨، ٢٩٥؛ ج٤، ٧، ١٤٨–١٦٤.
١٢  حال النفس بعد مفارقتها الجسد مثل حكاية العريس الذي ذهب إلى عروسه في الظلام، وفي الصباح وجدها جثةً خربة (السابق، ج٤، ٧، ١٥٨–١٦١).
١٣  من العقيدة إلى الثورة، ج٤، النبوة، المعاد، ج٥، الإيمان والعمل، الإمامة.
١٤  وهذه أهمية كانط والبروتستانتية الليبرالية في جعل الأخلاق أساس الدين.
١٥  السابق، ج٤، ٧، ١٥٢–١٥٧؛ ج١، ٢، ١٠٠.
١٦  السابق، ج٣، ١٧، ١٧٢-١٧٣.
١٧  السابق، ج٣، ١٧، ١٧٣-١٧٤.
١٨  السياسة الواقعية Real Politique.
١٩  وتأسيس السياسة على الأخلاق هو ما حاوله كانط في «مشروع السلام الدائم»، وفشته في «نظرية الدولة».
٢٠  السابق، ج٣، ١٧، ١٧٤-١٧٥.
٢١  وذلك مثل قصيدة أمل دنقل الشهيرة «لا تُصالح».
٢٢  السابق، ج٣، ١٧، ١٧٦-١٧٧.
٢٣  السابق، ج٤، ٧، ١٦٤–١٦٨.
٢٤  وهو ما يُنادي به «اليسار الإسلامي».
٢٥  السابق، ج٣، ١١٤-١١٥، ١٥٠.
٢٦  العناية الإلهية والسياسة الربَّانية ورحمة الله بخلقه ورأفته بعباده، السابق، ج٣، ١٧، ٩٧؛ تقدير الله، ج٣، ١٧، ١١٥.
٢٧  وذلك مثل أردشير وأنوشروان من فارس وبهمن من الهند، حكم بهمني الملك، ص٦١، ٦٤؛ من سيرة قدماء العرب، ص٦٤؛ لما جلس جمشيد على سرير ملكه، ص٦٥، ٦٦؛ قال هرمز الملك لخرشيد، ص٦٦، ٧٦؛ من كلام حكيم آخر فارسي، ص٦٧، ٧٤؛ وصية أوشهنج لولده والملوك من خلفه، ص٥.
٢٨  مسكويه، الحكمة الخالدة، ص١٤، ٢٨، ٢٩–٣٢، ٤٣، ٤٦؛ كتاب برزجمهر إلى كسرى، ص٤٥–٤٨؛ حكم تؤثَر عن أنوشروان، ص٤٩–٦١، ١٧١، ٢١٥.
٢٩  كان عمر بن الخطاب يشرط على عماله ألا يركبوا البراذين، ولا يلبسوا السابري، ولا ينخلوا الدقيق (السابق، ص١٥٧).
٣٠  السابق، ٨، ١٢، ٥٩-٦٠، ٦٢، ٧٢، ١٧٣، ١٨٧، ٢٠٨، ٢١٣، ٢١٦، ٢٢٤-٢٢٥، ٢٦١.
٣١  السابق، ص١٢، ٣٤، ٣٦-٣٧، ٤٣، ٤٦، ٦٠-٦١، ٩٩، ١٧٨. ومن خُطَب الحجاج: من أعياه داؤه، فعندي دواؤه. ومن استعجل أجله فعليَّ أن أعجِّله. إن العزم والجد قد استلبا مني سوطي، وجعلا سوطي سيفي، فنجاده في عنقي، وقائمه بيدي، وذبابه قلادة لمن اغترَّ بي (السابق، ص١١٤).
٣٢  السابق، ص١٢، ٣٧، ١٠٠، ٢٦٩.
٣٣  السابق، ص٢٩، ٦٥-٦٦.
٣٤  السابق، ص٤٢، ٤٩، ٧٣-٧٤، ١٦٠، ١٧٦، ٣٦٤.
٣٥  السابق، ص٩، ١٤، ١٧، ٣٧، ٥٧، ٥٩–٦١، ٧٤، ٩٨–١٠٠، ١٢١، ١١٣، ١٦٩.
٣٦  السابق، ج٥٢، ٥٧، ٧٣-٧٤، ٩٥، ١١٦، ١٣٠، ١٥٦، ١٦٧، ١٨٧.
٣٧  السابق، ص١٣، ٣٧، ١٠٠، ١٣٨، ٣٥٧-٣٥٨، ٣٦٠–٣٦٤.
٣٨  السابق، ص٤٧–٦٦، ٨٢، ١٦٨–١٩٦، ٣٦٠.
السيساسة الصنف الغرض اللازم
الإمامة تكميل الخليقة نيل السعادة
التغلب استعباد الخليقة نيل الشقاء
٣٩  السابق، ص٣٥، ٤٢، ٤٦، ٤٩، ٥٦، ١٦٣-١٦٤، ١٨٧.
٤٠  السابق، ٤٦-٤٧، ١٦٦، ١٩١، ٢٢٠.
٤١  السابق، ص٦٠، ١١٩، ١٣٢، ١٥٧، ١٦٢، ١٧٠، ٢١١، ٢١٤، ٢٦٥، ٢٧٩، ٢٨١.
٤٢  السابق، ص١٨٧، ٢٠٧.
٤٣  السابق، ص٢٩٥–٢٩٨.
٤٤  السابق، ص٢٩٦، ٣٠٤-٣٠٥، ٣٠٨-٣٠٩، ٣١٢.
٤٥  السابق، ص٢٩٥، ٣٠٤–٣٠٧، ٣٦٠.
٤٦  السابق، ص٢٩٩.
٤٧  السابق، ص٢٩٤–٢٩٩.
٤٨  السابق، ص٢٩٦، ٣٦٠-٣٦١.
٤٩  السابق، ص٣٣٢–٣٣٥.
٥١  السابق، ص٣٣٥–٣٣٩.
٥٢  السابق، ص٣٤١-٣٤٢.
٥٣  political physiognomy.
٥٤  السابق، ص٣٤٢.
٥٥  السابق، ص٥٧، ٩١، ٩٣، ٩٥، ٩٧، ١٣٠، ١٥٨، ١٧٤، ١٧٧.
٥٦  السابق، ١٣، ٢٦، ٣٧، ١٥٨، ١٧١، ١٧٧، ٣١٨-٣١٩.
٥٧  السابق، ص٣٤، ٤٠، ٢١٢، ٢٣٩–٢٤١.
٥٨  السابق، ص١٣٧-١٣٨، ١٤٥، ٣٦٠-٣٦١.
٥٩  السابق، ص٣٤، ٣٩-٤٠، ٩٤–٩٦، ١١٨، ١٣١، ١٣٦، ١٣٩-١٤٠، ١٧٩.
٦٠  المقدمة بعنوان: «في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها» (المقدمة، ص١–٣٤).
٦١  المقدمة، ص٥١٤–٥١٩.
٦٢  بالرغم من أهمية «تجارب الأمم» لمسكويه إلا أنه لا يحتوي على فلسفة في التاريخ كما هو الحال في المقدمة، وأقرب إلى الحوليات بالرغم من أن مسكويه من الحكماء، وابن خلدون مجرد مؤرخ؛ لذلك اكتفينا بتحليل المقدمة كنموذج لفلسفات التاريخ وأحد عناصرها. انظر أيضًا دراستنا «من الاجتماع والتاريخ إلى السياسة والأخلاق»، دراسة مقارنة بين «مقدمة» ابن خلدون و«بدائع السلك في طبائع الملك» لابن الأزرق، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، ص٢٣٦–٣٤٠.
٦٣  الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ بدء الخليقة إلى هذا العهد، وفيه من الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم والمشاهير ودولهم، مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة. والكتاب الثالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة، وذكر أوليتهم وأحبالهم، وما كان بديار المغرب خاصة من الملك والدول (المقدمة، ص٦).
٦٤  لذلك كان التناسب الكمِّي بين الأبواب الستة كالاتي: الدولة (١٩٠ص)، العلم (١٥٠)، الجغرافيا البشرية (٨٠)، المعاش (٥٠)، الحضر (٤٠)، البدو (٣٥).
٦٥  كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
٦٦  وذلك مثل جان جاك روسو في الحضارة الغربية في القرن الثامن عشر.
٦٧  السابق، ٣٦٨–٣٧٤، ٤٠٣.
٦٨  السابق، ص١٤.
٦٩  السابق، ص٣٧-٣٨.
٧٠  السابق، ص٢٢، ٣٩-٤٠.
٧١  السابق، ص٩٤، ١٩٢. ويميل ابن خلدون إلى كتاب المِلل والنِّحل للشهرستاني (السابق، ص٢٠١-٢٠٢).
٧٢  السابق، ص٩٠، ٩٥، ١١٠-١١١.
٧٣  السابق، ص٤١، ٤٣-٤٤، ٤٩، ٥٢، ١٠١.
٧٤  السابق، ص١٧٨، ٣٠٣، ٨٤، ٨٧، ١٣٥.
٧٥  السابق، ص٤٠.
٧٦  (١) الدولة (٢٦)، الدول (١٠)، الملك (٢٤)، الممالك، والملوك (١)، الأمصار (٢١)، المصر (١)، العمران (١٨)، العصبية (١٢)، العصائب (٢)، البدو، الحضر (٧)، البادية، البداوة، البوادي (١)، الحضارة (٥)، الحضري، الحواضر (١)، الأمم، الأمة (٤)، القبيل (٤)، القبائل (٣)، الأوطان (٣)، البشر (٤)، الأقطار، الاجتماع (١)، المدن (٦)، السلطان (٧)، السلطانية (١)، الخلافة (٤)، الخلافية (١)، الإمامة (١٢)، الرئاسة، الرؤساء (١)، السياسة (١)، النسب، الأنساب (٢)، الموالي (٢)، جيل، أجيال (١).
٧٧  السابق، ص٢٨، ٨٥، ١٤٤، ١٨٩، ١٩٠، ١٣٥، ١٣٧، ١٤٥-١٤٦، ٣٠١، ٤١٧.
٧٨  السابق، ص٤٣، ٨٣، ٢٢٦، ٣٤٧، ٣٧٧، ٣٨٠، ٣٨١، ٣٩٩، ٤١٢، ٥١٦، ٥٣٠، ٥٦٦، ٥٦٩.
٧٩  في ابتداء الدول والأمم وفي الكلام على الملاحم والكشف على مُسمى الجفر، السابق، ص٣٣٠–٣٤٢.
٨٠  السابق، ص١٢١-١٢٢، ١٢٩-١٣٠.
٨١  في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط، السابق، ص١٤٩–١٥١، ٣٥٩.
٨٢  السابق، ص١٥١–١٥٣.
٨٣  السابق، ص٤٠٤-٤٠٥، ٥٥٥–٥٥٨، ٥٦٠–٥٦٢، ٥٨٢-٥٨٣، ٥٤٩.
٨٤  السابق، ص٩٣، ١٢٨–١٣١، ١٣٩-١٤٠، ١٥٤–١٥٦، ١٥٩–١٦١.
٨٥  السابق، ص١٨٣–١٨٥.
٨٦  السابق، ص٢٣٥، ١٨٥–١٨٧.
٨٧  السابق، ص١٣٤-١٣٥.
٨٨  السابق، ص٢٠٢-٢٠٣.
٨٩  السابق، ص٤٨٨–٥٤٥.
٩٠  السابق، ص٨٢، ٨٩.
٩١  ويستشهد ابن خلدون بآية وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (السابق، ٢٦٠، ٥٨٨).
٩٢  السابق، ص٨٥.
٩٣  السابق، ص٥٦٢–٥٦٤.
٩٤  السابق، ص٥٤٣–٥٤٥.
٩٥  السابق، ص١٨٧-١٨٨. وهو ما يتفق مع رأي هوبز في نشأة العقد الاجتماعي، ومُخالف لرأي روسو.
٩٦  السابق، ص١٦٦-١٦٧.
٩٧  السابق، ص١٤٥، ١٣٨-١٣٩.
٩٨  السابق، ص١٦١، ١٦٣–١٦٦.
٩٩  في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها، السابق، ص١٧٧–١٨٢، ٣٦٨–٣٧١.
١٠٠  السابق، ص١٥٩، ١٤٢–١٤٤.
١٠١  الباب الثالث: في الدول العامة والخلافة والمراتب السلطانية … السابق، ص١٥٤–٣٤٢.
١٠٢  السابق، ص١٩٠-١٩١، ١٩٣، ٢٠٣، ١٩١–٢٠٣، ٢١٠، ٢١٣، ٣٠٩، ٢١٠–٢١٨.
١٠٣  وتُروى أحاديث أخرى، مثل: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.» «أقضاكم عليٌّ.» «من يُبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي» (السابق، ص١٩٤، ١٩٧).
١٠٤  السابق، ص٣٠٩، ٢١٠–٢١٨.
١٠٥  في الحروب ومذاهب الأمم وترتيبها، ص٢٧٠–٢٨٦.
١٠٦  السابق، ص٣٤٢–٣٦٨.
١٠٧  السابق، ص٣٦٧-٣٦٨، ٣٦٢–٣٦٤، ٣٧٦-٣٧٧.
١٠٨  السابق، ٣٩٤–٣٩٩.
١٠٩  السابق، ص٣٩٤، ٤٢٣–٤٢٨.
١١٠  السابق، ص٣٩٩–٤٢٨.
١١١  السابق، ص٣٩٠–٣٩٣.
١١٢  السابق، ص٣٨٠–٣٨٤، ٣٩٤.
١١٣  السابق، ص٣٨٣–٣٨٩.
١١٤  السابق، ص٣٨٩–٣٩٤.
١١٥  السابق، ص٤٢٩–٤٧٨.
١١٦  السابق، ص٤٧٨–٥٣٩.
١١٧  السابق، ص٤٩٦–٥٠٣.
١١٨  السابق، ص٥٣١–٥٤٢.
١١٩  السابق، ص٣١٨، ٣٦٨، ٢٠٢–٢٠٩.
١٢٠  السابق، ص٣٧٧-٣٧٨، ١٣٩، ٣٩٥، ١٤٠–١٤٢، ٣٧١–٣٧٤.
١٢١  السابق، ص١٣٠، ١٤١، ١٥٦، ١٧٤، ١٨٦، ١٨٧.
١٢٢  السابق، ص١٣٠–١٣٨، ٣٦٤-٣٦٥، ١٧٢–٣٧٤.
١٢٣  السابق، ص١٢٥–١٢٧، ١٤١-١٤٢، ١٤٧-١٤٨، ١٥٣.
١٢٤  السابق، ص١٨٨-١٨٩. لذلك لم يستمر نابليون ومحمد علي وعبد الناصر وأحمد بن بلا ولومومبا.
١٢٥  السابق، ص٢٩٤–٢٩٨، ١٤٠-١٤١، ١٦٧-١٦٨، ١٧٤-١٧٥، ٣٠١-٣٠٢.
١٢٦  السابق، ص٣٥٩-٣٦٠، ٤٠٣-٤٠٤، ٣٧٤–٣٧٦.
١٢٧  السابق، ص١٤٤، ٣٧٣.
١٢٨  السابق، ص١٣٦، ١٤٤.
١٢٩  السابق، ص٢٨٦–٢٩٠.
١٣٠  يذكر في المقدمة ٩٢ حديثًا، منها ٤٣ حديثًا في أمر الفاطمي (في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك، السابق، ص٣١١–٣٣٠).
١٣١  في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء، السابق، ص١٣٦–١٣٨.
١٣٢  السابق، ص١٦٨–١٧٦، ١٩٣–١٩٦.
١٣٣  السابق، ص٢٩٠–٢٩٤.
١٣٤  السابق، ص١٤٥–١٤٧، ٢٩٢-٢٩٣، ٢٩٨–٣٠١.
١٣٥  السابق، ص٥٣، ٦٧، ٧٢، ٧٨، ٨٠، ٣٧٠.
١٣٦  السابق، ص٥٦–٥٩، ٦٥، ٨٢، ٨٥.
١٣٧  «ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكرٍ صحيح وعلمٍ بيِّن، يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا؛ فليس على مُستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه، والمتأخرون يُلحقون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل، والله يعلم وأنتم لا تعلمون» (المقدمة، ص٥٨٨).