من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ثانيًا: اللذَّة والطب الروحاني (الرازي)

وتتركز الأخلاق عند الرازي في موضوعين؛ اللذة والطب الروحاني. هل على طرفَي نقيض؛ اللذة لطب الأبدان، والروحاني لطب النفوس، أم على التكامل كما يبدو ذلك في السيرة الذاتية؟

(١) اللذة

لم تبقَ من كتاب «اللذة» للرازي إلا بضع مُقتطَفات.١ ومع ذلك فاللذة هي الخروج من الحال غير الطبيعية، الألم هو الخروج عن الحالة الطبيعية، وكأن الطبيعة غير اللذة، واللذة غير الطبيعة؛ فقد تكون اللذة انتقالًا من حالة الطبيعة الكامنة إلى حالة الطبيعة المُزدهرة. والحالة التي ليست فيها لذة ولا ألم هي أيضًا حالةٌ طبيعية، ولا تُدرَك بالحس، حالة الخمول قبل ظهور الإمكان والتحقق. واللذة أيضًا هي الراحة من الأمل، تعريفًا لها اعتمادًا على الأضداد. ولا توجد لذة إلا بعد ألم. اللذة حسٌّ مُريح، والألم حسٌّ مؤلم. واللذة لها وقتٌ معلوم، وإلا تحوَّلت إلى ألم، وإذا استمرَّت صارت ألمًا.
وتتحوَّل نظرية الرازي في اللذة إلى تصورٍ عام للشر، وهو أن الشر في الوجود أكثر من الخير، وأن مقارنة راحة الإنسان ولذته في مدةٍ مع ما يُصيبه من الألم والوجع والحزن تكشف عن أن الشر أعظم من الخير؛ وذلك لنقد وجود الخير في العالم اعتمادًا على أن الله هو الخير المحض.٢ وذلك مثل المذاهب المسيحية التي تجعل الألم هو الأساس (الخطيئة)، واللذة الفرع. الألم القاعدة، واللذة الاستثناء. وهي أساس أخلاق التطهُّر. وقد يقترب مذهب إخوان الصفا وابن الراوندي من مذهب الرازي، وقد ظهر في نفس العصر.

وقد هاجَم المُتكلمون الرازي، وفنَّدوا أقواله بأنه أخذ ما بالعرَض على أنه بالذَّات، كما حمل عليه الفارابي وابن الهيثم وابن ميمون، وردَّ عليه بعض علماء الشيعة، مثل أبي حاتم الرازي والكرماني وناصر خسرو، ربما لدفاعهم عن الثنائية المُتطهرة ضد المذهب الواحدي عند أصحاب الطبائع. وبصرف النظر عن صحة ما نُسِب إلى استدلاله المنطقي، فإن مذهب اللذة مثل مذهب أصحاب الطبائع، نقد للثنائية المُتطهرة التقليدية في علم الأخلاق، بل قد تُساعد على الثورة والغضب بدلًا من تبرير الشر أو التعويض عنه. ولا ضَيْر من تعريف اللذة سلبًا بأنها دفع الألم؛ فهي قاعدةٌ أصولية؛ دَرْء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.

(٢) الطب الروحاني

وهي محاولة للجمع في علمٍ واحد بين الطب البدني للأطباء والطب الروحي للصوفية. البداية بالواقع في الطب، والغاية منه إصلاح النفس المُفارقة للبدن، وهو على خلاف الطب؛ فهو كتابٌ يَجمع بين الأخلاق والنفس والأدب والعلم واللغة.

وهو مشروع الحضارة الإسلامية ذاته في الجمع بين المثالية والواقعية، بين الطبيعة والروح. ولا فرق بين النفس والروح في هذه الحالة، كلاهما مصطلحان قرآنيَّان. يتحدث القرآن عن الروح من أمر الله، في حين أن النفس يمكن معرفتها والتعامل معها وتزكيتها وتطهيرها نظرًا لاتصالها بالبدن. والرازي يُفضل استعمال لفظ «الروح» على لفظ «النفس». قُرِن باستمرار بمؤلَّفات يحيى بن عدي ومسكويه.٣ واستمرار التأليف في الموضوع والاتجاه به نحوًا أخلاقيًّا دينيًّا صوفيًّا دليلٌ على التراكم الحضاري. وقد ركَّز الشيعة أيضًا على النفس والروح المُتحدة بالطبيعة والله مثل الصوفية، ويظهر الجانب الإنساني أكثر من الطبيعيات والميتافيزيقا المجرَّدة عند أهل السنة.٤ واستعمله المسلمون والمسيحيون تعبيرًا عن روح الحضارة التي شارَك فيها الجميع، خاصةً في مصر عند الجنائزيين، وهو من نوع «الحيلة في دفع الأحزان» للكندي، و«دفع الغم من الموت» لابن سينا. والسؤال هو: هل صحيحٌ أن الرازي جمع بين الطب البدني والطب الروحاني، أم إنه ضحَّى بالطب البدني في سبيل الطب الروحاني، بالجسم في سبيل النفس؟ كيف تبنَّى الرازي وهو من أنصار التصوُّر الواحدي هذه الأخلاق غير الطبيعية والأقرب إلى الأخلاق الصوفية الإشراقية؟ كيف يمكن للطبيب أن يقع في هذه الهُوَّة والازدواجية بين الطب المِهني والحياة الشخصية العامة؟ وأين مبدأ العِلَّية الذي يقوم عليه الطب؟ هل هناك عِليةٌ أكبر تُدرَج تحتها الأجسام والأرواح، الأبدان والنفوس؟ ربما كان السبب العصر والمخاطر التي كانت تُهدد الأخلاق، والأطبَّاء هم الحكماء، وربما كان السبب أن الطب نفسه من العلوم الفلسفية، يقوم على مقولاتٍ فلسفية مثل الجوهر والمُضاف والأخلاط. كما أنه دراسة للإنسان؛ فالإنسان نفس وبدن. كما تظهر تشبيهات للجسم الحي وطب الأبدان بطب النفوس وطب المجتمعات، كما هو الحال عند الفارابي في «فصول منتزعة». هناك وحدة الفكر عند الطبيب الحكيم؛ فهو طبيب وفيلسوف.

وما الفرق بين الطب الروحاني والطب النبوي؟ هو الفرق بين فهم النظر والتجرِبة ومنهج النقل والرواية. كما أن الطب النبوي أقرب إلى طب الأبدان منه بطب النفوس. وهل يحض الطب الروحاني على الثورة أم يكبح جِماح النفس للسيطرة عليها وإلجامها؟

وبالرغم من أن «الطب الروحاني» عشرون فصلًا إلا أن الفصول الأربعة الأولى «تمهيد في بيان فضل العقل»، وقمع الهوى وعوارض النفس الرديَّة، وتُعرِّف الرجل عيوب نفسه، ثم تأتي الفصول الأربعة عشرة الثانية لتَعْداد عيوب الرجل؛ العشق، واللذة، والعُجب، والحسد، والغضب، والكذب، والبخل، والفكر، والهم، والشَّره، والانهماك في الشراب، والاستهتار بالجماع، والعبث، وطلب الرُّتب والمنازل الدنيوية، والاكتساء، والاقتناء، والإنفاق. وكلها أخلاقٌ تطهُّرية تقوم على الإرادة الفردية، والعيوب الفردية والحلول الفردية، وكأنَّ المجتمع لا وجود له. والخاتمة فصلان، تبدأ في الفصل الثامن عشر في الفرق بين ما يرى الهوى وما يرى الفعل، وهو موضوع أول فصلين، وفي السيرة الفاضلة والخوف من الموت، فصلان مُتضادَّان مثل تضاد الفصلَين الأولين.

فهو رسالة في إصلاح الأخلاق بالرغم من عنوانها الذي يجمع بين الطب والتصوف، وهو العالم المادي الذي يقول بالقدماء الخمسة. يعتمد على تحليل انفعالات النفس من أجل تهذيب الأخلاق، مثل يحيى بن عدي ومسكويه، وعلى تحليل التجارب الإنسانية لمعرفة ماهيَّاتها.٥ يسُودها أسلوب المايَنْبغيَّات إيجابًا وسلبًا لغة الأوامر والنواهي بمصطلحات الأصوليين، ويُعبَّر عن النتائج بالقصص والأمثال والحكايات بعيدًا عن لغة الكِندي واضطراب المصطلحات. وهو أسلوبٌ إنشائي انتقائي لا علمي، سلاح ذو حدَّين بحكايات وأمثالٍ أخرى تُفيد الآراء المُناقضة ما دام البرهان غائبًا.

وتقوم الأخلاق على التوسُّط ونقد الإفراط والتفريط، وهو مِقياسٌ موروث، يصدُق على الأخلاق وإن كان في التطبيق أحيانًا في حالة الثورات، يُزاح جانبًا حتى يُرَد إلى المجتمع كله تعادُله. وفي نفس الوقت تقوم على مِقياس المنفعة والضرر، وهو مِقياسٌ شرعي أصولي من الموروث وليس من الوافد، كما أنه مقياسٌ عام ينطبق على البشر جميعًا بصرف النظر عن الفروق الفردية والجماعية والحضارية.

والطب الروحاني طبٌّ عقلاني بالرغم من العنوان، يُبين فضل العقل ويمدحه؛ فالعقل شرط الأخلاق، أعطاه الله إلى الإنسان وجعله أسمى ما فيه، مُشرفًا وقائدًا ورئيسًا. ويكون السؤال: لماذا لا ينشأ العقل من طبيعة الإنسان ويكون مُعطًى له من الخارج؟ العقل الطبيعي شيء، والعقل الديني شيءٌ آخر، وهو تقابُل العقل والنقل. وظيفته قمع الهوى وردعه كما قال أفلاطون الحكيم. وهنا تبدو الثنائية المُتطهرة، الحرب مع النفس ضد النفس، وانقسام النفس على ذاتها، قسمٌ يُحارب قسمًا؛ مما يجعل الطب الروحاني أقرب إلى التصوف منه إلى الفلسفة، رياضة ومجاهدة عقلية وإرادية تشبهًا بالله؛ لأن الله خالٍ من الشهوة واللذة.٦ وهو قريب من حكمة الإشراق على مستوى الأخلاق وليس على مستوى المنطق والمعرفة.٧ والسؤال هو: كيف تتفق هذه الأخلاق الثنائية المُتطهرة المُتصارعة مع الطبيعيات والميتافيزيقا الواحدية؟ وهل الطبيعة هوًى أم ميلٌ طبيعي؟ شر أم خير؟ لماذا يكون الهدى مُخالفًا للطباع؟ ولماذا تختلف الطبائع ولا تكون واحدة؟ وماذا عن الفطرة والصبغة التي فطر الله الناس عليها؟ وهل يمكن التشبُّه بالله الخالي من الشهوة واللذة فيصبح الإنسان ملاكًا لا حيوانًا، وهو لا ملاك ولا حيوان؟ ولماذا لا يكون لله لذة الفرح بالمؤمن والنقلُ مَليء بصفات الانفعال للذَّات بالرغم من صفة الإرادة القادرة على السيطرة على الانفعالات عند علماء أصول الدين؟
مهمَّة الطب الروحاني إذن التخلِّي عن عوارض النفس الرديئة على انفرادها، وإصلاح عيوبها بعد تعرُّف الرجل على عيوب نفسه.٨ وهي نظرةٌ تشاؤميةٌ تبدأ بالشر كمُبرِّر للخير. فهل النفس رديئةٌ أمَّارة بالسوء تحتاج إلى تقويم من الخارج من الله وأخلاق المنع والقهر الديني؟ قد تكون مقدمة لأخلاق الطُّغيان السياسي، وهو إصلاحٌ فردي «لا يغيِّر الله ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفُسهم». وكأن المجتمع خالٍ من المسئولية. وهل يكفي إصلاح النفس الفردي بأخلاق البطولة أم يلزم أيضًا تغير المجتمع بفعل الثورة؟ إن عيوب النفس ليست في الطبيعة البشرية، بل في الأوضاع الاجتماعية. لا تُعرَف فقط عن طريق الاستنباط، بل أيضًا بتحليل الواقع الاجتماعي.
ويُفصِّل الرازي عيوب النفس دون وضعها في مجموعاتٍ مُتشابهة، منها العشق والعجب، وهما يدلَّان على الفرح بالذَّات والنرجسية والأنانية. وهل العشق والإلف واللذة موضوعٌ واحد؟ ألم يركِّز الصوفية على العشق، والحب إبداع وخلق؟ ولمَ إدانة اللذة الحلال وهي قيمةٌ شرعية، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ وماذا عن ثقافة الجواري والإماء وما ملكت الأيمان وتعدُّد الزوجات وزواج الأبكار وحب الدنيا؟ وهل تتطلب الأخلاق بالضرورة إدانة الطبيعة ورفض الضرورة؟ ويمكن التخلِّي عن العجب دون أن يؤدي ذلك إلى التواضع المصطنَع والإحساس بالدُّونية، أو التملُّق والمُداهنة، أو الغرور المقلوب، المُتخفي المستور.٩
فإذا كان العشق والعجب من الانفعالات الفردية، فإن الحسد والغضب والكذب والبخل من الانفعالات تجاه الآخرين؛١٠ فالحسد عيب. والسؤال هو: عيبٌ ذاتي أم رد فِعل على أوضاعٍ اجتماعية، مثل سوء توزيع الدخل والإحساس بالحرمان، ولا يمكن حسابه رياضيًّا مثل حساب اللذات، جمعًا وطرحًا وضربًا وقسمة، وجعل الحسد حاصل مجموع البخل والشر؟ ودفع الغضب نوع من السيطرة على ردود الأفعال تجاه أفعال الآخرين، واطِّراح الكذب نوع من المقاومة الإيجابية بدلًا من التراجع السلبي عن المواجهة، بالرغم مما يُقال عن الكذب الأبيض، وخِدع الحرب والتمويه على الأعداء، والأعمال بالنيَّات، والتصديق بالقلب دون اللسان، وحماية النفس في لحظات الاضطهاد. ومقاومة البخل هو تحرير للذَّات من الحرص على الأشياء دفاعًا عن أولوية الآخر على الشيء.١١
ويتمُّ التخلص من الهموم الذاتية الضارَّة، الفضل الضار من الفكر والهم ودفع الغم حتى تتحرر الذات وتشحذ قُواها، وكما نبَّه على ذلك القرآن مُخففًا عن الرسول، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ.١٢ كما يتم التخلص من الغم القاتل الذي يؤدي إلى التشاؤم والسلبية، ويؤدي إلى العدم في الوجود، وليس الحزن الفعَّال الذي يدفع على التأمل والتبصر.١٣
ثم تأتي مجموعة من الأهواء تمنع حرية النفس وتُميزها عن البدن، مثل الشَّره والسُّكْر والجماع والولع والعبث والمذهب؛١٤ فالشره ربط للنفس بالبدن، والتخلص منه اتباعًا للحكمة الشرقية القديمة «أنا آكل لأبقى، وأنت إنما تريد أن تبقى لتأكل».١٥ والتخلص من السُّكْر موجِّهه إلى العرب ومجالس القدماء؛ فقد كانت العادة مجالس اللهو والشراب، أو هي نصائح مجَّانية كردِّ فِعل على ما هو شائع في العادات الاجتماعية. أما الاعتدال في الجماع فلأنَّ كثرته رديَّة للنفس، يُضعِف البصر، ويُهدد البدن، ويُسرِع بالشيخوخة والذُّبول، ويضرُّ بالدماغ والعصب، ويُسقط القوة. والسؤال هو: كيف يتمُّ ذلك في مجتمعٍ الجماعُ فيه موضوعٌ رئيسي، تعدُّد الزوجات والإماء وما ملكت الأيمان؟ ألم يؤتَ الرسول قوةً على الجماع تُعادل أربعين رجلًا؟ ألا تؤدي النبوة والعمل العقلي إلى ازدهار الجماع وزيادة الشبق؟ هل الجماع مجرد شهوة أم هو تعبير عن الحياة وفورتها، حيوانية أم روحية؟ ربما كانت الدعوة رد فِعل على حياة المُجون في عصره تبرئةً للذِّمة وتذكيرًا بالغائب. ولا تقلُّ أضرار عدم الجماع عن أضرار كثرة الجماع. أما الولع والعبث والمذهب (بضم الميم) فإنها عاداتٌ عربية قديمة، الولع بالصِّبية، العبث بأجزاء الجسد اللحية والعضو، والمذهب للطهارة، وهي أمورٌ فقهية. وقد كانت عادة العرب العبث بأصابع أرجلهم وأعضائهم في المجالس العامة بما في ذلك صلاة الجماعة.
ويتمُّ تحرير النفس من الهرولة نحو الاكتساب والاقتناء والإنفاق والجري وراء حُطام الدنيا؛ أي سلوك الطبقات العليا وحياة البذخ والإسراف، وهو ما لا وجود له في سلوك الطبقات الدنيا وحياة الفقر والضنك وشظف العيش.١٦ كما يتمُّ تحرير النفس من طلب الرُّتب والمنازل الدنيائية جمعًا بين سلطة المال وسلطة السياسة. وتطول قوائم طُلاب المناصب في العصر الحاضر من فقهاء السلطان.
وفي مُقابل أهواء النفس وانفعالاتها هناك السيرة الفاضلة، وهي السيرة الفلسفية مع نقد الديانات والمذاهب الأخرى، خاصةً الديصانية والمحمر والمنانية؛ فالفلسفة هي تعلم الموت كما قال أفلاطون من قبل، وكما هو الحال في الموروث الأصلي كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ؛ لذلك انشغلت الديانات والمذاهب بأمور المعاد وأحواله وأحوال ما بعد الموت.١٧
وقد نقد الكرماني في «الأقوال الذهبية في الطب الروحاني» للرازي بأنه ليس طبًّا ولا روحانيًّا نظرًا لفساد القسمة الثلاثية عند أفلاطون، وتعلُّق النفس بشخصٍ آخر بعد مفارقتها، أي التناسخ، وردها إلى الأجسام؛ فذمُّ الهوى ليس طبًّا روحانيًّا، إنما هو وسيلة لإثبات النبوة ومدح العقل. ومع ذلك به بعض المآثر، مثل مناسبة النفس للجسم، وتحليل عِلل الجسم الذاتية والمكتسَبة، ووصف النفس العليلة لعلاجها وبُرئها. وربما أراد الرازي بالطب الروحاني الجمع بين الثنائية المُتعارضة، النفس والبدن، طب النفوس وطب الأبدان في طبٍّ واحد أقرب إلى طب النفوس منه إلى طب الأبدان. يكفي الغرض والقصد والنية.١٨
١  هل سبب ضياع كتاب «اللذة» تدمير كل مؤلَّفات المعارضة؟ لم يُحفَظ الكتاب إلا في مُنتخَباتٍ مُترجَمة إلى الفارسية في «زاد المسافر» لناصر خسرو ورده عليها، وربما لاتفاقه مع طبيعة الفُرس، ولأنهم من المعارضة. سمَّى ابن النديم «كتاب اللذة» «مقالة»، وسمَّاه البيروني «في اللذة»، وسمَّاه الرازي «مقالة في مائيَّة اللذة»، ولخَّص ابن أبي أُصيبعة الموضوع «كتاب في اللذة غرضه فيها أن يُبين أنها داخلة تحت الراحة». وهو موضوعٌ شائع عند الحكماء؛ فمسكويه له رسالة «في اللذَّات والآلام»، ولابن الهيثم «في طبيعتَي الألم واللذة»، في طبائع اللذَّات الثلاث، والحسية والمنطقية والمعادلة. وللرازي كتاب فيما جرى بينه وبين شهيد البلخي في اللذة، وسمَّاه ابن النديم والقفطي «كتاب في نقضه على شهيد البلخي فيما ناقضه في أمر اللذة»، ونقل عنه ابن نوبخت مذهبة في اللذة. ويرجع الفضل للمستشرقين في جمع أقواله المُتناثرة في اللذة (الرازي، رسائل الرازي، ص١٣٩–١٦٤).
٢  وبالتالي فهو أقرب إلى سارتر منه إلى برنشفيج، وإلى أوغسطين منه إلى أفلوطين، بين تأكيد الشر ونفيه على المستوى الوجودي.
٣  كذلك يُقرَن برسالة هرمس في توبيخ النفس ومرثية تُقرأ في تجنيز الأموات.
٤  وردَ عند ابن أبي أصيبعة بعنوان «كتاب الطب الروحاني»، ويُعرَف أيضًا بطب النفوس، وغرضه إصلاح أخلاق النفس، وهو عشرون فصلًا، واقتبس منه إيليا النصيبيني مطران نصيبين في رسالة له بين الرازي والرجل المُتوغل في علم النحو الواردة في الفصل الخامس من الطب الروحاني. كما اقتبس منه الشيرازي الفيروزبادي (٤٧٦ﻫ) الطب الروحاني، وهو مؤلَّف في المواعظ والأخلاق. واقتبس منه أبو الفرج الجوزي (٥١٧ﻫ)، بالإضافة إلى أحاديث نبوية وأشعار من حِكم العرب. ونقده مُعاصر للرازي، ابن اليمان، والأصح ابن النمار، وردَّ الرازي عليه. كما ردَّ عليه الداعية الإسماعيلي حميد الدين الكرماني لتصحيح موقف أبي حاتم الرازي في مناظرته مع الرازي، ولنقد الطب الروحاني.
٥  وذلك مثل ديكارت واسبينوزا في الفلسفة الغربية في بداية العصور الحديثة تحت تأثير الفلسفة الإسلامية.
٦  وذلك مِثل الأخلاق عند الرواقية واسبينوزا وكانط. هي أفلاطونية طبيعية تجمع بين الروح والطبيعة، أو ما سمَّاه رافيسون الوضعية الروحانية Le Positivisme spirituel، ثم برجسون.
٧  (١) في فضل العقل ومدحه، الطب الروحاني، ص١٧–١٩. (٢) في قمع الهوى وردعه وجملة من رأي أفلاطون الحكيم، ص٢٠–٣٢.
٨  (٣) جملة ما قدَّمت من قِبل ذكر عوارض النفس الرديئة على انفرادها (السابق، ص٣٢-٣٣؛ في تعرُّف الرجل عيوب نفسه، ص٣٣–٣٥).
٩  وذلك مثل هوبز في التوحيد بين قمع النفس وقمع الشريعة والسلطان السياسي.
١٠  (٥) في العشق والإلف وجملة في اللذة (السابق، ص٣٥–٤٦). (٦) في العجب (ص٤٦-٤٧).
١١  (٧) في الحسد (السابق، ص٤٨–٥٤). (٨) في دفع الغضب (ص٥٥-٥٦). (٩) في اطراح الكذب (ص٥٦-٥٩). (١٠) في البخل (ص٥٩–٦١).
١٢  (١١) في دفع الفضل الضار من الفكر والهم (السابق ص٦١–٦٣). (١٢) في دفع الغم (ص٦٣–٦٩).
١٣  ليس كيركجارد وهيدجر وفلاسفة الوجود إذن في الغرب هم أول من تناولوا هذه الموضوعات.
١٤  (١٣) في الشره (السابق، ص٧٠–٧٢). (١٤) في السكر (ص٧٢–٧٤). (١٥) في الجماع (ص٧٤–٧٧). (١٦) في الولع والعبث والمذهب (ص٧٧–٨٠).
١٥  وهي عبارةٌ مشهورة منسوبة فيما بعدُ إلى موليير في «البخيل»: «يجب أن نأكل لنعيش، لا أن نعيش لنأكل.»
١٦  (١٧) في الاكتساب والاقتناء والإنفاق (السابق، ص٨٠-٨٤). (١٨) في طلب الرتب والمنازل الدنيائية (ص٨٥–٩١).
١٧  وهو ما سمَّاه أحد رسَّامي «الكاريكاتير» المعاصرين «عبده مُشتاق».
١٨  (١٩) في السيرة الفاضلة (السابق، ص٩١-٩٢). (٢٠) في الخوف من الموت (ص٩٢–٩٦).