من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

رابعًا: الأخلاق الطبيعية والدينية (إخوان الصفا)

وإذا كان الفارابي هو خير فيلسوف الأخلاق والاجتماع، فإن إخوان الصفا هم فلاسفة الأخلاق تأسيسًا لها من أدنى إلى أعلى، ابتداءً من الأخلاق الجغرافية إلى الأخلاق الفردية والاجتماعية إلى الأخلاق الدينية حتى الأخلاق الصوفية، ويبدو ذلك في الخير، الجزء الرابع من رسائل إخوان الصفا «العلوم الناموسية الإلهية والشرعية»؛ إذ تتضمن أسباب الشرور في العالم، الطبيعة أم النفس، الموضوع أم الذات، الوجود أم المعرفة، وهي الأخلاق الطبيعية والكونية؛ وحرية الأفعال، وهي الأخلاق الإنسانية؛ والرغبة في الآخرة والثواب والعقاب، وهي الأخلاق الدينية؛ وكيفية الدعوة إلى الله ومخاطبة النفس له، وهي الأخلاق الصوفية.١

وهي في كل مراحلها أخلاقٌ إنسانية يظهر فيها لفظ الإنسان كما هو الحال عند الفارابي، لا تعتمد على العقل وحده أو الذوق وحده، بل أيضًا عن الروايات عن الصحابة والأولياء والحكايات عنهم، واعتراض أحدهم على الله لماذا خلق، وعلى الجدل القرآني كما هو في الحديث الشريف «وحجَّ آدم موسى»، وهو أضعف جزء في الرسائل لأنه صوفيٌّ خالص، يضع تقابلًا بين الحقيقة والشريعة، الحقيقة والطريقة.

ونظرًا لتداخُل كل شيء مع كل شيء تبدو الرسائل كلها أقسام الحكمة كلها المنطق والطبيعيات والإلهيات قراءةً أخلاقية، النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والتاريخ، بين الحكمة النظرية والحكمة العملية ولو بأسماءٍ مختلفة؛ فالمنطق يشمل الرياضة، والطبيعيات تضمُّ الجسمانيات النفسانيات، والعقليات تُعادل الإلهيات، والعلوم الناموسية الإلهية والشرعية تُعادل المقامات والأحوال في الفلسفة الإشراقية. وهي نفس الأقسام الأربعة في «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا. والرسالة التاسعة من القسم الرياضي «تهذيب الأخلاق» تبدو فيها الرياضة مقدمة للأخلاق.٢

(١) الأخلاق الطبيعية (الجغرافية)

وهي أخلاق البيئة التي تخضع لها الأمزجة الفردية والتكوينية العضوية طبقًا لأحكام النجوم؛ فالأمزجة أربعة طبقًا للعناصر الأربعة: الأرضي، والناري، والمائي، والهوائي. وهي الأخلاق الأرضية التي تتحكم فيها الطبيعة «البيولوجية». يُعطي الإخوان تفسيرًا ماديًّا للأخلاق عن طريق الأمزجة، وإن كانت حركات الكواكب هي التي تؤثر علة تركيب الأفلاك، فتُسيطر الخرافة على العلم كما يُسيطر الأعلى على الأدنى. وهناك الأخلاق الفلكية؛ أي أثر النجوم والأفلاك في الأخلاق ثم في السلوك؛ فالسماء تتحكَّم في الأرض، والحتمية الكونية تحتوي الحرية الإنسانية، الطبيعة المريخية تؤدي إلى التعصب والجدل، والطبيعة المشترية تؤدي إلى الزهد والورع. وماذا عن باقي الأفلاك العشرة؟

وتختلف أخلاق الناس طبقًا للطبيعة الأرضية والطبيعة الفلكية من أعلى إلى أدنى على خمسة وجوه: أخلاق الجسام والمزاج، وهي الأخلاق البدنية. وأخلاق البُلدان وخصبها، وهي الأخلاق الجغرافية. والنشوء على دين الآباء والمعلمين، وهي الأخلاق الاجتماعية أو التربوية. وأخلاق النجوم، وهي الأصل، وتنقسم إلى أخلاقٍ قدرية سماوية وفلكية. وأخيرًا العقائد، وهي الأخلاق الدينية.٣

وتتوالى هذه الثنائيات على كافة المستويات؛ العضوية مثل الحياة والموت، الشبابية والهرم، النوم واليقظة، المرض والصحة؛ والنفسية مثل العلم والجهل، التذكر والغفلة، العقل والحماقة؛ والأخلاقية مثل الفجور والعفة، البخل والسخاء، الجبن والشجاعة، الألم واللذة؛ والاجتماعية مثل الصداقة والعداوة، الفقر والغناء، الخير والشر، الخوف والرجاء، الصدق والكذب، الحق والباطل، الصواب والخطأ، القبح والحسن.

وبالمثل للحرية الإنسانية الأخلاق نوعان؛ جِبلَّة بسبب الأخلاط والأمزجة أو البيئة أو النجوم؛ ومكتسَبة بالتعليم. والجبلَّة هي الأخلاق المطبوعة وهي الأصل، والأخلاق المكتسَبة هي الفرع.

وهي أخلاقٌ جبرية كونية أو طبيعية أو اجتماعية، مثل العقائد الجبرية في علم الكلام اعتمادًا على بعض الأحاديث، مثل: «السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه.» في النحس واللاسعادة، وربط ذلك بالأفلاك تحت تأثير الخرافات الشعبية، تبيِّن أثر الجغرافيا على السلوك أولًا قبل أن تجمع بين الوطنية والروحية، المادية والإشراقية، لا فرق بين الطبع والاكتساب، بين الحتمية الطبيعية والحتمية الاجتماعية.٤

واختلاف الأخلاق ليس للمزاج ولا للقرانات للأفلاك والمواليد طبقًا لها؛ فهذه حتميةٌ كونية تُمحى مع المسئولية الفردية وأفعال الاختيار.

أخلاق الدنيا بالطبيعة، وأخلاق الآخرة بالاكتساب. الأولى بالفطرة، والثانية بالجهد. والسؤال هو: لماذا لا يكون العكس صحيحًا؛ اختيار الدنيا بالإرادة، والذهاب إلى الآخرة باندماج الروح خاصةً إذا كانت الطبيعة خيِّرة؟ ولماذا لا يكون كلاهما طبيعة أو كلاهما حرية دون الوقوع في نظريةٍ تطهُّرية مُتشائمة في الطبيعة، ومُتفائلة للروح، والتي عندها تنتفي المسئولية والجزاء؟ ما دامت الأخلاق في الجبلَّة فلا مسئولية ولا حساب، لا فرق الحتمية الطبيعية والحتمية الاجتماعية والحتمية الدينية.

وأخلاق الاكتساب منها ما يُحكَم عليها طبقًا للقاموس وطبقًا للعقل؛ أي وجود معيار للحكم على أخلاق الإرادة الحرة. ومن هذا التقابل الثنائي بين الطبيعة والاكتساب انقسمت أخلاق النفوس أربعة أقسام؛ المكتسَبة بالعادة، العلوم التعليمية، الآراء المعتقدة، والأعمال المكتسَبة للاختيار والإرادة. وهي قسمةٌ غير دقيقة، أطرافها العادة والاختيار، ووسطها الرياضيات والعقائد. وربما الرابطة بينهما البرهان، حضورًا في التعاليم وغيابًا في الاعتقاد. الطرفان عمل، والوسط نظر.

والنفوس ليست صفحةً بيضاء كما يقول الإخوان لوجود الأفكار الفطرية والنور الطبيعي، وإلا تحوَّلت الطبيعية إلى مجرد انفعال، والاكتساب إلى فعل، وكما أصبح الإنسان البالغ العاقل قابلًا على المعارضة والمقاومة لما يكتسبه من المجتمع. وإذا كانت الأخلاق طبعًا وعادات، فإن أعمال الناس في ظاهر أمورهم تكون بحسب أخلاقهم التي تطبَّعوا عليها، أو بحسب عاداتهم التي نشَئوا فيها، أو بحسب آرائهم التي اعتقدوها دون أن يقلِّل ذلك من شأن حرية الأفعال.

بل إن الشعائر لها رموزٌ كونية؛ فالبيت وسط الجرم مثل الأرض وسط العالم، والطواف دورات الأفلاك، والمُصلون الكواكب الثابتة، والحُجاج الكواكب السيَّارة، ورجوع الحُجاج رجوع النفوس، وتطابق الأشخاص الفلكية الثابتة الموجودة الدائمة الدوران مع الأشخاص السفلية الكائنة. وهي دلالاتٌ كونية مثل دلالات الصوفية.٥

وليست الشعائر فقط رموزًا كونية، بل هي أيضًا عمليات، الجودة بالربح أو الخسارة تحت أثر المجتمع التِّجاري وأخلاق التُّجار، وهو كذلك في كل دين، في اليهودية قبل أن تحوِّلها المسيحية إلى شعائر روحية خالصة، انتقالًا من ملكوت الأرض إلى ملكوت السماء. وقد حاول أبو حيَّان ذلك من قبلُ في تأويل مناسك الحج العقلي إذا ما ضاق الفضاء عن الحجة الشرعية.

ويمكن تأويل مناسك الحج على نحوٍ اجتماعي، كنوع من الحلول الوسط مع ديانات العرب قبل الإسلام، والارتباط بها والتواصل معها، قبل أن يحوِّلها إخوان الصفا إلى دين العشق والمحبة اشتقاقًا من لفظ الخليل.

(٢) الأخلاق الفردية والاجتماعية

وتُشير عديد من الرسائل إلى الأخلاق الفردية والاجتماعية، مثل حرية الأفعال وتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق والزهد والسعادة والصداقة.٦
والسعادة أربعة أنواع طبقًا للقسمة العقلية الكاملة للسعداء؛ وهم الأشقياء في الدنيا والآخرة، السعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة، والأشقياء في الدنيا سعداء في الدنيا والآخرة، والسعداء في الدنيا والآخرة، طبقًا لأحكام التكليف؛ المحرَّم والمكروه والمندوب والواجب دون الحلال، وكأن الأخلاق ليست في وجود العقل الطبيعي نفسه، أخلاق الوجود.٧ فما يهمُّ الأخلاقَ هو التطهُّرية الثنائية المُتعارضة مثل الواجب والمحرم، والمندوب والمكروه. والسعادة أفضل شيء يُرزقه الإنسان، وهي في الخارج أو في الداخل؛ والخارج المال أو الأصدقاء، والداخل هو الجسد، المال والصحة، أو النفس، حسن الخلق والذكاء؛ والأقران مثل الزوجة والصديق والولد والأح والأستاذ والمعلم والصاحب والسلطان.٨ المعلِّم قبل النفس، والمعلِّم الذكي أحد أسباب السعادة. إلى هدا الحد يتمُّ رفع المعلِّم، والأستاذ والصاحب بمنزلة الأخ والزوجة والولد. والسؤال هو: هل المعلِّم الرشيد هو بالضرورة العالم بالغيبيات، المعاد والآخرة؟ وهل السلطان صديق أم عدو؟

ينقد الإخوان العلماء المزيَّفين المتشبِّهين بأهل العلم والمُوالين لأهل الدين، الجاهلين بالفلسفة والشريعة وادعاء النظر في خفيَّات الأمور، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء لهم، ولا يميِّزون الأمور الجلية، ولا يتفكَّرون في الموجودات الظاهرة المُدرَكة بالحواس، المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الطفرة والجزء الذي لا يتجزَّأ، وغيرها من الأمور المتوهَّمة التي لا وجود لها في الهيولى، وهم شاكُّون في الأشياء الظاهرة الجلية، ويدَّعون المُحالات بالمُكابرة والحِجاج، كذَّابون على الأنبياء ينتحلون ولا يتحققون، يدَّعون ما لا يعرفون، يتكلمون فيما لا يُحسنون، ويهيمون في أودية ما يتوهَّمون، ويقولون ما لا يفعلون، توجُّهًا من وصف القرآن الكريم للشعراء، وهم علماء الكلام والنفوس.

وأخلاق الشياطين ثلاثة؛ كِبر إبليس، خلَّاق العُجب والأنفة؛ وحرص آدم، أخلاق الهلع والشُّح؛ وحسد قابيل، أخلاق الحقد والغل. هذه الخصال الثلاثة هي أصول الشرور وأمَّهات المعاصي. لا تجتمع في شخصٍ واحد، بل تتوزع في عدة أشخاص.٩
وقد تكون أخلاق الطبيعة مواهب من الله، وهي نوعان؛ جسمانية مثل المال، ونفسية مثل العلم. والناس على أربعة أنواع في طلب المواهب كما هم في طلب السعادة؛ لا مال ولا علم، مال فقط، علم فقط، مال وعلم. وهي علم مع مال، ومال مع علم، ومال فقط مع علم فقط، والتوسط بين الأطراف. وهي نفس البنية الرباعية لأحكام التكليف؛ المحرَّم والواجب والمكروه والمندوب وإسقاط المباح.١٠
وبكل مرتبة طريقةٌ في الدعوة إليها حتى يمكن الوصول إلى الدعوة الكاملة، تكامل المال والعلم.١١ من ليس له مال ولا علم نفسه ذكية، جميلة الأخلاق، سليم القلب من الآراء الفاسدة، مُحبٌّ للخير وأهله، صابرٌ راضٍ بما قسم الله له؛ وهو العامي الذي على الفطرة الذي يرى الأخلاق في ضرورة اتفاق العلم والعمل عند العالم لأنه يأخذ بالقدوة. وقد يوجد أقوامٌ علماء مُتفلسفون يصنِّفون الكتب في تحسين الأخلاق، ويأمرون الناس بها، وهم أسوأ الناس خلقًا. ومن له مالٌ دون علم يضمُّ أحدًا ممن رُزق العلم حتى يكتمل المال بالعلم. ويجتمع الكمال في شخصَين مُتعاونين. ومن رُزق العلم فقط دون المال يصبر حتى يأتيَ الفرج. فالعلم مُكتفٍ بذاته وليس كالمال الباحث عن العلم. ومن أُوتي المال والعلم يبحث عن المحروم منهما ليدلَّه عليهما. ويشكر الأربعة الله على ضم أحد الإخوان إليهم دون أن يمنَّ على المحرومين من أحدهما أو كليهما.١٢
وما يحتاجه الأخ أربعون خصلةً تجتمع في واحد أو في أربعين شخصًا، في كلٍّ منهم خصلة ومُجتمعون على قلب رجل واحد. ويمكن جمعها في أربع مراتب تُوازي أربع مراحل العمر؛ الأولى الأبرار الرحماء، ويمتازون بصفاء الجوهر وجودة القَبول وسرعة التصور، ولهم القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات مثل ذوي الصنائع، ويحصل عليها الإنسان في سن الخمس عشرة. والثانية الأخيار الفُضلاء بما لديهم من فوة النفس، ذوو السياسات ومراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض من خلال القوة الحكمية الواردة على القوة الناطقة. ويبلغ الإنسان هذه المرتبة وهو في سن الثلاثين. والثالثة الفضلاء الكرام، وهم الملوك ذوو السلطان والأمر والنهي بما لديهم من قوةٍ ناموسية، ويبلغها الإنسان في سن الأربعين. والرابعة وهم الأنبياء أصحاب التسليم وقبول التأييد لكل الإخوان، أصحاب القوة الملكية، المعاد والمعراج والقيامة والبعث والنشر والحساب والميزان والصراط، ويبلغها الإنسان في سن الخمسين.١٣

ويمكن الاعتراض على هذه الأخلاق بأن الدعوة إلى الفتوح للذي ليس له علم ولا مال دعوةٌ إلى الرضا والاستكانة دون حث على المطالبة والتغيُّر نحو الكمال. ولا يخلو الأمر من تأويلٍ رمزي للأعداد؛ فالأربعون عددٌ رمزي وَوَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، كما أتت النبوة في سن الأربعين في المرتبة الثالثة.

والمطلوب من الموحِّدين أربع خصال؛ الإقرار بحقيقة الأمر، والتصور له بضروب الأمثال للوضوح والبيان، والتصديق له بالضمير والاعتقاد، والتحقيق له بالاجتهاد والأعمال. وتتدرَّج هذه المراتب في علم أصول الدين في قضية الإيمان والعمل بين الداخل، التصديق والوجدان؛ والخارج، القول والعمل.١٤ وهي تُعادل منازل المقرَّبين بالقرآن وكتب الأنبياء وإخبارها بالغيب. الأول مُقرٌّ بلسانه غير مصدِّق بقلبه، وهو القول. والثاني مُقرٌّ بلسانه مصدِّق بقلبه دون معرفة المعاني والبيان، وهو القول والوجدان دون المعرفة والعقل. والثالث المُقرُّ باللسان والمصدِّق بالقلب والمتبيِّن بالعقل دون القيام بحقه، وهو الجمع بين اللسان والقلب والعقل دون الفعل. والرابع المُقرُّ باللسان والمصدِّق بالقلب والمتبيِّن بالعقل والقائم بحقيقة، وهو الجمع بين القول والوجدان والعقل والفعل. وهو ما يُطابق أربع مراتب أخرى للمؤمنين؛ الأولى قوة النفس والنهوض من الجسد. والثانية النشاط في طلب الخلاص من الهيولى، جهنم النفوس. والثالثة الرجاء والأمل بالفوز بالنجاة، مفارقة النفس للجسد. والرابعة الثقة بالله واليقين بتمام الأمر.

وأخيرًا يركِّز إخوان الصفا على الصداقة، موانعها وكيفية اكتسابها ومعاشرة الإخوان. ما يمنع من الصداقة تراكُم الجهالات، ورداءة الأخلاق بحسب الجهالات المُتراكمة، وفساد الآراء حسب الأخلاق الرديئة منذ الصِّبا، وسوء الأعمال بحسب الآراء الفاسدة، كل مرتبة عُليا قائمة على المرتبة الدنيا، وكل مرتبة دنيا تتَّجه إلى المرتبة العليا. والبداية بالمعرفة وتصفية النفس من الجهالات.

وهناك أربع جهالات مانعة من الصداقة؛ الجهة وكيفية انبعاث النفس، والجهل بسبب ربط النفس بالجسد، والجهل بكيفية ربط النفس، والجهل بالفرق بين النفس والجسد. المانع من الصداقة في كل الموانع هو الجهل بصلة النفس بالبدن التي يسمِّيها الإخوان «ربط» في لفظٍ مادي حسي، وما دامت لا تعرف النفس كيف تُفارق فلا خلود ولا فوز.

وتتم معرفة النفس قبل معرفة العالم كما هو الحال في العبارة الشهيرة للسيد المسيح: «ماذا تربح لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟»

وكل إنسان مركَّب من جوهرَين؛ الجسد، وهو لحم وجِلد وعظم وعصب وعروق؛ والنفس، وهي جوهرةٌ سماوية، روحانية نورانية، علامة إدراكه لصور الأشياء. وهي ثنائيةٌ حادَّة بين النفس والجسم نظرًا لوجود عناصر مُتوسطة بينهما، مثل المخ والأعصاب. ليس السؤال كما يرى الإخوان كيف يتم خلاص النفس من هذا الجسد، بل كيف يتم بقاء النفس في هذا الجسد. هذا هو تحدِّي العصر؛ البقاء وليس الفناء.

والأسباب التي تمنع من الصداقة إما أن تكون سببًا غير مفقود فيُقطَع، أو علة غير موجودة فتُوجَد؛ فهي أسبابٌ خاضعة للتغيُّر الاجتماعي، وليست ثابتةً جوهريةً دائمة.١٥

وأكبر مصيبة سوءُ اختيار الإخوان؛ فمن الناس من لا يصلُح للصداقة على الإطلاق، وهم الأصدقاء المزيَّفون أصحاب الخصال السيئة، الطرف الثاني في الثنائيات المُتضادة، من يتشكل بشكل الصديق، ويدلِّس بالموافقة، ويُظهر المحبة والبغضاء في صدره وضميره. والسؤال هو: ألا يمكن الحب والصداقة بين الضدَّين للتكامل؛ فحب النقيض للنقيض حياة، وحب الشبيه للشبيه ملل؟

إنما الأصدقاء هم أصدقاء الخير الذين يؤثِرون الصديق على كل شيء، الأهل والولد، طبقًا للتوجيه اللاشعوري للموروث يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ. وهؤلاء هم الذين يتم التمسك بهم. ولا تتم الصداقة بين مختلفين بالطبع لعدم اجتماع حفظه حتى لا يتحول إلى عدو، وإذا أحسن الصديق فلا يجب الإمنان عليه حتى لا يُصيبه الكِبر.١٦ واكتساب الصديق أصعب من اكتساب المال؛ فالتعامل مع البشر أصعب من التعامل مع الأشياء.
ولا بد من معرفة الصديق أو الأخ، اعتبار أحواله، وتعرف أخباره، وتجربة أخلاقه، والسؤال عن مذهبه واعتقاده، كما هو الحال في رسائل «الصداقة والصديق» لأبي حيان. الأصدقاء على أنواع في ثلاث وعشرين ثنائية، ويصعب تطبيق هذه البنية الحسابية على الأفراد.١٧
وفي رسالة «معاشرة الإخوان» يصف الإخوان كيف يُعاشر الإخوان بعضهم بعضًا في مجلسهم للدراسة، وهم أشبه بالخلية أو الجماعة المغلَقة في أماكن وأوقات معلومة لا يُخالطهم غيرهم. وللكتب النفسية الأولوية على باقي الكتب في الحس والمحسوس، العقل والمعقول، وأسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية والمعاني الشريفة والعلوم الرياضية الأربعة، وباختصارٍ ضرورة معرفة العلوم وعدم هجر أي كتاب أو التعصب إلى أي مذهب؛ لأن الفلسفة شاملة حسًّا وعقلًّا، ظاهرًا وباطنًا، جليًّا وخفيًّا، وكلاهما تجلِّيان للوحدانية.١٨ ويُلاحَظ على علوم الإخوان ومصادرها جعل الكتب الطبيعية والإلهية مصدرَين مستقلَّين مع أنهما قسمان من علوم الحكمة، ووضع الحكماء والفلاسفة، ومرة كعلمٍ مستقل، وجعل موضوعات رسالات الأنبياء غيبية، أسرار وملائكة وأساطير وقرانات وأدوار وحسابات، وميزان وصراط وبرزخ، وليس مصالح الناس وأمور معاشهم.

والإخوان لا يكفِّرون أحدًا على عكس الخوارج، والناس كثيرو التلوُّن إلا الإخوان. صداقتهم قرابة رحم، يعيشون معًا، ويرثون بعضهم لأنهم نفسٌ واحدة وأجسامٌ مُتفرقة، وهم الأعوان على أمور الدنيا، أعز من الكبريت الأحمر.

(٣) الأخلاق العقائدية

وتضمُّ الأخلاق الدينية الأخلاق العقائدية وأثر العقائد الصحيحة على الأخلاق الحسنة، والعقائد السيئة على الأخلاق القبيحة، كما تضمُّ الأخلاق الدينية، وهي مجموعة القيم الدينية الشبيهة بمقامات الصوفية، مثلًا الإيمان بالقضاء والقدر والصبر والتوكل والإخلاص والطاعة، وأخيرًا تضمُّ أيضًا الأخلاق الشرعية أخلاق العبادات. والآراء الفاسدة نوعان؛ من شياطين الجن، الآراء السرية؛ وشياطين الإنس، أُلفة الآراء العلنية. هناك صلة بين الأخلاق والعقائد؛ فالعقائد ضِمن خمسة أسباب لاختلاف الناس في الأخلاق مع أحكام النجوم، والتربية والأخلاط والبيئة الجغرافية، وهي أقلُّ عموميةً من الأخلاق الإنسانية العامة التي تتجاوز العقائد والديانات، وأكثر خصوصيةً من الأخلاق الدينية التي تشمل الفلسفة والتصوف والأصول. الاعتقاد يمثِّل النظر، والأخلاق العمل. ويقوم العمل على النظر، كما يؤثِّر النظر في العمل. والمقال المشهور على ذلك قصة المجوسي مع اليهودي الذي يؤمن بالأخلاق المِلِّية في مقابل الأخلاق الإسلامية من نوع الأخلاق العامة التي تتجاوز الأخلاق الطائفية.١٩

للعقائد أثرٌ حسن أو سيئ على النفس؛ وبالتالي في السلوك. ولا يخصِّص الإخوان لذلك فصولًا خاصة أو أقسامًا أو فواصل، ويقدِّمون عدة نماذج لذلك مع أنها كثيرة لا يمكن إحصاؤها، تتعلق بوجود الله والإمامة، ذات وصفات وأفعال، والنبوة والمعاد والحشر، والإيمان والعمل.

فإذا كان صاحب القول بقِدم العالم دون صانع أو مدبِّر سعيدًا، فلماذا يخاف الموت ويندم في الآخرة، ويشهد الحسرة والندامة والخُسران؟ وإن كان شقيًّا وأسوأ حالًا وشقاءً في الدنيا والآخرة، ولا يدري المؤمن الذي يقول بصانعَين أين الخير لفعله وأين الشر لتجنُّبه، فيعيش حيران. والقول بأن الناري والإله والروح القدس مختلقة اليهود، وصلبت ناسوته فذهب لاهوته، وترك مخزٍ، ولا يُثير في النفس الغليظة القاتل والحنق على المقتول، وحزنًا وغمًّا يبقى طول العمر معذبًا مؤلمًا مُشتهيًا الانتقام، فيموت بحسرته.

ويمكن للملحد الرد على ذلك والانتهاء إلى العند. صحيحٌ أن هناك آثارًا نفسية للاعتقادات الفاسدة، وأخرى حسنة للاعتقادات الصحيحة، ولكنها ليست عقابًا أو ثوابًا، بل هي مجرد نتائج طبيعية للعمل في أسس النظر، ويستعملها الإخوان في خطابٍ إنشائي ترغيبي أو ترهيبي ينقصه الدليل في أغلب الأحيان.٢٠
فقد يُعطي القول بقِدم الحالة الإحساس بالأبدية، فلا انقطاع قبل الخلق ولا بعد الموت. هذا العالم باقٍ؛ ومن ثَم ضرورة العمل فيه والالتزام به. هذا ما قد تسبِّبه نظرية الخلق من الإحساس بالعدمية والفناء، وأن الإنسان في هذا العالم مجرد عابر سبيل.٢١ والقول بإلهَين هو إقرار واقع الإيمان الشعبي بصراع قوة الخير والشر في الإنسان، والعقل قادر على التمييز بين الخير والشر. ولماذا لا يكون البقاء في الدنيا من خلال الأثر الحسن والعمل الصالح دون خوف من الموت ما دام الإنسان قد أبدع وأدَّى الأمانة وحقَّق الرسالة التي تستأنفها الأجيال التالية؟ وموت الإله هو رمز للعدمية وقلب القيم والقضاء على المشاكل في النفس الإنسانية، والذي ينتهي إلى تحليل مثل البشر كما تفعل اليهود الآن، وإباحة كل شيء بلا قانون إلا القوة كما يفعل الغرب الحديث.٢٢
أما إنكار البعث والنشور والقيامة والحساب ولقاء الرب ورجاء الآخرة وخوف العاقبة فيجعل الإنسان طول عمره في طلب الدنيا.٢٣ وأفكار المُجازاة بعد الموت والآخرة بعد خراب السموات والأرض، وأفكار الترغيب والترهيب وقد ركَّبها الله في طبيعة البشر؛ فالمرغوب مرهوب، عاجلٌ حاضر في الحواس، وأجلٌ غائب في الوهم يقلِّل الرغبة في الثواب على الأعمال، والرهبة والخوف من العقاب على السيئات؛ ومن ثَم فلا رهبة ولا استحقاق. فمن لا يؤمن بالحساب في الآخرة يكون شرها في الدنيا، ويمكن لغير المؤمن بهذه الطريق القول بأخلاق بلا إلزام ولا جزاء، وإلا أصبح الإنسان أجيرًا كعبد السوء.٢٤ ويمكن الحصول على الكمال في الدنيا، وهو كمالٌ إنساني في حدود القدرة الإنسانية وليس خارجها، والأمل والإحساس به هو المستقبل كبُعدٍ شعوري.٢٥ هناك جزاء في الدنيا حتى ولو كان نهاية الإيمان من علامات الساعة، ويمكن للإنسان أن يعيش فاضلًا دون ترغيب أو ترهيب، والحواس أصدق من الوهم الذي ما هو إلا قياس الغائب على الشاهد. ومع ذلك يمكن الاشتياق إلى عالمٍ آخر يسُوده العدل، إن لم يحدُث في الدنيا فإنه يُعطي أملًا كبيرًا في حدوثه في عالمٍ آخر؛ فالحياة ممتدة، والتاريخ أوسع من الماضي والحاضر، ويمتد إلى المستقبل.

ومن الاعتقادات الفاسدة الاعتقاد بأن عذاب الكفار غيظ وضيق، كلما احترقت أجسادهم عادت الرطوبة لتحرق مرةً أخرى تشفيًا. وهو إساءة الظن بالله، وجعله خاليًا من الرحمة والشفعة، ومملوءًا بالشدة والقسوة مثل الصادي. وأهل الجنة أجسادهم لحمية، أجسام طبيعية قابلة للتغير والاستحالة والآفات، فينتظرون النعيم الحسي. وهي اعتقادات النساء والجُهال والصِّبيان في مُقابل العقلاء والحكماء، وبالرغم من الإجماع بأن العقل والنقل شيءٌ واحد؛ لذلك مسموح للعقلاء بالتأويل. وهذه عقائد شعبية، تصوُّر عذاب الله تشفيًا وحنقًا والتذاذًا بآلام البشر. كل ذلك خيالٌ شعبي وتفسيرٌ حرفي وتشبيهٌ إنساني يستلزم تفسيرًا معنويًّا كما يفعل الفلاسفة، وعودًا إلى أصلها في التجربة البشرية كما يفعل علماء النفس والصوفية. وهذا ينطبق على أهل الجنة وأهل النار على السواء، وربما بقايا من عقائد مصرية قديمة في ضرورة الجسد بعد الموت للنعيم والعذاب. ويرى الإخوان أن الحكمة في عذاب النفوس كفَّارة لذنوبهم، أو رياضة لنفوسهم، أو بيان لفضل الله ونعمته، وهو تبرير لآلام وقبولها لا يختلف عن الإيمان الشعبي.

وهناك عقائد أخرى تتعلق بالعمل، مثل عداوة إبليس للناس، فيفعلون دون أمر الله، يخلق في الإنسان حقدًا على جزء من خلقه، ويُناصبهم العداوة والبغضاء. وإن لم يستطع النَّيل منه بقي طول عمره مُغتاظًا مُتألمًا معذَّبًا، بل كافرًا بالخلق وتنصيب إبليس عدوًّا له. وذلك يعني إغفال الحرية الإنسانية والشمولية على فعل الخير والشر، وتعليق ذلك على «شمَّاعة» إبليس. وإذا كانت هذه الذريعة صحيحة، فلماذا لا يحقد الإنسان على إبليس وجنوده ويُعاديهم، ويأخذ زِمام المبادرة منه؟ أليس هذا هو الهدف من قصة آدم وإبليس ودلالتها النهائية، تحذير البشر من الغواية؟

والترخيص في الشُّبهات والإباحة في المحظورات والمحرمات يُكسِب جُرأةً على الله، وتعديًا لحدوده، وارتكابًا لمحارمه، ومخالفةً للأنبياء، ونفاقًا ورياءً لا أمانة له، وتوسيع «اللمم» لإقالة ذوي العثرات. وينقد الإخوان عقيدة المهدي المنتظَر كما يفعل ابن تيمية؛ مما يُبعدهم عن عقائد الشيعة. وإن اختفاء الإمام الفاضل المنتظَر الهادي خوفًا من المُخالفين يجعل الإنسان طول العمر مُنتظِرًا خروج الإمام، مُتمنيًا مجيئه، مُستعجلًا ظهوره، ثم يفنى عمره ويموت حسرةً وغصةً في النفس، وفي العقليات الذات الصفات والأفعال، السمعيات النبوة والمعاد، ثم الإيمان والعمل والإمامة.٢٦

وكما أن للاعتقادات الفاسدة آثارًا سيئة على الأخلاق، فإن للاعتقادات الحسنة آثارًا قيِّمة على الأخلاق. الأولى أخلاق الشياطين، والثانية أخلاق الملائكة. بعضها معزوز في النفس، وبعضها بالعادة ينشأ عليها الصِّبية من الصِّغر. وعلى العاقل أن ينفق أمواله وسيرته، ولا يحتج بالطبع المركوز، بل يجتهد وينظر ويبحث. البداية بإصلاح للنفس قبل الغير، وبوصايا الله، وبالدعوة إلى الوحدة، والتنبيه على شر الفُرقة، والآراء الحسنة لأولياء الله وعباده الصالحين ومذهب الربَّانيين من لهم طهارة اللسان والقلب وعدم الاعتراض على الله، على الأرض بأجسامهم، وفي الملأ الأعلى بأرواحهم، لهم نور اليقين في النفس، وتطهَّروا من الآراء الفاسدة عن قلوب الأولياء بعد ما عرفوا من الحق.

ولا توجد موضوعاتٌ محدَّدة كما هو الحال في الاعتقادات الفاسدة، بل مجرد أحاديث عامة عن بعض الموضوعات المُتفرقة، مثل بعض الأحكام الشرعية عن المأكولات والمشروبات، الصنائع والتجارات والأعمال والحِرف وتصاريف الأمور، جمع المال والأثاث والأمتعة والادِّخار، إنفاق المال واتخاذ المنازل وإنشاء العقار وعمارة الأرض، والحرث والنسل، وتربية الدواب، وعشق النساء والغِلمان واللهو والغناء والنرد والقمار والعصبية والحرب والقتال، وأخيرًا الصوم والصلاة والصدقات والقراءة والتسبيح والخشوع والبر والعبادة. وهذه ليست اعتقادات بل فقهيات، وليست نظريات بل عمليات تتعلق بشتَّى النواحي المعيشية التي تصوِّر حياة المجتمع الإسلامي التِّجاري الحِرفي القديم، بما في ذلك عشق النساء والغلمان، ثم تغطية ذلك كله بالصوم والصلاة والصدقة والقراءة والتسبيح والخشوع والبر ومظاهر العبادة، إشباعًا لحاجات البدن ومطالب الروح، لمقتضيات الدنيا وحيثيات الآخرة. وهو أقرب إلى النفاق الديني والتعمية والتستُّر والتخفِّي وراء الدين لتشريع الانغماس في الدنيا.

والموضوعات الأخرى تتعلق بالمعارف والعلوم ولقاء أهل العلم، النحو والشعر والخطابة والفصاحة، والهندسة والحساب والنجوم والطب والفلك والحكمة، وعلم العزائم والرُّقى والسحر والكيمياء والحِيَل، والطبيعيات والإلهيات وأحكام النجوم، جمعًا بين فنون الأدب والعلوم الرياضية والطبيعية وعلوم الحكمة دون المنطق، واستبدال العزائم والرُّقى والسحر والكيمياء والحيل به.٢٧ وشهوة العلم مثل باقي الشهوات في ثنائيةٍ مُتطهرة؛ شهوة البدن وشهوة العقل. والموضوعات بلا عناوين وفصول، مجرد خطابة وعظية وحماسات، قلب الآراء السيئة، بلا برهان أو تصورات، وخالية من الإقناع العقلي. تعتمد على الحجج النقلية والآيات والأحاديث.

ليس موضوع الإيمان بالضرورة موضوعًا غيبيًّا بعيدًا عن الحواس، بل الواقع الاجتماعي وتناقضاته من أجل تغييره بالإصلاح أو بالثورة. وهل أول عقيدة الملائكة وقد آمَن عمر بمحمدٍ الثوري وأبو بكر بالنبي وليس بالملائكة أولًا؟ لقد انتشر الإسلام في آسيا بالنظام الاجتماعي. وكيف يمكن إصدار أحكام على الملائكة بأنهم مُحتاجون إلى الإيمان لتفاوُتهم فيه، وما هو المقياس؟ وأشرف الملائكة حمَلة العرش تصوُّرٌ إنساني خدم، عمل دون نظر، وقربهم من الله قربٌ مكاني وليس قربًا روحيًّا. وإذا كانوا مُتفاوتين فليسوا ملائكة؛ لأن الملاك هو الكامل المُطيع.

(٤) ماهية القيم الدينية

وفي إطار الصلة بين الأخلاق والدين يعرض الإخوان بالتفصيل عدة قيم دينية كواسطة بين العقيدة والأخلاق واضعين ماهياتها، مثل ماهية الإيمان، وماهية التوكل، وماهية الإخلاص، وماهية الصبر، وماهية القضاء والقدر، وماهية الخوف والرجاء، وماهية الزهد، وماهية النفس باعتبارها قيمة، وذلك تحت عنوان «ماهية الإيمان وخصال المؤمنين»؛ فالإيمان هو الجامع لكل هذه المقامات المفردة أو الأحوال المزدوجة كما هو الحال عند الصوفية، وكلها أقرب إلى المواعظ الدينية والحث على الفضائل منها إلى التحليلات النفسية والاجتماعية. وهي رسالةٌ تجمع بين بعض الموضوعات الكلامية مثل الأسماء والأحكام أو الإيمان والعمل، وبعض المقامات والأحوال الصوفية لتأسيس علم أخلاق ديني.٢٨

(أ) ماهية الإيمان

ويرفض الإخوان رأي المتكلمين بأن الإيمان علم عن طريق السمع في مُقابل العلم العقلي عن طريق القياس من أجل الدفاع عن العلم الإشراقي، ووضع موضوع الإقرار والتصديق والعمل في صيغةٍ إشراقية؛ فالوحي مجرد إقرار وتصديق وإيمان. وتبدأ الرسالة بنظرية العلم، ورفض تعريف الحكم في تحديد العلم بأنه تصور النفس للمعلومات؛ لأن ما يأتي عن طريق السمع لا يمكن تصوره. فالإخوان مع الحكماء عندما يكونون إشراقيين صوفية، وضدهم عندما يكونون علماء مناطقة. الغرض منها معرفة شرائط الإيمان حتى يعلم كل إنسان هل هو مؤمن حقًّا أم شاكٌّ مُرتاب. فالمؤمنون ورثة الأنبياء. البداية من القرآن، ومدح المؤمنين وذم الكافرين، وبيان الفرق بين المؤمن والكافر؛٢٩ لذلك كانت الرسالة أقرب إلى تنظير الموروث وتطوير علم الكلام منها إلى تمثُّل الوافد. ولا يذكر من الوافد إلا الرضا بالقضاء والقدر من سقراط وأفلاطون وفيثاغورس قراءة لهم من خلال الموروث. وأكثر الألفاظ تَردادًا آيات القرآن، ثم لفظ القرآن، ثم موسى.
والحقيقة أنه لا يوجد إيمان وكفر مجرَّدان عن السياق الاجتماعي، لا يوجد إيمان وكفر نظريان، بل عمليان فيما يفعل الناس وليس فيما يؤمنون به، وَقُلِ اعْمَلُوا، «خيركم للناس أنفعكم للناس». ليس المؤمنون وحدهم هم ورثة الأنبياء، بل العلماء. والإخوان يجعلون المؤمنين العلماء دون تخصيص العلماء عن المؤمنين.٣٠

والعلم مجرد صورة المعلوم في النفس، والصورة في نفس العالم، وليس لها وجود في الهيولى، ولا في الموجودات المفارقة، بل العلم المجرد. والماهية مضمونٌ غيبي في الشعور، الفضل الإلهي. فنِعَم الله على الإنسان خارجية للجسد، المال والقرين والولد ومتاع الدنيا، وداخلية إما للجسد، الصحة وحسن الصورة وكمال البنية والقوة، أو للنفس، ذكاء النفس وحسن الخلق. فالعلم موهبة من الله وفضل منه.

والعلم مجرد إقرار أولًا، وتصديق ثانيًا، وطلب المعارف ثالثًا. وهو موقف المرجئة التقليدي الذي يُخرج العلم من الإيمان؛ أي الإيمان مرتَين، إقرار باللسان وتصديق بالجنان. ويعني التصديق التسليم؛ أي الاستسلام، التصديق لمن هو أعلم بما يُخبر ما لا يعلم. هو التصديق للمخبر بما قال وأخبر عنه دون برهان أو دليل.٣١ وكيف يتم التصديق والإيمان الباطني من الإقرار باللسان مباشرةً دون المرور بالمعلم؟ وهل الإقرار هو مقياس التمييز بين المسلمين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس دون المرور بالعلم؟ هل الإقرار باللسان أساس الشعائر؟ أليس الطريق إلى الإيمان الباطني بالتفكير والاعتبار بالبرهان والتصديق ثم العمل والشهادة؟ وهل يمكن الانتقال من الإقرار إلى التصديق حتى يصبح المؤمن من الصديقين بلا عمل وكد وكدح في الأرض؟

واضحٌ عند الإخوان أن الإيمان مقدَّم على العلم، كما أن العلم مقدَّم على العمل؛ فالإيمان يورث العلم بلا برهان. الإيمان من خصال الملائكة، والكفر من خصال الشياطين، أقرب إلى حكم القيمة منه إلى حكم الواقع؛ فالشيطان يُعمل العقل والقياس ويعترض على الله، والملائكة لا فكر ولا قياس ولا اعتراض؛ ومن ثَم يُحاصر الإنسان مرتين، مرة لحساب الشيطان، ومرة لحساب الملائكة. تبدو الملائكة خدمًا وعبيد الله، والله مخدومًا وسيدًا. وأحيانًا تبدو آلات ليس لها قوة التفكير أو الاعتراض والرفض. وأحيانًا تبدو شركاء مع الله، والله ليس في حاجة إلى مُساعدين أو تقسيم عمل وظيفي.

والإيمان قسمان؛ ظاهر وباطن. ويفصل الإخوان الظاهر دون الباطن مع أنهم أهل الباطن. الإيمان الظاهر إقرار باللسان بخمس عقائد: للعالم صانعٌ واحد حي قادر حكيم خالق مدبِّر، له ملائكته وصفوته، وصفوة بني آدم كواسطة وهم الأنبياء، والإلهام والوحي، وأخيرًا القيامة. ومقارنة بنسق العقائد، البداية بالتوحيد، وغياب العدل والأمانة، والعمل قرين الإيمان، والإيمان بالملائكة والغيبيات والقيامة والمعاد، والتركيز على الأنبياء، مع أنهم ليسوا صفوة ولا واسطة، بل مجرد رُسُل يقومون بوظيفة الإبلاغ للناس كما أبلغوا عن طريق الوحي الملائكة، ومن الملائكة إلى البشر عن طريق الرُّسل دون تخصيص لأسباب النزول، الوحي نداء للواقع وإجابات على أسئلته، والناسخ والمنسوخ، الوحي مُواكبة لتطور الواقع وقدرات البشر.٣٢ وهل دعت الأنبياء إلى الإيمان بالظاهر الذي تُنكره الأمم أم إلى التغير الاجتماعي وتكوين المجتمع الفاضل؟
ويتم الإيمان الظاهر عن طريق التلقين، تلقين الأنبياء، ومن الكبار إلى الصغار، ومن العلماء إلى الجهال للإقرار به، مع أن التقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم. وهل دعت الأنبياء الناس إلى الإقرار أولًا، إلى التصديق ثانيًا دون علم؟ وماذا عن دعوة القرآن للتأمل والنظر؟ أليس هذا عكس «حي بن يقظان» وطريق الفلاسفة، بل وعلى النقيض من موقف الفقهاء أن العقل أساس النقل، وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، وأن من قدح في العقل فقد قدح في النقل، وموقف المتكلمين أن النظر أول الواجبات.٣٣ وكل تصديق هو تصديق بشيء، وإلا كان مجرد استسلام. والإنسان في حاجة إلى علم وبرهان، وليس فقط إلى إيمان وتصديق. العلم من الواقع وليس فقط من المخبر، من الطبيعة وليس فقط من النص، من الحوار والتجارب المشتركة وليس فقط من أعلى وحيًا وإلهامًا. ليس التصديق مرتبطًا بصدق المخبر، بل بالتصورات والتصديقات كما هو الحال في المنطق وصدق القضايا، وليس فقط في صحة السند، بل في صدق المتن طبقًا لوسائل المعرفة البشرية.٣٤ ليس البرهان مجرد تبرير المعطيات، بل البرهنة عليها. البرهان أول العلم وليس بعد المعلوم، وما لا دليل عليه يجب نفيه في منطق الفقهاء، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.٣٥ يبدو أن الإخوان جعلوا الإقرار باللسان أولًا لمجرد الإعلان والبداية حتى يبدأ اجتماعيًّا وجماعيًّا دخول الأخ البار الرحيم حظيرة المؤمنين، مجرد هُوية وعلامة على الطريق.
ومع ذلك يرفض الإخوان آراء بعض المتكلمين الذين يجعلون الإيمان مجرد علم فقط، نبوة وإلهام، وإقرار وتصديق وتسليم، وأغلب الظن أنهم المرجئة، مع أن الإخوان أنفسهم يجعلون التفاوت بين الناس في العلم وليس في العمل؛ فمنازل الناس في المعارف ومُقرِنين العلم بالإيمان أربع؛ لا علم ولا إيمان بل الترف في الحياة الدنيا، علم فقط مثل الحكماء والفلاسفة، إيمان فقط وهو الإقرار بكتب الأنبياء وأخبار البعث والمعاد وأحوال الملة، والعلم والإيمان وهم الإخوان المذكورون في القرآن. وهي قسمةٌ رباعية مثل قسمة العلم والمال، ولا تستبعد هذه القسمة العمل؛ فالمنزلة الأولى بلا علم ولا إيمان منزلة ترف الحياة الدنيا، وهو عمل وممارسة. ولا يمثِّل الحكماء والفلاسفة العلم دون الإيمان، وهم من كبار المؤمنين. يئوِّلون النُّبوات ولا يُنكرونها أو يشكُّون فيها أو يتجاهلونها. والإيمان لا يعني بالضرورة العلم بالغيبيات، بالبعث والقيامة، أشرف العلوم، وهي غيبياتٌ محسوسة لا يمكن فهمها أو تصورها أو التحقق من صدقها إلا بالخيال والوهم إلا إذا كان المقصود علوم المستقبل. لا يوجد في الإيمان أي شرعيات أو عقليات أو عمليات، مجرد إيمان دون علم، يُعطي النفس الطمأنينة والسكينة مثل إيمان العوام.٣٦ ويضع الإخوان أنفسهم في مرتبة العلم والإيمان دعايةً للنفس.
كما يتفاوت العلماء في العلوم، ويحتاج العالم إلى الإقرار بمن هو أعلم منه، مع أن التقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم. معرفة السابقين جزء من التراكم العلمي لتطويره وليس لتقليده، لتجاوزه وليس لنقله، وإلا وقع الخلط بين المعلومات والعلم.٣٧
وربما أخَّر الإخوان العمل عن العلم لأن أخلاق العمل لديهم هي الأخلاق الشرعية، والزيادة في العلم تعني الزيادة في العمل. هذا ما ينبغي أن يكون، أما ما هو كائن فقد تكون العلاقة عكسية وليست طردية، زيادة في العلم ونقصان في العمل كالمُنافق، وزيادة في العمل ونقصان في العلم كالمُجاهد.٣٨

(ب) ماهية التوكل والإخلاص

أما ماهية التوكل فهو الاعتماد على الغير عند الحاجة بالنيابة عن الإنسان. ويُعطي الهدوء والراحة في النفس، وهو أحد خصال الإيمان وسمات المؤمنين.

والمتوكِّلون نوعان؛ متوكِّلون على غير الله مثل الأغنياء والفقراء، اتكال الأغنياء على أموالهم والحرص على زيادتها، واتكال الفقراء على صناعتهم، واتكال المُكدين أي المُتسولين على الناس. وهو الاتكال الاقتصادي لا فرق بين الأغنياء والفقراء والشحَّاذين. وهناك اتكال الصِّبيان على الآباء، والعبيد على الموالي، والجنود لخدمة السلطان، وهو الاتكال التربوي أو السياسي، بمعنى الاعتماد المؤقت؛ فاتكال الصِّبيان على الآباء حتى يشيبوا ويستقلُّوا عنهم، واتكال العبيد على الموالي انتهى بانتهاء العبودية، واتكال الجنود لخدمة السلطان انتهى بانتهاء المرتزقة، والجنود يُدافعون عن الأوطان وولاؤهم للشعوب. الأنبياء الصالحون وحدهم هم المُتوكلون على الله. ويبدو أن الإخوان يفهمون التوكل هنا بمعنى الاتكال، وهو غير صحيح طبقًا للحديث المشهور عن الطير التي تذهب خِماصًا وتعود بِطانًا.٣٩
والحقيقة أنه لا فرق بين الاعتماد على غير الله والاعتماد على الله. الاعتماد واحد من جانب الذات، ويتغير المعتمَد عليه من جانب الموضوع، وكلاهما نظرية في الاعتماد وليس نظرية في الاستقلال.٤٠ قد يُعطي الاتكال نوعًا من الهدوء النفسي والسكينة الناتجة عن التوكل، وقد يراه البعض نوعًا من الاستكانة والخمول والكسل، بل إن الأنبياء كانوا يأكلون من عمل أيديهم، النجار والراعي والتاجر، وترك العمل والعيش من النبوة بداية التفرغ السياسي، داء العصر في الدول المذهبية، خدمة الأمة ليست وظيفة. وكان للرسول من بيت المال الخُمس؛ فالنبي لا يتوكل على الله في طلب المعاش، بل يسعى ويكد.
ويكون الإخلاص في الدعاء وفي العمل. الإخلاص في الدعاء تطهير القلب عند انقطاع الحيلة والتبرِّي من الحول والقوة، وسيلة الضعفاء للتقوية المعنوية، فالله يُعرَف في الشدائد، إذا استعصى الخارج تم اللجوء إلى الداخل، والعمل ليس هو الشعائر، العمل الصوري، بل هو العمل المنتج. والإخلاص في العمل والدعاء يقوم على تحليلٍ نفسي اجتماعي لصدق القول ونية العمل، وليس فقط على أدائه كأمرٍ إلهي والنحس والسعد كنوع من الإخلاص، شرك بالله مثل الشرك بالنجوم. فالإخلاص في القول والعمل صدق وليس شركًا. ليس الإخلاص عدم طلب الشكر أو الجزاء لأنه في الطبيعة الإنسانية؛ فالأخلاق بلا إلزام ولا جزاء، وإلا كان الإنسان كأجير السوء يقوم سلوكه على الترغيب والترهيب، الرجاء والخوف. وهلاك الناس في البر والبحر والإخلاص له من أجل الخلاص نوعٌ من الدين الشعبي، الاعتماد على الله وعلى أحكام النجوم ومناحي الأفلاك مجرد الاستجداء بقوةٍ معنوية، وصرخة الحياة، وغريزة حب النقاء.٤١

(ﺟ) ماهية الصبر والرضا، القضاء والقدر

ويعتمد الإخوان في تحليل ماهية الصبر على قولٍ مأثور «الصبر رأس الإيمان» قبل تحليل آيات القرآن، وهو ما يُعادل المثل الشعبي «الصبر مِفتاح الفرج»، وهو لا يعني أكثر من الثبات في حالة الشدائد بلا جزع، والصلابة كما صبر الأنبياء نماذج النضال ضد الطغيان الفكري والسياسي؛ فحلاوة النضال أفضل من مرارة الصبر. والصبر على الشدائد تقوية للعزائم، وليس تبرير المصائب وقبولها والاستسلام لها والرضا بها. ويقدِّم الإخوان ثلاثة حلول أمام المصائب؛ فهي إما من الله وقضاء منه، مما يؤدي إلى القدرية؛ أو نصفها من الله ونصفها من الإنسان، وهو شرك بالله؛ أو تنازل عن المسئولية البشرية؛ أو أنها ليست من الله بل من الإنسان والمجتمع، وهو ما يمكن اتهامه بأنه إلحاد. والخطأ ناتج من جعل الله طرفًا في الفعل الإنساني وليس العالم؛ فالمصائب تحدث في الواقع الاجتماعي وتفاعله مع الإرادات الإنسانية، فإذا حدث نقص في تحليل العوامل أو عدم فهم لها نُسب ذلك اختصارًا، طبقًا لمبدأ اقتصاد الفكر، إلى الله. الصبر هو أبشع المقامات وأكثرها كراهية وسوءًا للاستعمال. وكما تُئوَّل بعض الآيات القرآنية لصالح الصبر بهذا المعنى السلبي، هناك أيضًا آياتٌ قرآنية تنقد الصبر فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ؛٤٢ فالصبر على الأذى والجور ليس صبرًا. الثورة ضد الظلم والاضطهاد أقرب إلى الطبيعة البشرية من الصبر على الضَّيم صبْرَ الأذلَّاء.٤٣
ويرتبط الصبر بالقضاء والقدر، أو بتعبيرٍ أدقَّ الرضا به؛ أي الجانب السلوكي فيه، ليس الموضوع بل الذات. ويتم الاعتماد على المشهور في الثقافة الشعبية في صيغة المبني للمجهول «يُقال». وينزل القضاء والقدر من أعلى إلى أدنى في خمسة مستويات؛ من علم الله المسبق إلى القضاء، إلى أحكام النجوم، إلى جريان المقادير، إلى الطب النفسي.٤٤ فالعارفون بالله أول من يعرف المقادير، ولكن الثُّوار الغاضبين هم أول من يفهمونه بأنه لا يمنع من الثورة على الظلم؛ فالثورة قدرٌ تاريخي مثل الظلم. وفي علم الله المسبق لا يوجد قبول لأمر الواقع، بل يوجد أيضًا الحث على الثورة على فرعون، والرضا بالقضاء من أجل السعادة بعد المفارقة تعويض عن العجز وقلة الحيلة وطلب لراحة النفس وطمأنينتها، وهو ما يتفق مع الثقافة الشعبية.٤٥

ويفسِّر الإخوان الناموس كله، أي تاريخ الأنبياء وقوانين التاريخ، على أنه رضًا بالناموس مثل استشهاد سقراط، واستشهاد المسيح أمام اليهود، والمؤمنين أمام فرعون، وفُضلاء المُهاجرين والأنصار يوم أُحُد، والحُسين في كربلاء؛ فالشهادة عمل وليست قضاءً. وقد طلب البعض من الرسول الدعوة على المشركين في هزيمة أُحُد، فرفض من أجل الاستعداد لهم في الجولة القادمة.

والخوف والرجاء حالان عند الصوفية وليسا من المقامات، يصفهما الإخوان دون الإعلان عنهما كموضوعَين مستقلَّين، وفي عباراتٍ مُقتضَبة، يعبِّران عن نفس الموقف النفسي للمؤمنين، أجير السوء. ومثاله خوف الأولاد من الآباء والأمهات، والصِّبيان من المؤدِّب، والتلاميذ من الأستاذِين، والجند من صاحب الجيش.٤٦ فهل العلاقة بالله مثل هذه العلاقة السُّلطوية؛ الله والسلطان؟ وهل الترغيب والترهيب وسائل تربوية ناجعة أكثر من إدراك الخير والشر في ذاتهما، وفعل الأول وترك الثاني بمحض الإرادة الحُرة؟

(د) ماهية الطاعة

والطاعة قيمةٌ خلقية تتبع الخوف والرجاء؛ لأنها تقوم أيضًا على الترغيب والترهيب، وهي طاعة الناموس. والنواميس الإلهية أعلى النواميس رتبةً، لا يضعها البشر بل يُطيعونها. ليست الطاعة فقط بالإرادة الإنسانية بل بالطبيعة. فهناك تَماهٍ بين اتباع الإنسان النواميس الإلهية واتباع الطبيعة النواميس الكونية، وهو ما سمَّاه الشيعة علم الميزان (الكرماني)، وما سمَّاه الإخوان التقابل بين العالم الأصغر والعالم الأكبر. وينبت العلم في القلب كما ينبت العُشب في الأكمة، وهو نوع من التأويل الشعوري يتَّحد فيه النص بالطبيعة.

والطاعة هي أساس الخوف والرجاء، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، طاعة أجير السوء وليس طاعة المُحبِّين، «إن المُحبَّ لمن يُحب يُطيع»؛ فهي نوع من الأشعرية الصوفية. والأمور التي يُخشى منها إما دنيوية كالرئاسة أو حسن الثناء والعز والمال والدنيا والحب، أو أخروية مثل نجاة النفس. والغرض من استعمال الناموس إما عمل الخير وتجنُّب الزُّور والبُهتان، وهو غرضٌ عملي؛ أو بلوغ الحق وحكم الصواب، وهو غرضٌ نظري. وهي كلها قيمٌ مُتشابهة؛ الوعد والوعيد، الترغيب والترهيب، الخوف والرجاء، الأمر والنهي.

والحق مُتشابه نظرًا لاحتمال دلالة الألفاظ على عدة مَعانٍ. الحق له ظاهر وباطن، لفظ ومعنًى. وطاعة القانون تتطلب تأويلًا له وفهمًا لقصده وغايته، والناموس يُراعي الكل لا الجزء، ويقوم على نظرةٍ شاملة، وليس على وجهة نظر جزئية، مثل قصة موسى والخضر.٤٧
أما الأمر والنهي فيُعرَفان إما بالسمع كما هو الحال عند الأشاعرة، أو بالعقل مثل المعتزلة، أو بالأخلاق وهو رأي الإخوان. وبالأخلاق تُعرَف أمور الدين الشرعية والعقائدية. ولا يُذكَر المُتكلمون لعداء الإخوان لهم؛ لاتِّباعهم طُرُق الجدل والخصومة والفُرقة في الدين. والمعاد من أجل المُفارقة حتى تصبح النفس من الملائكة. البداية بالظاهر؛ أي بالفقه، ثم ينكشف الباطن؛ أي الأخلاق. تُفارق النفس الجسد مسلوبةَ الحواس، ويجد الإنسان نفسه أمام التاريخ الفردي؛ أي الجسد، والتاريخ النفسي؛ أي علاقة النفس بالبدن. وينتقل الإنسان من الدنيا إلى الآخرة، ومن الماضي إلى المستقبل، ومن حتمية الطبيعة والجِبلَّة والعادة إلى رحابة الإرادة والمسئولية.٤٨
الدين القانوني دين الأوامر والنواهي؛ فالدين في لغة العرب الطاعة. وتتطلب الطاعة الأمر والنهي والأحكام والحدود والشروط؛ لذلك سُميت شريعة الدين وسنته وأحكامه.٤٩ وقد يُفيد الدين أيضًا عند المجدِّدين معنى الالتزام، كما أن الطاعة للأوامر والنواهي طاعة الضمير والقدرة على الحكم بالحسن والقبح على الأفعال والاختيار الحر بينهما إيجابًا وسلبًا. وكلُّ من أحدث في الشريعة من تغيير في الأحكام وتبديل في الحدود يريد بذلك عرَض الدنيا، فإن صاحب الناموس خصمُه يوم القيامة. ومن فعل ذلك لإصلاح ذات البَين، ثم دخلت عليه شبهة من غير عناد ونفي أو طلب للدنيا، يُغفَر له ولا يؤاخَذ به. للمُخطئ أجر، وللمُصيب أجران.

(٥) الأخلاق الصوفية

ثم ينتقل الإخوان من ماهية القيم الدينية إلى الأخلاق الصوفية. فالدين دينان؛ دين الجسم ودين الروح، دين الظاهر ودين الباطن، دين أعمال الجوارح ودين أعمال القلوب، الاعتقادات والضمائر. ويمكن الاستمرار في هذه الثنائيات إلى ما لا نهاية؛ دين العامة ودين الخاصة، دين الفقهاء ودين الصوفية، دين التنزيل ودين التأويل. الدين الثاني أصل الدين الأول؛ فالداخل أصل الخارج، والقلب أساس الجوارح.

لذلك كانت الدنيا مَعبر الآخرة؛ فالدين دنيا وآخرة، ظاهر وباطن؛ وصلاح الدين في الدنيا والآخرة. ومن الناس من لا يريد من التمسُّك بالدين الإصلاح في الدنيا فيحرص على الدين، الصلاة والصوم في الشريعة، ويُرائي الناس، فيطلب ما ينفع الدنيا، فحِفظُ الدين له أقوم. وآخرون يريدون الدنيا لطلب الآخرة وصلاح المعاد، فيزهدون في الدنيا ويتركون الشرور، ويؤدُّون الأمانات سرًّا وعلانيةً، ويُعاملون الناس بالصدق والورع؛ وفي ذلك صلاح الدنيا والآخرة. فالتصوف صدق، والشريعة نفاق. ويفسِّر الإخوان معجزات السيد المسيح على هذا الأساس تفسيرًا روحانيًّا؛ أبرأ الأكمه باكتمال الجواهر الروحانية، وتأليف الأسرار الربَّانية، وبذر البذورات المفردات الهيولانية.

ومن عنوان «إخوان الصَّفا وخِلَّان الوفا» تتَّضح الأخلاق الإشراقية التي تقوم على تصفية القلوب والاجتماع على الوفاء؛ فهي أخلاقٌ صوفية إشراقية تتمُّ من خلال الجماعة الطاهرة؛ لذلك اتَّسم فِكر الإخوان بالطابَع الثنائي كما هو الحال في الديانات الثنوية، ثنائية الجسد والروح، البدن والنفسي، الدنيا والآخرة، كما هو الحال في ثنائيات الكلام والفلسفة الصورية كنوع من التوحيد الحركي، والانتقال من طرف إلى طرف. وهي أخلاقٌ ثنائية مُضادة لا يمكن الجمع بين الطرفَين في آنٍ واحد، بل الانتقال من طرفٍ نقيض إلى طرفٍ نقيضٍ آخر بعد صراع ومُجاهدة.٥٠ وهو صراع نفس فردي في الداخل، وليس صراعًا اجتماعيًّا سياسيًّا في الخارج، وناشئ من ثنائية النفس والبدن.٥١ الجسد جسمانيٌّ طبيعي، والنفس روحانيٌّ سماوي. الإنسان طين وروح، بدن ونفس، سياساتٌ مدنية وعلومٌ رياضية ومعارف ربَّانية.
لذلك احتاجت الأخلاق إلى عدو. والعدو اثنان؛ عدوٌّ ظاهر، وهو عدوُّ الأوطان، وطريق مقاومته هو الجهاد الأصغر؛ وعدوٌّ خفي، وهو الشيطان، وطريقة مقاومته الجهاد الأكبر، مجاهدة النفس اعتمادًا على الحديث الشهير الذي يشكِّك في صحته بعضُ المُصلِحين المحدَثين: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.»٥٢

(أ) الخلاص بالزهد

إذا كان الدين هو هذه الهُوَّة السحيقة التي يغوص فيها كل شيء، وفيها تضيع الأزمة، يبدو الخلاص بعيدًا عن الدنيا، فيتمُّ الانتقال من الخارج إلى الداخل، ثم من الداخل إلى أعلى. كل شيء يصبُّ في الدين، هذه الهُوَّة السحيقة التي ليس لها قرار حتى يتمَّ الانتقال إلى الله، من الدنيا إلى الآخرة؛ فكل شيء يُردُّ إلى الله، وكل شيء يتوجَّه نحوه.

لقد وقع سقوط في أول الخلق، خروج آدم من الجنة، ومهمة الفلسفة العودة إلى حالة البراءة الأولى قبل الخطيئة. الدنيا عالم الكون والفساد، عالم الغواية والخطيئة؛ ومن ثَم وجب الخلاص منها والفرار إلى الآخرة. ومن أجل زيادة المأساة في الدنيا يتمُّ التخويف بالجن والشياطين وجنود إبليس. كلما اشتدت الغواية قوِيَت الرغبة في الخلاص.

ويتم الخلاص بالزهد في الدنيا من أجل الرغبة في الآخرة؛ وذلك لأن الإنسان مطبوع على أخذ النفع في العاجل وترك الآجل إلا إذا رأى فضل الآجل على العاجل؛ فالطريق إلى الآخرة التفكُّر والاعتبار في أمور الدنيا. والدنيا ليست من الدنو، بل هي مفهوم إضافة لا يُفهَم أحدهما إلا عن طريق القلب. وهذا هو طريق المؤمنين والحكماء؛ مشاهدة الآخرة أولًا، والزهد في الدنيا ثانيًا. وقد يُقال إن الزهد في الدنيا بعد مشاهدة الآخرة طمع، أخذ الكثير وترك القليل، وعدم إدراك أن الدنيا بلا قيمة، أو ربما إدراك قيمتها لو كان قد بدأ بها. وماذا عن الذي لم يُشاهد الآخرة؟ أليس معذورًا في حب الدنيا وشغفه بها؟٥٣

ومع ذلك، الناس في الدنيا نوعان؛ أخيار يعملون بالناموس وبموجب العقل دون عِوض من منفعة أو ضرر، وأشرار لا يعملون بالناموس ولا بموجب العقل، ولا يُحركهم إلا مقياس المنفعة والضرر والعوض. وهي قسمةٌ تقليدية دون سياق اجتماعي. قد تكون الآخرة ضرورةً طبيعية لقانون العدل؛ فالعدل نتيجةٌ طبيعية للتوحيد، توحيد بلا عدل صورةٌ بلا مضمون، وعدل بلا توحيد مضمونٌ بلا صورة، ويقوم على تجربةٍ إنسانية في العوض عند الموت. وهو فهم إخوان الصفا في تأسيس الفكر على مجموعة من التجارب الإنسانية العامة، تأويلًا للنصوص وفهمًا للحقائق.

ويذكر الإخوان درجات للناس في الحرص والزهد، في نهاية الرسالة التاسعة من القسم الرياضي في الأخلاق والأخلاق الصوفية، الزهد والولاية. الناس قسمان؛ عامة وخاصة. والخاصة خمسة أقسام من أدنى إلى أعلى، من الفقهاء إلى الأولياء؛ العُقلاء المكلَّفون والمؤمنون الموقرون بالأوامر والنواهي، والعلماء، والفقهاء، والغائبون العابدون الصالحون الورَّاعون المُتقون المُحسنون، والزاهدون العارفون الراغبون الراسخون المُتحققون الأولياء، وكلها أقسام للخاصة. أما العامة فليس بها مستويات. والسؤال هو: هل الارتقاء من مرتبة بجهد الإنسان كما هو الحال في مقامات الصوفية، أم موهبة من الله كما هو الحال في الأحوال؟ ويفصِّل الإخوان آفات الشبع وكثرة الأكل وخصال الزهاد وعلامات الأولياء والأبدال. علامات الولاية ثلاث؛ حفظ الجوارح كما يفعل الطب، ومعرفة الفرق بين الأشياء المُتشابهة كما هو الحال في المنطق، ومعرفة البعث والقيامة والحشر والحساب والميزان والصراط والجواز، وهو موضوع علم العقائد. والأبدال قومٌ من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، لا يموت أحد إلا قام مكانَه آخر، وهم سبعون أو أربعون بالشام، وثلاثون بغيرها. هل لأن الشام موطن طُغيان بني أمية؟ وماذا عن المستقبل؟٥٤ والسؤال هو: كيف يكون العقلاء هم المكلَّفون وليس الحكماء؟ كيف يكونون في أول المراتب الخمس والزاهدون في أعلاها؟ هنا تبدو قيم التصوف أعلى من قيم الحكمة. وقد يتساءل بعض المُعاصرين: الدعوة للزهد والفقر موجَّهة لمن؛ للأغنياء أم للفقراء؟ لو كانت موجَّهة للفقراء، ألا يُعطي ذلك حجة للقائلين بأن الدين أفيون الشعوب؟ وماذا عن أحوال المسلمين اليوم، وبهما أغنى أغنياء العالم الذي تتوجه إليهم الدعوة للزهد، وأفقر فقراء العالم، وليس لديهم ما يزهدون فيه إلا حياتهم بالموت جوعًا وعطشًا؟ وهل الأَولى التحليل الطبقي للمجتمع أم تحليل مراتب العلماء؟

(ب) العشق

هو موضوع بين النفس والأخلاق في الرسالة السادسة من القسم الثالث. النفسانيات والعقليات بعد تحوُّل العقل إلى النفس في آخر رسالة «الأدوار والأكوار»، وهو بحث عن الماهيات «ماهية العشق»، مثل ماهية القيم الدينية. وطالما أنه تجربةٌ بشرية يمكن معرفة ماهيته عن طريق تحليل التجارب الحيَّة؛ لذلك يُحلَّل الشعر العربي مع التحقُّق من آراء السابقين مثل الصوفية، ورفض القيل والقال عند الأطبَّاء اعتمادًا على الثقافة الشعبية عند الجمهور.

وهناك ثلاثة آراء في العشق؛ الأول أنه من فِعل البطَّالين، ولا يُحكَم إلا بظاهر الحس؛ فالعشق هنا بمعنى المنيِّ واللذة الجنسية. والثاني أنه مرضٌ نفسي نظرًا لزيادة النبض وتوتُّر النفس وضيق النفس مثل «المالوخوليا». والثالث أنه مرضٌ إلهي، ولا علاج له إلا بالدعاء والصلاة والصدقة والقرابين في الهياكل ووحي الكهنة. وتقوم هذه الآراء التي يتبنَّاها بعض الحكماء على الجهل بعِلَله؛ فهو إما من فعل البطَّالين فارِغي الهِمم، أو أنه مرضٌ نفسي، أو أنه هم نفس فارغة، أو أنه جنونٌ إلهي. وبعض الحكماء يعتبرونه رذيلة، وفريقٌ ثالث يعتبره فضيلة. والمسافة بين الجنون الإلهي والمرض النفسي ليست كبيرة؛ فكل جنون إلهي مرضٌ نفسي في البداية، وهو رأي علماء النفس.٥٥ الجنون الإلهي خداع عن العجز عن الحب الإنساني.
ويمكن دراسة العشق من ستة أوجه؛ النشأة لمعرفة كيفية نُشوئه، والعِلل الموجِّهة لكونه، والأسباب الداعية له، وكمية أنواعه، وكيفيته، والغرض الأقصى منه. وتتراوح بين العلل الأربعة الشهيرة مع التفرقة بين العلة والسبب كما هو الحال عند الأصوليين، والكيف والكم كما هو الحال عند الحكماء.٥٦ وهو أكبر رد فِعل على التهمة القائلة بأن العرب لم يعرفوا الحب لذاته، بل عرفه الغرب وحده.٥٧
ويستعمل الإخوان لفظ الحب والعشق على التبادل؛ فالحبُّ ليس فقط للأشياء الحسنة، بل هو على مستويات الحب البيولوجي بمعنى الحفاظ على النسل؛ حفظ الصورة في الهيولى في الحيوان والإنسان على حدٍّ سواء، وهو من الرجل، ولم يقُل الإخوان من النساء، وكأنه فعل الذكر أكثر من فعل الأنثى، مع أنه لا صورة بلا هيولى، ولا محويَّ بلا حاوٍ، وهو الذي يُفسَّر تفسيرًا فيزيولوجيًّا بالأبخرة والأنفاس.٥٨ فالنفس تتبع مزاج البدن في إظهار أفعالها وأخلاقها؛ لأن مزج الجسد وأعضائه للنفس بمنزلة آلات وأدوات الصانع الحكيم يظهر بها، ومنها أفعاله.
وهناك المستوى الجسمي النفسي في تعريف العشق بالاتفاق بين الأجزاء، وهو أقرب إلى الفيزيولوجيا الرياضية. والاتفاق بين العشق والمعشوق بحسب المناسبات بين أجزاء المركبات، بين كل حاسة ومحسوسها، هو الرباط بين الأشياء بعضها ببعض؛ الأولاد والأمهات، الكبار والصغار، الأقوياء والضعفاء. وإذا استغنى الأطفال عن الآباء والأمهات فإنهم لا يستغنون عن الأساتذة والمعلِّمين؛ فرباط العلم هو رباط العشق. وقد يكون الاتفاق في المواليد، في برجٍ واحد، فيتغير العشق بتغيُّر الأخلاق. فإذا غاب العلم حضرت الخرافة. والحقيقة إذا كان الحب هو الاتفاق، فكيف يظهر فيه التناقص والخلاف والتعارض إلى حد القتل والانتحار؟ هل التضاد تناسبٌ أعلى؟ كما أن تغيُّر الحب بتغيُّر الأفلاك إنكار للعلل المباشرة في تفسير الحب، كما أنه مُناقض للحب الأبدي الذي خلَّدته الآداب العالمية.٥٩

وقد يتحوَّل تعليل الحب إلى المستوى النفسي الخالص، فيكون الحب إفراطًا في المحبة وشدة الميل إلى نوع أو شخص أو شيء؛ أي لفردٍ متعيِّن. وفي نفس الوقت هو عام جدًّا يوجد عند كل إنسان بكثرة الذكر له والاهتمام به. الحب هنا انجذاب مُتبادل أو تعاطف، وهو ما سمَّاه الصوفية اتحاد، وهو رأي الحكماء أيضًا عندما قسَّموه إلى نوعَين؛ الأول هوًى في النفس نحو طبع مُشاكل للجسد أو صورة مماثلة في الجنس، والثاني شوق إلى الاتحاد نحو النفس. العلة في النفس لسببٍ خارج عنها.

والناس نوعان؛ عامة تُحب الصنعة وحدها، وخاصة مثل الحكماء، وينتقلون من الصنعة إلى الصانع. والنفوس نوعان؛ ناقصةٌ قصيرة الهمَّة لا تُحب إلا زينة الدنيا، ولا تتمنى إلا الخلود فيها؛ وشريفةٌ مُرتاضة، تأنف من الرغبة في الدنيا، وتزهد فيها، وتريد الآخرة، وتلحق بأبناء جنسها من الملائكة. وهذا لا يتم إلا بعد فِراق الجسد.

وهناك مستويات في النفس ومعشوقاتها؛ النفس النباتية الشهوانية تعشق المأكولات والمشروبات والمناكح، والنفس الغضبية الحيوانية وتعشق القهر والغلبة وحب الرياسة، والنفس الناطقة وتعشق المعارف واكتساب الفضائل.

ومحبوبات النفس ومعشوقاتها بحسب درجاتها في العلوم. والذي يليق بالنفس الملكية محبة فِراق الأجساد، والارتقاء إلى الملأ الأعلى والسحابة في سعة فضاء الأفلاك، والتنسُّم بريحان المذكور في القرآن، ولا يُحصيها إلا الله. ومع ذلك يمكن تصنيفها على نحوٍ تقريبي بالمثال والقياس أو الاستقرار المعنوي كما يقول الأصوليون. محبة الحيوانات الازدواج؛ النكاح والسفاد وبقاء النسل، ومحبة الأمهات الآباء والأولاد للحنان، ومحبة الرؤساء للرياسة محبة المدح والثناء، ومحبة الصُّناع في إطار صناعتهم، ومحبة التُّجار لتجارتهم ورغبة الراغبين في الدنيا وعمارة الأرض، ومحبة العلماء والحكماء للعلوم والآداب والرياضيات وتدوينها، ونقلها من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، إحياءً للنفوس وإصلاحًا للأخلاق في الدين والدنيا، ومحبة البر والإحسان طلب للثناء والمدح، وأخيرًا محبة أبناء الجنس وهو العشق، هموم وأحزان، أفراح ومسرَّات، وليست غايته النسل بالضرورة.٦٠
وتتفاضل هذه الأنواع قيمةً وشرفًا من الأول إلى الأخير، من الأدنى إلى الأعلى، وكلها مغروزة في الطباع وفي النفوس. وواضحٌ أن العشق حالة من حالات المحبَّة العامة، الجسمية والنفسية والعلمية والسياسية والصناعية والتجارية والأخلاقية أو العذرية، المحبة لذاتها. وهي حالاتٌ يمكن التساؤل حولها، وإضافة حالات أخرى مثل «المُومِس الفاضلة» التي صوَّرها الأدباء عندما لا يكون الجنس للجنس، بل الجنس للعيش، وهناك حب الجنس لذاته، للذة أو الوحدة أو الحب الطبيعي. وقد يكره الأولاد الآباء أو العكس،٦١ وقد تُكرَه الرياسات، كره الرئيس للمرءوسين والمرءوسين للرئيس كما هو الحال في أنظمة القهر. وقد لا تكون محبة الثناء والشكر في الطبيعة كما هو الحال في الأمثال العامية «لا شكر على واجب». وقد لا يكون حب الصناع لصناعتهم في الطبيعة؛ فكثير من الناس يعملون لكسب القوت وليس حبًّا لحِرفهم. وقد لا تكون محبة التجارة وعمارة الأرض مرتبةً دنيوية؛ لأن رسالة الإنسان في الحياة إعمار الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. وقد تكون محبة العلماء للعلم لذاته مثل العشق لذاته. وهل المحبة البر والإحسان ومحبة الأخلاق أعلى من محبة العلماء للعلم؟ ومحبة الجنس البشري، حب الإنسانية، حب للعام وليس للخاص.

والعشق على درجات، من أول نظرة كالبذرة قبل الشجرة، إلى الدنو والقرب، إلى الخلوة والمجاورة، إلى المعانقة والقُبلة، إلى الدخول في ثوبٍ واحد وقمته النكاح؛ وطبقًا للعقل الشعبي، نظرة فسلام فمحبة فعشق فلقاء.

ويشبِّه الإخوان العشق بالكائن الحي؛ فالعشق حياة، ولو لم يكن العشق في الخليقة لخفيت الفضائل ولم تظهر، ولم تُعرَف الرذائل. المحبة والعشق فضيلة في الخليقة، وحكمةٌ جليلة، وخصلةٌ نفسيةٌ عجيبة من فضل الله على خلقه، وعنايته بمصالحهم، ودلاله عليهم، وترغيب لهم فيما أمر به. العشق أساس الفضائل والرذائل في الوجود. الوجود عشق.

هناك راحةٌ نفسية يجدها العاشق برؤية صورة الحبيب في النفس حتى لو فسدت الصورة الجزئية وهرمت وبليت؛ إذ يجدها العاشق باقية في الصورة الكلية. ولا تعشق النفس إلا أبناء جنسها. ويمكن الارتقاء من نفس إلى نفس بالرياضة الروحية كما هو الحال في التصوف. ونظرًا لجهل الناس بالصور الروحانية تمنَّوا الخلود مع الصور الجسمانية؛ لأنه محبة البقاء والدوام والخلود في كل نفس مع محبوبه.٦٢

(ﺟ) وغاية العشق يقظة الوعي

فالحب وسيلة وليس غاية. الغرض الأقصى من وجود العشق في وجود العشق في جبلة النفوس، ومحبتها للأجساد وزينة الأبدان تنبيه لها من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وترقية لها من الأمور الجسمانية المحسوسة إلى الأمور النفسانية المعقولة، ومن الرتبة الجرمانية إلى المحاسن الروحانية؛ فكل المحاسن رسوم صورتها، النفس الكلية في الهيولى الأولى. المعشوق والمحبوب بالحقيقة تلك الرسوم والصور. وهذا ما تؤكِّده التجربة البشرية من فقدان شخص عزيز نرسم له صورةً منقوشة لتذكُّرها على الدوام. الحب الإنساني مجرد صورة للحب الإلهي. الحب للصورة الكلية أو الصور الجزئية مناسبات لها.٦٣ ومن لا يُفيق ولا يعي فإنه يكون جاهلًا، ولا خلاص له إلا بالعشق.

والغاية من ذلك كله هو المعشوق الأول، وهو الله، وكل نفس تتَّجه نحو معشوقها. ومتى نالت الغرض ملَّت إلى حب الله؛ فإنه لا ملل فيه. وتتم رؤية الله بالنفس حسب الصورة الخالصة، رؤية نور بنور لنور في نور من نور، في ذاتٍ كاملة مُكتفية بذاتها، هي الذات والموضوع، الأنا والآخر.

والله هو الصورة المحضة طبقًا لظاهرة التشكُّل الكاذب. ولا يحتاج الإخوان إلى أرسطو كي يصبح الله هو المعشوق الأول والله كذلك في القرآن. والسؤال هو: هل هذه الصورة البديلة حقيقة أم وهم، دافع على الفعل أم عزاء وسلوى وتكييف النفس مع المفقود لاستمرار الأمل؟

(د) الطريق إلى الله

وفي معظم الرسائل الأخلاقية يبيِّن إخوان الصفا الطريق إلى الله.٦٤ وبعد التحليل الأفقي للدين، والتاريخ النسبي الوصفي الاجتماعي، يبدأ التحليل الرأسي المطلق الصوفي كطريق إلى الله. لا يبحث عن المعاني المُتغيرة للدين طبقًا للمراحل التاريخية والناسخ والمنسوخ، ولكن يبحث عن الماهيات المستقلة.

والطريق إلى الله اصطفاء واختيار؛ فقد خلق الله الخلق واصطفى المؤمنين والأولياء لاطلاعهم على الأسرار. ليس الاصطفاء لشعبٍ خاص كما هو الحال في اليهودية الربَّانية التي جسَّدتها الصهيونية السياسية، بل الاصطفاء لجماعة المؤمنين والأولياء، لمجتمع الأقطاب والأبدال كما هو الحال عند الصوفية، وما سمَّاه الحكماء الخاصة في مُقابل العامة. الطريق إلى الله إذن هِبةٌ من الله إلى الإنسان، وليس كسبًا للإنسان إلى الله؛ مما قد يُثير عدة تساؤلات عن مقاييس الاصطفاء وشروطه ودور الإنسان فيه، واحتمال اعتراض غير المصطفى على تركه رافضًا التحيُّز والانحياز.

والاصطفاء بالعلم والعمل؛ فالعلم ليس فقط العلم النظري بل العلم العملي، التوحيد والعدل، المعرفة والسعادة. ويأتي العلم إما باستنباط الأنبياء مثل الحديث، أو بإلهام من الله مثل القرآن. وهو علمٌ يتعلق أساسًا بأمور المعاد، الملائكة والسجود والحشر والصراط والصور.

والعمل بسنتَين؛ الأولى صفاء النفس بالرسائل الرياضية وأمثال للإيضاح، والثانية استقامة الطريق. فالإنسان نفس وبدن؛ البدن هو الجسد، والنفس جوهرٌ سماوي روحاني، حِسي ربَّاني، حقيقة مُتحركة. وهي نفسٌ عالمة دون جهالات حجابها عن ربها بجهالاتها لجوهرها وآرائها الفاسدة وأخلاقها الرديئة.

والطريق إلى الله أقصر الطُّرق، وهو طريق تهذيب النفس يعرفه الجميع، ولا يمكن وصف هذا الطريق إلا بكلامٍ موزون، وآيات في الآفاق؛ أي بالإدراك الفني للعالم، اللغة تصوير للوجود.٦٥
وبالرغم من أن الفكر واضحٌ بسيط إلا أنه أقرب إلى الوعظ والخطابة. وقد يختلف الناس في وصف ماهية الطريق، وقد يرى البعض أن غاية الطريق ليست بالضرورة أمور المعاد والآخرة، الجنة والنعيم والسلام، طريقًا رأسيًّا إلى أعلى، بل أمور الدنيا من فقر وقهر وتجزئة وتخلُّف وتبعية، طريقًا أفقيًّا إلى الأمام، داخل العالم وليس خارجه، التنزيل دون التأويل، طريق الفقهاء وليس طريق الصوفية.٦٦

ومعارف البشر على مراتب ست مُتدرجة من أدنى إلى أعلى؛ الأولى معارف المتكلمين واختلافاتهم، ويمكن حلها بصورة الإنسان وصور البرهان؛ أي إرجاعها إلى التجارب الإنسانية الحية التي يُحاول الكلام تشخيصها وتثبيتها في جواهر ثابتة في عالم الأعيان، وإخراجها من عالم الذهان. والثانية تطلُّع الهِمَم إليها والرغبة في معرفتها تقليدًا، ثم تحويلها إلى برهان تدريجيًّا، وهم أنصاف المتكلمين الذي يُسيئون تأويل النقل وإعمال العقل. والثالثة النُّفور والاشمئزاز من العلم، وهم الجُهال الذين ما زالوا يعيشون على الطبيعة. وهؤلاء يستحقُّون الرأفة وحسن المعاملة؛ فالجاهل أفضل من نصف المُتعلم كالمُتكلم. والرابعة التقليد المحض، سواءٌ إيمان العوام أو تقليد العلماء، والتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم. والخامسة الإيمان بالحق دون الوصول إلى مرتبة الحكمة مثل إيمان الأولياء والأتقياء. وأخيرًا السادسة مرتبة الحكمة التي تشفع الإيمان بالتصديق والبرهان، فيستحيل الإنكار.

وصورة الإنسان أي البرهان الذي يصدق به الإنسان تختلف أيضًا مراتبه، وهي موازين تبدأ من النص إلى العالم الحسي والعالم الغيبي؛ فالنص هو الكتاب الذي كتبه الله بيده، وهو تشيُّؤ للكتاب، وتحويله من مقروء إلى مسطور. والهيكل الذي بناه الله بحكمته هو الكعبة قياسًا على هيكل سليمان أو العرش الذي يستوي عليه الرب، وهو تقديسٌ شيئيٌّ للمكان. والميزان الذي وضعه الله بين خلقه هو عود إلى القرآن من جديد باعتباره ميزان العدل، والعدل هو ميزان العلم أيضًا. والمكيال هو يوم الدين الذي يُكال فيه لكل إنسان ما يستحقُّه من ثواب وجزاء، وهو قانون الاستحقاق. والمجموع هو جماع النفس والبدن لصور العالمين؛ فالإنسان عالمٌ أصغر، والعالم إنسانٌ أكبر؛ فالإنسان الكلي مقياس نفسه وحقيقته. والمختصر هو العلوم في اللوح المحفوظ أم الكتاب عودًا إلى النص الكوني. والشاهد على كل جاحد هو اللجوء إلى التجربة. وعالم الحس أحد مقاييس الصدق. والطريق إلى كل خير هي الأخلاق طريقًا إلى المعرفة، كما أن المعرفة طريق إلى السعادة. والصراط المحدود بين الجنة والنار التفرقةُ الدقيقة بين الخير والشر، الصواب والخطأ القدرة على التمييز والإيضاح.٦٧
وكل هذه الصور للإنسان قياس على أصلٍ واحد بين صور الموجودات من الأفلاك والكواكب والأركان والحيوان والنبات. وإذا اتفق الجميع على صور الإنسان تمَّ حلُّ اختلافات المتكلمين والنُّظار. والحقيقة أن هذه الصور أيضًا تعود إلى أصل لها في التجربة الإنسانية مثل عجز التأويل العقلي، استحالة المعنى الحرفي، الشك وطول الحيرة، الإنكار السِّري خشية السيف.٦٨
ولما كانت دعوة الإخوان تجمع بين العلم والعمل، الفكر والممارسة، فإنها تقوم على كيفية الدعوة إلى الله وتجنيد الناس واستقطاب الأعضاء، وهي من القضايا الرئيسية لهذا العصر، حشد الناس وتجنيد الجماهير ضد السلبية واللامُبالاة.٦٩

والإخوان على مراتب ثلاث؛ الأولى أغبياء وأشرار وأردياء، وهم المطلوب تجنيدهم لنقلهم إلى المراتب العليا. والثانية المتوسطون بين الأشرار والأخيار، والمطلوب نقلهم إلى مرتبة الأخيار. والثالثة الخواص العقلاء المُتدينون، وهم الأخيار الفضلاء الذين وصلوا إلى سدرة المُنتهى.

ولكل طائفة آراءٌ وأفعال، ومذاهب وأعمال. والإخوان هم الخواص الفُضلاء العلماء بأمور الديانات والحكماء. هم هذه الجماعة الفاضلة «إخوان الصفا وخِلَّان الوفا» التي يتم من خلالها تطهير النفس. يُساعدون على الصعود إلى عالم الأفلاك وسعة السموات ومَسكن العِليين بجوار ملائكة الرحمن المقرَّبين، ومعاونة الإخوان النصحاء والأصدقاء من أجل الوصول إلى النجاة من الورطة التي وقع فيها البشر بجناية آدم مع أنه قد تاب وغفر الله له، وأصبح كل إنسان مسئولًا عن نفسه، طائره في عنقه، لا يتحمل وزرًا لم يرتكبه، ولا يخلِّصه إلا عمله وكدُّه واجتهاده؛ فلا آدم يُخطئ نيابةً عنه، ولا مخلِّص يُنقذه بديلًا عنه.٧٠

والناس المطلوب تجنيدهم على أنواع أيضًا؛ الأول المُقرُّون بفضل الإخوان، ولكن جاهلون بعلومهم لتستُّرهم بالتشيُّع. والثاني الشاكُّون المُتحيرون، وهم أفضل؛ لأنهم يبحثون وإن لم يصلوا بعدُ إلى مرتبة اليقين. والثالث المُوقنون بالدعوة ووقتها، وهم الأسهل انقيادًا. ومن ضرورات التربية الفلسفية الرفق بالجهال، خاصةً وأن في دياناتهم وكتبهم تأويلاتٍ حرفيةً أيضًا.

ويعتمد الإخوان في ذلك على «سيكولوجية» الدعوة والداعية، والوضع الاجتماعي وجهل الناس، وإيقاع القارئ في هوةٍ سحيقة، يتَّحد فيها كل شيء بكل شيء حتى يتوه، ويغترب عن العالم حتى تبدوَ الحاجة إلى الخلاص، وتنبيهه على أنه غافل في حاجة إلى يقظة اعتمادًا على حجة الإحراج، إرهابًا من أجل الدعوة وجرِّ الإنسان بعيدًا عن الناس إلى جماعة الإخوان، يجد فيها ذاته، ويُثبت فيها وجوده، ويُحقق ماهيَّته.

ويتدرَّج الإخوان في أربع مراتب تبيِّن قوة نفوسهم؛ الأولى ذوو الصنائع، أصحاب القوة العاقلة المُميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة، وهم في سن الخامسة عشرة. والثانية ذوو السياسات، أصحاب الفيض والشفقة ومراعاة الإخوان والقوة الحكمية، وهم في سن الثلاثين. والثالثة ذوو السلطان والأمر والنهي، والرأفة واللطف، والقوة الناموسية، وهم في سن الأربعين. والرابعة أصحاب التسليم والقبول والمشاهدة والقوة الملكية، وهم في سن الخمسين.٧١ والسؤال هو كيف تفيض كل قوة من أعلى إلى أسفل وهي لم تظهر بعدُ؟ والفيض هبوط، والنمو صعود. يبدو أن الفيض ما زال هو الغالب على الارتقاء.
البداية بعلم النفس ومعرفة جوهرها، بل إن كل رسائل الإخوان الإحدى والخمسين في علم النفس بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة. تُنقل الأقسام الأربعة، الرياضي والمنطقي والطبيعي الجسماني والإلهي الناموسي الشرعي، على مستوى النفس مثل النفسانيات والعقليات، وهو ما يمكن نقله في عصرنا على مستوى العلوم الاجتماعية، الاجتماع والسياسة وللقانون، وكما فعل الإخوان أنفسهم في القسم الرابع، العلوم الإلهية الناموسية والشرعية، والفارابي بعد ذلك في «إحصاء العلوم»، ووضع علم الفقه وعلم الكلام والعلم المدني في قسمٍ واحد.٧٢

ويتضمَّن النوع الأول اعترافًا صريحًا بالتشيع بالإضافة إلى الاتجاه الإمامي الإشراقي العام. وينقد الإخوان من جعل التشيع عدم قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوى التستُّر والتخفِّي والاختفاء فيركبون المحظور. ويتبرَّأ الإخوان من التستُّر باسم العلويين المُخلفين للشريعة، مثل تبرُّؤ الصوفية من الأدعياء الذين يقولون بإسقاط التدبير؛ فالإخوان يمثِّلون المعارضة الشيعية التي تُمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل أهل السنة في العلن وليس في الخفاء.

وينقد الإخوان ممارسات الشيعة الرسمية بأنهم قوم من الأشرار، تستَّروا بالتشيع ضد الآمرين لهم بالمعروف والناهين عن المنكر من أجل المحظورات وترك الأوامر. ومن الإخوان قومٌ يُسمُّون أنفسهم بالعلوية، ولكن ليس لهم من الدين إلا هذا الاسم، لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا جهاد، ويرتكبون كل المُوبِقات. وطائفةٌ جعلت التشيع مَكسبًا، النائحون والقصاصون، للتبرِّي والشتم والطعن والبكاء وترك العلم.٧٣ ومن الشيعة من يقول إن الأئمة تسمع النداء، وتُجيب الدعاء، وهمًا وتخيلًا وتعبيرًا عن العجز عن الفعل والمقاومة الفعلية، وفهم من يقول إن الإمام المنتظر مُختفٍ خوفًا من المُخالفين مع أنه ظاهر وهم يُنكرونه. والبعض يُقرُّ بالأنبياء والخلفاء والأئمة الوارثين لعلم النبوات، ولكن لا يدرون حقيقة ما يُقرُّون، ولا تصديق ما يعتقدون.
يمثِّل الإخوان حركةً إصلاحية داخل الفكر الشيعي، وينقدون اختلاف الإيمان عن العمل، والتكسُّب بالدين وتحويله إلى تجارة، وحضور الإمام أو اختفاءه، والجهل وعدم التصديق، والنصيحة من النُّساك؛ أي من الدين. فإخوان الصفا لقاء التصوف والحكمة الإشراقية لحساب التصوف، على عكس لقاء التصوف مع الفلسفة عند ابن عربي وابن سبعين لحساب الفلسفة الإلهية. والتحليلات كلها أقرب إلى الأخلاق منها إلى الاجتماع أو السياسة.٧٤

والمطلوب من المدعوِّين التحوُّل تدريجيًّا من الإقرار باللسان إلى التصوُّر بالأمثال للوضوح والبيان، إلى التصديق بالضمير والاعتقاد، إلى التحقيق بالاجتهاد في الأعمال؛ فالإقرار دون التصور تقليد، والتصور دون تصديق شك، والتصديق دون تحقيق تقصير، والتكذيب باللسان والقلب جحود وكفر.

والمُقرُّ باللسان والتصور بالقلب على حقيقته يجد أربع خصال في نفسه لم يعرفها من قبلُ؛ الثقة بالله واليقين التام بهذا الأمر، الرجاء والأمل للفوز عند مفارقة الجسد، النشاط في طلب الخلاص من الهيولى، جهنم الجسد، وأخيرًا قوة النفس للنهوض من الجسد.

وكلُّ مُقرٍّ بالقرآن وكتب الأنبياء والأخبار عن الغيب على أربع منازل؛ مُقر باللسان غير مُصدق بالقلب، ومُقر باللسان مُصدق بالقلب غير عارف بمعانيه وبيانه، مُصدق ومُقر ومُتيقن ولكن غير قائم بواجب حقه، وأخيرًا من وجد العون من الإخوان على مساعدته على التحقق، وأقلهم أربعون، وهو عددٌ رمزي، مواعدة الله موسى أربعين ليلة، أربعون خصلة في شخصٍ واحد أو في أربعين شخصًا. فأعلى المراتب التعاون مع الإخوان.٧٥

وفي «الدعوة إلى الله» يتوجَّه الإخوان إلى خمس مجموعات بالنداء كما هو الحال في رسائل بولس إلى الكنائس السبع؛ الأول خطاب إلى المُتفلسفين الشاكِّين في أمر الشريعة، الغافلين عن أسرار الكتب النبوية؛ فالشريعة أسرار، لا يمسُّها إلا المطهَّرون، مقدَّسة لا يجوز تناولها بالعقل، مضمونها غيبي وقصصي بعيدًا عن مصالح الناس وشئون الدنيا، كلها سمعيات ولا عقليات فيها؛ وبالتالي فهي ظنيَّات ليست يقينيات طبقًا للنسق الأشعري، في حين يُدافع المعتزلة عن العقل، والفقهاء عن المصلحة. ولا توجد فروقٌ نوعية بين التوراة والإنجيل والفرقان في نسبة العقليات إلى السمعيات، بالرغم من تطوُّر الوحي طبقًا لقانون تناقص السمعيات وتزايد العقليات اتجاهًا نحو استقلال العقل والإرادة.

والإنسان نوعان؛ شاكٌّ ومُتحير في معانيها، ومصدِّق متيقِّن بحقائقها. وهذا المُصدق إما غافل عنها، أو عالم بها مثل الجنة والنار، موجودان أو غير موجودين، لعدم معرفة أين وكيف. وتشمل الجنة والنار المعراج وخازن الجنة وخازن النار (رضوان ومالك).٧٦ والغيبيات يؤمن بها أهل التقليد مثل العامة، ويُشاهدها أهل البصيرة مثل الخاصة، ولا يوجد وسط بين التقليد والمشاهدة، وهو البرهان العقلي أو التأويل.
ومن ثَم ينقد الإخوان تعدُّدية الفلسفة لصالح وحدانية الدين، بالرغم مما في التعددية والاختلاف من مآثر، وما في الوحدانية من مخاسر؛ من حيث شرعية الاختلاف في الأولى، وتكفير المُخالفين في الثانية.٧٧ وهل يمكن الرد على الشاكِّ بالاعتقاد والنص أم بالرأي والبرهان؟ إن النص مجرد إعلان عن وجود الغيبيات دون إثبات لها بالبرهان؛ فالنقل وحده دليلٌ ظني، ولا يتحول إلى دليلٍ عقلي إلا بقرائن الحس والعقل.٧٨ هذا بالإضافة إلى أن هناك إجماعًا بين العقلاء؛ فهناك وحدة في التعدُّد، وتعدُّد في الوحدة، نظرًا لاختلاف مستويات الفهم. وكيف يتَّفق الإسلام مع أرسطو ولا يوجد برهان طبقًا لحديث «لو عاش حتى يعرف ما جنت به لاتبعني على ديني»؛ نظرًا لاتفاق العقل والنقل بصرف النظر عن صحة الحديث أو انتحاله؛ فالانتحال إبداعٌ فلسفي يعبِّر عن روح الحضارة.٧٩

ومع هؤلاء المُتفلسفين الشاكِّين يُخاطب الإخوان المُتشيعين، فهل هم المسلمون عامةً حتى المُلتزمون المُتيقنون بأحكام الشريعة، أو هم الشيعة خاصة المُتمسكون بالشريعة السياسية والدينية؟ هل هو نقد لمُدَّعي التشيع مثل النقد الغالب على باقي الخطابات، أو مدح في مُقابل المُتفلسفين الشاكِّين كفِرقةٍ بديلة؟ فالإسلام مودة بين الأصدقاء، وقدوة بالنبي وبالله كما يفعل الإخوان. وهو أقرب إلى الخطابة السطحية، وكأنه موجَّه إلى العامة أو الطوائف.

ويجمع الإخوان الخطابات الأربعة الأخرى في خطابٍ واحد؛ أولًا على أولاد الصناع والمُتطرفين وأمناء الناس، وثانيًا إلى أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحمَلة الدين، وثالثًا إلى أولاد الأشراف والدهاقين والثناء والتجار، ورابعًا إلى أولاد الملوك والأمراء والوزراء والكُتاب والعمال.

ويُنتدب أخٌ لكل طائفة، ينصحهم بالرفق، ويُعاونهم في إفهامهم التنزيل والتأويل، وزوال الدنيا والتغير، وتنظير للموروث الأصلي وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ بالنسبة إلى الرؤساء من أجل زعزعة الثقة بهم، وعدم الخوف منهم، والخروج على طاعتهم، ونبذ المجتمع القائم إلى مجتمعٍ آخر منذ الجاهلية إلى الإسلام. فرسالة الإخوان القيادة الثورية، وزعزعة الحكم، واستمرار حركة التاريخ.

وفي مخاطبة الملوك والسلاطين يستعمل الإخوان الرفق والمُلاطفة حتى مُلاقاتهم على خلوة، وقراءة السلام من أصدقاء نُصحاء من أولاد العلماء وحمَلة الدين وأولاد التجار العالمين بأحوال الأمور من باقي الطوائف، فالعلم مشاعٌ بين جميع الطوائف، وتبشيرهم بما يبشِّر به الإخوان من نصرة الدين وفتح البلاد. هم إخوان نصحاء، لهم مجلس يجتمعون فيه، وتدور الأيام والأزمان ويتذكر الإخوان مسار التاريخ.٨٠ وهل يُعرَف التاريخ بالزجر والفأل والكهانة والفِراسة؟ فإن لم يصدق فلتتمَّ مُحاججته، بالرغم من رفض الإخوان مناهج الجدل والمحاجة في الدين من علماء الكلام.
١  الرسائل، ج٤، ص٤٠–٥٣٨.
٢  السابق، ج١، ٩، ٣٥٨، ٣٦٤–٣٧٣.
٣  تُحيل الرسالة الأولى في الآراء والديانات إلى هذه الأخلاق الكونية لعدة فصول، منها: (٢٩) فصل في بيان قول القائلين إن أسباب الشرور في العالم بالعرَض لا بالقصد. (٣٠) فصل في بيان قول كمية أنواع الخيرات والشرور في هذا العالم. (٣١) فصل في بيان القصد الأول والقصد الثاني على قول الحكماء. (٣٢) فصل في بيان الشرور التي تُنسب إلى النفس الإنسانية من جهة أحكام الناموس (ص٤٧١–٤٨٠).
٤  السابق، ج١، ٩، ٣٣١–٣٣٥.
٥  الرسائل، ج٢، ٦، ١٣٨–٢٤٣.
٦  تضمُّ بعض فصول الرسالة الأولى في الآراء والديانات موضوعات الأخلاق الفردية والاجتماعية، مثل: (٤٠) فصل في مسألة الجبر، ص٤٩٨–٥٠٠.
٩  الرسائل، ج١، ٩، ٣٥٠–٣٥٧.
١١  وهو معنى البيت الشهير لأحمد شوقي:
بالعلم والمال يَبْني الناسُ مُلكَهمُ
لم يُبْنَ مُلكٌ على جهلٍ وإقلالِ
١٢  الرسائل، ج٤، ٤، ٥٦.
١٣  السابق، ج٤، ٥٢–٦٠.
١٤  من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل والأمانة، ص١٠–١٤.
١٥  الرسائل، ج٧، ١٦٨-١٦٩.
١٧  السابق، ج٤، ٤٤–٥٢.
١٨  السابق، ج٤، ٤، ٤١-٤٢.
١٩  وهي قصة صديقين، مجوسي ويهودي، وراحلة واحدة تنازل عنها المجوسي لليهودي حبًّا في الإنسانية، واستأثر بها اليهودي تمسكًا بالأخلاق الطائفية، حتى كاد المجوسي أن يهلك لولا الدعاء والاستنجاد بالإرادة الخارجية (الرسائل، ج١، ٩، ٣٠٧–٣١١).
٢٠  انظر «من النقل إلى الإبداع»، المجلد الثالث الإبداع، الجزء الثاني الحكمة النظرية، الفصل الثاني الطبيعيات والإلهيات.
٢١  وهذا ما فعله كانط في «الدين في حدود العقل وحده» (انظر «قضايا معاصرة»، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٦، ص١٣١–١٧٠).
٢٢  وهذا هو معنى قول نيتشه: «إن الله قد مات.»
٢٣  السابق، ج٤، ٢، ٥١٩–٥٢٧.
٢٤  هذه هي الأفلاك عند كانط وجويو.
٢٥  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الرابع النبوة والمعاد، ص٣٢١–٣٤٤.
٢٦  الرسائل، ج٤، ١، ٥٢٧–٥٢٩.
٢٧  السابق، ج٤، ١، ٥٢٩–٥٣٨.
٢٨  «ماهية الإيمان وخصال المؤمنين»، الرسائل، ج٤، ٥، ٦١–١٢٣.
٢٩  وهو ما ساد في عصرنا من أجل استعمال سلاح التكفير ضد الخصوم السياسيين (السابق، ج٤، ٥، ٦١-٦٥).
٣٠  في عصرنا يُتهم العلماء بأنهم غير مؤمنين؛ لذلك رُفع شعار «العلم والإيمان» (انظر «الدين والثورة في مصر» (١٩٥٢–١٩٨١)، ج٣، الدين والتنمية القومية، مدبولي، القاهرة ١٩٨٩، ص١٥٧–١٩٢).
٣١  وهو أقرب إلى الموقف المسيحي الشهير في العصر الوسيط، «أُومن كي أعقل»؛ لذلك أسَّس جورج شحاته قنواتي جماعة «إخوان الصفا» جمعية للإخاء الديني للحوار بين الأديان، مسيحية أكثر منها إسلامية.
٣٢  السابق، ج٤، ٥، ٦٨–٦٥.
٣٣  من العقيدة إلى الثورة، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الثالث، نظرية العلم، ص٣٤٩–٣٦١.
٣٤  انظر دراستنا «من نقد السند إلى نقد المتن»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة ١٩٩٦، ص١٣١–٢٤٣.
٣٥  انظر دراستنا «مخاطر في فكرنا القومي، الدين والثورة في مصر»، ١٩٥٢–١٩٨١، ج١، في الثقافة الوطنية، ص٥٩–٩٦.
٣٦  السابق، الرسائل، ج٣، ٩١، ١٤٧؛ ج٤، ٥، ٦١–٦٤
٣٧  وضع العلم في مقابل الإيمان نظرةٌ مسيحية؛ لأن الإيمان تصديق بلا برهان.
٣٨  انظر دراستنا ثورة المعلومات، السياسية الدولية، القاهرة ١٩٩٨.
٣٩  السابق، ج٤، ٥، ٦٨-٦٩.
٤٠  وهي نظريةٌ مشهورة في أمريكا اللاتينية dependency theory؛ لذلك ينقد محمد إقبال «فلسفة السؤال» أي الشحاذة. كما حاول معظم المُصلِحين التفرقة بين التوكل والتواكل.
٤١  السابق، ج٤، ٥، ٧٠-٧١.
٤٢  في الأغاني الشعبية في المُعاناة من طول الهجران «للصبر حدود»، وكان من ضِمن هتافات مظاهرات مارس ١٩٦٨ بعد هزيمة ١٩٦٧ «يا جمال، للصبر حدود».
٤٣  السابق، ج٤، ٥، ٧٠–٧٣
٤٤  السابق، ج٤، ٥، ٧٣–٧٥.
٤٥  مثل مقطع الأغنية الشعبية «ترميني المجادير».
٤٦  السابق، ج٤، ٧٥-٧٦.
٤٧  السابق، ج٤، ٥، ٧٦–٨١. كما يُعطي إخوان الصفا مثلًا من قانون المواريث لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وأنه إذا جُمع النصيبان قبل الزواج وبعد الزواج يكونان مُتساويَين.
٤٨  السابق، ج٤، ٥، ١٠٨–١١٢.
٤٩  السابق، ج٤، ١، ٤٨٦.
٥٠  السابق، ج٤، ١، ٤٨٥–٤٨٧، ٤٩١-٤٩٢.
٥١  فصل في مثنوية الإنسان، السابق، ج١، ٧، ٢٥٩–٢٦١.
٥٢  انظر حسن البنا، سيد قطب، أبو الأعلى المودودي، الجهاد في سبيل الله؛ وأيضًا الإمام الخميني، جهاد النفس أو الجهاد الأكبر، القاهرة ١٩٨٠.
٥٣  السابق، ج٤، ٥، ٨١-٨٢.
٥٤  السابق، ج١، ٩، ٣٥٦-٣٦٦.
٥٥  رابعة العدوية وعمر الخيَّام نموذجًا.
٥٦  السابق، ج٣، ٦، ٢٦٩–٢٧٨.
٥٧  هو رأي أدونيس في «الثابت والمُتحول»، باستثناء الحب العذري عند كُثير عزَّة، وجميل بُثينة، وقيس ليلى. وهو أيضًا رأي Denis de Rougemont: L’amour et L’Ocident, Paris 1956.
٥٨  وقد استمر ذلك التفسير في نظرية الانفعالات حتى القرن السابع عشر في الغرب.
٥٩  الرسائل، ج٣، ٦، ٢٦٩–٢٧٨.
٦٠  السابق، ج٣، ٦، ١٧٨–٢٧٩. ولإقبالٍ شعر في العشق بهذه المراتب.
٦١  وذلك مثل رواية الإخوة «كرامازوف» لدستويفسكي.
٦٢  السابق، ج٣، ٦، ٢٧٢–٢٨٢.
٦٣  كما حدث لابن الفارض عندما بدأ يغنِّي الحب الإلهي بعد رؤيته جمال فتاة على سطح منزل تنشر الغسيل، وقد يُعطي هذا حجة للأيقونات والتماثيل والصور الحسية في المسيحية في معركة الأيقونات بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية في القرن الخامس الميلادي.
٦٤  الرسالة الثانية، ماهية الطريق إلى الله عز وجل، ج٤، ٢، ٥–١٣؛ الرسالة السابعة، في كيفية الدعوة إلى الله، ج٤، ٧، ١٤٥–١٩٧.
٦٥  ماهية الطريق، في الحث على تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق، الرسائل، ج٤، ٢، ٥–١٣.
٦٦  السابق، الرسالة الأولى في الآراء والديانات، (٣٤) في طبائع الناس في الرغبة في الدنيا والآخرة، ص٤٨١–٤٨٣؛ في أنه لا يمكن وصول الأنفس الجزئية إلى الآخرة إلا بعد الورود على الدنيا، ص٤٩١-٤٩٢؛ في جزاء المُحسنين، ص٥٠٤–٥٠٩
٦٧  السابق، ج٤، ٢، ١١-١٢.
٦٨  السابق، ج٤، ٢، ١١-١٢.
٦٩  وهي التي سمَّاها الكواكبي «الفتور»، وكتب فيها «أم القرى».
٧٠  السابق، ج٤، ٧، ٢٤٦–٢٤٨؛ ج١، ٢،  ١١٣. وكما هو الحال في لاهوت التحرير عند باولو فريري، وتربية المضطهَدين وثورة الجماهير عند أورتيجا.
٧١  السابق، ج١، ٨، ٤٩٥؛ ج٤، ٧، ١٧٣-١٧٤.
٧٢  في مهمة النفوس وعشقها للأجسام، ج٤، ٧، ١٨٣-١٨٤؛ في مهمة النفوس وإخراجها من عالم الأرواح لجنايةٍ كانت فيها، ج٤، ٧، ١٨٤–١٨٦
٧٣  وهذا مثل نقد الخميني لممارسات عاشوراء السوداء الحزينة بعد انتصار الثورة (الإمام الخميني، جهاد النفس والجهاد الأكبر، القاهرة، ١٩٨٠).
٧٤  الرسائل، ج٤، ٧، ١٤٦–١٤٨، ١٥٣.
٧٥  السابق، ج٤، ٧، ١٧٥–١٧٧. انظر دراستنا «التفكير الديني وازدواجية الشخصية، قضايا معاصرة»، ج١، في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٦، ص١١–١٢٧؛ وأيضًا «من العقيدة إلى الثورة»، ج٥، الإيمان والعمل والإمامة، ص١٠–١٤.
٧٦  في خطاب الشاكِّين في أمر النفس المُتحيرين في اختلاف أقاويل العلماء فيها (السابق، ج٤، ١٧٧–١٨٣، ٢٩٦).
٧٧  من العقيدة إلى الثورة، ج١، المقدمات النظرية، الفصل الثالث، نظرية العلم، ص٣٩٠–٤٠٣.
٧٨  من النقل إلى الإبداع، ج١، الأول النقل، الباب الأول التدوين، الفصل الثالث الانتحال.
٧٩  الرسائل، ج٤، ٧، ١٩٥-١٩٦.
٨٠  «يذكِّرونهم بحوادث الأيام، وتغيُّرات الزمان، والخطوب والحدثان، وما تدل عليه دلائل القرآن من تغييرات شرائع الدين والمِلل، وتنقُّل الملك والدول، من أمة إلى أمة، ومن بلدٍ إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، فاجتمع رأيهم، واتفقت كلمتهم على أنه لا بد من كائن في العالم قريب، وحادث عجيب، فيه صلاح الدين والدنيا، وهو تجديد ملك في المملكة، وانتقال الدولة من أمة إلى أمة، وإن لذلك دلائل واضحة، عُرفت بفراغ العقول وتجارب الأمور، واعتبار تصاريف الزمان فيما مضى من الحدثان، وما يُعرَف منها بالزجر والفأل والكهانة والفِراسة، وبدلائل المُتحركات من النجوم والمقامات مما تدل عليه الكائنات قبل أن تكون» (السابق، ج٤، ٧، ١٨٩–١٩١).