من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

سادسًا: الأخلاق الإشراقية (ابن سينا)

وهي الأخلاق التي تقوم على إشراق الفضائل في النفس، فضيلة المعرفة بالفطرة في «حي بن يقظان»، والخلاص من البدن في «رسالة الطير»، والأخلاق النفسية في «دفع الغم عند الموت» و«الحث على الذكر»، والفضائل الباطنية التي تذهب إلى ما وراء الشعائر، مثل «الصلاة» و«الزيارة»، وأخيرًا الأخلاق العقلية في «علم الأخلاق» و«العهد».

(١) أخلاق الطبيعة والفطرة

وهي الأخلاق الطبيعية الفطرية التي صوَّرها ابن سينا في «حي بن يقظان». والمعنى الرمزي للعنوان أن الحياة ابنة اليقظة، وأن الحياة حياة الوعي الداخلي والضمير الخلقي؛ لذلك تظهر لغة البواعث، «وانبعث من ذات نفسي». ونظرًا لأهمية لفظ الحياة فإن الابن «حي» وأباه «حي»، هو اسم الشيخ وليس اسم ابن سينا. ودون تدخُّل المُريد هي أقرب إلى «تدبير المُتوحد».

وبالرواية شخصيتان؛ حي والشيخ الحكيم، وحوار بين الاثنين، أقرب إلى الحوار مع الذات (المونولوج) منه إلى الحوار مع الآخر (الديالوج)، وهو حوار بين العقل والغرائز. وبدأ الشيخ بالسلام؛ يعني الكرم والجود والإقبال على الآخرين. وهي سيرةٌ ذاتية لحياة ابن سينا؛ فقد اشتغل أولًا بالعلوم الدينية، ثم بحساب الهند والجبر والمقابلة، ثم المنطق، ثم العلوم الطبيعية والإلهية؛ فالدين ليس طارئًا عليه، والحكمة الطبيعية والإلهية مُتأخرة.

ربما كان اتجاهه إلى الإشراق ردَّ فِعل على انخراطه في الحياة الدنيا وإفراطه في الشهوات والملذَّات؛ فالقصة أقرب إلى التجربة الشخصية والأزمة الروحية، وكأنه الغزالي في «المُنقذ من الضلال».

يهدف التأويل إلى تحويل العالم الخارجي إلى العالم الداخلي، وتتكرر نفس المعاني بصورٍ مختلفة. ويأخذ المعنى رموزًا عديدة، مثل قُوى النفس مرةً برموز المكان والاتجاهات فيه، ومرةً بلغة الحيوان، ومرةً بلغة الأفلاك. وأحيانًا تتضارب الدلالات؛ فالمشرق مهد النور والصورة في مُقابل المغرب مهد الظلمة والمادة، وفي نفس الوقت شياطين المشرق هي القوة المُتخيلة، وهي أقرب إلى السلب منها إلى الإيجاب.

ويرمز إلى العقل الذي اكتسب التجارِب من السنين والرحلات. والرفقة ليست أشخاصًا، بل الشهوات والغرائز وسائر القُوى الإنسانية؛ فالقصة نظرية في التحرُّر والخلاص الفردي. والسؤال هو: والآن يكون التحرُّر من أي قيد؛ من الشهوات والغرائز أم من القهر والفقر والتخلف والجهل وعدم الولاء واللامُبالاة؟

والرمز أكثر قدرةً على التعبير من التصور، أقل قدر ممكن من اللفظ مع أكبر قدر ممكن من المعنى. ومن شدة التقابل تخرج بعض العبارات اللاذعة، مثل القوة التي على اليسار، وهي القوة الشهوية القذرة.

وأحيانًا يكثُر الرمز ويتكرر، ويغيب عنه الوضوح فلا يُحقق الهدف منه. ولمَ كل هذا الرمز وقد عبَّر ابن سينا من قبلُ عن مضمون الفلسفة الإشراقية في عديد من الرسائل دون صعوبة أو ألغاز للتعبير عنها مرةً ثانية رمزًا دونما حاجة للتخفِّي من القهر السياسي؟

وهل يجوز تأويل الرمز أم الإبقاء عليه بلا تأويل في وقائع محدَّدة تتغيَّر من عصر إلى عصر من أجل إعادة القراءة؛ فقد يكون القيد الآن ليس الشهوات والغرائز، بل الفقر والقهر والاستعمار والتخلف والجهل والتبعية والتفكك واللامبالاة؟

وموضوع القصة الإشراق والتجرد والتخلِّي عن الحواس، وليس اتفاق الدين والفلسفة كما هو الحال عند ابن طفيل؛ ففي الفلسفة بعض الجوانب الصوفية، وفي التصوف بعض الجوانب الفلسفية. إشراق الحكمة عند ابن سينا في مُقابل حكمة الإشراق عند السهروردي؛ وبهذا المعنى سُمي ابن سينا فيلسوف الإشراق حقيقةً، أو صاحب الحكمة المشرقية مجازًا.

وتظهر بعض العبارات المسيحية مثل «وجهي إلى أبي»، وبها الصور الحيوانية والسر في الكتاب المطوي المختوم مثل رؤيا يوحنا. فهل هناك اتصالٌ تاريخي أم إنه أدبياتٌ معروفة في تاريخ الأديان كما هو واضح عند إخوان الصفا؟ كما توجد بعض الأجواء اليهودية مثل العلاقة الخاصة بين الله وبني إسرائيل كما عبَّر عنها نشيد الإنشاد.١

والقصة رمزيةٌ تقوم على الثنائية المُتقابلة المعروفة في الإشراق بين النفس والبدن، والروح والمادة، والنور والظلمة، والرِّي والعطش، والستر والكشف، والحجاب والسفور. هي معركة بين الحس والعقل، بين القوى النفسية والقوى الناطقة التي تنتهي بانتصار أحدهما على الآخر. والرفاق هم الغرائز والعقل، والأمام قوة التخيل، واليمين القوة الغضبية، واليسار القوة الشهوانية، والمُموه القوة الخيالية، والهدى طريق العقل. والإنسان مع رفاقه أي قُواه للسياحة والمُتنزهات. ويظهر الشيخ حي بن يقظان رمز التجارب والعقل كالشيخ مع المُريد عند الصوفية. ويبدأ الحوار بعد بداية الشيخ بالتحية. اسمه حي بن يقظان من بيت المقدس، حِرفته السياحة، وجهته إلى أبيه، أخذ منه مفاتيح العلوم، وانتهى إلى علم الفِراسة، علم الظاهر والباطن. وينقد الشيخ الخيال والوهم والحس والقوى الغضبية والشهوية. ويؤثر الابتعاد عن هذه الصحبة رفاق السوء وعدم ترك الزمام لهم.

وقد أسَّس ابن سينا علم الفِراسة لمعرفة أثر النفس في الجسم، وهو موضوع رسالة «الفعل والانفعال». ويعني هذا العلم الظاهر الذي يكشف الباطن، ذريعة لابن سينا لشرح الفراسة التي أسَّسها، والتي لم يكتب فيها رسالة كما فعل الرازي، والتي يُعطيها تأويلًا صوفيًّا. والفطرة والفراسة ليسا في حاجة إلى تأويل.

وحدود الأرض الخافقان، وهما السماء والأرض، والصورة والهيولى هما المشرق والمغرب؛ أي الجهات الأربع. والأقاليم هي الأنواع المعدنية والنباتية والحيوانية والإنسانية. والأفلاك العشرة لكل فلك قومٌ ولهم صفات. وتسطع الشمس بين قرنَي شيطان، وهي القُوى المُدركة والقُوى المُحركة. والأمة قبيلتان؛ بهائم شهوية وسباعٌ غضبية. والشياطين التي تطير هي الخيال. والإنسان يطير. والأفعوان له رأس خنزير، ونصف إنسان، رجل إنسان وكف إنسان، وكأنها إحدى التماثيل أو الصور.٢

وتأخذ الجغرافيا الطبيعية معانيَ الأقاليم الروحية. وأسماء الأماكن والأعلام رموزٌ تربوية؛ فالتقابل بين المشرق والمغرب تقابل بين الهيولى والصورة. والمشرق لا يسكنه أحد. والعين وحدها ربع المعمورة، إنما يعني دار الهجرة والعزلة والتوحد. والسياحة الجولان الروحي. بلده بيت المقدس؛ أي المعراج إلى السماء، وبلاده برزة هي الأعضاء والبدن وعمل قُواه. والبرزة تعني النهضة والتيقظ وراء البدن. والمنتزهات هي الأمور البعيدة؛ أي المقولات. ولكل فلك مدنٌ وسكان. والأرقام تدل على الأفلاك. فأحيانًا يكون الرمز بين الآفاق مثل الأفلاك، أو من النفس مثل القوى، أو من الحرث مثل المموه والهدى واللمعة، وأحيانًا من الحيوان. ويجمع ابن سينا بين علم الفلك وعلم التنجيم كما يفعل إخوان الصفا؛ فالتنجيم هو الدلالة الباطنية للنجوم.

والسدود استحالة العقل التخلص من الخيال والحس. والخافقان عالم المركَّبات المحسوسة في الأرض وفي السماء. والمدَّان القريبان الهيولى والصورة؛ الأولى من الغرب، والثانية من الشرق. والبرزخ مدد للعقل الهيولاني في المعارف. واللمعة نور الكائنات الفاسدة المستمدة من أقوال الصورة، والأقاليم الأنواع المعدنية والنباتية والحيوانية والإنسانية. والأمور الأجرام السماوية، وأقربها القمر، وهو أولها، وآخرها الفلك التاسع، وفوقه إقليمٌ آخر، علة العلل، وهو الله الذي لا يكون ولا يفسد. والمدن الثمان القمر، صغار الجثث، حثات الحركات. والمدن التسع عطارد، الكتابة، والنجوم، والنيرنجيات والطلسمات، والمصانع الدقيقة، والحركة الثقيلة.

والمدن الثمان الزهري والصحابة والمرء والخير والقصف والطرب. والمدن الخمس الشمس، بسيطة في الجسم. والمدن السبع المريخ، الإفساد في الأرض، والمشتري المغالاة في العفن، وزحل السر، وفلك البروج اثنا عشر قسمًا. والفلك التاسع الروحانيون والملائكة.

والملك النفس الإنسانية، والخازن الآخر القوة الوهمية، والقرن الأول (الظلم والغشم) القوة الغضبية، والقرن الثاني (الفحشاء) القوة الشهوانية، والقرن الطيار القوة المتخيلة، والجن القوى المتعلقة بالحواس، والحفَظة الكرام الكاتبون قوى النفوس الإنسانية، والملوك العظام النفوس الفلكية، والقرن الذي يطير القوة المدركة في الإنسان، والقرن الذي يسير القوى المحركة، وقبيلة البهائم الشهوية، وشياطين المشرق القوة المتخيلة، والغالب النفس الإنسانية، وسكك البرية الخمس الحواس الخمس، والأنبياء في كتابٍ مطوي مختوم. وهناك طوائف من الملائكة الأرضية ميمنةً وميسرةً كالجن والإنس، والحفَظة كرامٌ كاتبون. اليمن إمارة، واليسار عمالة. وهناك هبوط إلى الأرض ورقيٌّ إلى السماء في حركتَي الذهاب والإياب. والإشراق النهائي في الفناء والصوفية، مجوهرات وشباب وبهجة.

ومن ثَم يتراوح الرمز بين الإنسان والدولة. الدولة لها رموزها مثل البريد وسككه الخمس والملك والقُواد والموظفون. والإعلام له خازن يعرض على الملك الأسرى. والإنسان مثل الدولة من حيث الرئاسة والأعوان. الإنسان دولةٌ صغيرة، والدولة إنسانٌ كبير. فالرمز له مدلولٌ سياسي بالإضافة إلى المدلول الإشراقي، مثل القرن الأول الذي يدل على الظلم والغشم سياسيًّا، والقوة الغضبية إشراقيًّا.

وفي «رسالة الطير»، وهي قصةٌ رمزيةٌ أخرى، يبدو ابن سينا صوفيًّا رمزيًّا خالصًا يفوق الغزالي الذي له أيضًا رسالة بنفس العنوان. هي رسالةٌ صوفية خالصة، يعبِّر فيها ابن سينا عن إطلاق سراح النفس من القفص، من السجن إلى الحرية، وفك رباط الأرجل والطير حتى الملك والرئاسة؛ فقد نصب قومٌ الشراك للطيور فسقطت فيها، إلا أن بعض الطير أخرجت رءوسها وأجنحتها من الشَّرَك، وبرزت تطير وفي أرجُلها بقايا الحبائل. لقد فُتح باب القفص، ولكن الأرجل ما زالت في الحلقة، وطارت الطيور فوق الجبال، جبل الإله، وله ثمانية شواهق، ووصلت حتى السابع، فوجدت مدينة عليها ملكٌ عظيم يكشف الضر عن المظلوم، ويسكن في قصر به صحنٌ فسيح، وللملك جمالٌ يوقع في حبه، جماله يصعق الإنسان، ولا يُفيق إلا بالأدوية، ولا يقدر على حل الحبائل من الأرجُل إلا رسول، ويستريح الطير في المروج.

يبدو ابن سينا هنا غير صاحب الشفاء؛ فقد تحوَّل من الخطاب الفلسفي الصوري المجرَّد إلى القصص الصوفي الرمزي.٣ ويبدو ابن سينا الطبيب الذي يُفيق الإنسان المصعوق بجمال الملك بالأدوية. ومع ذلك فتجربة السجن والخلاص تجربةٌ فعلية يؤيِّدها الواقع السياسي والاجتماعي. وقد سُجن ابن سينا وعاش تجربة السجن. سجن النفس في البدن مثل سجن المُواطن في الدولة. وليس الخلاص إطلاق النفس خارج البدن، فهذا هو الخلاص بالموت الطبيعي أو الإعدام القسري، بل بتحرير البدن وإطلاق سراحه. وسفر الطير هو إطلاق حريته من السجن إلى العالم الفسيح. والملك في النهاية صورة الدولة، والأمير الله، والسلطان يكشف عن البنية السياسية المرسلة. والكل يسعى إلى الملك، ولا أحد يسعى إلى الشعب. الكل يبغي القمة، ولا أحد يتوجَّه إلى القاعدة. الكل يَتُوق إلى الجمال، ولا أحد ينظر إلى القبح. الكل يهرع إلى داخل القصور، ولا أحد يبحث عن سُكان القبور.٤

ورسالة «العشق» بنيةٌ مُحكَمة، مقدمة وسبعة فصول طبقًا للعدد الرمزي. تبدأ من العشق الطبيعي الحيوي مرورًا بالعشق الإنساني حتى العشق الإلهي. يبدو العشق أولًا قوةً كونية في كل الهُويَّات، وهو أقرب إلى العشق الميتافيزيقي؛ ثم يتجلَّى في الجواهر البسيطة غير الحية، وهو العشق الكوني؛ ثم يبدو في الصور؛ أي النفوس النباتية، ثم في الجواهر؛ أي القوى الحيوانية، وهو العشق الحيوي؛ ثم يأتي عشق الظرفاء والقيان والأوجه الحِسان، وهو العشق الإنساني. ويبلغ العشق الذروة في النفوس الإلهية في العشق الإلهي، وهو الاختيار الأعظم.

العشق الميتافيزيقي ناتجٌ عن التراتيب في الوجود؛ فكلُّ مرتبة إما فائقة بخاص الكمال، أو محقوة بغاية النقص، أو متفاوتة بين الاثنين. والصفات الإلهية لا تفاوت بينها في الذات. والعشق الكوني للبسائط غير الحية، وهي الهيولى والصورة والأعراض، عشقٌ لا إنساني. والعشق النباتي الحيواني نظرًا لوجود النفس النباتية والحيوانية. والعشق الإنساني طبيعي للوجوه الحسان، واختياري نظرًا لوجود الحرية الإنسانية. والعشق الإلهي بين العبد والمولى، وعشق المعقولات والنزاع إلى المهمات، وحب الآخرة وجوار الرحمن. وفي كل واحد منها خيرية؛ أي المثل الأعلى. وفيها يدخل الفن والموسيقى والشعر. ولا تستحقُّ النفوس الإلهية البشرية والملكية أخلاق التألُّه ما لم تقسر بالخير المطلق. تعشق النفوس المُتألهة العلة الأولى، وكمالاتها تصوُّر المعقولات على ما هي عليها. والنفوس البشرية أقل من الملكية، الملكية تحرك الجواهر العلوية، والخير الأقصى هو المعشوق لكليهما معًا.٥
العشق ارتقاء من العيني إلى المجرد، ومن الهوايات إلى الكون، ومن النبات إلى الحيوان إلى الإنسان إلى الله. ومباضعة الأنثى المحرَّمة بالشرع قبيح، ولا يستحسن إلا الرجل مع امرأته أو مملوكته؛ إذ يتفق الشرع مع الجمال. وماذا الآن وقد انتهى عصر المملوكات وبدأ عصر الصداقات عن رضًا مُتبادل؟ يتم عشق الصور الحسنة، معانقتها أو تقبيلها أو مباضعتها، وليس المقصود هنا توليد المثل. وقد يكون العشق الإنساني لقبيح الصورة حسن الشمائل، أو لحسن الصورة قبيح الشمائل.٦ والعشق الإلهي أيضًا مُحدد للعشق الميتافيزيقي عن طريق النفي؛ إذ لا يوجد تراتب في الوجود في الذات الإلهية. ويُستعمل لفظ الإلهي مجازيًّا في الإنسان والملاك، أو في حالة الصفا والتجرد. ويُحال إلى الصوفية وحديثهم عن الاتحاد، وهو عشق النفوس البشرية وملكية الخير الأقصى الذي لا يتجلى في ذاته. سمَّاه الفلاسفة صورة العقل أو تجلياته في الملك الإلهي. تعشقه النفوس الإلهية بلا توسُّط، وتتحرك تشبهًا به. يرضى الملك الأعظم على من يتشبَّه به، ويسخط ملوك الدنيا على من يتشبَّه بهم. ويمكن معرفة ذلك بالاستقراء؛ أي بالتجارب الصوفية، ثم بالبرهان الكلي كما هو الحال في حكمة الإشراق.

ابن سينا هو واضع التفسير الرمزي صراحةً من الحكماء، بعد أن مارَس الكِندي التفسير العقلي كما هو الحال عند المتكلمين لإثبات خلق العالم، سجود الجرم الأقصى أو حشر الأجساد. وكتب ابن سينا في ذلك «رسالة في إثبات النبوات وتأويل رموزهم» ورسالة «الحروف». والآيات في «الإشارات والتنبيهات» علامة وليست نصوص اللغة.

ويؤوِّل اللمس والمعانقة تأويلًا روحيًّا، وتعني التقارب والاتحاد والشعور بالنسيم المشترك بعيدًا عن الشهود الحسي. والصلاة والصيام رموز في حاجة إلى تأويل. والنعيم الحسي كالحُور العِين مرتبةٌ متوسطة بين النعيم الدنيوي والنعيم الأخروي. والبرزخ وأمور المعاد كلها أمورٌ مُغلَقة، لها دلالاتٌ كثيرة في شرحها النجاة، وفي تخويفها الهلاك.

وبطبيعة الحال، يفرِّق ابن سينا العامة والخاصة؛ فلا يجب إنكار ما تُثبته العامة. العامة قائمة على الخوف، وفي حاجة إلى تعويض. ولا يجب إثبات ما ينفيه الخاصة قبولًا للدليل العقلي. يجب إذن رفض التكذيب والتصديق، والتوقف عن الحكم كخطوة للمراجعة والتأمُّل والنظر، ومقارنة الحجج بالحجج المقابلة، رفض ملاحدة الفلاسفة، وفي نفس الوقت عدم إذاعة العلم للعامة. كما يبدو الرمز في الأسلوب في آخر «الإشارات والتنبيهات» وطريقة مخاطبة القُراء، الاستنكاف من العامة، والخوف منها، والدعوة لنقاء السرية، وترك المجتمع لخلاص الفرد، والبعد عن العالم للقرب من الله. أقوال الحكماء، مسلمين أو غير مسلمين، ألغازٌ ورموز طبقًا لفهم العامة من أجل دفعهم إلى الفضيلة، وإبعادهم عن الرذيلة.٧
وقد أتى الشرع لمخاطبة العامة (الجمهور) لأنها لا تقدر على التوحيد الفعلي الخالص؛ لذلك أتى التوحيد تشبهًا للبعض، وتنزيهًا للبعض الآخر؛ عامًّا للبعض، وخاصًّا للبعض الآخر. وإذا كان التوحيد تشبهًا فالأولى أن تكون كذلك باقي العقائد. ويتصور الجمهور الملائكة وإن لم يجرؤ على التصريح به؛ فهم بالنسبة له أشقياء لا لذة لهم ولا راحة، لا يأكلون ولا يشربون ولا يتكلمون، ويسيمون آناء الليل وأطراف النهار، لا يفتُرون ولا يُثابون، وإن اعتقدوا خلاف ذلك كرهًا طوعًا للشريعة، وهو أنهم معذبون؛ لأن السعادة الحقيقية واللذة الروحانية غير مفهومة أصلًا، وإن اعترف بعضهم بها قولًا.٨

(٢) الأخلاق النفسية

والهدف منها السيطرة على الانفعالات مثل الخوف من الموت، والحث على الذكر، ونيل السعادة. كتب ابن سينا رسالة «دفع الغم من الموت»، وهي تجربةٌ إنسانية خالصة في الوافد والموروث على حدٍّ سواء، سواءٌ موت سقراط أو لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وليس بناءً على مجرد سؤال.

والخوف من الموت إحدى حالات الخوف، والفلسفة هي التحرُّر من الخوف، أو تعلُّم الموت بعبارة أفلاطون. هو خوفٌ عام من النهاية والمصير، وليس خوفًا خاصًّا من شيءٍ معيَّن، ولكنه أشد من الخوف الخاص؛ لأنه خوفٌ ميتافيزيقي، خوفٌ وجودي.٩
ويعرض ابن سينا للأسباب المُحتملة للخوف من الموت، لا فرق بين وافد وموروث، وهي سبعة؛ الأول الجهل بمعنى الموت على الحقيقة؛ فالموت هو ترك النفس استعمال أعضاء البدن، والنفس جوهرٌ غير جسماني، يبقى بعد فناء البدن لأنها أشرف، وهو أخسُّ طبقًا للثنائية التقليدية. الثاني الجهل بمصير النفس، وهو ليس خوفًا من الجهل، وهي حجةٌ جدلية منطقية نفسية لا تنفي وجود المشكلة؛ ومن ثَم لزِمت ضرورة المعرفة؛ لأن المعرفة تُذهب الخوف. لا خوف من الموت لأنه تمام حد الإنسان؛ فالإنسان حيٌّ ناطق مائت، والموت تمامه وكماله.١٠ ويستحيل الحد إلى الجنس والفصل لأنه مركَّب. وهي حجةٌ منطقية صورية؛ لذلك حزم الحكماء أن الموت موتان؛ إرادي وطبيعي، والحياة حياتان؛ إرادية وطبيعية. الموت الإرادي إماتة الشهوات، والحياة الإرادية ما يسعى له الإنسان في الدنيا، والحياة الطبيعية بقاء النفس. والثالث انحلال النفس بانحلال البدن وبقاء العالم بعده؛ أي الجهل ببقاء النفس ومعادها. وهو خوف من الجهل وليس من العلم، من المجهول وليس من المعلوم. فالعلم ببقاء النفس يُبدِّد الخوف. والرابع ألمٌ عظيم أشدُّ من ألم الأمراض وإن كانت تؤدِّي إليه. والألم للإدراك، والإدراك للحي، والحي هو القابل لأثر النفس. والجسم الذي ليس به أثر النفس لا يألم ولا يُحس بالموت. وهي حجةٌ ضعيفة؛ لأن الألم قبل الموت وليس بعد الموت. والخامس العقوبة التي تحلُّ بالإنسان بعد الموت، وهو ليس خوفًا من الموت بل من العقاب. وهي حجةٌ جدلية بأن الخوف من العقاب يأتي من الإيمان بالحياة بعد الموت والاعتراف بالحاكم العدل. الخوف من الذنوب لا من الموت، والقضاء على ذلك هو تمثُّل الأفعال الحسنة في الدنيا. والسادس للمصير بعد الموت، وهو ليس خوفًا من الموت بل من المجهول والعدم المطلق. ويُبدَّد بمعرفة أمور المعاد وخلود النفس. والسابع والأخير الأسف على ما يترك الإنسان من مال وفِتيان، والحزن لا طائل منه، والإنسان فاسدٌ فانٍ، ومن أحبَّ ألا يفسد فقد أحبَّ ألا يكون.١١

والنتيجة إذن أن الموت ليس برديء، إنما هو الخوف من الموت. ويكشف الوصف عن فلسفةٍ ظاهراتية وجودية بلغة العصر، وإبعاد الفكر من السلطة وحياة الناس، وفي نفس الوقت يقوم على الاستدلال والاتساق ورفض التناسق. والدليل المُقابل إثبات بقاء النفس بعد تجرُّدها من البدن؛ لذلك يجوز التصدق على الميت لأن النفس واحدة؛ وبالتالي يتحوَّل الشرع إلى فلسفة، والنص إلى عقل، والوحي إلى تجربة. الموت ضرورة، وإلا لما اتَّسعت الأرض للبشر. وضرب المثل بأولاد علي حجةٌ شيعية تبرِّر الشهادة، كما أنها حجةٌ كمية. والأرض تسع لأضعاف أضعاف الخلق.

و«الحث على الذكر» بين علم النفس وعلم الأخلاق في الطريق إلى الدين من أجل بلوغ مرتبة الواصلين. والبشر لا ملائكة ولا حيوانات، بل إن أكثر الحكماء والأنبياء الذين لا يعتريهم خطأ أو سهو هم أيضًا بشر. والذكر المقصود هو الذكر باللسان، والغاية منه قمع هواجس النفس وإيقاظها من سُباتها. الفكر على الذكر استخلاص النية من المداجلين، والذكر على الفكر تخليص للتخييل من الهائمين، والتخلِّي عن الذكر والفكر للإنابة إلى الله، والاستسلام الكلي له، وهو معنى آية وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، ونسيان الخلاف والاستغراق في الله.

ويصحُّ الذكر بذمِّ الحواس، وضغط صواحب النفس، والرقابة على حديثها، والقبضة على السر. فإذا حدث الذكر نبت في السر، وبرزت عروقه في القلب، وطلعت أعصابه في الغيب، واعترت المعارف في النفس، وطالع كل غصن وعرق في اللسان والسمع والبصر واليد والرجل، وهو ما يُسمى هداية السبيل؛ فالذكر يجعل الله ساريًا في باقي البدن والأعضاء، في الحواس والقلب، في العقل والنفس. وتكون النتيجة خروج العبد عن حراسته، ودخوله في حراسة الله، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. والترقِّي في درجاتٍ ست حتى الوصول إلى الله، من المجاهدة إلى الاستغراق، إلى التضلع، إلى التجلي، إلى المشاهدة، إلى المراقبة. وتُعادل المجاهدة أولى الدرجات المشاهدة خامسها في طريق السكينة.١٢

والسؤال هو: هل هناك تعارض بين الفكر والذكر ليتسلَّط أحدهما على الآخر، أم إنهما شيءٌ واحد؛ فالذكر لا يكون إلا بالتفكر، وإلا كان مجرد تمتمة باللسان وعدًّا بالأصابع كما يفعل ماسكو السبحات؟ وهل الحواس مدانة لارتباطها بالشهوات؟ أين الموقف الطبيعي للإنسان؟ وهل وظيفة الذكر قمع هواجس النفس أم تحرير الطبيعة؟ أليس هذا استبعادًا وتخليصًا للنفس وتسكينها للغير وإعطاءها الرضا الزائف والاطمئنان الخادع؟ وهل الذكر باللسان أم بعمل يحقِّق الشريعة؟ ومن ثَم يكون السؤال: هل سلاح ذكر الله حقيقة أم وهم؟ كل ذلك صورٌ فنية لهداية السبيل في صوره العضوية، بروز العروق في القلب، طلوع الأغصان من الغيث. وهل موضوع العلم الوصايا والحث على الخير أم المنهج والشرح والتحليل والتفسير؟

وتتحول الأخلاق النفسية إلى أخلاقٍ دينية عن طريق أثر العقائد في البناء النفسي للإنسان. ومقدار الخوض في العقائد هو الدعوة المُجملة للتوحيد والعدل؛ فالعدل هو الأساس الأخلاقي للتوحيد، والتوحيد هو الأساس العقائدي للعدل. وفضيلة الشريعة مذهبها في المعاد.

والشيء الأولى بالشيء يُفيد كمالًا إن كان بالحقيقة فحقيقي، وإن كان بالظن فظنِّي، مثل استحقاق المدح والقدرة وبقاء الذكر؛ فهذه كمالاتٌ ظنية. أما الربح والسلامة ورضا الله وحسن معاد الآخرة، فهي كالإشارات حقيقية لا تتمُّ بالقصد وحده. وهنا تبدو أشعرية ابن سينا في جعل قانون الاستحقاق ظنيًّا، وأمور المعاد يقينية. وهو تناقض؛ لأن قانون الاستحقاق إنما يتم في المعاد؛ فإذا كان المعاد نموذج اليقين فإن الاستحقاق يحدث فيه. وتظهر بعض قيم المجتمع التِّجاري في تصور الربح والسلامة والخير العميم باعتبارها أخلاقًا دينية. ويُستعمل لفظ الشريعة كلفظٍ مُجمل يشمل العقيدة والشريعة معًا كما يفعل ابن رشد.

ولما جعل ابن سينا الأخلاق الدينية كلها مركَّزة في أمور المعاد، جعل العلوم تشترك كلها في منفعةٍ واحدة هي تحصيل الكمالات الإنسانية بالفعل مُهيئةً إياها إلى السعادة الأخروية؛ فالعلم أيضًا طريق إلى الله. وتشترك الفلسفة والدين في معرفة الفرق بين الخير والشر، الضار والنافع. وكانت رغبة الحكماء في السعادة الأخروية وليست في السعادة الدنيوية، في سعادة الروح وليست في سعادة البدن.

وقد تمَّت صياغة أمور المعاد بطريقةٍ يستحسنها الجمهور، والثواب والعقاب بالطريقة المستحسنة عند العامة، والترغيب والترهيب دون المعاني العقلية المحضة والسمات الروحانية التي لا يُدركها إلا الحكماء. وصُوِّرت اللذات طبقًا للحواس الخمسة؛ فالنكاح جزء من حاسة اللمس، وحُورٌ عِين، ووِلدانٌ مخلَّدون، وفاكهة مما يشتهون، وكأس مَعين، لا يُصدعون عنها ولا ينزفون، وجنات تجري من تحتها الأنهار، من لبن وعسل وخمر وماءٍ زلال، وسُرُر وأرائك، وخيام وقباب، فرشها من سندس وإستبرق، وجنة عرضها السموات والأرض، والراحة الروحانية، والخلو من الأحزان والمخاوف، والدوام على الفرح والسرور والنشاط. وإن العام من البشر إذا دُعوا إلى الخير والعدل الإنسانيَّين فكأنهم دُعوا إلى أمرٍ خلاف طبائعهم البشرية وحركات نفوسهم الحيوانية الغالبة على النفس النطقية، فلم يستجيبوا لها إلا قهرًا ورعبًا. وكما استحال أن يقوم بذلك فردٌ واحد استُعمل الترغيب والترهيب، والثواب والعقاب. للمُسيء السعير والزمهرير والزبانية والسلاسل والأغلال، وأكل الضرير، وشرب الصديد، وتدميغ مقامع الحديد إياهم، وتبديل جلودهم حتى لا يفنى عقابهم، كذلك وجب تعزير الثواب والعقاب على هذا الوجه كما فعل الرسول.١٣ ورؤية الله شرعية كما هو الحال عند الأشعرية وكشف الحجاب وكما هي ثابتة في الكتاب.١٤ يبدو أن ابن سينا ينقد الجهمية التي تنفي الرؤية، والمعتزلة التي تؤوِّلها. وإذا كان ابن سينا يؤوِّل المعاد، فلماذا لا يؤوِّل الرؤية؟ والغريب أن ابن سينا يجعل النكاح لذة اللمس وحده دون البصر أو الشم أو الذوق أو السماع، رؤية الحبيب، وشم عطره، وتذوُّق شفتَيه، وسماع صوته. وهو معروف في تحليل الكيفيات الحسية في نظرية الوجود في علم الكلام.١٥

ومن العقائد الدينية الداعية إلى الراحة النفسية العناية وقَبول الشر كجزءٍ من القضاء الإلهي. وتعني العناية كون الأول عالمًا لذاته بما عليه الوجود في نظام الخير، إرادة الخيرات الكائنة عن هذه الأشياء إرادة أولية؛ لأنه ليس من الحكمة ترك الخيرات الفائقة الدائمة. العناية إذن إدراك اللذات قبل أن تكون عناية بالآخر، من ضرورة الذات قبل أن تكون من احتياج الموضوع. العناية أقرب إلى الفيض منها إلى التدبير، وإلى الواجب أكثر منها إلى الحق.

وتظهر العناية الإلهية أولًا في الأجرام العُلوية ابتداءً من الجِرم الأقصى الذي يُسميه أصحاب الشرائع العرش طبقًا لظاهرة التشكل الكاذب؛ فهي أكثر الأشياء قبولًا. وقد جرى على لسان أكثر الأمم أن الله على السماء وعلى العرش، وإليه تُرفع الأيدي للدعاء.

لذلك لا تؤخذ الأمور الواردة في المعاد في الشرائع على ما هي عليه، وإلا لزِمت منها أمورٌ شنيعة نظرًا لخطورة التفسير الحرفي للمعاد؛ مما قد يؤدي إلى إنكار التوحيد والمصدر الإلهي للوحي. ومن مصلحة الجاهل ألا تُكشَف له الأمور، وإلا نظر إلى الشرائع الإلهية بعين الاستخفاف، وهي مقدَّسة عن ذلك. ويتمُّ الحديث عن العِلية الإلهية بالجليل دون الدقيق، ووضعها بما يستحسن الجمهور.١٦ ويستعمل ابن سينا مثل الإخوان الديانات المقارنة دون تفصيلها، وكأن الفكر الديني له بنيةٌ واحدة، ويقوم على تجربةٍ إنسانية واحدة. وتلك ميزة الشريعة الإسلامية على باقي الشرائع المجوسية والمانوية.١٧
وينتج عن العناية سؤال «كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي؟»١٨ فعناية الباري للكل على سبيل عناية كل علة بمعلولها مباشرةً أو عن طريق الأسباب المتوسطة. وأحوال العالم بقياس بعضها إلى بعض تُحدث في النفس صورة اعتقاد رديء أو كفر أو شر في نفس أو بدن في إطار النظام الكلي الضروري. الشر إذن رؤية واعتقاد وليس له وجودٌ فِعلي، رؤية من أجل النسق الكلي للعالم، الجزئي داخل الكلي. فليس من الحكمة الإلهية ترك الخيرات الثابتة الدائمة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية زائلة.

(٣) الأخلاق الباطنية

وهي الأخلاق التي تدل على الجانب الباطني للشرائع، وتعتمد على التأويل في مُقابل التنزيل، وهي قضية الكم والكيف. الصلاة الشرعية أعداد وأوقات وهيئات وأركان كالقراءة والركوع، وكلها مربوطة بالبدن المكوَّن من العناصر الأربعة، وهي خطاب التكليف، للثواب والعقاب، لتميُّز الإنسان عن الحيوان. أما الأخلاق الباطنية فمرتبطة بسياسة العالم، تمهيدًا لقسمة الناس إلى عامة وخاصة؛ الشرعية للعامة، والباطنية للخاصة. وهي القسمة التي أجمع عليها المتكلمون والحكماء والصوفية، بل والأصوليون في تفرقتهم بين المُفتي والمُستفتي، الغاية من الصلاة الشرعية الأخلاق، النهي عن الفحشاء والمنكر؛ أي الأخلاق الاجتماعية وليس الأنواع الربَّانية، بينما الغاية من الصلاة الباطنية المعرفة، وهي غاية الحكيم. الصلاة الباطنية هي الصلاة الحقيقية، مشاهدة الحق بالقلب الصافي والنفس المجرَّدة المطهَّرة، لا شأن لها بالإبداء والحركات، بل بالخواطر الصافية والنفوس الباطنية، لا قصر فيها ولا طول.

والإنسان نوعان؛ الأول من غلب عليه الطابع الحيواني، يعشق البدن والنظام والترتيب والصحة والطعام والشراب والمنفعة والمصلحة، غافل عن المألوف، جاهل بالحق، يؤدي الصلاة كواجبٍ شرعي طمعًا أو خوفًا حتى يُعود نفسه بالسياسات، وحق التضرع والاشتياق والاستعاذة إلى العقل الفعَّال والفلك الدوَّار ليفيض عليه بجوده، ويُنجيه من عذاب وجوده، ويُخلصه من آمال بدنه، ويُوصله إلى مُنتهى أمله. والثاني من غلبت عليه قُواه الروحانية، وتسلَّطت عليه قوة النفس الناطقة وتجرُّده عن نفسه.١٩
وبِنية رسالة «ماهية الصلاة» ثلاثية؛ ماهية الصلاة، ظاهر الصلاة وباطنها، على من تجب وعلى من لا تجب، ومن المصلِّي المُناجي لربه. ليست الصلاة فقط الشعائر، بل هي التوجُّه للشعور، والحركة في الكون؛ فالإنسان عالمٌ أصغر، والعالم إنسانٌ أكبر، كما هو الحال عند إخوان الصفا. الصلاة نظرية في المعرفة والسعادة؛ أي بحث عن الحقيقة. للصلاة ظاهر وباطن؛ الظاهر غير حقيقي، والباطن حقيقي. الظاهر هو البدني، والباطن هو النفسي. الظاهر حركة البدن، والباطن حركة النفس. الظاهر المأمور شرعًا والمعلوم وصفًا. أعداده معلومة، وأوقاته محدودة. وهي من جملة السياسات الشرعية. كل مكلَّف يرتقي بجسمه إلى روحه وطريقة التضرع إلى خالقه ليُفارق البهائم. فالإنسان مُعاقَب مُثاب لامتثال الأوامر والنواهي الشرعية والعقلية. والشرع يتبع العقل.٢٠ فلما ألزم العقل نفسه بالصلاة الحقيقية، معرفة الله، ألزمه الشرع بالصلاة الظاهرية حتى يتبع الجسم الروح في التعبُّد وإن اختلفت المرتبتان. ونظرًا لأن الشرع يُعلمه أن الناس مُتفاوتون في العقل، نظم لهم هذه السياسة من الرياضة البدنية، وكلَّفهم بها للسيطرة على أهوائهم الطبيعية؛ فنظم طريقةً تُميزهم عن سائر البهائم.
تكشف الرسالة عن البُعد الرأسي مباشرةً، وتحويل الحكمة إلى تصوف بعد تحويل الشريعة إلى حكمة؛ فالصلاة طريق الاتصال بالله مثل العشق، الاتصال بالخلود من خلال الزمان. وهي تجربةٌ سِرية لا يجوز الاطلاع عليها. والحُر تكفيه الإشارة؛ فلذة الجماع لا تتصور للعينَين، ولذة النظر لا يُدركها الأعمى. وقد كتب ابن سينا الرسالة في نصف ساعة. ويدعو القارئ إلى المشاركة في هذا السر.٢١ وهي تجربةٌ شخصية لكل حكيم قديم أو مُعاصر.٢٢

وفي «معنى الزيارة» يترك ابن سينا الموضوع غامضًا عن قصد؛ زيارة من؟ صديق أم مريض؟ إنسان أو ملاك كما هو الحال في التراث المسيحي؟ زيارة الملاك لإليصبات أم مريم تنبِّئها بحملها العذري وتُسمى أيضًا «الزيارة»؟ والمقصود هي زيارة المساجد، وهي جزء من الأفعال الشرعية. والرسالة إجابة على سؤال للشيخ سعيد بن أبي الخير الصوفي؛ فصورة ابن سينا الحكيم هنا أيضًا أنه صوفي، والزيارة المقصودة أقرب إلى المعنى الصوفي المسيحي وتأثيرها في النفوس والأبدان. المطلوب من الزيارة التأثير في العالم عن طريق الدعاء في الزيارة.

وهي جزءٌ من العلوم السِّرية، مقدمتها الضرورية مبادئ نظرية الفيض وتراتب الموجودات، ابتداءً من العلة الأولى وواجب الوجود ثم الحديث عن الملائكة المقربين، المُسماة عند الحكماء العقول الفعَّالة طبقًا لظاهرة التشكُّل الكاذب، الجواهر الثمانية المُفارقة للمواد، حركة الوجود طبقًا لنظرية الفيض من أعلى إلى أدنى، وحركة المعرفة طبقًا للإشراق من أدنى إلى أعلى.٢٣
والأحوال إما جسمانية في الفيض أو نفسانية في الإشراق. يجمع ابن سينا التفسير الفيزيولوجي والتفسير الروحي، تجويف الدماغ؛ فالإنسان بدن ونفس، وأماكن الزيارة أي اجتماع المكان والروح؛ مما يؤدي إلى قدسية المكان كما هو الحال في كل دين (القدس، بيت لحم، مكة، … إلخ). الغرض من الدعاء والزيارة أن النفوس الزائرة المُتصلة بالبدن غير المُفارقة تريد جلب المنفعة ودفع الضرر، وتستعدُّ لجلب الصور. والنفوس إما جسمانية مثل مزاج البدن إن كان مُعتدلًا تحدث الروح التي تؤثر في الدماغ فيتمُّ الاستعداد، زيارة بيت الله مكان الازدلاف على الحضرة الإلهية، خلاص النفوس من العذاب؛ وإما نفسانية مثل الإعراض عن الدنيا، وانصراف الفكر إلى قدس الجبروت، وشروق النور الإلهي في السر لانكشاف الغم.٢٤

فهل دخل ابن سينا الحكمة ليضربها بالتصوف، مؤامرةٌ شيعية على العقل الإسلامي السُّني؟ لم تنجح مؤامرة الإخوان لأنها لم تكن ذكية، بل مكشوفة نقلية شعبية، ثم أتى العبقري ابن سينا لاستئناف نفس المشروع أكثر ذكاءً دون نقل كثير، إلا في الرسائل الصوفية وفي موسوعاتٍ أضخم وأكبر. وربما كانت بنية الرسالة خروجًا على الموضوع، أو تمهيدًا لخرافة الزيارة بخرافةٍ أخرى؛ الفيض.

وترتبط الأخلاق بالفقه والشريعة نظرًا لقيام الشريعة على أُسسٍ أخلاقية، كما لاحظ أبو حيان، بشرط فهم الشريعة فهما باطنيًّا؛ إذ ترتبط الشريعة بالجزء العملي من أفعال الإنسان حتى يفعل الخير مع نفسه ومع جنسه. ويستعمل ابن سينا لفظ السنة، وهو لفظٌ شرعي من علم الحديث وفي الفقه بمعنًى فلسفي؛ أي طريق وشريعة. وليس الناموس هو الحيلة والخديعة على ما تضمنه العامة، بل السنة والمثال القائم الثابت ونزول الوحي، وتُسمي العرب الملك النازل بالوحي ناموسًا. هذا الجزء من الحكمة هو النبوة لحاجة الإنسان إلى الشريعة، وهي عملية وليست نظرية. والشرائع مُتغيرة حسب الزمان. وهناك شرائع إلهية ودعاوى باطلة. والمطلب إثبات السعادة والسنة المؤدية إليها،٢٥ والمطلوب من الشريعة إخلاص النية كما يفهم الحكماء لا كما يفهم العامة.٢٦
مثال ذلك الأمر والنهي اللذان يقومان على الترغيب والترهيب؛ أي على البواعث والدوافع. وأفعال التكليف في الأمر والنهي أحد حالات الخير والشر في العالم من خلال الأفعال. والحدود المشروعة للمعاصي مثل النهي ردع عن المعصية، ولولاه لوقعت منفعتها في المنع عن فسادٍ آخر. والناس ينبغي أن يكونوا مقيَّدين بقيد الشرع ليتمَّ نظام العالم أو بقيد العقل، والتحلُّل من القيدَين يُوقع في الفساد فيختل نظام العالم. وإذا كان لا بد في بقاء العالم من استعمال القُوى الشهوانية، وفي الذب عن المدن الفاضلة القوة الغضبية، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له دور في إبقاء الشريعة في المجتمع. والمدح والذم هما الحث على المعاودة إيجابًا وسلبًا، حثًّا على الخير وزجرًا على الشر؛ مما يدل على أن المقصود بالثواب والعقاب ليس التنكيل كما يُصور بعض المتكلمين؛ فالحكماء أكثر رحمة وأقل «صادية» من المتكلمين.٢٧

والحقيقة أن الأمر والنهي لا يقوم على الترغيب والترهيب إلا للعامة، ويقومان على جلب المصالح ودرء المفاسد عند الفقهاء. وكذلك ليس المقصود من الحدود الردع والتخويف إلا للعامة، أما الخاصة فإنهم يفعلون الخير لذاته ويتجنَّبون الشر لذاته. والشرع والعقل قيدان للعامة، وتحرُّر للخاصة؛ تحرُّر من الأهواء والانفعالات.

(٤) الأخلاق العقلية

ولأول مرة يكتب ابن سينا في «علم الأخلاق» باعتباره علمًا مستقلًّا. وهي أخلاقٌ عقلية مثالية تضع ما ينبغي أن يكون، ويتمُّ ذلك عن طريق رصد الفضائل ونقيضها الرذائل قلبًا. يرصد منها حوالَي ثلاثًا وعشرين فضيلة، وكأننا مع أسماء الله الحسنى، وهي فضائل التوحيد. وكل مجموعة تتعلق بإحدى القوى النفسية؛ العفة بالشهوانية، والشجاعة بالغضبية، والحكمة بالتمييزية أي الناطقة، والعدالة إليها كلها بصرف النظر عن مصدرها. والغاية منها عملية؛ تطهير النفس لنيل السعادة الدنيوية والأخروية. الأخلاق وسيلة، والدين غاية. والفضائل أنواع ومركبات، وكل مجموعة مرتبطة بإحدى القوى النفسانية، الشهوانية أو الغضبية أو التمييزية.٢٨ وهي مثل القيم الصوفية، وفي مقدمتها الصبر. ويُعطي ابن سينا مجرد تعريفات نظرية دون تحليلها في سلوكٍ اجتماعي.٢٩
ويُشير ابن سينا إلى كتب «إحصاء العلوم» دون الإشارة إلى الفارابي خاصةً؛ نظرًا لضعف التراكم الفلسفي الظاهر عنده نظرًا لصمته عن مصادره. يُحصي الفضائل أولًا ثم يُحدد القوى النفسانية والأخلاق التي تعد منها فضائل أو رذائل، وتحصيل الفضائل وتجنُّب الرذائل، ويتمُّ تعريف الفضيلة بأنها وسط بين الإفراط والتفريط كرذيلتَين، والأمثلة على ذلك كثيرة.٣٠
ثم يُحصي ابن سينا الرذائل؛ أي الفضائل المضادَّة، كما هو الحال في إحصاء الصفات الإيجابية والسلبية في التوحيد، بادئًا بالإيجاب ثم السلب.٣١ ثم يبيِّن وجه التدبير في تحصيل الفضائل وتجنُّب الرذائل، والصلة بين الفطرة والاعتياد وأثر الأفعال، ثم الانتقال من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية.
والعهد لفظٌ صوفي، عهد لما عهد الله به نفسه، ثم تحوَّل إلى عهدٍ فردي إشراقي؛ تخليص النفس من البدن استعدادًا للإشراق، وتزكية النفس الناطقة وتخليصها من الشهوانية والغضبية. وأحيانًا تكون القسمة ثنائية للقوى الإنسانية؛ حيوانية تجمع الشهوانية والغضبية، وناطقة. تبدأ الأخلاق على المستوى العضوي البدني اعتمادًا على نظريات الحرارة والبرودة واعتدال البدن لتفسير السلوك الخلقي كطبيب. وهو ما يمكن تسميته بالأخلاق الطبيعية؛ فالأخلاق ثلاثة أنواع؛ طبية بدنية، فحصَّة البدن مثل صحة النفس، واجتماعية تقوم على التوسط بين النفس والبدن، وروحية تقوم على تصفية النفس. وأفعال البدن مثل القوى البدنية والتعقل والتروية في الأمور الجزئية فيما ينبغي أن يفعل وألا يفعل بحسب الاختيار، ومثل استنباط الصناعات العملية والتصرف فيها كالملاحة والفلاحة والصياغة والتجارة؛ فهي أخلاقٌ تصف ما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائن. وتحصل الأخلاق من اعتياد الأفعال كما هو الحال عند أصحاب السياسات الجيِّدة وأفاضل الناس؛ فإنهم يجعلون أهل المدن أخيارًا بما يعوِّدونهم من أفعال الخير، وكذلك أصحاب السياسات الروية والمُتغلبون على المدن يجعلون أهلها أشرارًا بما يعوِّدونهم من أفعال الشر. الرسالة في الأخلاق الفردية، وقليل منها في الأخلاق الاجتماعية، وأقرب إلى المواعظ الشعبية وخطب المساجد، بالرغم من أثر العادة على الاكتساب للأخلاق والحديث عن المدن مثل الفارابي. ومع ذلك يلزم ستر الباطن عن الناس كما هو الحال في أخلاق الشيعة في ثنائيةٍ مُتعارضة تتعارض مع وحدة الشرع بين الظاهر والباطن، والسر والعلن، والنظر والعمل.٣٢
وتنتهي رسالة «العهد» ببيان عن الأخلاق الاجتماعية، نصائح للفرد في حسن المعاشرة، معاشرة كل فرقة بعادتها ورسمها، معاشرة الرزين بالرزانة، والماجن بالمجون، للتستُّر على الباطن من الناس دون الإتيان بفاحشة أو الغلظ بهجران، وأن يسمح بالمقدر والتقدير من المنال أن تقع له حاجة من الشركاء إذا لم يظهر خلل في الشريعة، وأن يحفظ سر كل أخ وود المُتصلين به حتى يقوم في غيبتهم بجميع ما يحتاجون إليه بمقدار الوُسع، وأن يفيَ بما يعد، ويعد بما يفي دون خُلْف، وأن يساعد الناس وإن خالف طبعه، ولا يقصِّر في الأوضاع الشرعية والسنن الإلهية، وأن يُواظب على التعبُّدات البدنية. فإذا خلص من المعاشرة زيَّن النفس والفكرة في الملك الأول، وخلَّص النفس من غبار الناس بحيث لا يشعر الناس بذلك.٣٣ وهذه أشبه بأخلاق التكيُّف الاجتماعي كخطوةٍ أولى حتى يألَفهم ويضمَّهم إلى الجماعة، ثم يعود إلى نفسه، ويتخلَّص من الناس، ويتَّحد بخالقه.٣٤
١  ابن سينا، حي بن يقظان، تحقيق وتعليق أحمد أمين، دار المعارف، القاهرة ١٩٦٦، ص٢٠، المقدمة ص٣.
٢  ابن سينا، حي بن يقظان، ص٨–١٧، ١٨–٤٠.
٣  ابن سينا، رسالة الطير، تحقيق المهرني، ص٤٢–٤٨.
٤  وذلك مثل التقابل في توما الأكويني بين «الخلاصة اللاهوتية» و«الرد على الأمم» من ناحية، وحياته الشخصية كصوفي من ناحيةٍ أخرى.
٥  ابن سينا، رسالة العشق، ص١–٢٧.
٦  وقد صوَّر إدموند روستان حب قبيح الصورة حسن الشمائل في رواية «سيرانو دي برجراك» في شخصية سيرانو، وحب حسن الصورة قبيح الشمائل في شخصية كرستيان.
٧  ابن سينا، معرفة النفس، ص١٨٧؛ المبدأ أو المعاد، ص٢٥٤؛ الإشارات والتنبيهات، النمط العاشر، ص٢٤١-٢٤٢، ٢٥٥-٢٥٦؛ الأضحوية، ص٤٢-٤٣.
٨  ابن سينا، الأضحوية، ص٤٤-٤٥، ٦١-٦١؛ العشق، ص١٧.
٩  في إحدى اجتماعات الجمعية الفلسفية الفرنسية عبَّر جابريل مارسل عن خوفه من الموت بطريقة الوجوديين، فردَّ عليه ليون برنشفيج آخر المثاليين: «الموت خبرٌ يُنشَر في آخر صفحة في الجريدة ولا أقرؤه.»
١٠  وكما عبَّرت عن ذلك سيمون دي بوفوار في «كل البشر فانون».
١١  وهذا هو الذي سمَّاه الوجوديون الوجود من أجل الموت (هيدجر)، أو الوجود الهش (مارسل) (ابن سينا، رسالة في دفع الغم من الموت، تحقيق مهران، ص٤٩–٥٧).
١٢  ابن سينا، في الحث على الذكر، ص٢-٣. وقد وضع الناشر الهندي آية أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إحساسًا بأن الموضوع تنظير للموروث وليس تمثلًا للوافد. وأيضًا الشفاء، الإلهيات، ج٢، ٥١. ويمكن إجراء رسالة جامعية عن «التأويل عند ابن سينا».
١٣  وتصوير الملائكة في أحسن صورة يتخيَّلها الجمهور دون المعاني العقلية المحضة للسمات الروحانية المسيحية التي لا يتخطى إليها دون عقول الحكماء، ثم ترغيب الجمهور وترهيبهم بالبشارة بالثواب والإنذار بالعقاب، وتصوير السعادة الثوابية لا بالصورة الإلهية الجليلة الفائقة التي هي عليها، بل بالصورة المفهومة عندهم المستحسنة لديهم، وهي اللذة والراحة، وتصوير الشقاء على مقابلة ذلك. وتقسيم اللذة إلى المُبصَرة والمسموعة والمشمومة والملموسة والمطعومة والنكاحية من الملموسة، وإشباع القول في أسباب كل واحد منها من حور عين، وولدانٍ مخلَّدين، وفاكهة مما يشتهون، وكأس من مَعين، لا يُصدعون عنها ولا ينزفون، وجنات تجري من تحتها الأنهار، من لبن وعسل وخمر وماء زلال، وسُرُر وأرائك، وخيام وقباب، فرشها من سندس وإستبرق، وجنة عرضها السموات والأرض، وتصوير ذلك بصورةٍ يفهمونها ويتمثلونها (الأضحوية، ص١١٢–١٢٥).
١٤  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، ج١، ١٧، ٣٩٤-٣٩٥، ٤٢٤؛ النجاة، ص٢٩١-٢٩٢؛ الأضحوية، ص٥٩–٦١.
١٥  من العقيدة إلى الثورة، ج١، الفصل الرابع نظرية الوجود، ص٥١٤–٥٢٧.
١٦  «وعرف أن الأمور الواردة عن هذا الموضوع في الشرائع إذا أُخذت على ما هي عليها لزِمها أمورٌ مُحالة وشنيعة. وأما المعرفة الرابعة فإن العالم مُطلع عليها بلا اطلاع. والجاهل صلاحه ألا يُكشَف له ذلك فيُلاحظ الديانات الإلهية والشرائع الحقيقية بعين الاستخفاف، وهي مقدسة عن ذلك … وأما من أُوتيَ الدراية، ونزَّه جوهر نفسه عن البدار إلى إنكارها، فلا يستحسنه ظاهرًا، وتهجين ما لا يستوضح الغرض المكنون فيه صادف في الشريعة إذا وردت على هذه الصورة أحد عظائم شرائطها، ورأى ورودها على صورة الحق أو مثال لا بالشكل المألوف والمعروف — على ما في شرائع المجوس والمانوية — أعظم أشراط فسادها وخلوها من التأييد السماوي» (ابن سينا، السعادة، ص١٩-٢٠).
١٧  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، ج١، ٣٩٨، ٤١٤–٤٢٢؛ النجاة، ص٢٨٤–٢٩١.
١٨  وهو الفصل السادس من المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء.
١٩  ابن سينا، ماهية الصلاة، ص٤٠-٤١.
٢٠  «الشرع يتبع أثر العقل؛ فلما رأى الشارع أن العقل لزم النفس الناطقة بالصلاة الحقيقية المجردة، وهي عرفان الله وعلمه، كلَّفه الشارع صلاة على بدنه» (السابق، ص٢٥–٣٧).
٢١  السابق، ص٤٢-٤٣.
٢٢  ويُقدر المستشرق ذلك حتى يُغرق التراث كله في التصوف، ويُبعده عن عالم الفقه والعقل، ويقترب من الشيعة، وتلبيةً لمطلبٍ خاص في مجتمعه الباحث عن الروح كردِّ فِعل على الإغراق في المادة.
٢٤  ابن سينا، معنى الزيارة، تحقيق مهران، ص٤٤–٤٨.
٢٥  ابن سينا، أقسام العلوم، ص١٠٨؛ السعادة، ص٤.
٢٦  «فيجب ألا يتوانى الحكيم عن استعمال الأوضاع الشرعية، وأما الجُهال فلن يحصل لهم باستعمال الأوراد الشرعية إخلاص نية، وهو المقصود منها» (السعادة، ص٢٠).
٢٧  ابن سينا، سر القدر، ص٢٤٨-٢٤٩؛ الأضحوية، ص٥٩–٦١؛ السعادة، ص١٩.
٢٨  وأهم الفضائل: السخاء، القناعة، الصبر، العفة، التجاوز، رحب الباع، كتمان السر، الحكمة، البيان، الفطنة، أصالة الرأي، الحزم، الصدق، الوفاء، الود، الحرمة، الحياء، عظم الهمة، حسن العهد، التواضع.
والفضائل المرتبطة بالغضبية: الصبر، الحلم، العفو، الصفح، التجاوز، رحب الباع، كتمان السر.
والفضائل المرتبطة بالتمييزية: الحكمة، البيان، الفطنة، أصالة الرأي، الحزم، الصدق، الوفاء، الود، الرحمة، الحياة، عظم الهم، حسن العهد، التواضع.
٢٩  ابن سينا، في علم الأخلاق، ص١٢٥–١٥٤، ١٤٣–١٥١.
٣٠  مثل: العفة وسط بين الشره وخمود الشهوة، السخاء وسط بين البخل والتبذير، العدالة وسط بين الظلم والانظلام، القناعة وسط بين الحرص والاستهانة، الشجاعة بين الجبن والتهور.
٣١  مثل: الحلم ضد الحسد والحقد وسرعة الانتقام. الصبر ضد البذاء والخناء والرفث والشتمة والغِيبة والنميمة والكذب والجزع. رحب الباع ضد ضيق الذرع وإذاعة السر. العلم ضد الجهل. الفطنة ضد الغباوة. البيان ضد العِي. الحزم ضد جودة الحس والعجز. الرحمة ضد الغدر والخيانة والقساوة. العدالة ضد الوقاحة وصغر الهمة وسوء العهد وسوء الرعاية والصلف والجور والكبر.
٣٢  ابن سينا، في العهد، ص١٤٢-١٤٣، ١٥٤–١٥٦، ١٤٦–١٤٨؛ الطبيعيات من عيون الحكمة، ص٣١.
٣٣  ابن سينا، في العهد، ص١٥٥-١٥٦.
٣٤  السابق، ص١٥٥-١٥٦.