من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

أولًا: من الأخلاق إلى الاجتماع

إذا كانت الحكمة العملية تنقسم إلى أخلاق واجتماع وسياسة عند القدماء، فإنه لا يوجد حدٌّ فاصل بينها. هناك الأخلاق الاجتماعية، علاقة الفرد بالآخرين، والأخلاق الدينية، علاقة الفرد بالله، الآخر المطلق، ثم تنحسر الأخلاق الاجتماعية تدريجيًّا من أجل تأسيس علم الاجتماع الخالص أو العلم المدني كما يقول الفارابي في تقسيم أنواع المدن، وكما يبيِّن ابن سينا في العلاقة بين النبوة والمجتمع. وقد يتساءل البعض: ما سبب اهتمام الفارابي بالإنسان والأخلاق والاجتماع والسياسة، حتى لو تحدَّث عن الإنسان ابتداءً من النفس الإنسانية والأخلاق تحت تأثير الأجسام السماوية؛ مزاج شخصي يرتبط بإشراقيات النفس، أم ظروف اجتماعية وهو رجل بلاط، أم مصادرات وقراءات وهو رجل منطقي، أو أغراض ومشاريع للأمة لتحويل دولة بني حمدان إلى نموذج للأمة كلها؟

وبالرغم من أهمية التطور التاريخي في كل موضوع، خاصةً من المشرق عند الرازي والفارابي وابن سينا إلى المغرب عند ابن باجه وابن طفيل وابن رشد، إلا أن له بنيةً واحدة ساهَم فيها كل حكيم، وركَّز على أحد جوانبه. ركَّز الفارابي على الأخلاق الاجتماعية والعلم المدني وأنواع المدن، بينما ركَّز الرازي وابن سينا وابن باجه على النبوة ودورها في المجتمع؛ أي على السياسة والرياسة والإمامة.

وفي «إحصاء العلوم» للفارابي يظهر العلم المدني بعد الإلهيات، كما تظهر الإلهيات بعد العلم المدني، ثم يعود العلم المدني للظهور بعد الإلهيات من أجل تكوين علم شامل يكون تنظيرًا للموروث. فهل يجد العلم المدني كماله في الإلهيات أم تجد الإلهيات كمالها في العلم المدني، أم أن العلم المدني أصل والإلهيات فرع؟ السياسة أصل والدين فرع. في «آراء أهل المدينة الفاضلة» تبدأ الإلهيات كأصل، ويظهر العلم المدني كفرع، وفي «إحصاء العلوم» الإلهيات والطبيعيات علمٌ واحد، وعلم الكلام والفقه والعلم المدني، أي العقيدة والشريعة، علمٌ واحد.

والقسم الرابع من رسائل إخوان الصفا «العلوم الناموسية الإلهية والشرعية» يتعلق بالناموس؛ أي بالقانون. وهو نوعان؛ إلهي وشرعي، أخلاقي واجتماعي. يتراوح بين الأخلاق الفردية الدينية والأخلاق القانونية الاجتماعية.١

والقسمة القديمة للحكمة العملية الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل؛ أي الاقتصاد. وهي في الحقيقة مُتداخلة فيما بينها؛ فهناك الأخلاق الاجتماعية، والأخلاق السياسية، والأخلاق الاقتصادية. وكلها تقوم على تحليل المجتمع؛ ومن ثَم يبدو الاجتماع قاسمًا مشتركًا بين علوم الحكمة العملية، الأخلاق الاجتماعية، والاجتماع السياسي، والاقتصاد السياسي؛ لذلك ضم كله في الاجتماع والسياسة، أي بمصطلحات العصر علم الاجتماع السياسي، من أجل إفساح المجال في القسم الثالث لعلم التاريخ، إضافة من المُحدَثين على القدماء.

(١) الأخلاق الاجتماعية

وتدل على انبثاق الاجتماع من الأخلاق كما انبثقت الأخلاق من الدين، وتكون إما خرافيةً تعتمد على الطوالع والبروج، وإما دينية في علاقة الفرد بالله كنموذج لعلاقته بنفسه وبالآخرين، الرئيس أو المرءوس أو الند، وإما عقلية خالصة في قُوى الإنسان العقلية والإرادية.

(أ) أخلاق السحر

ويبدأ التحول من الأخلاق إلى الاجتماع عند إخوان الصفا في «رسالة السحر» التي تُبين أثر الكواكب والطوالع والأفلاك في سلوك الأفراد والجماعات ابتداءً من إشباع الحاجات الأساسية، الطعام والشراب والنكاح، والحاجات الاجتماعية، الزيارة والحمل والغياب وحماية الملكية، والحاجات السياسية للأمن في وقت الحرب، والحاجات الدينية في معرفة الرسول والكتاب وصدق الأخبار؛٢ إذ تتحكم الطوالع في كل مظاهر النشاط الإنساني الضروري والاجتماعي، تحكم السماء في الأرض وكأن الإنسان لا اختيار ولا فعل إرادي له. وكلها أفعال إشباع حاجات أساسية دون ثورة أو غضب أو تمرد أو اعتراض من العبيد أو الأحرار، أشبه بعالم «ألف ليلة وليلة»، الحكم والدين والجنس والسلطان.

والحقيقة أن علم الفلك علمٌ رياضي، في حين أن علم أحكام النجوم خرافة. يكشف عن هموم المجتمع وقضاياه وأوضاعه مثل أهمية السرقة في مجتمعٍ رأسمالي.

(ب) الأخلاق الطبقية

وتحليل قوى النفس هو أساس الأخلاق الطبقية. فلكل إنسان قوتان عند الفارابي؛ بهيمية وناطقة، ولكل واحد منها إرادة واختيار، وهو كالواقف بينهما، ولكل واحدة نزاعٌ غالب؛ نزاع البهيمية نحو مصادقة اللذات العاجلة الشهوانية، ونزاع المنطقية نحو الأمور المحمودة العواقب مثل العلوم والأفعال الفاضلة. ولا يكتفي الفارابي ببيان بنية قوى الناس، بل يفسِّر تاريخها؛ إذ تنشأ القوة البهيمية أولًا قبل بزوغ العقل والقوة الناطقية فكانت الأغلب، والحاجة إلى الاستعداد لها أشد. والفضيلة في يقظة القوة الناطقة ومغالبة البهيمية. وكل إنسان يلقى أمرًا محمودًا وآخر مذمومًا له في كلٍّ منها فائدة، إما احتيالًا وتمسكًا بالأمر المحمود، أو مجادلة للتمسك به قدر الطاقة، أو أن يُحسن الأمر عند نفسه ويُنبهها على فضله. هناك إذن ثلاث درجات للتمسك بالأمر المحمود التحايل أو الطاقة أو الطبيعة. أفضلها الطبيعة، وأقلها قيمةً التحايل، وأوسطها إفراغ الوسع وبذل المجهود. وهناك ثلاث درجات أيضًا لتجنُّب الأمر المذموم؛ الاجتهاد، والمبالغة في نفيه عن النفس، والعزم على التخلص منه وعقد النية على عدم العودة إلى مثله، ارتقاءً من الأقل كمالًا إلى الأكثر كمالًا، من بذل الجهد في حده الأدنى إلى حده الأعلى، إلى عقد العزم والنية على تجنُّبه بالإرادة الدائمة، وليس بالفعل الوقتي.

ثم يفصِّل الفارابي القوة الناطقة في جودة التمييز، وهو اسمٌ آخر للروية أو العقل، وهي نوعان؛ علم دون فعل مثل علوم التوحيد والطبيعة، وعلم وفعل مثل الطب والأخلاق. والفلسفة نفسها نظر، معرفة الموجودات خارج الفعل النافع، مثل علم التعاليم، العدد والهندسة والمناظر، والعلم الطبيعي والعلم الإلهي، وعمل في تحصيل المنافع الفردية في الأخلاق والاجتماعية في السياسة. ثم يتم استنباط الطبقات الاجتماعية من أنواع التعقل، وهي ثلاثة؛ الأول جودة الروية فيما هو أفضل وأصلح في بلوغ جودة المعاش ونيل الخيرات الإنسانية مثل اليسار والجلالة. والثاني التعقُّل المدني، وهي جودة الروية لتدبير أمور المدينة. والثالث التعقُّل المنزلي، وهي جودة الروية لتدبير أمور المنزل. ومن ثَم يقتضي التعقل تأسيس ثلاثة علوم؛ الأخلاق، والاجتماع، وتدبير المنزل.٣

كما يتم استنباط الصنائع من الصلة بين العلم والعمل؛ فهناك صنائع تقوم على العلم دون العمل، وأخرى تقوم على العمل والعلم. وهي نوعان؛ السير الجميلة والمدن؛ أي حياة الأفراد. وحياة المجتمعات وما ينفع المدن حِرفها؛ الصناعة والفلاحة والتجارة والطب. فالأخلاق الطبقية تعني الأخلاق الحرفية والمهنية. الطبقة هي الحرفة أو المهنة التي قد تؤدَّى على نحوٍ غير مباشر إلى الطبقة بالمعنى الاقتصادي. وتهدف الصنائع إلى تحصيل النافع ونيل الجميل؛ لأن المقصود الإنساني يهدف إلى اللذيذ أو النافع أو الجميل. وقد تكون في المشهور أو في الملة أو في الحقيقة. والحقيقة أعلى من الملة، والملة أعلى من المشهور. المشهور ظاهرٌ يختلف عن الحقيقة. والمِلل متعددة، أما الحقيقة فواحدة.

واستنباط العلم المدني من قوى النفس صوريٌّ خالص لا ينطبق على العلوم، في حين أن التوحيد ليس علمًا نظريًّا خالصًا، بل هو علم وعمل؛ فالعلم بأن العالم مُحدَث، وأن الله واحد، والعلم بأسبابٍ كثيرة من الأشياء المحسوسة ليست فقط علومًا نظرية، بل هي أسسٌ نظرية للعمل، سواء في العلم الإنساني، الذاتية، أو العلم الطبيعي، العلية للسيطرة على قوانين الطبيعة. وإذا كانت الفلسفة طريقًا للسعادة فإنها لا تعني فقط مجرد الفعل التأمُّلي، بل الأخلاق العملية.

ليس الطب وحده هو نموذج العلم النظري العملي، بل كل العلوم العملية كذلك مثل الفلاحة والتجارة. يظهر نموذج الطب لأنه علم صحة الأبدان، كما أن الحكمة علم صحة النفوس من أجل تحقيق الكمال الإنساني. صحة الأبدان مثل صحة المدن، ومرض الأبدان مثل مرض المدن؛ فالطب مقياس الأخلاق والاجتماع في آنٍ واحد ربما تنظيرًا للموروث في تشبيه الأمة بالجسد الواحد. وكما يستخرج الطبيب المتوسط المعتدل في الأغذية والأدوية، فكذلك مُدير المدن يستخرج ويستنبط المتوسط والمعتدل في الأخلاق والأفعال. صناعة الطب مثل الصناعة المدنية. ولا تُذكر الصناعة. كما يُعطي نموذج العلم والعمل؛ البر بالوالدين، قبح الخيانة، جمال العدل. وهي أشياء تُعرَف بالذوق الأخلاقي، وليس النضال أو التحرر أو الثورة، وهي من قيم العصر.٤

أما اللذيذ والنافع والجميل فهي مقصودٌ إنساني من قيم الطبقة العليا. أما الطبقة الدنيا فمقصودها إشباع الحاجات الأساسية؛ فالجائع والعطش والعاري لا يتذوق الجميل. والمقصود في هذا العصر هو التحرُّر ضد الاحتلال، والحرية ضد القهر، والعدالة ضد الفقر، والوحدة ضد التجزئة، والتنمية ضد التخلف، والهُوية ضد الاغتراب، والالتزام والمبادرة التاريخية ضد اللامُبالاة وضياع الولاء. أما السيرة الجميلة فهي القدوة التقليدية القديمة أو سيرة الأبطال الوطنيين المُحدثين، والإنسان قدوة نفسه، ويعتبر بسيرة الفُضلاء الأقدمين كوعيٍ تاريخي بمسار الشعوب.

ولما كان الإنسان لا يقدر على بلوغ الكمال بمفرده دون باقي الناس نشأ العلم المدني بعد العلم الإنساني. موضوع العلم الإنساني الأخلاق الفردية، وموضوع العلم المدني السياسة الاجتماعية. وهو ما يتَّفق مع التصور القديم أن المجتمع هو مجموع الأفراد دون أن تكون للظواهر الاجتماعية كِياناتٌ مستقلة. وينتقل الفارابي من الفرد إلى الجماعة، ومن الأخلاق إلى السياسة، وكأنه في نفس العلم، تواصلًا لا انقطاعًا.

ومن المحتمل وجود معقولات مفارقة للأشياء الطبيعية. أما الأشياء الإنسانية الإرادية فمعقولاتها مُقترنة بها، مفارقة في الطبيعة وحلول في الإنسان، ولا تعلم الأمور الإرادية مسبقًا قبل الفعل على عكس الأمور الطبيعة. العلم الإنساني علمٌ بعدي بالضرورة نظرًا لارتباط الإرادة بالحرية. فالأفعال نوعان؛ طبيعية وإرادية. الأولى ضرورية، والثانية حرة.

وليست العوائق أمام الإرادة الإنسانية من الأمور الطبيعية خارج دائرة الحرية الإنسانية، بل صراع الإرادة مع إرادات الآخرين؛ ومن ثَم لزم العلم المدني لصياغة إرادة اجتماعية كلية.٥ المقولات والكليات لا تتبدل، بل الأحوال والعوارض والجزئيات. والقوة الفكرية هي التي تستنبط المعقولات وتُميزها عن الأعراض. والأعراض والأحوال مُتبدلة على الإرادة؛ لأنها ليست واحدة بالجنس، تزداد وتنقص، يتركب بعضها من بعض دون الإحاطة بقوانين حركتها. بعضها يخضع لقانون، وبعضها لا يخضع لقانون. ما يخضع لقانونٍ يتبدل في مدةٍ يسيرة لأنه تحت السيطرة، وما لا يخضع لقانونٍ يتبدل في مدةٍ طويلة لأنه قانون التاريخ الموضوعي خارج السيطرة. القانون يعني اطرادًا، والسيطرة في الأفعال الإرادية. أما الأفعال اللاإرادية فإنها انبثاقية لا تخضع لقانون، تُسيرها الطفرة بعد الكمون.٦ الخير يُنال بالاختيار والإرادة. في البدء كانت حرية الإرادة واختيار الفعل الأخلاقي، ويكون هذا الاختيار إما للخير أو للشر.

والسؤال هو: هل يُعطي العلم المدني معاني ودلالات إنسانية عامة، أم يُحلل ظواهر اجتماعية موجودة؟ هل المجتمعات معانٍ أم ظواهر، حقائق أم أشياء، بِنًى أم تاريخ؟

(ج) الفضائل المهنية

وهي الفضائل الفكرية الذاتية عندما تتحول إلى ممارساتٍ عملية في مِهن وحِرف وصناعات؛ فالمهن فضائل. والفضائل الفكرية هي التي يُقدر بها الإنسان جودة الاستنباط لِما هو أنفع في غايةٍ فاضلة مشتركة للأمم، أو لأمة أو لمدينة بدايةً من الكل إلى الجزء، ومن العام إلى الخاص؛ فالغايات مشتركةٌ عامة، وليست فقط فرديةً خاصة.

إذ تنقسم الفضيلة إلى أجزاءٍ صغار لاستنباط ما هو الأنفع والأجمل في عرض صناعة أو حادث أو في وقت إلى عدد أقسام الصنائع والحِرف. الفضائل بهذا المعنى التجزيئي الكمِّي هي الفضائل الحِرفية.

وتنقسم أيضًا طبقًا للفرد والجماعة، استنباط الأنفع والأجمل في غايةٍ تختصُّ الإنسان أو تخصُّ غيره، وهي الفضيلة الفكرية المشورية. وقد تجتمع الفضيلتان معًا في إنسانٍ واحد، علاقته بنفسه وعلاقته بغيره؛ فالخير ليس فقط للنفس بل أيضًا للغير.

ثم تتَّسع الأخلاق من الإنسان إلى الغير إلى الطائفة إلى المدينة إلى الأمة وأخيرًا إلى التاريخ، طبقًا للجزء والكل والمراتب المتوسطة بينهما؛ فالإنسان يتَّجه نحو الآخر أولًا قبل أن يتَّجه نحو الطائفة ثانيًا؛ أي الجماعة الصغيرة المتَّفقة في الأهداف والغايات والآراء المقاصد. وقد يوضع مع الإنسان الأهل أو المنزل، وهي الأسرة مع الصِّبيان والأحداث ودور المنزل في تأديبهم، ثم ينتقل إلى المدينة ثالثًا مُتعددة الطوائف والمشارب والغايات، وفي تعدديةٍ اجتماعية شرعية، ثم ينتقل إلى الأمة رابعًا، وهي مجموع المدن عندما تبلغ التعددية أقصى مداها على مستوى البشرية، ثم ينتقل خامسًا إلى المعمورة ومجموع الأمم؛ أي البشرية جمعاء. وقد تتوقف الفضائل في إحدى هذه المراتب دون أن تنتقل بالضرورة إلى باقي الدوائر.٧
وقد تختلف الفضائل حسب الزمان بين الساعة واليوم والشهر والسنة والحقبة والأحقاب، وهي أخلاق المواقف. وقد تكون أقل من ساعة في دقيقة أو ثانية، مثل الإلهامات والأعمال البطولية الخارقة بنت وقتها. تتغير الأخلاق مع إيقاع الزمن السريع أو البطيء، المُتغير أو الثابت، المُتجدد أو الدائم. ولما كان الزمان هو مناط التغير تتغير الفضائل بتغير المجتمعات؛ وبالتالي يصبح التحول من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية تفسيرًا للأمور الإرادية طبقًا للزمان والمكان، وانتقال المجتمعات من العفة إلى اليسار أو من اليسار إلى العفة.٨
ونظرًا لتفاوت زمان القيمة بين القِصر والطول كلما طالت المدة كانت أقدر على وضع النواميس؛ أي إن بقاء القيمة يُحولها إلى قانون. أما المدة القصيرة فإنها تُساعد على تبدُّل الفضائل وتغيُّرها؛ لأنها جزئية. الفضائل في المدة القصيرة جزئية، وفي المدة الطوية كلية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأمم؛ في المعمورة كلية، وفي الأسرة جزئية، وتتفاوت المراتب بينها بين الكل والجزء. عموم الفضائل إذن هي فضائل الإنسانية جمعاء في مدةٍ طويلة، وهي الحقائق الإنسانية العامة. وتكون قمة الفضائل اجتماع عموم الفضائل في أطول مدة لمجموع الأمم؛ أي الإجماع الإنساني العام.٩

ولكل طائفة فضيلة، مثل أن تكون للأسرة فضيلةٌ منزلية وللطائفة فضيلةٌ جهادية، ربما تأكيدًا لخصوصية الملة الإسلامية وقمة فضائلها في الجهاد، وفي مواجهة باقي الطوائف والمِلل؛ فالفضائل الفكرية والجهادية النظرية والعملية تنقسم أيضًا إلى ما لا يتبدل إلا في مددٍ طوال وما يتبدل في مددٍ قصار. الشعائر تتغير من طائفة إلى طائفة، أما التصوف فباقٍ إلى الأبد عند كل الطوائف. والغزو والسيطرة والهيمنة وقتي، أما الجهاد والمقاومة فباقية إلى الأبد.

ولا ينبغي لفاضلٍ استعجال الموت، بل ينبغي أن يُقدِم على الموت إذا كان فيه نفع للمدنية مثل الاستشهاد. لا ينزعج من الموت إلا أهل المدينة الجاهلة والفاسقة، الجاهلة التي تفوتها الخيرات ولا تظن إلا أنها اللذات أو الأموال أو الكرامات، والفاسقة لِما يفوتها في الدنيا، ولِما تظنُّه أنه لا سعادة بعد الموت؛ فهي أشدُّ جزعًا من الجاهلية، ولِما تظنُّه أنه لا سعادة بعد الموت أصلًا، فلا تنزعج لفواتها. أما الفلاسفة فتعلم وتندم وتموت مُغتمةً.

المُجاهد الفاضل إذا خاطَر بنفسه فإنه يعلم أنه سيموت، وإلا كان أحمق، مع أنه يُبالي إن مات أو عاش وإلا كان مُتهورًا، بل إنه يتمنَّى ألا يموت، ولكنه لا يفزع من الموت ولا يُخاطر بنفسه إذا كان ما يناله بلا مخاطرة. ولا يُخاطر إذا علم أن ما يناله لا يُنال إلا بمخاطرة له أو لأهل المدينة.

ولا ينبغي أن يُناح على الفاضل إذا قُتل، بل يُناح على أهل المدينة بمقدار إذا غاب فيهم الشهيد. ويُغبط بالحال التي صار إليها بمقدار سعادته، وكأنه الفارابي يُحلل التجربة الإنسانية التي وصفتها الآية وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، والتي تعمل كمُوجِّه لا شعوري. ولا يُشير إلى الحجة النقلية، بل يكتفي بوصف التجربة الإنسانية العامة.١٠

(د) الأخلاق الاقتصادية والتشريعية

وينتقل تهذيب الأخلاق من الأخلاق المعيارية إلى الأخلاق الاجتماعية إلى الاقتصادية والتشريعية، من «حي بن يقظان» و«تدبير المتوحد» إلى المدن الفاضلة وأضدادها؛ فالأخلاق نظرية وعملية، كلية وجزئية، علم وصناعة، نظام وتعليم، مع غلبة الأوامر والنصائح والتعليمات والقوانين؛ أي الجانب العملي على الجانب النظري.

الفضائل الأخلاقية فضائل اجتماعية مثل المحبة والصداقة؛ فالإنسان مدني بالطبع، والعزلة والتوحُّد عرضٌ منتشر من أجل المحافظة على الفضائل وخوفًا من الفساد، مع أن الفضائل وُضعت من أجل المعاملات والمعاشرات التي لا يتمُّ وجود الإنسان إلا بها. العدل تصحيح للمعاملات وإزالة الجور في التعامل، والعفة فضيلةٌ تحمي من اللذات الرديئة التي تؤدي إلى الخيانات العظيمة للنفس والبدن، والشجاعة فضيلة للدفاع عن الشعوب.

الفضائل سبب الاجتماع لأنها كثيرة لا يقوم بها إنسانٌ واحد. لا بد إذن من الجماعة حتى تكتمل بالتعاون مثل أعضاء البدن، والبدن الواحد تنظيرًا للموروث الأصلي بتشبيه المجتمع بالبدن، والأفراد بالأعضاء. الأفراد ناقصون، والمجتمع كامل. فالكمال لا يكون فرديًّا، بل جماعيًّا بالتعاون. وبناء الصوامع مثل بناء المغارات في الجبال تخلُّفٌ بدائي، أو الهيمان في الأرض كالصوفية. الفضائل ضرورةٌ اجتماعية وسياسية واقتصادية. وحي بن يقظان حالةٌ مستحيلة. بناء الصوامع والمغارات التصاق الأرض بنحتها، والهيمان والسياحة بلا أرض بدعوى الارتباط بالسماء، وكلاهما هروب من الأرض والسعي والكد والكفاح. والإنسان أكثر من الحيوان مدعاةً للتعاون، يحتاج إلى المدينة لمصادقة الناس ومعاشرتهم. العزلة ضد الطبيعة والضرورة. كانت العزلة في البداية في تطور الدين قبل أن يتحول إلى نظامٍ اجتماعي.١١ والأخلاق الاجتماعية ضرورةٌ وجودية.١٢

وتُقسَّم الفضائل الخلقية طبقًا للطبقات الاجتماعية. يفرح التاجر بتجارته، والجندي بشجاعته، والمُقامر بقماره، والشاطر بشطارته، والمخنَّث بتخنثه؛ لقوة استشعار كل طائفة بحسن مذهبها تنظيرًا للموروث كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

وتحتاج كل هذه الفضائل إلى أسبابٍ خارجة من الأموال واكتسابها من وجوهها؛ حتى يستطيع أن يفعل بها كالأحرار والعادل ليُجازيَ من عاشَره. فالسعادات الإنسانية لا تتمُّ إلا بالأفعال البدنية والأحوال المعرفية والأعوان والصالحين والأصدقاء المُخلِصين. فالكسل والراحة من أعظم الرذائل؛ لأنهما يحُولان بين المرء وجميع الخيرات، ويسلخان الإنسان من الإنسانية؛ ومن ثَم يُخطئ المُتوسمون بالزهد بانعزالهم عن الناس وسكون الجبال والمغارات واختيار التوحش الذي هو ضد التمدن لانسلاخهم عن الفضائل، وتحوُّلهم إلى منزلة الجماد والموتى.١٣

والمال ضروري للحياة، وهو نافع لإظهار الحكمة والفضيلة. والمكاسب الجميلة قليلة، وهي موجودة عند الرجل العادل الحر، وهو قليلٌ يذمُّ البخت. والظالم لا يُبالي من جهة الكسب؛ لأنه يكتسبه من وجوه الخيانات. حظه كبير، ونفقاته أكثر، ويشكر البخت. تحسده العامة؛ مما يسبِّب الحقد الطبيعي ويتجنب الفضائح والخداع. ويُروج سلعه للملوك، ويُساعده على الفواحش وتحسين القبائح وفقًا لهواهم.

والعاقل من ابتعد عن كل ذلك، وبرَّأ نفسه من الشهوات، ومارَس العدالة والخيرية في المعاملات، الأخذ والعطاء. العدل في اكتساب الأموال والخير في الإنفاق؛ ومن ثَم كانت محبة الناس للخير أكثر من محبتهم للعدل؛ لأن الفضيلة في فعل الخير لا في ترك الشر، في محبة الناس وحمدهم لا في جمع المال. الخير لا يُكرم المال ولا يجمعه لذاته، بل لإنفاقه في وجوه الخير التي تكسب المحبَّات. ومن خاصة الخير ألا يكون كثير المال لأنه مِنفاق، ولا فقيرًا لأنه كسوب وغير مُتكاسل؛ لأنه عن طريق المال يتم الوصول إلى الخيرية. لا يستعمل في المال التبذير ولا الشح. كل خير عادل، وليس كل عام خيرًا.١٤

الاجتماع والاقتصاد إذن تجلِّيان للأخلاق. فهل الأخلاق أساس الاقتصاد أم إن الاقتصاد أساس الأخلاق، أم إن العلاقة جدلية بينهما، بقدر ما توجد الأخلاق قبل الاقتصاد تتأثر به وتتكيَّف معه؟ وهي أخلاقٌ معيارية بالضرورة، مع أن الاقتصاد نفعيٌّ يقوم على الربح؛ لذلك كان حب الخير للنفس أعظم من حب العدل للآخرين.

والشريعة تجمع بين الأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد، هي نموذج العلم الاجتماعي الشامل. تلزم في المعاملات، وترسم في كلٍّ منها التوسط والاعتدال؛ لأن الناس مدنيُّون بالطبع، ولا يتم لهم عيش إلا بالتعاون، يخدم بعضهم بعضًا، ويأخذ بعضهم من بعض، ويُعطي بعضهم بعضًا، مع طلب المكافأة المناسبة. وقد يكون الأمر معاوضة؛ أي مقايضة، إذا أخذ الإسكافي من النجار شيئًا مُساويًا منه في القيمة، وإن لم يتساويا استعمل الدينار، أي النقود، قاسمًا مشتركًا بينهما.١٥ وهو ساكت، والإنسان ناطق. يستعمله الإنسان ويقوم به جميع المعاملات كي تجريَ على استقامة ونظام ومناسبة صحيحة وعادلة؛ لذلك يُستعان بالحاكم الذي هو عدلٌ ناطق في حالة المُتخاصمين. السياسة حكم في الاقتصاد وحل صراعاته، والدينار هو الذي يُساوي بين المختلفات. يزيد في شيء وينقص في شيءٍ آخر حتى يحصل الاعتدال، العدل المدني. وبه تعمر المدن، وبالجور تخرب المدن. وقد يُساوي العمل اليسير العمل الكثير، مثل المهندس والعامل وقائد الجيش والجندي. والجور هو إبطال التساوي في القيمة. وهو على ثلاثة أنواع؛ في الاقتصاد غصب الأموال وعدم الاكتساب في رأس المال الطفيلي، وفي السياسة عدم قبول رأي الحاكم؛ وبالتالي استحالة المعارضة والخروج، وفي الدين هو الجور الأعظم مثل عدم قبول الشريعة. الجور الديني رفض الشريعة، والجور السياسي رفض قول الحاكم، والجور الاقتصادي غصب الأموال وعدم الاكتساب من العمل والمضاربات والكسب السريع. أما ما يُسمى حاليًّا برأس المال الطفيلي فإنه يُعطي لنفسه أكثر مما يستحق، والآخر أقل مما يستحق. ويُقسَّم الجور أيضًا ثلاثة أقسام؛ ظاهر ينتقل بالإرادة مثل البيع والشراء والكفالات والفروض والعوارض، وخضمي بالإرادة مثل السرقة والفجور والقيادة وخداع المماليك وشهادة الزور، وغشمي على سبيل التقلب مثل التعذيب بالقيود والأغلال.١٦
ويتم تمثُّل الوافد «إن الدنيا ناموسٌ عادل».١٧ ومعنى الناموس في لغة الوافد السياسة والتدبير وليس القانون. كما يتم اقتباس من «نيقوماخيا»، «إن الناموس الأكبر هو من عند الله تبارك وتعالى، والحاكم ناموسٌ ثانٍ من قبله، والدينار ناموسٌ ثالث. فناموس الله تعالى قدوة النواميس كلها.» في الدين الله ناموسٌ أول، وفي السياسة الحاكم ناموسٌ ثانٍ، وفي الاقتصاد الدينار ناموسٌ ثالث؛ ومن ثَم الدين والسياسة والاقتصاد في الناموس.
لم يطرح أحد من القدماء علاقة الموالي بالعبيد إلا من الجانب الخلقي، وليس من الجانب الاجتماعي؛ فإذا بُلي العبيد وأشباههم بموالي سوء يُسفهونهم، هان عليهم الخَطب فلا يؤثِّر فيهم.١٨

(٢) التكوين والبنية الاجتماعية

ثم تتحول الأخلاق الاجتماعية إلى علم الاجتماع، ودراسة نشأة الدين كظاهرةٍ اجتماعية، وتحليل الطبقات الاجتماعية باعتبارها طبقاتٍ حِرفية.

(أ) الدين ظاهرةٌ اجتماعية

في الرسالة الأولى «في الآراء والديانات من القسم الرابع» «العلوم الناموسية الإلهية والشرعية»، يعرض إخوان الصفا إلى الدين كظاهرةٍ اجتماعية، واختلافه باختلاف الفِرق والمجتمعات ومراحل التاريخ؛ فالأساس في الدين الاختلاف وليس الاتفاق، لا فرق في ذلك بين دين مُوحًى ودين تاريخي. ويُعتبر إخوان الصفا بحقٍّ من مؤسِّسي علم تاريخ الأديان مع مؤرِّخي الفِرق، إسلامية وغير إسلامية.

يبيِّن الإخوان نشأة الدين على المستوى النفسي كما هو الحال في علم النفس الديني المعاصر؛ الرغبة في الخلود. فالناس مطبوعة على الرغبة في الدنيا وفي الآخرة في آنٍ واحد. ويؤكد الأنبياء على ما في رغبة البشر من نزوع؛ فالدين لا يأتي بجديد، بل ينبع من النفس البشرية. والسؤال هو: هل يتساوى النزوعان؟ وأيهما أقوى؟ ولماذا يتغلب نزوع على آخر وفي أي ظروف؟ هل النزوع نحو الدنيا للأكثرية، والنزوع نحو الآخرة للأقلية، طبقًا لقسمة الناس إلى عامة وخاصة؟ هل يصبح الدين اغترابًا إذا كان نزوعًا نحو الآخرة أكثر من نزوعه نحو الدنيا؟ وهل الدين بالضرورة مجرد نزوع، أقل من العقل وطلب البرهان؟ ربما يكون هذا تنظيرًا للموروث «وخلقناكم أطوارًا».

ثم تبدأ الشعائر بعبادة الأصنام أو ما يُسمى في علم الكلام بالتجسيم. كانت وظيفة الدين تحرير الشعور من أسْر الطبيعة وتوجيه العقل نحو التنزيه واللاتناهي والغائب والمجرد والصوري. وظيفة الصوري في الشعور تقدُّم العلم باستمرار، والبحث عما هو أعلى وأبعد، والسيطرة على الطبيعة من أعلى. كلما ازداد العقل علوًّا ازداد رؤية. عبادة الأصنام أقدم الديانات وأغلبها على الكل. وكل دين فيه قدر من التجسيم يكثر أو يقل، إن قل فهو تشبيه، وإن انعدم فهو تنزيه. والمسيحية عودة إلى الوثنية في مرحلة الحكماء الموحِّدين. كانت الأصنام على صورة البشر، أو ما تُصوره على أنها آلهة وهي على صورة البشر، كما فعلت النصارى في صور وتماثيل المسيح والروح القدس وجبريل ومريم. النصرانية ردة عن الحكمة والتنزيه، ووقوع في التجسيم وعبادة الأصنام.١٩ والمساجد والكنائس بقايا المعابد الوثنية، في حين أن في الإسلام انتهت الوثنية، وجعلت الأرض مسجدًا طهورًا. وبقايا شعائر إبراهيم للربط بين الماضي والحاضر، وكنوع من المشاركة في الدين الشعبي. وصلاة الجماعة الآن هي الوسيط الاجتماعي للمشاركة بين الناس، بالرغم مما قد يشوب الصلاة من مظاهر نفاق وادِّعاء ودعاية؛ لذلك طالَب محمد إقبال أن تكون الصلاة في العالم الخارجي لقيادة الناس، وليس في المكان المُغلَق لإمامة المصلِّيين:
يا إمامًا لركعة في الورى
ما تدري ما إمامة الأقوام؟
كانت وظيفة الأصنام التقرُّب إلى الله والتزلُّف إليه، ولم تكن مقصودة بذاتها. وإذا كانت الأصنام زُلفى وقُربى فإنها تقوم أيضًا على أساسٍ نفسي حِسي خيالي لتحقيق الغاية والقصد الإنساني. وتُشير إلى أن الدين مجموعة من المقاصد والغايات، وأن الله في الأعماق الإنساني وليس شخصًا، وأن طريق الدين إلى أعلى؛ أي إلى الأمام. وقد استمر التقرب إلى الله حتى بعد تطور الدين عن طريق الأنبياء والرسل والأئمة والأوصياء والأولياء والصالحين والملائكة. ومن لا يعرف الله فلا حاجة إلى التقرب، ومن لا يعرف الله يتقرب إليه بالأنبياء، فإن لم يجد فبالأئمة والأوصياء والصالحين، فإن لم يجد فبآثارهم؛ أي الشعائر والسنن. وكأن الشعائر للجهلاء الذين لا يعرفون الله، وهو ما قاله ابن سينا بعد ذلك أيضًا في ماهية الصلاة.٢٠ الهدف من الشرائع تصفية النفس، وهو الهدف من سنن النواميس الإلهية، الصوم والصلاة والقرابين والدعاء والتضرع. وغاية الأنبياء منه ليس إصلاح الدنيا فقط، بل إصلاح الدين أيضًا؛ نجاة النفوس من مِحن الدنيا وشقاوة أهلها، وإيصالها إلى سعادة الآخرة ونعيم أهلها.

ويرفض الإخوان من لا يعبد الأصنام أو يتقرب إلى الله ومن لا يعرف الله على الإطلاق؛ أي الأمر الوسط، وهو الجهل بالله. فلا هو استفاد من القربى ولا يعرف الله. وقد رُزق من الفهم والتمييز، فخرج من جملة العامة، ولم يصل إلى مرحلة الخاصة؛ فلا يعرف الله حق المعرفة، الوحدانية والمعاد، ولا يرضى الدين تقليدًا. والشعائر ضرورة، وهي الوظيفة التي تقوم بها الصلاة الآن.

الدين ظاهرةٌ اجتماعيةٌ مُتطورة؛ ومن ثَم لا يمكن الرجوع إلى مراحل سابقة للدين وتطور الوحي بدليل نسخ المرحلة التالية المرحلة اللاحقة. لا نسخ في العقائد، بل النسخ في الشرائع. والعبادة من الشرائع، بل لقد تطوَّرت الشرائع في آخر مرحلة بدليل الناسخ والمنسوخ.٢١

(ب) الطبقات الاجتماعية

يقسِّم إخوان الصفا المجتمع إلى طبقاتٍ أقرب إلى طبقات العلماء والحِرفيين؛ فالعلم صناعة منها إلى الطبقات الاجتماعية بالمعنى الاقتصادي. ولكل طبقة مرتبتها بين العمل والنظر، بين النقل والعقل، بين الحرف والتأويل. وتنقسم الطبقات قسمةً رباعية أو سباعية أو ثمانية، تقلُّ أو تكثر. ويمكن ضم أكثر من طبقة في طبقةٍ واحدة؛ وبالتالي تنتهي القسمات كلها إلى ثلاثية. ولكل طبقة طريقةٌ في مخاطبتها.٢٢ وقد تكون هذه البنية التراتبية في النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والتاريخ ما هي إلا تطبيقات على مستوياتٍ عدة لنظرية الفيض، بالرغم من قول البعض إن نظرية الفيض ما هي إلا انعكاس للتراتبية الاجتماعية الموجودة في المجتمع.
وقد تنقسم الطبقات قسمةً رباعية، وهي من أعلى إلى أدنى: المُتشيعون وهم الإخوان، وأهل العلم الغافلون عن النفس، والعمال والكُتاب، وأخيرًا السلاطين. ومعاشرة الإخوان نموذج الحياة الاجتماعية الإشراقية. ويتَّضح من هذه القسمة أن الملوك والسلاطين أعلى طبقة، يتلوهم العمال والكُتاب؛ أي الوزراء وكُتاب الدولة، يتلوهم أهل العلم الغافلون عن النفس، وهي العلوم المِهنية الحِرفية غير الحكمية. ويأتي في نهاية المطاف الإخوان المُتشيعون قبل أن ينخرطوا في الطريق. وربما تكون القسمة الرباعية نقلًا للوافد الرياضي في الشكل الذهبي؛ الآحاد والعشرات والمئات والألوف.٢٣
وقد تكون القسمة سباعية لمزيد من التفصيل للطبقات المتوسطة بين الملك والسلطان من ناحية، والبطالة من ناحيةٍ أخرى؛ ففي القمة يأتي الملك والسلطان والأطبَّاء وأرباب السياسات؛ أي كل مظاهر القوة السياسية والعسكرية والإدارية، أصحاب السلطة والقرار في المجتمع، يتلوها طبقة العلماء والأدباء ورجال الدين والفقهاء، يتلوها الصُّناع والحِرفيون والعمال، يتلوها التجار والذين يقومون بعمليات البيع والشراء ورجال الأعمال وأصحاب الأموال؛ فالصناعة قبل التجارة، والصُّناع أعلى قيمةً من التجار، يتلوها عمال البناء، عمال التراحيل، وهم أقرب إلى الخِدمات والأعمال العضلية دون المهنية، يتلوها المُتصوفة والخدَّاعون والمُتعيشون يومًا بيوم، أُجراء اليوم الواحد، وأخيرًا يأتي العاطلون الذين لا عمل لهم إما لمرض أو بطالة، ومعهم الزهاد والأولياء والخدم. ويتَّضح هنا وضع إخوان الصفا للمُتصوفة والمُشعوذة في أدنى الدرجات، كما يتَّضح غياب الفلَّاحين والزُّراع. وقد تُردُّ الطبقات السبع إلى طبقتَين؛ الأولى واضع النواميس الإلهية، والثانية الملوك خلفاء الأنبياء. الأولى مخدومة، والثانية خادمة؛ تأكيدًا لخلافة الملوك للأنبياء. كلاهما طبقة الرئاسة دون طبقات المرءوسين. وتنتهي الكثرة إلى وحدة؛ فالكثرة من سمات الدنيا، والوحدة من سمات الآخرة.٢٤

ولكل طبقة أخلاقُها وطباعها وسجاياها؛ فالطبقات الاجتماعية هي طبقاتٌ حِرفية طبقًا للقدرات الأخلاقية وقوى النفس؛ فالحرفة هي التي تخلق الطبقة، سواء من حيث قيمتها الخارجية في المجتمع، أو قدرتها الداخلية وما تطلبه من قوى النفس.

ثم ينقسم الناس طبقًا لمراتب الناموس. والناموس مملكةٌ روحانية تقوم على أركانٍ غائية. وله معنيان؛ معنًى دقيق هو هذا المعنى، ومعنًى عام وهي كل مراتب العلم؛ فالناموس رمز للعلم.

ومراتب الناموس ثمانٍ؛ أعلاها المؤوِّلون وهم الأئمة، يتلوها الصوفية ثم الأصوليون ثم المُجاهدون ثم المُفسرون ثم الفقهاء ثم الرُّواة والمحدِّثون، وأخيرًا القُراء والحُفاظ. الفروق بينها دقيقة، مثل الطبقة السابعة الرُّواة المحدِّثون، والثانية القُراء والحُفاظ، كما أن الطبقة الخامسة المُفسرين لا تختلف كثيرًا عن السادسة الفقهاء؛ فالتفسير والفقه من العلوم النقلية. والطبقة الثانية الصوفية والثالثة الأصوليون واجهتان لعملةٍ واحدة؛ التأويل والتنزيل. كما تجمع الطبقات بين العلم والعمل؛ لذلك يدخل المُجاهدون كطبقةٍ رابعة تسبق طبقات العلوم النقلية؛ المفسرون والفقهاء، والرواة والمحدثون، والقراء والحفاظ. الطبقات الأربعة الأولى أقرب إلى الإبداع، والطبقات الأربع الثانية أقرب إلى النقل. وتغيب طبقة الحكماء والمُتكلمين إلا إذا كانوا من المُتأولين مع الأئمة.

وقد تنقسم طبقات الناس سبعة، وهو نفس التقسيم السابق مع إسقاط الأصوليين، وقسمة المُتأولين وتغيير اسمهم إلى خلفاء واضعي الناموس، وقسمتهم إلى أئمةٍ مهديِّين وملوك ورؤساء سياسيين؛ أي السلطتَين الدينية والسياسية. الطبقة الأولى خلفاء واضعي الناموس، وهم قسمان؛ خلفاء في أسرار الناموس، وهم الأئمة المهديُّون، والملوك والرؤساء في أمور الدنيا والتدبير والسياسة في حفظ ظاهر أحكام الناموس. والثانية الزهاد والعباد والمذكِّرون بأحوال الآخرة والمعاد مثل القناعة والرضا، من مقامات الصوفية. والثالثة أنصار واضع الناموس وغُزاة أعدائه المُحافظون على الثغور لتعضيد الدين والحنق على الأعداء، والشجاعة واليقظة وذكر الله وترك الإفساد عند هزيمة العدو. والرابعة المُفسرون لألفاظ التنزيل الألفاظ المشتركة وأسباب النزول. والخامسة الفقهاء والقضاة والمُقفون لترتيب الناموس من الأوامر والنواهي والفرائض والسنن والنوافل والحلال والحرام والحدود والأحكام، والقياس والتأنِّي في الفتيا وقلة الترخيص. والسادسة أصحاب الأخبار وحمَلة الأحاديث، ويتمتعون بفصاحة الألفاظ وتقويم اللسان وطيب النغمة وجودة العبارة وسرعة الحفظ وجودة الفهم ودوام الدرس، مع التواضع والرفق.٢٥
والسؤال هو: هل الناموس هو الشريعة كما يُدافع عنها الفقهاء أم الناموس الكوني؟ وهل استعمال الرسول في حديثه هذه الكلمة الناموس التي قد تكون يونانية الأصل قد تم تعريبها من قبل.٢٦

ويتم الانتقال من الأخلاق إلى الاجتماع عن طريق البحث عن خلاص النفس من الجسد، ليس عن طريق الجهد الفردي، الطريق إلى الله، والتحول من الدنيا إلى الآخرة، ولكن عن طريق بناء مدينة روحانية، المدينة الفاضلة، مدينة الصوفية، انتقالًا من علم النفس إلى العلم المدني، مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون. وهي ليست مدينة في الأرض، بل «يوتوبيا» لا مكان لها. لا تُبنى على الأرض إلا الدولة الجائرة، لا تُبنى على الماء بسبب الأمواج، ولا في الهواء بسبب الخلل، ولكنها تُبنى على تقوى الله في الملأ الأعلى، وتشرُف على سائر المدن. وكلها رموز وتشبيهات. لا تُبنى على الماء للأمواج تعني العنصرية والطائفية والشعوبية، ولا على الهواء للخلل بسبب كدر الأفعال، وإشراقها على سائر المدن أي للسيطرة عليها، ثم يتم بناء مركب للنجاة كما فعل نوح لإنقاذ الخاصة من العامة.

وتضمُّ هذه المدينة أربع مراتب أي طبقات؛ الأولى مرتبة الإلهيين ذوي المشيئة والإرادة، أرباب العقل والمعقولات، والقوة الملكية في الناطقة. والثانية مرتبة الملوك ذوي الأمر والنهي، القوة الباصرة في الألوان، والناطقة في الحيوان. والثالثة مرتبة ذوي الرياسة، الألوان في الضياء، والقوة الحيوانية في النامية. والرابعة مرتبة الأركان الأربعة ذوي الصنائع، الضوء في الهواء، القوة النامية في الأركان. كل مرتبة لها صورتها الطبيعية وصورتها الإلهية، والعليا تسري في الدنيا.٢٧ رئاسة المدينة الروحية لكل المدن تنظير لآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا، وهي مدنية لا يدخل عليها إلا من كان منها،٢٨ حولها أربعة أسوار، وهي الجهالات، وما بين كل سورين خندق، وهي سوء الأعمال وفساد الآراء ورداءة الأخلاق.
ويتم الخلاص بالتعاون طالما وُجد شيئان؛ اجتماع قوة الجسد في واحدة، وقوى النفس في واحدة، حتى تصبحا جسدًا واحدًا ونفسًا واحدة دون أن يقهر أحدهما الآخر، بل تقهر هي من يُحاول قهرها.٢٩ وحدة النفوس مع تفرُّق الأجساد تُحقق الصداقة والأخوَّة بينهم. ولما كان الاجتماع لعلة وسبب، فاجتماع الإخوان لصلاح الدنيا وفوز الآخرة، والسبب المحبة والرحمة والشفقة والرفق والمساواة، وهي أقرب إلى أخلاق الضعفاء منها إلى أخلاق الأقوياء.

والكثير من هذه التحليلات عباراتٌ خطابية إنشائية جمالية، مجرد التعبير عن أمنيات في ملكوت السموات ربما تعويضًا عن فشل سياسة الدنيا وسيادة دولة الظلم والانعزال عنها، وإعطاء البديل كحلم وخيال كما فعل الصوفية.

وقد تنقسم الطبقات إلى خمس؛ الأولى الأفاضل، وهم الحكماء المُتعقلون ذوو الآراء في الأمور العظام، وهم الفلاسفة والعلماء، وهم أهل البرهان. والثانية ذوو الألسنة، وهم حمَلة الدين والخطباء والبلغاء والشعراء والمُلحنون والكُتاب، اللغويون والأدباء. والثالثة المُقدرون، وهم الحساب والمهندسون والأطباء والمنجمون، أهل الصنائع والحِرفيون. والرابعة المجاهدون، وهم المُقاتلة الحفَظة، الجنود والقُواد، الجيوش والعساكر. والخامسة الماليُّون، وهم مُكتسبو الأموال، ويُضمُّ إليهم الفلَّاحون والرعاة والباعة، وهم أيضًا التجار والصيارفة من أهل الزرع والرعي.٣٠ ويُلاحَظ التراتب في الفضل من أعلى إلى أدنى، وأفضلية العمل العقلي على العمل اليدوي، وأولوية العلماء على الصناع. أعلاها العلماء، وأدناها التجار والفلاحون؛ نظرًا لعدم وجود الصناعة بعدُ. وللعلماء الأولوية على الخطباء، وللعقل الأولوية على اللسان والخيال، ثم تأتي الحِرف العليا أو المِهن مثل الهندسة والطب بعد الخطباء والشعراء، ثم يأتي الجنود في المرتبة قبل الأخيرة قبل أن يصبح للجيش في السلطة المرتبة الأولى بعد الثورات العربية الأخيرة.

(ج) الترابط الاجتماعي

والإنسان في حاجة إلى التعاون من أجل تحقيق الضروري والأفضل، بل إن التعاون سمة الأحياء، الإنسان والحيوان والنبات. الاجتماع لا يعوق بل يُعين، ومن الاجتماع ما يعوق. الاجتماع في الحيوان والحشرات مثل النمل والنحل والقز وبعض حيوانات البحر. والإنسان لا تتم أموره إلا بالاجتماع في مسكنٍ واحد.

وتنشأ الحاجة إلى التعاون بناءً على تقسيم العمل، وليس لأن الإنسان مجرد حيوان اجتماعي مفطور بطبعه على التعاون. ويقوم تقسيم العمل على التخصص؛ إذ يُفوَّض لكل واحد من المدينة الفاضلة عملٌ واحد وصناعةٌ واحدة، خدمة أو رئاسة، لا يتعدَّاها. ولا يُترَك لواحدٍ مُزاولة أعمال كثيرة من صناعةٍ واحدة؛ إذ لا يتَّفق لكل إنسان أن يصلح لكل عمل وصناعة، بل يصلح لعملٍ دون عمل. ويكون الإنسان أكمل متى أحذق صناعة وأكملها منذ صباه ولم ينشغل بسواها. ولكثير من الأعمال أوقات لا تتأخر؛ وبالتالي يصعب القيام بعملَين في نفس الوقت مثل السائق والمحصِّل. ولما كان لا يستطيع إنسانٌ واحدٌ أن يقوم بكل المِهن لزم تقسيم العمل وتوزيع المهن في جماعة، ويتعاون الجميع على جميع المهن. والمشروع الواحد في حاجة إلى تعاون المهن من فلاحة ونجارة وحدادة. التعاون إذن هو موضوع العلم المدني، وهو تقسيم العمل وتكامله. والتعاون في المجتمع على أداء الخدمات على المستويَين الأفقي بين الجماعات، وليس على المستوى الرأسي بين الخادم والمخدوم.٣١

وشرط التعاون التجاوُر في مسكنٍ واحد؛ فهو تعاونٌ محلِّي بين الجيران، وليس تعاونًا عن بعدٍ بين بيوت أو قُرًى أو أمم مُتباعدة في عصرٍ قديم لم يصبح العالم فيه قريةً واحدة كما هو الحال بفضل ثورة الاتصالات. وقد يكون التجاور بين جماعةٍ أمِّية وجماعة مدنية فيحدث التعاون. لا يتطلب التعاون إذن التكافؤ في المستويات المدنية كالتعاون بين الشمال والجنوب، أو بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة بلغة هذا العصر.

والتعاون على الخير يُنشئ المدينة الفاضلة، والتعاون على الشر يُنشئ المدينة الجاهلة. وهو اختيارٌ مُطلَق لا صلة له بالظروف الموضوعية التي يتم الاختيار فيها خيرًا أم شرًّا. وفي الأمم ملةٌ مشتركة تدفعهم إلى التعاون وبلوغ السعادة القصوى.٣٢

لذلك كان موضوع العلم المدني السعادة؛ أي الأخلاق، وليس المجتمع المباشر. والسعادة ضربان؛ مظنونة في الدنيا، وهي التي لأجلها يعظم الإنسان، كرامة أو لذة أو ثروة؛ وحقيقية، وهي السعادة القصوى في الآخرة، وتُطلَب لذتها، ويُسمِّيها الجمهور الخيرات طبقًا للثنائية التقليدية بين الخير والشر. المجتمع طريق الأخلاق، والأخلاق طريق السعادة. وإذا استُعملت السير والأخلاق والملكات في المدن أو الأمم عمَّرت بها مساكنهم، ونال أهلها الخيرات في الدنيا والسعادة القصوى في الآخرة. وما يُنال به السعادة القصوى هي الفاضلة وحدها، وما سواها من الملكات والأفعال فهي مظنونة على أنها خيرات، وهي في الحقيقة شرور.

موضوع العلم المدني هو فحص الأفعال والسير والأخلاق والشيم والملكات الإرادية، التي تكون في الأمم فاضلة وجاهلة. هو علم السلوك العملي، وليس فقط علم الأخلاق النظرية. هو جزء من الفلسفة يفحص الكليات ويقدر الجزئيات كمًّا وكيفًا، ويترك التقدير الفعلي لقوةٍ أخرى غير الفلسفة. هي النبوة والجزاء الأخروي. العلم المدني إذن جزاءان؛ الأول تعريف السعادة مظنونة أو حقيقة، والثاني تعريف الأفعال التي بها يمكن للأفعال الفاضلة أن يُحافظ عليها.

ومن مهامِّ العلم المدني إحصاء المهن الملكية غير الفاضلة والرئاسات ورسوم الأفعال لكلٍّ منها وأغراض كل مدينة، وهي أمراض المدينة الفاضلة، وإحصاء الأسباب لتحوُّل الرئاسات والمدن والسير الفاضلة؛ فالعلم المدني يدرس التحوُّل من الإيجاب والسلب، الثبات الاجتماعي والحراك الاجتماعي بلغة المُعاصرين. ٣٣
وترتبط أجزاء المدينة بالمحبة، وتتماسك وتُحفَظ بالعدل. المحبة ترابطٌ داخلي، والعدل ترابطٌ خارجي. المحبة ذاتية، والعدل موضوعي. المحبة أولًا، والعدل ثانيًا. ربما من بقايا علم الكلام جمعًا بين الأشاعرة والمعتزلة. وقد تكون المحبة بالطبع مثل محبة الوالدين، أو بالإرادة اشتراكًا في لذة أو منفعة أو فضيلة. والاشتراك في الفضيلة في الأفعال أو الآراء، والاشتراك في الآراء مُنتهًى ووسط ومبدأ، والمبدأ إما خلق العالم أي الإنسان، أو الأبرار وهم الأئمة القدوة، أو الروحانيون وهم الملائكة أو الله.٣٤ فإذا ما اتَّفقت السعادة مع الأفعال المُوصلة إليها نشأت المحبة، ونظرًا للتجاور في السكن تنشأ المحبة من أجل المنفعة، ولأجل المنفعة تنشأ المحبة من أجل اللذة؛ فالمحبة دائرةٌ تجمع بين المكان والزمان، الأنا والآخر، المنفعة واللذة.

وتحقق عدالة التوزيع في قسمة الخيرات المشتركة على أهل المدينة وحفظها، مثل السلامة والأموال والمراتب وسائر الخيرات؛ فالعدالة ليست فقط في الرزق والكسب، بل أيضًا في الأمن والاستقرار. ولكل فرد قسطٌ مُساوٍ للآخر لاستئهاله له، ونقصه جور عليه، وزيادته جور على المدينة. ويتم الحفاظ على قسط كل فرد بألا يخرج من يده أو يخرج بشرائط وأموال بحيث لا يلحق ضرر بنفسه أو بالمدينة. وما يخرج بيده إما بإرادته مثل البيع والهبة والقرض، أو بدون إرادته مثل السرقة والاغتصاب. والعدل أن يعود إليه خيرٌ مُساوٍ للذي خرج منه، إما من نوعه أو من نوع آخر لنفسه أو للمدينة، وبلغة العصر أن يكون قدر الرزق والكسب قدر المصاريف أو تحقيق ميزان المدفوعات، والجور أن يخرج من يده من غير أن يعود إليه خيرٌ مُساوٍ لنفسه أو للمدينة؛ أي زيادة الاستهلاك على الإنتاج؛ وبالتالي العجز على ميزان المدفوعات؛ ومن ثَم يأخذ مفهوما العدل والجور الاعتزاليان دلالاتٍ اقتصاديةً صِرفة، وهي أقرب إلى عدالة التوزيع والمقايضة بشيءٍ مُساوٍ له، والاحتفاظ بالأموال دون استثمارها كما هو الحال في المجتمع القبلي. والعدل أن يأتيَ الإنسان أفعال الفضيلة، وهو العدل الأعم، والعدل في الأخلاق في مُقابل العدل في التوزيع، العدل الأخلاقي والعدل الاقتصادي.

وماذا عن البطالة ووضع من لا يكسب المال؟ هناك ثلاثة آراء في ذلك؛ الأول قيام المدينة بإمداد الطوائف التي لا تقوم بكسب المال بالأموال اللازمة، مثل حمَلة العلم والدين لأن العلم رسالة وليس وسيلة للكسب، والكُتاب والأدباء لأن الأدب قضية وليس تجارة، والأطباء فالطب خدمة لا سلعة، ورسالة لا حرفة، والزَّمِن القعيد لأن له حقًّا في الضمان الاجتماعي، وهو دور الدولة الاشتراكية بلغة العصر. والثاني ضرورة أن يعمل الكل عملًا نافعًا، ومن لا يعمل لا يأكل. وهو ما قد يُعادل الدولة الرأسمالية بلغة العصر. والثالث قيام المدينة بكفاية من لا يكسبون الأموال والزَّمِن وما شابهه؛ أي المعوَّق. وربما هي الدولة الإسلامية أو الدولة الإنسانية العامة.٣٥
وتُقدَّر العقوبات على حجم الشرور ومُساوية لها؛ فمن العدل جزاء الشر شرًّا، وإذا زيد كان جورًا على نفسه، وإذا نقص أو انعدم كان جورًا على المدينة؛ لذلك لا يُعفى عن الجاني، وإن عفا الذي وقع عليه الجور. وهناك حق الدولة إن تنازل الفرد عن حقه وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا، والبعض الآخر يرى العفو عن الحقَّين، في حين أن العفو عن الجاني قد يُشجعه على الاستمرار؛ فالعقاب باسم المدينة رادع له، ولكن السؤال: هل يُعفى عن البعض دون البعض الآخر؟ وما المقياس الموضوعي لذلك حتى لا يُطبَّق القانون على الضعيف دون القوي؟ وهل لوليِّ المجنيِّ عليه حق في ذلك؟ والجور نوعان؛ جورٌ خاص يعمُّ أهل المدينة، وجورٌ خاص لا يعمُّ أحدًا. والسؤال هو: هل يقع الجور على من يقع عليه الجور وحده أم على أهل المدينة كلهم؟ العدوان على الفرد عدوان على الجماعة تنظيرًا عقليًّا شعوريًّا أو لا شعوريًّا لآية مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، ودون أي تضارب مع وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.٣٦

والحرب نوعان؛ عادلة وجائرة. تقع الحرب العادلة لوقوع عُدوان من الخارج يقتضي الدفاع، وهي حروب التحرير. وقد تقع لاكتساب خير تستأهله المدينة من الخارج أو يُساء إلى ذلك، مثل الحروب لاسترداد ثروات الشعوب من النهب الاستعماري. وقد تقع لإكراه قوم على الأجود ولأحظى إذا لم يعرفوه من تلقاء أنفسهم، وانقادوا له بطلبهم، مثل الفتوحات والجهاد في سبيل الله في مرحلةٍ تاريخية ونُظمٍ عالمية وعلاقاتٍ دولية تسمح بذلك. وقد يعتبر البعض ذلك عدوانًا على الآخرين. وهو تنظير للفقه القديم؛ الإسلام أو الجزية أو القتال، وهو ما يستحيل الآن في عصر الهزيمة والانكسار. ومن هو غير المسلم الآن؛ الكتابي، الشرقي، الغربي، الوثني، الملحد؟ وقد تقع الحرب لمن لا ينقاد للعبودية والمتعة من الرتبة الدنيا إلى الرتبة العليا، وهي حروب الاستعلاء مما قد يُشرِّع للحروب العنصرية والاستعمارية لصالح الجنس الأرقى والقوة الأعظم؛ ومن ثَم يكون السؤال: كيف تكون هذه الحروب عادلة والحرب للتحرير أيضًا عادلة؟ وقد تقع الحرب لمحاربة قوم لمنعهم حقًّا لأهل المدينة، أو لحملهم على العدل والنصَفة، وهي الحرب التي تنشأ نتيجةً للحصار الظالم والاستيلاء على الثروات. وقد تقع الحرب لمعاقبة قوم على جناية لئلا يعودوا إلى مثلها، مثل صد العُدوان ومنع الجرائم ضد الإنسانية. وقد تقع الحرب أخيرًا للقضاء كليةً على مصدر العدوان؛ لأن وجوده ضرر على المدينة، مثل القضاء على الصهيونية والاستعمار اللذين يُمثلان خطرًا على حرية الشعوب واستقلالها.

أما الحرب الجائرة فقد تقع عندما يُحارب رئيس قوم قومًا ليذلُّوا له وينقادوا ليُكرموه من أجل نفاذ طاعته، أو إكرام رئاسته واتباع رأيه أيًّا كان، مثل الحروب النازية والفاشية والصهيونية والاستعمارية وكل حروب العدوان، وحروب الإسكندر ونابليون بالرغم من تبريرها بتبشير أفكار الحرية والمساواة. وتقع الحرب الجائرة بالغلبة وللغلبة وحدها، مثل حروب التتار وحروب التدمير من أجل التدمير وإظهار القوة. وقد تقع أيضًا شفاءً لغيظٍ ما أو لذةً لعُدوان، وفيها يؤخذ الحابل بالنابل، والبريء بالمُذنب، والمُحسن بالمُسيء.٣٧

(د) الدوائر الاجتماعية

وتختلف الأمم فيما بينها؛ فالإنسانية ليست واحدة، بل مكوَّنة من مجموعة من الأمم. والسبب الطبيعي في اختلاف الأمم هو اختلاف الأجسام السمائية التي تسامتهم من الكرة الأولى، ثم من كرة الثوابت؛ أي الموقع الجغرافي من الشمس، واختلاف أوضاع الأُكر المائلة من أجزاء الأرض؛ أي الاختلاف طبقًا لأجزاء الكرة الأرضية شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا. وتبعًا لاختلاف أجزاء الأرض يأتي اختلاف البخارات التي تتصاعد منها والذي يُشاكلها. ومن اختلاف البخار ينشأ اختلاف الهواء والمياه، ومنه ينشأ اختلاف النبات والحيوان غير الناطق، فتختلف أغذية الأمم. ومن اختلاف الأغذية من اختلاف الواد والزرع التي منها يتكون الناس. ومن اختلاف الناس يتبع اختلاف الخلق والشيم، وربما بتأثيرٍ مباشر أو غير مباشر من كل العوامل السابقة. كل عامل لاحق يفيض عن العامل السابق؛ فالإنسان حصيلة موقعه الجغرافي، وخلقه حصيلة غذائه. وهو تفسيرٌ علمي طبيعي لاختلاف البشر تنظيرًا لآية وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. واختلاف الأمم بداية التاريخ.٣٨
وللمساكن أثرها على الأخلاق. تولِّد مساكن الشعر والجلود في الصحاري في أهلها ملكات التيقُّظ والحزم أو الشجاعة والإقدام، وتولِّد المساكن الحصينة في أهلها ملكات الجبن والأمان والتفرُّغ، وهو ما لاحظه ابن خلدون فيما بعدُ من الفرق بين أخلاق البدو وأخلاق الحضر. وربما كان هناك توجهٌ لا شعوري من القرآن في وصف أخلاق بني إسرائيل بالقتال من داخل الحصون، وأن الموت يُدركهم ولو كانوا في بروجٍ مشيَّدة، في مُقابل الفضائل العربية قبل الإسلام وبعده؛ فقِيَم الصحراء أكثر قدرةً على الصمود من قيم المدن.٣٩
وتنطبق نظرية الفيض على أنواع المجتمعات؛ فتنقسم في دوائر مُتداخلة في أقسامٍ ثنائية وثلاثية ورباعية. تنقسم ثنائيًّا إلى كاملة وناقصة، ثم تنقسم الكاملة إلى كبرى وهي الأمم أو المعمورة كلها، ووسطى وهي الأمة، وصغرى وهي المدينة. وتنقسم الناقصة أو غير الكاملة رباعيًّا إلى القرية والمحلة والسكة والبيت أو المنزل. والعلاقة بينهما علاقة خادم بمخدوم. كل مجتمع أدنى خادمٌ للمجتمع الأعلى؛ البيت خادم للسكة، والسكة خادم للمحلة، والمحلة خادم للقرية، والقرية خادم للمدينة، والمدينة خادم للأمة، والأمة خادم لمجموع الأمم؛ أي للمعمورة أو الإنسانية كلها.٤٠
وهي قسمةٌ كمية في الظاهر؛ المعمورة أكبر من الأمة، والأمة أكبر من المدينة، والمدينة أكبر من القرية، والقرية أكبر من المحلة، والمحلة أكبر من السكة، والسكة أكبر من البيت. بل يختلف كل مجتمع عن الآخر كمًّا أيضًا؛ فهناك أمةٌ كبرى وأمةٌ صغرى، ومدينةٌ كبرى ومدينةٌ صغرى، وقريةٌ كبرى وقريةٌ صغرى، ومحلةٌ كبرى ومحلةٌ صغرى، وسكةٌ كبرى وسكةٌ صغرى، وبيتٌ كبير وبيتٌ صغير. ولكنها أيضًا قسمةٌ كيفية في مدى عِظم الغاية واتساعها، أو القصد الإرادي من المجتمع. والهدف هو التعاون. يزداد التعاون على المستوى الإنساني العام كما هو الحال في العلاقات والمنظمات الدولية، ويقلُّ في السكة، وهو المجتمع العرَضي، إلا إذا كان القصد من الهدف حسن السير وحسن النظام. والمحلة مجموعة من المنازل أكبر من البيت وأقل من القرية، منازل مُتناثرة لا رابط بينها كما هو الحال في المناطق العشوائية. وأحيانًا تكون القسمة رباعية في المجتمع الكامل بإضافة العشيرة بعد المدينة التي هي أقل من المدينة وأكبر من القرية في مضارب القبيلة، والعلاقة بينهما أيضًا علاقة الكل بالجزء في دوائر مُتداخلة.٤١

المعمورة هي مجموعة الأمم؛ أي الإنسانية أو البشرية بصرف النظر عن زمانها ومكانها وأخلاقها، فاضلة أو جاهلة. هي مجموع أمم مُتباينة في عصورٍ مختلفة لا يجمع مدنَها وبيوتَها سلوكٌ أخلاقي واحد.

وتتميز الأمة عن غيرها بثلاثة أشياء؛ الخلق الطبيعي، والشيم الطبيعية، واللسان؛ أي اللغة. والخلق أقرب إلى الصفات البيولوجية، في حين أن الشيم أقرب إلى سمات الشخصية النفسية والمزاجية والثقافية. الأولى أقرب إلى الطبيعة، والثانية أقرب إلى الاكتساب.

ويعني لفظ المدينة التجمُّع البشري أو الجماعة أو المجتمع بلغة العصر، وكلها مرادفات عند الفارابي. وهي نموذج الاجتماع الإنساني وليس الأمة، مثل مدن حلب وبخارى وسمرقند، وأثينا وإسبرطة وروما قديمًا. ولا تعني المدينة أو المنزل ما عناه القدماء بأنه السكن؛ أي المكان، بل السكان؛ أي البشر. فالجغرافيا بلغة العصر هي الجغرافيا البشرية أو علم السكان، وتخطيط المدن يعني السكان وليس السكن. وهو ما يتفق مع التجربة البشرية في القرآن والشعر؛ فالسكن ليس فقط المسكن والبناء، شكله وصورته، بل الناس القاطنون فيه.٤٢ ويلتئم المنزل من أربعة؛ زوج وزوجة، مولًى وعبد، والد وولد، قنية ومقتنًى. بقي الزوج والزوجة والوالد والولد، وانقضى عهد المولى والعبد والقنية بفضل الزمن. والرئيس هو رب المنزل مثل مدير المدينة.٤٣
١  الرسائل، ج٤، ١، ٤٨١–٤٨٦. والرسائل أشبه بقضايا معاصرة، فلسفة للجميع وليست مهنيةً مُتخصصة. وابن سينا هو الذي أعطاها درجةً عالية من الصورية لتغطيتها.
٢  هي حاجاتٌ تسع: (١) الطعام والشراب والنساء ومظاهر الدنيا وملذَّاتها، وهي صفات الجلساء. (٢) زيارة القوم والمبيت عندهم وما ينتج عن ذلك من فحش! (٣) الحمل والولادة لطفلٍ واحد أو توءم. (٤) معرفة حياة الغائب ومرضه وموته. (٥) السرقة. (٦) معرفة الحرب في أوقاتها. (٧) الرسول. (٨) معرفة ما في الكتاب قبل أن تُفضَّ أختامه. (٩) صدق الأخبار وكذبها (الرسائل، ج٤، ١١، ٣٥–٤٠٦).
٣  الفارابي، فصول المدني، ص٥٧-٥٨، الفقرة ٤٢.
٤  السابق، ص٥٦، ٢١ (الفقرات ١٥-١٦، ٢١).
٥  وهي ما سمَّاه الغرب الحديث «العقد الاجتماعي» الذي يُمثل المجموع الكلي للإرادات الفردية الحرة في إرادةٍ كلية واحدة شاملة.
٦  وهذا يُشبه ما قاله برجسون في الدافع الحيوي والطفرة والانبثاق والحرية والتطور الخالق.
٧  الفارابي، السياسة المدنية، ص٩٩ (الفقرة ٩٥)؛ تحصيل السعادة (الفقرة التاسعة).
٨  وبلغة العصر من الاشتراكية إلى الرأسمالية أو من الرأسمالية إلى الاشتراكية (الفارابي، تحصيل السعادة (الفقرة التاسعة)).
٩  وهي بلغة العصر عصبة الأمم أو الأمم المتحدة، وما شابهها من المنظمات الدولية ومواثيقها.
١٠  الفارابي، فصول المدني، ص٨٥ (فقرات ٧٨–٨٠).
١١  مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص١٢-١٣، ٢٣-٢٤، ١١١، ١٢٨.
١٢  وهو نفس موقف نيقولاي هارتمان وماكس شيلر.
١٣  مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص١٣٩-١٤٠.
١٤  السابق، الحاجة إلى المال واكتسابه بالطُّرق الشريفة العادلة، السابق، ص٩١-٩٢، ١٠٤–١٠٥، ١٠٨-١٠٩.
١٥  هو قولٌ منسوب لأرسطو.
١٦  مسكويه، تهذيب الأخلاق، لزوم الشريعة في المعاملات، ص٩٥–٩٧.
١٧  السابق، ص١٣٥، ١٤١.
١٨  السابق، ص١٥٥.
١٩  السابق، ج٤، ١، ٤٨٠–٤٨٣.
٢٠  السابق، ج٤، ١، ٤٨٤-٤٨٥.
٢١  السابق، ج٤، ١، ٤٨٤، ٤٨٥.
٢٢  تُشير بعض الرسائل إلى الطبقات الحِرفية مثل الرسالة الأولى «في الآراء والديانات» (١٤) فصل في بيان فضل الفقراء والمساكين وأهل البلوى (ج٤، ١، ٤٢٩–٤٣٢). (١٥) فصل في الفرق بين أصول الصنائع والعلوم وفروعها (ص٤٣٢–٤٣٨). الرسالة الرابعة: في كيفية معاشرة إخوان الصفا وتعاون بعضهم مع بعض، وصدق الشفقة والمودة في الدين معًا (ج٤، ٤١–٦٠). الرسالة السابعة: في كيفية الدعوة إلى الله (ج٤، ٧، ١٤٥–١٩٧). الرسالة التاسعة: في كيفية أنواع السياسات وكميتها (ج٤، ٩، ٢٥٠–٢٧٢).
٢٤  الرسائل، ج١، ٢، ١١٣؛ ج١، ٩، ٣١٥، ٣٢٠-٣٢١.
٢٥ 
الرسائل، ج١، ٥، ١٨٦، ٢١١؛ ج١، ٩، ٣٢٢–٣٢٤، ٣٢٨، ٣٣٠؛ ج١، ٨، ٢٩٥.
٢٦  ربما هي تعريب للفظ Nomos اليوناني، بالرغم من أنها عربية الأصل عند البعض الآخر؛ اسم حشرة مثل هاموش!
٢٧  السابق، ج٤، ٧، ١٦٩–١٧٣.
٢٨  تمثلًا قول أفلاطون: «من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا.»
٢٩  وهو ما سمَّاه نيتشه أخلاق السادة في مُقابل أخلاق العبيد، وما سُمي في هذا العصر أخلاق المدينة في مُقابل أخلاق القرية.
٣٠  الفارابي، فصول المدني، ص٦٥–٦٧.
٣١  السابق، ص٧٤-٧٥؛ السياسات، ص٤١؛ آراء، ص٧١-٧٢؛ الملة، ص٥٣.
٣٢  الفارابي، الملة، ص٦٤–٦٦.
٣٣  السابق، ص٥٢–٥٤، ٥٩-٦٠  .
٣٤  الفارابي، فصول المدني، ص٧٠-٧١.
٣٥  السابق، ص٧٦.
٣٦  السابق، ص٧١–٧٤.
٣٧  السابق، ص٧٦–٧٨.
٣٨  الفارابي، السياسات المدنية، ص٤٢–٤٤.
٣٩  القرآن وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
٤٠  الفارابي، السياسات المدنية، ص٤٢؛ آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٧١.
٤١  الفارابي، الملة، ص٤٣.
٤٢  وهو ما يتفق مع القرآن في بعض آياته، مثل وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ، ومن الشعر
أمرُّ على الديار ديار ليلى
أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبُّ الجدار شغَفْن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
٤٣  هناك فرق بين المولى والعبد من ناحية، والقن من ناحيةٍ أخرى. المولى حرٌّ دخل في حلف مع حر، والعبد يمكن أن يكون حرًّا، والقن هو الذي ما زال مملوكًا للمالك.