من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٣) الحكمة العملية: الأخلاق – الاجتماع والسياسة – التاريخ

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ثانيًا: أنواع المدن

وتتكرر كتابات الفارابي في «السياسات المدنية» و«فصول المدني» و«آراء أهل المدينة الفاضلة». فهل يتطور الفيلسوف أم إنه حدسٌ واحد وتصورٌ واحد وتحليلٌ واحد؟ في كل مرة يبدأ التأليف من الألف إلى الياء، خطابٌ واحد في تصورٍ شمولي واحد، بدايةٌ جذرية بفعلٍ فلسفي مُتجدد. ويمكن رؤية علاقة جدلية بين هذه المؤلَّفات الثلاثة؛ «السياسات المدنية» سلب ونفي، و«آراء أهل المدينة الفاضلة»، إيجاب ووضع، و«فصول المدني» جمع بين السلب والإيجاب. أما الملة فإنها كشف عن حقيقة الجدل في الاجتهاد والتقليد، والموروث كمصدر للتنظير الخالص. الفاضلة في الأول نوابت؛ أي ما هو كائن، بينما الفاضلة في الثاني ما ينبغي أن يكون. لم يعرض الفارابي المدينة الفاضلة قدر عرض المدن الجاهلة والفاسقة والضالَّة ونوابت الفاضلة في «السياسات»، بل في «الآراء». لم تذكر «السياسات» المدينة الفاضلة، بل ذكرت نوابتها؛ أي المجتمعات الهامشية والطفيلية. ومع ذلك عرض آراء أهل المدينة الفاضلة أقصر بكثير في الآراء منه في «السياسات المدنية»، يُضيف كل عمل في العلم المدني شيئًا جديدًا؛ فتركيب المدينة وتشبيهها بالبدن مادةٌ جديدة في «الآراء» ولا توجد في «السياسات»، وأقرب إلى «فصول المدني» أو «الفصول المنتزعة»، والعضو الرئيسي لا يوجد في السياسات،١ والمدينة المبدلة في «الآراء» فقط وليست في «السياسات».
ومعيار تصنيف المدن الآراء أو الأهداف والغايات، وبلغة العصر الأيديولوجيات. ماهية المدينة بفكرها وليس بنظامها السياسي أو إنتاجها الاقتصادي، وبلغة العصر بثقافتها وحضارتها وقيمتها. تُحدَّد نوعية المدينة بأخلاقية الهدف.٢

وتُطلَق صفتا الفاضل والجاهل على المدن والسياسات والرئاسات والاجتماعات والآراء والأفعال والمِلل؛ مما يدل على ارتباط الأخلاق والاجتماع والسياسة. واستعمال لفظ الجاهلة بدلًا من لفظ الجاهلية من بقايا الموروث القديم، الجاهلية قبل الإسلام بعد أن تم تنظير الإسلام في الفاضلة طبقًا لظاهرة التشكُّل الكاذب. والسياسة ليست جنسًا لسائر أصناف السياسات، بل هم اسمٌ مشترك لأشياء كثيرة تتفق وتختلف في طبائعها، ولكن لا شركة بين السياسة الفاضلة والسياسة الجاهلة. السياسة الفاضلة هي التي ينال بها السائس الفضيلة في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا أن يكون البدن على أفضل الهيئات وأنفسهم على أفضل الحالات، ويكون ذلك سبب السعادة في الآخرة، شرط أحوال الآخرة. والسياسة الجاهلية تختلط أصنافها ويصعب التمايز بينها في أفعال الرئيس الجاهلي؛ لأن أفعال كل واحد تصدُر من ظنونه وآرائه دون علم أو صناعة مُتقَنة. وقد قنَّن الأقدمون السياسات الجاهلة لأن العلم يُحفَظ ويُضبَط بالقوانين الكلية. وإن كانت السياسات الجاهلية مركَّبة يُعرَف كلٌّ منها على حدة وبحسب طبيعتها، كذلك الحال في جميع الأشياء العملية، مثل الخطابة والسفسطة والجدل والشعر؛ فإنها ليست علومًا إلا بحسب البرهان. ويشتمل كل صنف من السياسات الجاهلية على أصنافٍ مختلفة ومُتفاوتة بين غاية الرداءة وما ضرره يسير ومنفعة كثيرة بحسب قوم بعينهم. والسؤال هو: هل السعادة مُطلَقة على هذا النحو دون وضع اجتماعي؟ هل يمكن الحصول عليها على هذا النحو الفردي دون واقع وملابسات؟

ونسبة السياسات بالنسبة إلى الأنفس كنسبة الأزمان بالنسبة إلى الأبدان وذوات الأمزجة المختلفة. وكما تصلح الأبدان في مزاجها وحالها في الخريف، والبعض في الصيف، وبعضها في الشتاء، وبعضها في الربيع؛ كذلك حال الأنفُس ونِسبتها إلى السياسات، إلا أن أصول الأبدان أشدُّ انحصارًا من الهيئات والسير؛ لأن هذه تتألف من أشياء طبيعية وإرادية بلا نهاية، بعضها بالقصد وبعضها بالاتفاق. وكثير من أهل السنن يتقلب في الشقاء وهو لا يعلم.

وتتفاوت عروض الفارابي لأنواع المدن من مدينة إلى أخرى؛ إذ يبحث عن الأصول الفاسدة التي تفرَّعت منها الآراء والاجتماعات والمدن والرئاسات الجاهلة والضالة، ولا يفعل نفس الشيء مع المدينة الفاضلة. فأصل الفساد في المدينة الجاهلة في الموجودات الطبيعية، واعتماد باقي الموجودات عليها، والظنون في الموجودات الطبيعية والإرادية، سواء كانت ظنون الآراء الجاهلية أو إحصاءها وكيفية حدوثها من الاجتماعات والمدن والرئاسات والعلل، أو ظنون الآراء الضالة حتى الْتأمت منها المِلل التي قد تبعتها الرياسات والسياسات الضالة؛ فالآراء تحدُث بعد الاجتماع وليست قبله.٣ والاجتماع الطبيعي ينشأ أولًا ثم بعد ذلك يتحول إلى اجتماعٍ إرادي فتظهر الأخلاق الاجتماعية. كما يستعمل الفارابي لفظًا واحدًا للمدينة الفاضلة، ولا يصنِّفها إلى تصنيفاتٍ جزئية، في حين أنه يستعمل ألفاظًا عديدة للمدينة الجاهلة مثل الضالة والفاسقة، ويصنِّفها إلى أنواع، ويصف آراءها المشتركة بينها.
وأحيانًا يكون الوصف لصالح المدينة الفاضلة، ويكون القياس عليها عن طريق القلب لوصف المدينة الفاضلة؛ فالفاضلة هي الأساس، وفي غيابها واندثارها تظهر الجاهلية. يعرض موضوعات المدينة الفاضلة، ارتباطها وأجزاءها ومراتبها ورئاستها ونظامها وملكها ورئيسها الأول،٤ وشروط رئاسته وعلاقتها منذ ولادته وصباه وحداثته، وكأن الرئيس يُولَد رئيسًا بالطبع وليس بالكسب، وتأديبه، ثم الرئاسات التالية له؛ أي دراسة المدينة من حيث الرئاسة. وبالمثل يستعرض أصناف الاجتماعات في المدن الجاهلية والضالة والفاسقة وملوكها ورئاسة كل واحد وأغراضها؛ أي دراسة الرئاسة أيضًا. ويصف أصناف السعادات التي تصير إليها أنفس المدن الفاضلة في الحياة الأخرى، وأصناف الشقاء لأنفس المدن الجاهلية وهلاكها؛ أي العقائد مثل النبوة والمعاد، تحولًا من علم الكلام إلى علوم الحكمة في مزيد من التنظير؛ فالعقائد أساس أيديولوجيات المجتمع وتصوراته الأخلاقية والاجتماعية والسياسة. ويبيِّن وسائل الحصول على أهل المدينة الفاضلة وحدها دون الجاهلية، والعلامات التي تُميزهم إذا وجدوا غُرباء في مدنٍ جاهلية، أقلية وسط أغلبية، تنظيرًا لبعض الآيات وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، ثم يُقارن بين المدينتَين في التأويل؛ إذ يختلف أهل المدينة في الأشياء التي تُخيل لهم مثالات الحق دون ذواتها. وهو اختلافٌ يتَّجه نحو شيء واحد، ولا يُوجِب التعاديَ بل التصافي، مثل اختلاف أهل الصنائع. وهو موضوع التأويل وشرعية الاختلاف. ويصف وضع من ينشَئون في المدن الفاضلة ويكون إغفالهم سببًا لبوارها، ويبيِّن أمثلتهم، وكيف تتمُّ مناظرتهم. وهم الأولياء والحكماء والأئمة والعلماء الدين يتهاونون في همَّتهم ويتقاعصون عن القيام بأدوارهم.
وقد يسكن إنسانٌ فاضل بإرادته أو بغير إراداته في مدينةٍ جاهلية، فيكون جزءًا طبيعيًّا منها أو غريبًا عنها، وهو نفس حال الجاهل في مدينةٍ فاضلة. وهذا هو سبب الهجرات؛ الجاهل إلى الجاهلية، والفاضل إلى الفاضلة؛ فالطيور على أشكالها تقع. المدن إذن نُظمٌ سياسة ثابتة، والحركات بين أفرادها. والتجانس في المدينة فاضلةً أو جاهلةً ضروريٌّ حتى لا يحدُث انشقاق فيها أو معارضة أو تحوُّل إلى أفضل أو إلى أسوأ. ولا توجد إمكانيات لتغيُّرٍ اجتماعي. أثر الفاضل في الجاهلية إيجاب، وأثر الجاهل في الفاضلة سلب. سبب الهجرة العلة الغائية وليست العلة المادية، عكس ما تنتهي إليه أسباب الهجرة عند علماء الاجتماع المعاصرين.٥

(١) المدينة الفاضلة

يركِّز الفارابي على آراء الملة الفاضلة أكثر مما يبيِّن أنواعها؛ فالمدينة الفاضلة واحدة، وهي ملةٌ أكثر منها مدينة، وهي بطبيعة الحال ملة الإسلام.

وآراء الملة الفاضلة نوعان؛ نظرية وعملية أو إرادية. وتتعلق النظرية بأوصاف الله وصفاته، وصفات الروحانيين ومراتبهم ومنازلهم من الله وفعلهم، سواءٌ كانوا أشخاصًا أم ملائكةً ثوانيَ أو صورًا مُفارقة، والعالم وأجزائه ومراتبه وحدوث الأجسام من الفيض، والعدل في العالم وامتناع الجور، والإنسان والنفس، والعقل ومرتبته في العالم ومنزلته من الله، والنبوة والوحي والمعاد. وتتَّضح مصطلحات علم الكلام دون أية محاولة للتشكُّل الكاذب المعروف في الخطاب الفلسفي، أو حتى لتعقيل السمعيات. كما تتضمن السياسة والإمامة ووصف الأنبياء والملوك والرؤساء والأئمة في الزمان السابق، وأوصاف الملوك الأراذل الرؤساء والفُجار المُتسلطون من أهل الجاهلية والضلال في الماضي، مع وصف الحاضر، رؤساء أفاضل أم أراذل؛ فالغاية من الماضي الحاضر، وموضوعات التخييل في مثالات الحقيقة. والسياسة والإمامة من الأمور النظرية.

أما العملية فهي الأفعال، وكلها تعظيم أيضًا لله والملائكة والرئيس. وتضمُّ تعظيم الله، والروحانيين والملائكة والأنبياء والملوك والأفاضل والرؤساء الأبرار وأئمة الهدى في الماضي، وتخسيس الملوك الأراذل ورؤساء الفجار وأئمة الضلال، وتعظيم الملوك الأفاضل والرؤساء الأبرار وأئمة الهدى في الحاضر وتخسيس أضدادهم، ومعاملات أهل المدن مع النفس ومع الغير من أجل تعريف العدل.٦
ولما كانت الأفعال تُكسِب الإنسان هيئةً نفسانية جيدة فاضلة كلما دام عليها الشخص صارت هذه الهيئات أقوى وأفضل، وكلما تكرَّرت ازدادت جودة، وزاد الالتذاذ والسرور بها؛ فالأفعال على الدوام وعلى التكرار دون حاجة إلى أمرٍ مُتجدد كما هو الحال في علم أصول الفقه.٧ فإذا ما وصلت النفس إلى حد الكمال فإنها تستغني عن المادة ولا تتلف بتلفها، وتُفارقها وترتفع عنها الأغراض. لا تتحرك ولا تسكن بعد أن كانت تتبع أمزجة الأبدان، وتتغير بتغيرها.
وإذا خلصت طائفة أنفسهما وسعدت، وخلفهم آخرون في مرتبتهم قاموا مقامها، واتصلوا بأشباههم في النوع والكمية والكيفية. ويسهل إقناعهم لأنهم بلا أجسام، يلتذُّ كلٌّ منهم بالآخر، يتصل اللاحق بالسابق، ويعقل مثل ذاته مرارًا في تراثٍ روحي متصل، وتاريخٍ روحي صاعد، سلف صالح يتواصل بالرواح، ويتراسلون فيما بينهم. يسر الخلف بالسلف، كما يسر السلف بالخلف لاتصاله به، ويظل التراث الفكري حيًّا بينهم بأفعالهم وأرواحهم؛ أي بأفكارهم وآرائهم وآثارهم، وكأننا في عالم الأقطاب والأبدال عند الصوفية. التقدم إلى أعلى في الارتقاء بالروح، وإلى الخلف بالرجوع إلى السلف الصالح، وليس إلى أسفل لرعاية المصالح العامة، أو إلى الأمام من أجل تحقيق التقدم المادي والمعنوي. وهكذا ينتقل الفارابي من الاجتماع إلى الأخلاق، ومن الأخلاق إلى الدين، ومن الدين إلى التصوف.٨ وفي هذه الحالة من الذي يقوم برعاية الأبدان والمصالح العامة والأحوال المعيشية إذا كانت الغاية من المدينة تخليص النفوس من الأبدان؟ كيف ينشأ الصراع الاجتماعي إذن في هذه المدينة المُتجانسة المُتألقة روحيًّا؟
ولأهل المدن الفاضلة أشياء مشتركة يعلمونها ويفعلونها، وأشياء أخرى من علم وعمل تخصُّ كل رتبة وكل واحد منهم. وتحصل لهم السعادة بالمشترك بينهم، وبالخاص لكل فرد منهم. والأفعال في المدينة الفاضلة ليست فقط أفعالًا فردية، بل أيضًا أفعالٌ جماعية مشتركة. فالأفعال نوعان؛ فردية تخصُّ كل شخص، وجماعية يشترك فيها المجموع علمًا وعملًا. وتحصل السعادة لأهل المدن الفاضلة بالأفعال الشخصية والأفعال المشتركة، وهي: معرفة السبب الأول وصفاته؛ أي التوحيد بلغة علم الكلام. ومعرفة كل منها؛ أي الفيض والموجودات المتوسطة الثواني بلغة الفلسفة. ومعرفة الجواهر السماوية وصفاتها والأجسام الطبيعية التي تحتها، كونها وفسادها، إحكامها وتفاوتها، والعناية والعدل والحكمة فيها، لا إهمال ولا جور ولا نقص، والخلق عدل بلغة المعتزلة. ومعرفة كون الإنسان وحدوث قوى النفس وفيض العقل الفعَّال عليها كالضوء، حتى تحصل المعقولات الأُول والإرادة والاختيار عودًا إلى نظرية الفيض على مستوى المعرفة. ومعرفة الرئيس الأول، وكيف يكون الوحي توحيدًا بين الرئيس والنبي. ومعرفة الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكن هو في وقت من الأوقات؛ أي الخلفاء والحكماء. ومعرفة المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة والمدن الضالة والمعاد، إما العدم أو البقاء. وأخيرًا معرفة الأمم الفاضلة والأمم الجاهلية؛ أي مجموعة الإنسانية خيرها وشرها. فمجموع ما يعرفه أهل المدينة الفاضلة تدور حول الله والعالم والإنسان والمجتمع، وهي تقنين لما ينبغي أن يكون، وليس وصفًا لما هو كائن. وكلها أشياء معرفية صوفية إلهية، ولا شيء يتعلق فيها بالصالح العام.٩

وتتفاضل الصناعات والعادات في المدن الفاضلة من ثلاثة أنحاء؛ النوع والكمية والكيفية، مثل تفاضل الصنائع. التفاضل بالنوع هو أن تكون الصناعات مختلفة بالنوع، واحدة أفضل من الأخرى، مثل صناعة العطر والكناسة والحياكة، وصناعة الرقص والفقه، والحكمة والخطابة. ولا حرج من ضرب المثل بصناعة الرقص مع صنعة الفقه والحكمة والخطابة وصنعة العطر. وتتفاضل بالكمية مثل العلم بنفس النوع مع تفاضل في الزيادة والنقصان. والتفاضل بالكيفية هو العلم بنفس الموضوع مع تفاضل في الإتقان والإحكام.

وتُعرَف هذه المبادئ بطريقتَين؛ الأولى أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة؛ أي العلم بالوجود بما هو موجود. يعرف الحكماء بالبرهان، ومن يُلهَم يعرف ببصائر الحكماء اتباعًا لهم وتصديقًا وثقة بهم. والحكيم أفضل من تقليده، أو ممن يُحاكي الأشياء؛ مما يوحي بأن الفلسفة أعلى من النبوة. وهو نوع من التبعية والتقليد. وما الداعي لتصور طبقة مُتوسطة من الحكماء والأنبياء، وهل يجوز تقليد الحكماء، وما الضامن لصدقهم؟ والثانية أن ترتسم فيهم بالمناسبة والتمثيل؛ أي حصول مثالاتها التي تُحاكيها؛ أي بالصور الفنية المتوسطة بين الذهن والشيء، والمعرفة بمحاكاة المثالات؛ لأن الأذهان لا تقوى على تفهم الموجودات، سواء بالطبع أو بالعادة.

والمعرفة بالمثالات تكون على أربع درجات بناءً على القرب والبعد من الممثول، مثالات بعيدة جدًّا، ومثالات أبعد، ومثالات بعيدة ومثالات قريبة، وكأن الصفة الغالبة عليها هو البعد نظرًا لتفاوته بين ثلاث درجات التفضيل؛ الأبعد، وأبعد، وبعيد، في حين أن القرب درجةٌ واحدة.

وتبدأ المحاكاة طبقًا لقانون الأعرف فالأعرف، وهو نفس القانون المنطقي للتعريف. كما تختلف من أمة إلى أخرى طبقًا لمزاجها وشخصيتها وثقافتها وتكوينها وشخصيات الشعوب كما هو الحال في علم اجتماع المعرفة المعاصر. قد تختلف أمةٌ فاضلة عن غيرها في الملة بالرغم من اتفاقهما في السعادة والقصد. الفلسفة إذن سبب وحدة الأمم، والدين أحد أسباب اختلافها. العقل يوحِّد، والخيال يفرِّق.١٠

وإذا كانت الأشياء معلومة ببراهينها لا يكون فيها عناد بقول أصلًا على جهة المغالطة، ولا على جهة سوء الفهم، فلا معاندة للحقيقة في نفسها؛ وبالتالي يكون فهم المعاند هو المسئول عن المعاندة. الحقيقة موضوعية بصرف النظر عن رؤاها وفهمها وتفسيراتها وتأويلاتها والاجتهادات في التعبير عنها. أما إذا كانت معلومة بمثالاتها فقد تكون مواضع العناد أقل، وبعضها يكون أكثر. بعضها يكون العناد فيه ظاهرًا، وبعضها يكون أخفى. وقد يعرف البعض مَواطن العناد للمثالات ويتوقف عنده. وهم صنفان؛ الأول مُسترشدون، إذا تزيَّف عندهم شيءٌ رفعوه إلى مثالٍ آخر أقرب إلى الحق بحيث ينتفي العناد، وإن تزيَّف رفعوه إلى درجة أخرى، فإن تزيَّفت المثالات كلها توقَّف عن معرفة الحق وأصبح من المُقلدين الحكماء، فإن لم يقتنع استزاد علمًا وأصبح حكيمًا. والثاني جاهليون، يُسميهم الفارابي «آخرين بهم أعراض الجاهلين من كرامة ويسار أو لذة في المال»، يرون أن شرائع المدينة الفاضلة تمنعه منها فيُزيفها عمدًا، سواء كانت مثالات للحق أو الحق نفسه.

ويتمُّ تزييف المثالات بثلاث طُرُق؛ الأول بما فيها من مواضع العناد؛ أي عدم تطابق المثال مع الممثول. الثاني بمغالطة وتمويه المعايير؛ أي السفسطة. يزيِّف الحق نفسه بالمغالطة والتمويه حتى يُحقق غرض الجاهلي، وهؤلاء ليسوا من المدينة الفاضلة. والثالث بمواضع العناد التي فيهم، وتزييف المثالات كلها لأنهم سيِّئوا الأفهام، يغلطون في مواقع الحق على غير ما هو عليه، فإذا تزيَّف ذلك ظنُّوا أنه الحق، وليس سوء فهمهم له فيقع لهم اللاحق. ومن يظن أنه وصل إلى الحق مغرور. إذا ادَّعى أنه مُرشد إلى الحق كان مُخادعًا مُمهوهًا طالبًا الرياسة. يتحيَّر البعض منهم، ويلوح الشيء من بعيد للبعض الآخر ويتخيله في النوم. الحق موجود، ويُباين ما يُدركونه منه لأسبابٍ لا يعرفها، فيقصد إلى تزييف ما يُدركه. ولا يحسبه حقًّا، بل يعلم أو يظن أنه أدرك الحق.١١
ولهذا السبب تظهر ثوابت المدينة الفاضلة، بل يعرضها الفارابي قبل المدينة الفاضلة ذاتها، وكأن آراء أهل المدينة الفاضلة مُكملة ولاحقة على ثوابتها. السلب قبل الإيجاب، والنقص قبل الكمال. وهم أصنافٌ كثيرة، أحيانًا باسم وأحيانًا بوصف. الأول المُتمسكون بالأفعال التي يُنال بها السعادة دون القصد من ذلك، بل لنيل شيء آخر بالفضيلة مثل الكرامة أو اليسار. تنقصهم النية طبقًا للحديث الشهير «إنما الأعمال بالنيَّات.» واعتمادًا على العقل الخالص والتجربة الإنسانية دون وحي أو نبوة تُراجَع وتُصحَّح وتُصوَّب اعتمادًا على الوحدة الأولية بين الوحي والعقل والطبيعة. والثاني المحرِّفة، وهم أصحاب الهوى من غايات الجاهلية. يمنعون شرائع المدينة وملَّتها، ويعمدون إلى ألفاظ واضع السنة ويؤوِّلونها على ما يُوافق هواهم، ويُحسنون الشيء بالتأويل؛ فهم المؤوِّلون الذين يُقيمون تأويلهم على سوء النية. والثالثة المارقة، وهم لا يقصدون تحريفًا. ونظرًا لسوء فهمهم ونقصان تصورهم للسنة يفهمون أمور التشريع على غير مقصدها، فتصير أفعالهم خارجة عن مقصد الشرع الأول فيضلُّون ولا يشعرون. هم المُخطئون في التأويل النظري، فيضلُّون في السلوك العملي. رابعًا المُزيفون عند أنفسهم وعند غيرهم دون معاندة للمدينة الفاضلة، ولكنهم مُسترشدون وطالبون للحق. يحتاجون فقط إلى رفع طبقتهم للتخيُّل دون تزييف حتى يقتنعوا، ثم يُرفَعون إلى طبقةٍ أخرى حتى يصلوا إلى الحق. يحتاجون إلى الانتقال من الخيال إلى العقل ثم إلى الفهم والتفسير. خامسًا المُزيفون لما يتخيلون، كلما رُفعوا مرتبةً زيَّفوها حتى رتبة الحقيقة طلبًا للغلبة، أو لتحسين شيء يميلون إليه من أعراض الجاهلية. يكرهون سماع شيء يُقوي السعادة والحق في النفوس، ويتلقَّونها من الأقاويل المُموهة. هم السوفسطائيون المزيفون للخيال والعقل، والتمويه على الحقيقة إيمانًا بأغراض الجاهلية. سادسًا وأخيرًا المُتخيلون للسعادة والمبادئ ولا يستطيعون تصورها، فيُزيفون ما يتخيلون ويُعاندونه. وكلما رُفعوا طبقةً إلى الحقيقة زيَّفوها، ولا يستطيعون الوصول إليها لعجز أذهانهم. تخيُّلهم ناقص، فيتزيَّف لسوء فهمهم، لا لأنه به موضع للعناد؛ إذ لم يستطع أحد منهم تخيُّل الشيء على الكفاية، أو يقف على مواطن العناد بالحقيقة، أو لا يمكنه فهم الحقيقة، وظن أن كل من أدرك الحقيقة فإنه يكذب عمدًا طلبًا للكرامة أو الغلبة، وأنه معذورٌ مجتهد، ويحسن أمر من أدركها. وهو يهدف إلى تزييف الحقيقة، وأن الناس مغرورون بزعمهم أنهم أدركوها. ويعترف البعض أنهم لا يعرفون شيئًا أصلًا، وهم الشُّكَّاك نُفاة الحقيقة.١٢ المدينة الفاضلة ما ينبغي أن يكون، والنابتة ما هو كائن، تقابُل المثال والواقع. النوابت هي الطبقة الطفيلية مثل الشبلم في الحنطة، أو الشوك في الزرع والحشائش الضارة به المغروسة فيه.

وواضحٌ أن نوابت المدينة الفاضلة بداية انهيارها، ثم نشوء المدينة الجاهلة، ومن الصعب التعرف عليهم في الفِرق؛ هل هم الشيعة أو الباطنية أو المؤوِّلون من المعتزلة والحكماء أم السوفسطائيون أو الشُّكاك؟ هل هو حديث الفِرقة الناجية في تأويلٍ فلسفي جديد، أو وصف المجتمعات المُنهارة في قصص الأنبياء في القرآن الكريم؟ واضحٌ ارتباط المدينة الفاضلة بالملة والشريعة والسنن والتأويل؛ أي بالدين، ومع ذلك تخلو «السياسات المدنية» من البسملات والحمدلات في الخاتمة.

(٢) المدينة الجاهلية

عندما تتكاثر النوابت في المدينة الفاضلة ويكون لها السيطرة، تنهار المدينة الفاضلة، وتتحول إلى مدينةٍ جاهلة. وهي المدينة التي لم يعرف أهلها السعادة، ولا خطرت ببالهم مهما أُرشدوا إليها، بل عرفوا فقط بعض الخيرات المظنونة، مثل سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات تابعًا لهواهم، وأن يكونوا مُكرَمين مُعظَّمين. وكلها جوانب من السعادة العظمى، وضدها الشقاء، مثل آفات الأبدان والفقر والتمتع باللذات واتباع الأهواء. الاستيهالات أي الحاجات عند أهل الجاهلية ليست الفضيلة، بل اليسار مثل مجتمع النذالة، أو اللذة واللعب مثل المجتمع الخسيس، أو الضروري مثل مجتمع الضرورة، أو المنفعة؛ أي حسن الفِعال التي تعود إلى إحدى الكرامات السابقة، أو الغلبة؛ فالكرامة للغالب. تعريف المدينة الجاهلية هو نفي المدينة الفاضلة كما هو الحال في اللاهوت السلبي؛ مما يدل على نقص في القدرة على صياغة خطاب إيجابي اكتفاءً بالنفي؛ أي التنزيه والتطهر الذي قد يكون أقرب إلى تحصيل الحاصل، تحديد الإيجاب عن طريق نفي السلب.

وتبقى أنفُس أهل المدن الجاهلة غير مُستكمَلة، بل مُحتاجة إلى المادة ضرورةً؛ إذ لم يرتسم فيها شيء من المعقولات الأُول أصلًا، وكأن قسمة المدن ما زالت تقوم على أساسٍ معرفي وليس اجتماعيًّا. إذا بطلت المادة التي بها قوامها بطلت القوى التي كان يمكن أن تقوم بها، وبقيت القوى التي كان من شأنها قوام ما بقي؛ فإن بطل هذا أيضًا وانحلَّ إلى شيءٍ آخر صار الذي بقي صورة لذلك الشيء الذي إليه انحلَّت المادة، إلى أن ينحلَّ الأسطقسات فيصير الباقي صورتها، فتتخلط الأسطقسات لتكون إنسانًا أو حيوانًا. وهؤلاء هم الهالكون والصائرون إلى العدم مثل البهائم.

والهيئات المُستفادة من أفعال الجاهلية يتبعها أذًى عظيم في الجزء الناطق من النفس، ولا يشعر بذلك لتشاغله بما تورد عليه الحواس، فإذا تخلَّص منها شعر بالأذى، ويُخلصها من المادة ويُفردها عن الحواس وعن جميع ما يرد عليها من الخارج، مثل عدم إحساس المُغتم لِما يرد عليه من الحواس أي أذًى، وكذلك المريض الذي يقلُّ أذاه بألم المرض إذا تشاغل الجزء الناطق بما تُورده عليه الحواس لم يشعر بأي أذًى، إلا إذا انفرد انفرادًا تامًّا عن الحواس، حينئذٍ يشعر بالأذى. فبقي الدهر كله في أذًى عظيم. إذا أُلحقَ به من هو في مرتبته من أهل المدينة ازداد أذى كل واحد وصاحبه؛ فزيادة أذاهم في غابر الزمان بلا نهاية. هذا هو الشقاء المضادُّ للسعادة. يتراكم إذن الأذى في التاريخ، ويتجمع المُتأذي والمُتأذون الجاهلون. فالطبقة ليست طبقةً اجتماعية فقط، بل أيضًا طبقةٌ تاريخية؛ وبالتالي فالاجتماع وسيلة للتاريخ، والوعي التاريخي تراكم الوعي الاجتماعي عبر الزمان.١٣
ولما كانت أفعال أهل المدينة الجاهلة رديئةً أكسبَتْهم هيئاتٍ نفسانيةً رديئة؛ فالفعل بتكراره يتحول إلى عادة.١٤ وكلما تمَّت المواظبة على الأفعال الناقصة ازدادت الهيئات النفسانية نقصًا، فتصير أنفسهم مرضى. وربما يلتذُّون بها التذاذ المريض بالأشياء الرديئة، وتأذِّيَه من الأشياء الحسنة. كذلك يستلذُّ مرضى الأنفس بفساد تخيُّلهم الذي اكتسبوه بالإرادة أولًا، ثم بالعادة ثانيًا. ويتأذَّون بالأشياء الجميلة الفاضلة أو لا يتخيلونها أصلًا. وكما أن من المرضى من لا يشعر بعلته، ويظن أنه صحيح، ولا يُصغي لقول طبيب، كذلك مرضى الأنفس لا يشعرون بأنهم مرضى، ولا يُصغون إلى قولٍ مُرشد أو مُعلم أو مُقوم. هناك إذن تشابه بين طب الأبدان وطب النفوس، بين البدن والمجتمع. وترجع كثرة التشبيهات الطبية عند الفارابي مع أنه لم يكن طبيبًا إلى أن الطب كان ثقافةً شائعة ومشتركة عند الجميع، كان ثقافة العصر داخل علوم الحكمة. فالحكمة نوعان؛ طب النفوس وطب الأبدان.
وتنقسم المدينة الجاهلة إلى أربعة أنواع؛ الجاهلة والفاسقة والضالة والبهيميون بالطبع.١٥ ثم تنقسم الجاهلية إلى ستة أنواع؛ الضرورية، والنذالة، والخسيسة، والكرامة، والتغلب، والجماعية. فالمدينة الجاهلة أكبرها. ويتم التركيز على الثلاثة الأولى منها؛ الضرورية والنذالة والخسيسة، أكثر من الثلاثة الأخيرة منها؛ الكرامة والتغلب والجماعية.١٦ وأحيانًا توضع نوابت المدينة الفاضلة مع المدينة الجاهلة، فتكون القسمة الكلية محاسبة خماسية، مع أن النوابت هي الجانب السلبي في المدينة الفاضلة، هي المدينة الفاضلة سلبًا في لحظة الضعف والانهيار قبل أن تتحول إلى مدينةٍ جاهلة.

وتضطرب القسمة أحيانًا وهي في طريق التشكُّل النهائي؛ إذ يكون التقابل أحيانًا بين المدينة الفاضلة والمدينة الضرورية، مع أن الضرورية أول نوع من المدينة الجاهلة. وتجمع الفاضلة بين اليسار واللذات مع أنهما أغراض المدينة الجاهلة. وقد تقتصر قسمة المدينة الجاهلة إلى خمسة أقسام مع إسقاط السادسة، وهي الجماعية. وقد تكون القسمة الرباعية الكلية الفاضلة والجاهلة والضالة والتمويه بدلًا عن الفاسقة، وإسقاط «البهيميون بالطبع»، وهم لا يُذكَرون بالفعل في تحصيل المدن، وهم أكَلة لحوم البشر، مدينة موجودة بالفعل أم موجودة بالخيال تُشير إلى حالةٍ افتراضية، وقد تُعارض الفطرة الخيِّرة. هي حالة التوحش الإنسية الأولى الأشبه بالحالة الحيوانية في أقصى الشمال وأقصى الجنوب، وهم مُتفرقون لا يجتمعون، يتسافدون كالوحوش.

وكلها مصطلحاتٌ اجتماعية لها دلالاتٌ أخلاقية، مثل المدن الفاضلة والجاهلة والنذلة والخسيسة والفاسقة والضالة، وهي تحويل لمصطلحات الإيمان والكفر والفسوق والعِصيان من موضوع الأسماء والأحكام في علم أصول الدين من المصطلحات الشرعية إلى المصطلحات الأخلاقية الاجتماعية، ومن الكلام إلى الفلسفة، ومن الأفراد إلى الجماعات.

وتضطرب المصطلحات والمفاهيم في أسماء المدن بالرغم من الاتفاق على وصف مضمونها؛ فمدينة المنفعة مثلًا هي مدينة الكرامة، والنذالة هي مدينة اليسار، والخسيسة هي مدينة اللذة واللعب. ومع ذلك فقسمة المدن إلى فاضلة وجاهلية بالرغم من اضطرابها إنما تتم طبقًا للرئيس؛ إذا كان الرئيس فاضلًا كانت المدينة كذلك؛ فالناس على دين ملوكهم، والله يَزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. يفرض الرئيس سعادته وفضله على كل المدينة؛ إن كان جاهلًا فالمدينة جاهلة. وقد تكون الملوك على ديانات شعوبهم طبقًا للقول المأثور «كما تكونوا يُولَّى عليكم». والنتيجة واحدة، هي اتفاق الحاكم والمحكوم في الرأي والغرض والقصد، وهو ما لا يفسِّر الثورات والانقلابات؛ ثورات الشعوب على الحكام، وانقلاب الحكام على الشعوب.١٧ والسؤال هو: ألا توجد مدينةٌ فاضلةٌ رئيسها جاهل، أو مدينةٌ جاهلة رئيسها فاضل؟١٨ الرئيس في المدينة الفاضلة يفوز بالسعادة دون الناس، ويستعملهم له آلات ليصل إلى غرضه أو ينالوا هم غرضهم دونه. لا يوجد اتفاق بين الرئيس والمدينة مما يُناقض مبدأ التجانس بينهما.

وصِلة الرئيس الفاضل بالمدينة الجاهلة صلة المخدوم بالخادم، الرئيس بالمرءوس، الصورة بالمادة، الغاية بالآلة. وهي نفس بنية الفيض؛ فالرئيس هو الوهَّاب المعطاء. والسؤال هو: هل يؤيد الملك نفسه في المدينة الفاضلة بالسعادة الحقيقية أم إنه خادم الشعب وراعي مصالحه؟

والرئاسة الضالة هي ظن الفضيلة والحكمة دون أن تكون كذلك. ورئاسة التمويه هي التي تتعمد التمويه من غير أن تشعر المدينة بذلك. في الظاهر ينال السعادة، وفي الباطن ينال الخيرات الجاهلية، مدينة النفاق.

غاية الملك عند قومٍ الكرامة والجلالة والغلبة ونفاذ الأمر والنهي والطاعة والتمجيد، والحصول عليها بالفضيلة أو اليسار، أو بالحب، أو بالقهر. فغاية المدن هي غاية الرؤساء. غاية الكرامة لأفضل الرؤساء، وغاية اليسار وغاية اللذات لأفضل الخسة منهم.١٩

(أ) المدينة الجاهلة

المدن الجاهلية أعمُّ من المدينة الجاهلة؛ فالجاهلية تشمل ست مدن أولها الجاهلة. الجاهلية لفظٌ موروث يُطلَق على العرب قبل الإسلام. والجاهلة من الجهل في مُقابل العالمة من العلم. وقد يكون التقابل مع الفاضلة المرذولة أو الرذائل طبقًا للتقابل بين الفضيلة والرذيلة، إلا أن اسم الفاعل «فاضل» لا يوجد ما يُطابقه من اسم الفاعل من «رذيلة»؛ فالأصل الفضيلة، والرذيلة غيابها. وتضم سته أنواع يُطلَق عليها صفات، مثل الضرورية والخسيسة والكرامة والجماعية، وأحيانًا أسماء مثل النذالة والتغلب.

وكل واحدة من هذه المجتمعات إما مُخاتلة أو مُجاهرة، سرًّا أو علنًا. فالدخل إما أن يأتي سرًّا أم علنًا، بالطُّرق المُلتوية أو بالطُّرق المُباشرة؛ الكسب السريع بالمضاربات في الأسواق، والكسب البطيء بالإنتاج. والمجتمعات السرية مجتمعات المعارضة ووسائل إنتاجها السرية، ومجتمعات السلطة العلنية لها وسائل إنتاجها العلنية مثل الشيعة والسنة.٢٠
وقد توجد هذه المجتمعات في مجتمعٍ واحد كما هو الحال في القطاع الرابع في الإنتاج غير المباشر في مُقابل قطاعات الإنتاج المباشرة، الزراعة والصناعة والتجارة. وهي سمة من سمات المجتمع المُتخلف، خاصةً لو زاد حجم التبادل في القطاع الرابع، وأصبح موردًا رئيسيًّا للدخل في الطبقات الاجتماعية الدنيا.٢١
  • أولًا: المدينة الضرورية: وهي التي يقصد أهلها على الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والمنكوح والملبوس والمسكون، والتعاون على الاستفادة منها. الاجتماع فيها ضروري من أجل التعاون على اكتساب ما هو ضروري في قوام الأبدان وإحرازه، مثل الفلاحة في المجتمع الزراعي، والرعاية في الخدمات والحاجات الأولية، والصيد في مجتمع القنص، واللصوصية في مجتمع القرصنة. وهي أفضل المجتمعات من حيث إشباع الحاجات الضرورية، والتي لها مكاسب أهل المدينة.٢٢
  • وثانيها: مدينة النذالة: وهي المدينة أو المجتمع الذي يتعاون على نيل الثروة واليسار، والاستكثار من اقتناء الضروريات وما قام مقامهما من الدرهم والدينار، وجمعها فوق الحاجة إليها لا لهدف إلا محبة اليسار، والشح عليها، وعدم الإنفاق إلا الضروري مما به قوام الأبدان. وهي بلغة العصر أقرب إلى وصف مجتمع الوفرة والرفاهية، المجتمع الرأسمالي الغربي أو النفطي العربي. وتأتي الثروة إما عن جميع وجوه المكاسب أو من الوجوه في هذا البلد وحده، بما في ذلك نهب ثروات الآخرين في الخارج وفي الداخل ما دامت الغاية هي الثروة. ومصادر اليسار من الفلاحة والرعاية والصيد واللصوصية مثل المدينة الضرورية، بالإضافة إلى المعاملات الإرادية مثل التجارة والإجارة وغيرها.٢٣
  • وثالثها: المدينة الخسيسة: وهي المدينة التي يتعاون أهلها على التمتع باللذة من المأكول والمشروب والمنكوح. والسعي وراء الألذ ليس طلبًا لما به قوام الأبدان وما ينفعها، بل ما يلذُّ فقط من اللعب والهزل. وهي المدينة السعيدة والمضبوطة عند أهل الجاهلية؛ لأن غرض المدينة يتحقق بعد تحصيل الضرورة واليسار والنفقات الكثيرة، وأفضلهم من نال أسباب اللعب واللذة أكثر. وهو بلغة العصر مجتمع القصور والجنس والقمار والملاهي، مجتمع بعض مشايخ النفط وأُمرائه وحياة الأغنياء الجُدد. وقد لا يكون لفظ الخسيسة أفضل التسميات.٢٤
  • ورابعها: المدينة الكرامية: وهي المدينة التي يتعاون أهلها على أن يصلوا إلى التكريم بالقول والفعل، إما بتكريم أهل المدن لهم أو بتكريم بعضهم البعض. هو مجتمع التقدير والاحترام، أو مجتمع المدح والثناء. وكرامة البعض للبعض إما على التساوي أو على التفاضل. الكرامة بالتساوي هو الفرض المُتبادل لأنواعٍ مُتساوية، أو لنوع له قوة النوع المفروض من الطرف الأول. والكرامة بالتفاضل هو أن يُعطيَ طرف طرفًا كرامة، ويُعطيَ الآخر كرامةً أعظم طبقًا للاستيهالات؛ أي الحاجات والرغبات.٢٥ كما تعني الكرامة المعونات المادية التي تهبُها المجتمعات بعضها إلى بعض، إما على التبادل مثل التبادل التجاري، أو على التفاضل؛ أي الدول الأكثر رعاية، أو في صورة مِنح وهِبات لا ترد، أو في صورة قروض قصيرة الأجل بفوائد كبيرة، أو طويلة الأجل بفوائد صغيرة. أما الكرامة بالمدح بالقول والفعل فإنها لا تؤثر في العلاقات الدولية. الكرامة من الكرم المادي، وليس من التكريم المعنوي. وقد يكون في مُحبي الكرامة من لا يُحبها لذاتها بل لليسار، يريدون إكرام الغير لهم لينالوا اليسار إما منه أو من غيره، يريدون الرياسة ومطاوعة أهل المدينة للحصول على اليسار من أجل اللعب واللذة. ومدينة الكرامة خير المدن الجاهلة، إلا أن الكرامة إذا أفرط فيها صارت مدينة الجلَّادين، وتنقلب إلى مدينة التغلب.٢٦
    ويبدو أن المدينة الكرامية هو الطابع العام لكل المجتمعات نظرًا للعلاقات الدولية والتبادل التجاري والعلمي بين الدول، فلا يوجد مجتمعٌ يستقلُّ بذاته نظرًا لأن التعاون بين الأمم أحد أنواع التجمعات البشرية. وهو مجتمع المعمورة بلغة الفارابي، أو الإنسانية بلغة الفلاسفة، أو التعاون الدولي بلغة العصر. وقد يكون المدح للمجتمعات والنُّظم السياسية مثل الرأسمالية أو الاشتراكية، تساويًا أو تفاضلًا، وكما هو الحال في الغرب المعاصر. وقد يكون المدح للرؤساء بأشخاصهم تساويًا أو تفاضلًا كما هو الحال في المجتمعات الحالية. قد لا يكفي لفظ الكرامة، بل يُضاف إليه لفظ المدح خاصة، وأنه لفظ من علوم الحديث وأصول الدين وأصول الفقه، وله في الثقافة العربية المعاصرة معنًى إيجابي مثل معركة الكرامة.٢٧
  • وخامسها: مدينة التغلب: وتتداخل مع مدينة الكرامة لا من الكرامة للغالب. والفائز في الغلبة مغبوط. وتكون الغلبة بالنفس؛ أي بالقوى الذاتية، وبكثرة الأنصار وقوتهم، وبالاثنين معًا. والغالب لا يناله مكروه، بل هو الذي يُسبب المكروه لغيره. وهذا حال الغبطة والثناء والمديح له. والأكثر غلبةً هو الأكثر فضلًا.
    وآلات الغلبة متعددة، أهمها الحسب والنَّسب من الأسلاف، أن يكون الآباء والأجداد مُوسِرين، أو واتَتهم أسباب اللذة، أو غلبوا من أشياء كثيرة، أو نافعين لغيرهم، لجماعة أو لأهل مدينة، أو يتمتعون بجمال أو جلَد واستهانة بالموت. وهي أقرب إلى صفات الزعامة الطبيعية الوراثية، أو التنظير العقلي لآية وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ. ومن صفات أهل التغلب الجفاء والقسوة وشدة الغضب والبذخ وشدة النهم من التحلِّي بالمأكول والمشروب والمنكوح، والتغالب على جميع الخيرات بالقهر.

    وتقوم مدينة التغلب على التعاون على أن تكون الغلبة لأهلها، فإذا عمَّتهم محبة الغلبة فإنهم قد يتفاوتون فيما بين الأقل والأكثر في عدة نواحٍ، مثل التفاوت في الدم والروح لإزهاقها واستئصالها كما هو الحال في الاستعمار الصهيوني الذي يقوم على استئصال الشعوب، ومثل استعمار الغرب الحديث للنصف الغربي من العالم، الأمريكيتَين، الشمالية والجنوبية، ومثل التفاوت في النفس لاستعبادها كالاستعمار الغربي خاصةً الفرنسي، ومثل التفاوت في المال لانتزاعه مثل النهب الاستعماري خاصةً البريطاني لثروات الأمم.

    والغرض من الكل الغلبة والقهر والإذلال حتى لا يملك المقهور من نفسه شيئًا، ويكون تحت طاعة القاهر، ويتعود المقهور على القهر حتى إنه لا يتصور أن يُعطيَ شيئًا بالمجاملة طوعًا دون القهر. فالقهر إما أن يكون بالمجاملة أو بالمصالبة والمجاهدة؛ أي المقاومة؛ لذلك لا يُقتَل الإنسان نائمًا، ولا يؤخذ ماله حتى ينتبه. الكل يُحب الغلبة. وهو أشبه بتنظير فقه الاجتهاد في تحريم قتل الطفل والمرأة والشيخ والعجز عن المقاومة.

    وأهل التغلب أعداء لكل من سواهم. يسنُّون سننًا للغلبة على غيرهم طبقًا لقانون القاهر. يتنافسون في كثرة الغلبة أو عظمها أو بعدد الغلبة وآلاتها؛ فالغلبة قد تكون في الرأي وجودته على غيره، أو في البدن وصلابة الجلد، أو فيما هو خارج عن البدن مثل السلاح.

    وقد تكون غلبة المدينة لمن ليس من أهلها لحاجتهم إلى الاجتماع، فتنشأ سيطرة مجتمع من الخارج على المجتمع الداخلي. وقد يأتي القهر من بعض أهلها أو من نصفه أو منهم كلهم. وقد لا يقصدون القهر والنكال لذاته، بل لشيءٍ آخر. وقد يغلب واحدٌ غيره من أهل المدينة ويمتنع من سواهم عن المغالبة لحاجة بعضهم إلى بعض. لا يغلبون غيرهم وإن غلبهم غيرهم، النساء والمُستضعفون في الشريعة. وقد يتجاوز المغلوبون الغالبين في مدينةٍ واحدة، سيطرة طبقة على طبقة. هنا تكون الغلبة للطبقة وليس للفرد.٢٨

    وتحصل الغلبة إما للضروريات أو لليسار أو للمجتمع باللذات أو الكرامات؛ فالمدن كلها وسائل للتغلب، والأحرى بالاسم من يريدها جميعًا بالقهر، وتُقصَد مدنٌ أخرى لذلك بالإضافة إلى الغلبة. وقد تحدث الغلبة لثلاثة أسباب؛ الأول الغلبة كيفما كانت وفي أي شيء هي، والإضرار بالغير بلا نفعٍ سوى لذة القهر. وقد تكون الغلبة على أشياء خسيسة مثل ما يُحكى عن بعض الأعراب. والثاني الغلبة لأجل أشياء ممدوحة عالية إذا نالوها لم يستعملوا القهر. والثالث الغلبة والقتل وإيقاع الضرر للنفع فقط من أحد الأشياء الشريفة. فإذا واتَته بلا غلبة إما بوجودٍ كثير أو بمساعدة الغير أو ببذل إنسان آخر له ذلك الشيء طوعًا، لم يُرده، ولم يلتفت إليه، ولم يأخذه منه. وهؤلاء هم كبيرو الهِمم وذوو الآراء الجليلة. وكيف لا يأخذه وقد أتى الناس طائعين، ولديه رغبة في المدح من الناس؟ وأهل المدينة الذين يقتصرون على الضروري متى حصلت لهم الغلبة ربما كالَحوا وجاهدوا على مال أو نفس بحيث ينفُذ حكمهم ودت أن يأخذوا شيئًا؛ فهؤلاء يمدحون لأن غايتهم نبيلة مثل العفو عند المقدرة.

    والمدن المُتغلبة هي مدن الجبَّارين أكثر من مدن الكرامة؛ فقد يعرض لأهل مدن اليسار واللعب والهزل أن يظنُّوا أنهم الأفضل من سائر المدن ظنًّا بأنفسهم، فيعرض لهم صلف وبذخ وافتخار ومحبة للمدح مثل المجتمع الأمريكي الحالي، أو بلغة القرآن من أخدتهم العزة بالإثم، وأن من سواهم لا يهتدون إلى مثل ما اهتدوا إليه. ولأنهم لا يحتاجون إلى هاتين السعادتين، اليسار واللعب، يخترعون لأنفسهم أسماءً يُحسنون بها سيرتهم، مثل «المطبوعون» «والظرفاء»، المجتمع الحر بلغة الغرب الحديث، وغيرهم الجُفاة الأغلاظ، وبلغة العصر المُتخلف الشمولي أو القهري. فيظن أنهم ذوو نخوة وتسلُّط وهمَّة. وإذا كانوا من مُحبي اليسار واللعب، ولم تُحدِث لهم الصناعات التي يكتسبون بها اليسار إلا القوى التي بها الغلبة مثل الخليج النفطي، ويصلون إلى اليسار واللعب بالقهر والغلبة كانت نخوتهم أشد، ودخلوا في جملة الجبَّارين. وهؤلاء هم الحمقى مثل الولايات المتحدة الأمريكية الآن.٢٩ مدينة التغلب إذن أشبه بمجتمع الصراع والبقاء للأصلح والمجتمع الاستعماري الحديث.٣٠

    والسؤال هو: ما هي المادة العلمية التي حلَّلها الفارابي؟ هل هي الدراسات التجريبية على أحوال العرب أم إنها مجرد تأمُّلات شيخ حكيم؟ هل لديه مادةٌ تاريخية مثل ابن خلدون، أو مشاهدات مثل ابن بطوطة، أم هي مجرد افتراضات نظرية؟ هل هي قراءات في كتب التاريخ والسياسة؟ هل هو تنظير لمادةٍ فقهية معروفة؟ هل هو عرضٌ عقلي لقصص الأنبياء وأسباب قيام المجتمعات وسقوطها؟

  • وسادسها: المدنية الجماعية: وهي لا تختلف كثيرًا عن مدينة التغلب في حب أهليهما للكرامة. هي التي كل واحد من أهلها مُطلَق مُخلًّى بنفسه يعمل ما يشاء، أقرب إلى مجتمع الحرية والمساواة. أهلها مُتساوون، وسنتهم تقوم على أنه لا فضل لإنسان على آخر في شيء، ربما تنظيرًا لحديث «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.» أهلها أحرارٌ يعملون ما يشاءون، ليس لأحد منهم على غيره سلطان، بل يعلمون لزيادة حريتهم. لهم أخلاقهم، وشهواتٌ كثيرة، والتذاذ بأشياء لا تُحصى. يتكوَّنون من طوائف كثيرة مثل المجتمع التعددي بلغة العصر. يجتمع في المدينة الخسيس والشريف. وهو وصفٌ أشبه بالمجتمع الليبرالي الحديث بما فيه من نزعاتٍ فوضوية ووجودية.
    وهي مدينةٌ عجيبة، مدينةٌ سعيدة، مدينةٌ مُثلى مُزركَشة لإشباع الشهوات، فيهرع الأمن لها كما هو الحال في أحياء اللهو في العواصم الكبرى. تعظُم وتكبُر، ويتوالد فيها الناس، ويختلط الزواج والنكاح، ويُولَد أولادٌ مُختلفو الفِطر والتربية، فيحدث اختلاط الأجناس والطوائف، لا فرق بين غريب وقاطن. تجتمع فيها الأهواء والسير كما يُقال في المجتمع المُتعدد الجنسيات الذي أصبح كقِدر الانصهار.٣١ وبتمادي الزمان قد ينشأ فيها الأفضل، فيتَّفق وجود الحكماء والخطباء والشعراء؛ وبالتالي تقترب من المدينة الفاضلة، فالطرفان يلتقيان. والفضل في الحرية والطبيعة كما هو فضل في العقل والقيمة؛ ولذلك صارت أكثر المدن شرًّا وخيرًا معًا. ويقلُّ التصنيف الحاد بين المدن وأسسها المُطلَق بين الخير المُطلَق والشر المُطلَق. وكلما صارت أكبر وأعم وأكثر أهلًا وأرحب وأكمل صارت أعظم. وتقترب من الدولة المعاصرة المُستنيرة، الدولة الحديثة، مثل دمشق وبغداد قديمًا عاصمتَي الخلافة، وحلب عاصمة دولة بني حمدان.٣٢

(ب) المدينة الفاسقة

وهي المدينة التي عرفت السعادة، وتصوَّرت المبادئ واعتنقتها، وأرشدت إلى الأفعال التي بها تُنال السعادة، إلا أن أهلها لم يتمسكوا بها في الأفعال، ومالوا بهواهم وإرادتهم نحو أغراض الجاهلية، ضرورية أو نذالة أو خساسة أو كرامة أو غلبة أو جماعية؛ فأقسام المدينة الفاسقة هي نفسها أقسام المدينة الجاهلية.

ويُشير الفارابي إلى المُضطرين المقهورين أهل المدينة الفاضلة على أفعال الجاهلية، ويتحولون إلى فاسقةٍ دون تحديد لمصادر القهر وأسبابه، ودون تحديد هل هم جزء من المدينة الفاضلة أو الجاهلية أو نوابت المدينة الفاضلة.٣٣
وأفعال المدينة الفاسقة هي البيئات النفسانية التي اكتسبوها من آراء أسلافهم، تُخلص أنفسهم من المادة والهيئات النفسانية الرديئة التي اكتسبوها من الأفعال الرديئة، تقترن إلى الأولى فتُكررها وتُضادها، فيلحق النفس من هذه المضادة أذًى عظيم؛ فالمعرفة الصحيحة تأتي من السلف، والأفعال الرديئة من الخلف؛ تنظيرًا لآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، والذي تحوَّل إلى مثلٍ شعبي «بئس الخلف لخير سلف.»٣٤ ويذكر الفارابي الله عز وجل صراحةً؛ مما يدل على ارتباط فكره الاجتماعي بالفكر الديني دون أن يبلغ التنظير العقلي مداه. والسؤال هو: هل تُشير المدينة الفاسقة بلغة العصر إلى المعسكر الرأسمالي الذي يدَّعي أنه العالم الحر وهو يقهر الشعوب المنهوبة، الصريح نظريًّا، المُنافق عمليًّا؟

(ﺟ) المدينة المبدَّلة

وهي المدينة التي كانت آراؤها وأفعالها فاضلة ثم تبدَّلت واستحالت إلى نقائضها. ومن بدل عليهم آراءهم وأفعالهم شقي وحده، ويهلك الآخرون مثل أهل الجاهلية، ويهلك كل من بدَّل السعادة بسهو أو غلط. الغاوي عليه غوايته فيكون من الأشقياء، أما المُقلدون له فإنهم يهلكون، سواء كان ذلك عن قصد وإرادة أو عن سهو وغلط. فهل يقصد الفارابي الثورة المضادة بلغة العصر؟ وهل يكون التبديل بفعلٍ خارجي وليس بفعلٍ داخلي، بفعل فاعل وليس من تلقاء النفس؟ وهل هناك من يُبدل آراءه وأفعاله سهوًا وغلطًا؟ وهل يتساوى مع الذي ينقلب على عقبَيه عن قصد وإرادة، خاصةً وأن الأعمال بالنيات؟ واضحٌ أن مضادَّات المدينة الفاضلة كلها تقوم على التقليد، يُفسد بعضها بعضًا. كما أن الفارابي يجعلها مدينةً واحدةً مفردة، وليست جمعًا تنقسم إلى مدنٍ جزئية فرعية. هل هي تنظير لآياتٍ قرآنية عن وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ، ومن يتحول من الإيمان إلى الكفر والمخلَّفين من الأعراب والمُنافقين؟٣٥

(د) المدينة الضالة

وهي التي وقعت في الضلال النظري والخطأ في التصورات إيهامًا، ولم تصل إلى السعادة. ويقوم الضلال العملي على الضلال النظري. قد يكون الضلال من النفس، الظن في الله والثواني والعقل الفعَّال، آراء فاسدة وتخيُّلات وتمثيلات، أو من الخارج بأن يُحكى لها من رئيسها أنه يُوحى إليه وهو ليس كذلك، أو أن يكذب عليهم. وهي عدة مدن فرعية دون ذكرها. والسؤال هو: ما هي هذه المدن؟ هل هم النصارى في التفسير المشهورة لآية الفاتحة وَلَا الضَّالِّينَ، في مُقابل الفاضلة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، المعسكر الاشتراكي بلغة العصر؟٣٦

(٣) آراء أهل المدن الجاهلة والضالة

ويجعل الفارابي آراء أهل المدن الجاهلة والضالة معًا في قسمٍ واحد، وكأن الخلاف بينهما في الدرجة وليس في النوع. وتتأسَّس المدن الجاهلة والضالة متى كانت الملة مبنية على بعض الآراء القديمة الفاسدة. تفسد المدن إذن بفساد الملة، وتفسد الملة بفساد الآراء فيها. وسبب الفساد هو الرأي الخاطئ الذي يدخل على الملة فتفسد المدينة؛ لأن الملة عماد المدينة، والدين أساس المجتمع. ومن ضِمن هذه الآراء الفاسدة آراء المدن الجاهلة والضالة.

(أ) الصراع والتآلف

والصراع بين الأحفاد من ضِمنها، ويُسميه الفارابي الرأي السبعي من السَّبُع، وهو المذهب الذي يعتمد على القوة والصراع بين الأضداد على كل المستويات الطبيعية والإنسانية.٣٧ ويقوم الصراع بين الأضداد على مبادئ ثلاثة؛ الأول الموجودات مُتضادة، كلٌّ منها يُبطل الآخر، إذا وُجد أحدهما عُدم الآخر. الدفاع عن الذات يتطلب الهجوم على الآخر، والدفاع عن الآخر يتطلب الهجوم على الذات. يقوم الوجود على التضاد العام الذي لا جمع فيه بين الشيء ونقيضه.٣٨ التضاد والتعارض والتناقض مقياس الكمال، وهو أقرب إلى الصراع من أجل البقاء؛ لأنه يقوم على إبقاء الأنفع وإسقاط الأقل نفعًا، وإلا كان الصراع مجرد عبث لا يحكمه قانون.٣٩ يتحكم القوى في الضعيف ويستولى عليه. الموجودات تتغالب وتتهارب، والأقهر هو الأتم وجودًا، والغالب إما أن يُبطل بعضه لأنه في طباعه؛ أي إن وجود ذلك الشيء نقص ومضرَّة في وجوده، أو أن يستخدم بعضًا يستعبده لأن الأشياء على غير نظام وترتيب وُجدت لأجله.٤٠ والثاني الموجودات مُتضادة ليس فقط على مستوى الطبيعة، بل أيضًا على مستوى الإنسان، الإرادة والاختيار والرؤية. فالمدن مُتغالبة مُتهارجة، لا مراتب فيها ولا نظام ولا استئهال يختصُّ به أحدٌ دون أحد لكرامة أو فضل، بل يطلب كل إنسان الخير بمغالبة غيره، والأقهر هو الأسعد. والثالث الموجودات مُتضادة دون تجانب ولا ارتباط، لا بالطبع ولا بالإرادة. ويستمر التنافر والتناقض دون رباط إلا عند الحاجة، فيكون أحدها قاهرًا والآخر مقهورًا؛ فالحاجة أساس الاجتماع والتآلف والارتباط. وهذا هو الرأي السبعي من آراء الإنسانية.٤١
والتآلف والانسجام والترابط لأن المُتوحد، وعلى عكس ابن باجه، لا يمكن أن يقوم بكل ما يحتاج إليه البدن دون مُعاونيه.٤٢ ومن هنا كانت ضرورة الإجماع بطريقَين؛ الأول القهر والاستعباد لقوم لقهر قوم آخرين. والمؤازِر للقاهر ليس مُساويًا له، بل هو مقهور فيه، والأقوى بدنًا وسلاحًا هو الذي يكون قاهرًا، والأضعف هو الذي يكون مقهورًا يستعمله القاهر لقهر آخرين. القهر كالفيض أيضًا على مراتب. وهكذا تنشأ العصبة أو المؤازرة كالآلات للاستعمال حسب الهوى. والثاني الخلاف في كيفية الارتباط والاتحاد والائتلاف والتَّحاب؛ أي قبول المبدأ ثم الاختلاف في التطبيق. ويُحلل الفارابي آليات الترابط الجزئي بين الجماعات الجزئية بين نفرَين من الناس.٤٣ وكلها نظريات في الترابط الاجتماعي كما هو الحال في علم الاجتماع الحديث. والسؤال هو: كيف يكون التآلف والانسجام والترابط ضِمن آراء المدن الجاهلة والضالة؟ يبدو أن المقصود ليس التعاون والترابط، بل وسائله مثل القهر والاستعباد، وفي كيفياته؛ أي موضوعاته مثل التناسل والتعاهد والرياسة واللغة والاجتماع. والتآلف نقيض الصراع. التآلف صراعٌ سلبي، والصراع تآلفٌ إيجابي.

(ب) العدل والخشوع

العدل أساس الغلبة وحيلة الضعيف. فإذا تميَّزت الطوائف بإحدى الارتباطات السابقة، قبيلة عن قبيلة، أو مدينة عن مدينة، أو أحلاف عن أحلاف، أو أمة عن أمة، مثل تميُّز فرد عن آخر، فإنهم يتغالبون ويتهارجون على السلامة والكرامة واليسار واللذات، كل طائفة تودُّ الهيمنة على الأخرى وقهرها، والقاهر هو الفائز السعيد. وهو سلوك في الطبع، طبع كل إنسان وطائفة. ويكون معنى العدل في هذه الحالة التغالب والقهر، ويكون المقهور إما في سلامة بدنه أو هلاك وجوده وتلفه من أجل انفراد القاهر بالوجود، أو يكون القهر على كراهية منه، ويبقى ذليلًا مُستعبَدًا من القاهر خادمًا له. وبلغة العصر مثل حالتَي الاستئصال الصهيوني الأمريكي للشعوب الأصلية، أو الاستعمار الغربي الذي يُحول الشعوب إلى خدمٍ أذلَّاء له، وكما فعل تُجار الرقيق الأوروبي في استرقاق الشعوب الأفريقية نحو القارة الجديدة. استعباد القاهر للمقهور عدلٌ مبني على غلبة القوي، وخدمة المقهور للقاهر عدل بمعنى إذلال الضعيف. هذا هو العدل الطبيعي؛ أي الفضيلة. وكلما زاد القهر زاد العدل في الكرامة أو في المال.٤٤
والعدل أيضًا حيلة الضعيف، العدل في البيع والشراء وردِّ الودائع، وعدم الغضب والجوار خوفًا وإحساسًا بالضعف أمام الضرورة الواحدة من الخارج. فالاثنان، فردان أو طائفتان، عندما يتساويان في القوة، يتداولان القهر مدةً، ويذوق كلٌّ منهما الأمرين، القاهر والمقهور، ويصيران إلى حالين غير محتملين، فيجتمعان ويتناصفان ويصطلحان ويتساويان ويعدلان، فتحدث الشروط الموضوعية في البيع والشراء ضعفًا وخوفًا. وما دامت القوتان مُتساويتَين فالمشاركة والتناصف، ومتى قوي أحدهما على الآخر نقض الشروط ودام القهر، وإذا وفد من الخارج خطر قد لا يكون هناك سبيل إلى دفعه إلا بالمشاركة وترك التغالب فيقع التعاون. وكلما طالت المدة حسب الناس أن العدل قد استتبَّ مع أنه خوف وضعف. وبلغة العصر تلك كانت الحجة بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ لعقد الصلح بين العرب وإسرائيل، لا غالب ولا مغلوب، أو بين فلسطين وإسرائيل، سلام الشُّجعان. وهو حال الشركات المُتساوية في القوة في المجتمع الرأسمالي في التوحيد بينهما بدلًا من التنافس المدمِّر لكليهما.٤٥

والسؤال الآن: هل القهر كعدلٍ طبيعي حكمةٌ أم دين أم واقع؟ هل التجمعات الإنسانية مثل التجمع الحيواني وقانون الغاب؟ ألهذا الحد يصل تعريف العدل والفضيلة والسعادة واعتبار ذلك حكم الطبيعة؟ هل الطبيعة شر إلى هذا الحد؟ أليس هذا تبريرًا للظلم والقهر باعتبارهما فضائل طبيعية؟ ولماذا يكون ذلك من نصيب المدن الجاهلة الضالة مع أن الطبيعية أيضًا خيِّرة، ومنها تبدأ المدينة الفاضلة؟

أما الخشوع فهو «أفيون الشعب» وخِداع البسطاء. الخشوع أن يُقال إن إلهًا يُدبِّر العالم، وإن الروحانيين مدبِّرون كل الأفعال، واستعمال تعظيم الله والصلوات والتسابيح والتقاديس، وإن الإنسان إذا فعل ذلك عُوِّض عن خيرات الدنيا، وكُوفئ بخيراتٍ عظيمة بعد الموت، وإن غرَف من نعيم الدنيا حُرم في الآخرة منها، وعُوقب بعد موته بشرورٍ عظيمة. وهي كلها من أبواب الحِيَل والمكايد من قوم على قومٍ يعجزون عن المغالبة على خيرات الدنيا بالمصاهلة والمجاهرة والمكايدة، وتخويف الناس بترك خيرات الدنيا ليفوز بها الآخرون. فمن يعجز عن الغلبة يُظنُّ أنه غير حريص عليها، ويُظنُّ به الخير فيُركَن إليه، وتُوصَف سيرته بأنها إلهية، ويقبح زيُّه وصورته كمن لا يريد خيرات الدنيا لنفسه، فيُكرَم ويُعظَّم ويؤمل خيرات أعظم. تنقاد النفوس له وتُحبه، ولا تُنكر عليه ارتكاب شيء يحسن عند الجميع قبيح ما يعمله، فيصير قادرًا على غلبة الجميع على الكرامات والرياسات والأموال واللذات.

وكما أن صيد الوحوش يقوم على المغالبة والمجاهرة والمخاتلة والمكايدة، كذلك الغلبة على الخيرات تكون بالمطالبة والمجاهدة. الإنسان يُظهر غير ما يُبطن في طلبه، يُوهم بالمظاهر مع أنه يقصد شيئًا آخر، وينال بسهولةٍ ما يريد عن طريق التخفِّي. والمُتمسك بالشعائر إنما يهدف إلى نيل هدف آخر، يفوز بإحدى الخيرات أو يجمعها ويكون عند الناس مغبوطًا، ويظل مُكرَمًا ممدوحًا عندهم. أما إذا فعل ذلك لذاته لا من أجل الخيرات، كان عند الناس مخدوعًا مغرورًا شقيًّا أحمق عديم العقل، جاهلًا بحظ نفسه، مهانًا عاجزًا مذمومًا. قد يمدحه الناس هزؤًا وسخرية به. والبعض يُقويه في نفسه، ويدعوه إلى عدم المزاحمة في الخيرات، بل يتركها ليأخذها هو أو غيره. والبعض يمدح طريقته ومذهبه خشية أن يأخذ ما عندهم ويسلبهم ما لديهم. وقومٌ آخر يمدحونه لأنهم مغرورون مثله.٤٦

يبدو أن الفارابي يصف استغلال الدين الذي يُطلَق عليه الخشوع؛ أي الدين القلبي الباطني، الزهد في الدنيا والترفُّع عن حاجات الجسد كما هو الحال في التصوف، تعويضًا عن العجز، والأمل في الآخرة تعويضًا عن سلب الدنيا. هو تواضع الصوفي والولي الظاهري، زهده في القليل لنيل خير أعظم في الدنيا والآخرة عند الناس وعند الله، على عكس المُتكالب على الدنيا الذي يخسر الناس في الدنيا بنفورهم منه، ولن ينال جزاءً في الآخرة على حسن أفعاله في الدنيا. يبدو أن الفارابي، الفيلسوف الإشراقي، هو أول من هاجَم نفاق الصوفية باسم الخشوع والإيمان والزهد الذي يدل على طمعٍ مُقنَّع، مع أنه من المعروف ارتباط الفلسفة بالتصوف كما هو الحال في حكمة الإشراق. ومن المعروف نقد الفلسفة للكلام منذ الكِندي حتى ابن رشد الذي هو أيضًا فيه، في نظرية الاتصال بالعقل الفعَّال.

(ﺟ) الآراء والأفعال

وللمدن الجاهلة والضالة آراءٌ وأفعالٌ خمس؛ الأولى الغلبة في الحرب والسِّلم. فالمدن الجاهلة تقوم كلها فيما يبدو على الجماعية؛ أي على النوع الآخر منها في قسمتها السداسية؛ فهي ذات هِمم كبيرة، هِمم جميع المدن الخمس السابقة بالمغالبة والمدافعة التي تضطرُّ إليها المدن المُسالمة، إما أن تكون في جماعتهم أو في طائفة بعينها، فيصبح أهل المدينة طائفتَين؛ واحدة فيها القوة على الغلبة والمدافعة، والأخرى ليس فيها شيء منها. وعلى هذا النحو تستديم الخيرات الثانية سليمة النفوس.
  • الأولى: رديئة لأنها ترى المغالبة وسيلة الخير، مجاهرة أو مخاتلة. فمن قدر على المجاهرة فعل، ومن قدر بالغش والدجل والمراءاة والتمويه والمغالطة فعل.
  • والثانية: الاعتقاد بأن هناك سعادة وكمالًا يصل إليهما الإنسان بعد موته، وأن غرض الأفعال الفاضلة في الدنيا نيل السعادة بعد الموت. وبعد النظر في الموجودات الطبيعية كان لا بد من إبطال الوجود الطبيعي ليحدث الكمال؛ لأن الموجودات الطبيعية عائق عن الكمال. وهذا هو الموقف الصوفي الذي يعتبره الفارابي من المدينة الجاهلة، مع أنه لا همَّ له إلا إثباته عن طريق تخليص النفس من شوائب البدن.
  • والثالثة: حصول الموجودات مختلطة بأشياء أخرى أفسدتها وعاقَتها عن أفعالها، وجعلت كثيرًا منها على غير صورتها، حتى ظنَّ أن الإنسان غير إنسان، وأن فعله ليس فعله، حتى صار الإنسان يفعل ما لا يفعل، ولا يفعل ما يفعل، ويُصدق أشياء غير قابلة للتصديق، ويرى أشياء كثيرة مُحالة وهي مُمكنة. يبطل هذا الوجود الشاهد ليحصل وجودٌ آخر غير مرئي. ولما كان وجود الإنسان وجودًا طبيعيًّا فإن وجوده الآن ليس له، بل هو مضادٌّ لوجوده وعائق عليه. وهو وصف الاغتراب الديني الناشئ عن التصوف وتدمير العالم، وهو الموقف الذي يرى اقتران النفس بالبدن ليس طبيعيًّا، وأن الإنسان هو النفس، واقتران البدن مُفسد لها مُغير لأفعالها، وتصور الرذائل عنها لمقارنتها للبدن، وأن كمالها في التخلص منه، وأنها في سعادتها لا تحتاج إلى بدن أو الأشياء الخارجة، مثل الأموال والمُجاورين والأصدقاء وأهل المدينة، وأن البدن هو الذي يُحوج إلى الصناعات المدنية؛ لذلك ينبغي طرح الوجود البدني. التصوف إذن فكرةٌ جاهلة ضالة، مع أن الفلسفة الإشراقية تؤسِّس الفلسفة على التصوف.٤٧
  • والرابعة: البدن طبيعي، وعوارض النفس غير طبيعية. والفضيلة التامة التي بها تُنال السعادة هي إبطال العوارض وإماتتها على نحوَين؛ الأول إماتة جميع العوارض مثل الغضب والشهوة لأنها السبب، حتى إيثار خيرات مظنونة كالكرامة واليسار واللذات والغلبة والتباين والتنافر، أو في الشهوة والغضب وما جانَسهما، وأن الفضيلة والكمال في إبطالهما. والثاني إماتة عوارض أخرى، مثل الغيرة والشح وأشباهها. لذلك رأى قومٌ أن الوجود الطبيعي ليس هو الوجود الذي لنا الآن. والسبب الذي جعل الشهوة والغضب وعوارض النفس مضادَّة للجزء الناطق قد يكون تضادَّ الفاعلين أو تضادَّ المواد، وغير ذلك مما أفاض فيه الطبائعيون القدماء، كما قيل «مُت بالإرادة تحيَ بالطبيعة.» فالموت موتتان؛ موت طبيعي وموت إرادي. والإرادي هو إبطال عوارض النفس من الشهوة والغضب، والطبيعي مفارقة النفس للبدن. والحياة الطبيعية هي الكمال والسعادة؛ لذلك قامت عوارض النفس من الشهوة والغضب قسرًا في الإنسان، وهي آراءٌ فاسدة من القدماء تنتمي إلى المدن الضالة.
  • والخامسة: لما كانت الموجودات الطبيعية المحسوسة والمعقولة مختلفةً مُتضادة، توجد حينًا ولا توجد حينًا آخر، كانت دون جواهر محدودة، ولا لشيء منها طبيعة تخصُّه تكون جوهره. لكل واحد منها جوهرٌ غير مُتناهٍ مثل الإنسان. وهو مفهومٌ غير محدَّد الجوهر، ولكن تُفهَم منه أشياء لا مُتناهية. ويجوز أن يكون شيئًا آخر غير المحسوس والمعقول منه، وكل شيء ليس موجودًا؛ لأن جوهره ليس المعقول منه لفظه فقط، بل هذا وشيءٌ آخر لم نعقله أو نُحسه. ولو كان مكان الشيء الموجود لأحسسناه وعقلناه. ليس المعقول من كل لفظ أشياء غير مُتناهية فقط، بل قد تكون أشياء لم نعقلها بعد. والوجود هو ما لم يلزم منه مُحال، ولا يجوز أن يكون غيره لا نُحسه ولا نعقله، أو محسوسًا معقولًا بلا نهاية. فكل لازم من شيء ليس كذلك؛ لأن جوهره ذلك الشيء، لا لأنه جوهر ذلك الشيء، بل لأنه هكذا اتفق أولًا بفاعل من الخارج جعله كذلك؛ وبالتالي كان يمكن للازم أن يكون غير ما نعقله أو نُحسه منه الآن.
وتقترب هذه المثالية المُطلَقة من الشك؛ فكل ما يمكن عقله من شيء يمكن أن يكون ضده أو نقيضه هو الحق، أو التوهم بأنه الحق والصدق هو ما نعقله الآن. المعقول من اللفظ أغنى بكثير منه، بل من المفهوم منه؛ فاسم الإنسان يُقال باشتراك الاسم. قد توجد المعاني وقد تتضاد وتتقابل إلى ما لا نهاية. وليس في الكون مُحال أصلًا؛ فطبيعة شيء في الماضي قد تكون على خلاف ما هي عليه اليوم على مستوى الفهم والعقل. وعلى هذا النحو تبطل الحكمة، ويكون ما يرتسم في النفس أشياء مُحالة، ويصبح كل شيء ممكنًا بلا نهاية، وتختفي التفرقة بين الممكن والواجب والمستحيل. وإذا كان لكل شيء نقيضٌ فقد تتكافأ الأدلة وتستحيل المعرفة، ويصعب إصدار الحكم. يُدخل الفارابي عنصر التطور والزمان دون أن يُحدد بوضوحٍ مكانه في الشيء أم في معناه أم في ألفاظه. وإذا كان في اللفظ فهي حجةٌ لغوية لبيان حدود المعرفة؛ ومن ثَم يرفض الفارابي هذه المثالية المُطلَقة التي تجعل العالم كلياتٍ لا مُتناهية تتجاوز الموجودات الحسية، وتُدمر الوجود باسم العشوائية الداخلية أو الفاعل الخارجي، وتقضي على اللغة، صلة اللفظ بالمعنى، وعلى المنطق، تطابق المفهوم والماصدق والحقائق الرياضية، من أجل إفساح المجال للكليات المُتناهية. وتنتهي «الآراء» بطريقةٍ غير طبيعية دون حمدلة أو بسملة، ولا بيان لغرض الرسالة، ولا أنها إجابة على السؤال في موضوع، تجريد عقلي خالص ودرجة عالية من التنظير.٤٨

(د) وسائل حفظ الثروة

ثم ينتقل الفارابي من الأخلاق إلى الاجتماع إلى السياسة إلى الاقتصاد. وينقض طرق حفظ الثروة في المدن الجاهلة واستدامتها وتنميتها وزيادتها، وإلا نفِدت وضاعت؛ أي التنمية المستدامة بلغة العصر. وأهم هذه الطُّرق ست؛ الأولى المغالبة المسخرة للآخرين. كلما غلبوا طائفةً ساروا إلى الأخرى؛ أي النهب الاستعماري المستمر. والثانية تدبير ما عندهم بالبيع والشراء والتعاوض وغير ذلك بالغلبة من غيرهم، مثل قوانين التجارة العالمية المفروضة على الشعوب والشركات المُتعددة الجنسيات، ورأس المال الدولي والأسواق المفتوحة في عصر العولمة. والثالثة الزيادة بالوجهَين معًا، بالغلبة والاستثمار بالنهب الاستعماري المباشر للذوات، أو باستغلالها عن طريق الشركات الأجنبية ورأس المال الخارجي. والرابعة قسمة الطائفة قسمتَين؛ الأولى للغلبة، والثانية بالمعاملات الإرادية؛ أي سياسة العصا والجزرة، الترهيب والترغيب. ويدخل في ذلك استغلال الذكور للإناث، والتجارة بالجنس، تجارة الرقيق الأبيض، كما هو الحال في استغلال النساء والأطفال في دول جنوب شرق آسيا وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية. والخامسة المعاملة لقوم، والغلبة لقومٍ آخرين، فيتولَّون أمور الطائفة الأولى، مثل قهر البيض للملونين الآسيويين، ثم قيام الملونين بقهر الأفارقة في جنوب أفريقيا إبَّان النظام العنصري، ومثل استعمال الاستعمار الأجانب المُتمصرين الأروام والأرمن والنصارى أدوات قهر للمسلمين إبَّان الاستعمار البريطاني لمصر. والسادسة التغالب بين الأنواع المختلفة. أما الداخلة تحت نوع واحد فالنوع رابطها، والدافع إلى التسالم مثل الإنسية للناس، ثم يُغالبون غيرهم للانتفاع وترك ما لا ينتفع. الضار يُغلَب، وغير الضار يُترَك. والخيرات من نفس النوع بالمعاملات الإرادية، ومن نوعٍ آخر بالغلبة. وكل طائفة بها قوتان؛ قوة تُغالب وتُدافع، وقوة تُعامل بها. الأولى اضطرار لمواجهة خطر خارجي، والثانية إرادة للعمل الداخلي. الأولى للحرب، والثانية للسلم.٤٩

(٤) تدبير المُتوحد

ويجمع ابن باجه في «تدبير المُتوحد» بين النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة، بين الحكمة النظرية والحكمة العملية، بين الفرد والمجتمع. والقصد من التحليل النظري هو العمل. وبالرغم من جمال العنوان الذي يكشف عن موضوعه إلا أنه يغلب عليه التوحيد أكثر من التدبير، مثل رسالته الأخرى في العلم المدني في أنواع المدن في التدبير. والموضوع أقرب إلى الجزء الأول من «آراء أهل المدينة الفاضلة»، الفيض في العالم والنفس، منها إلى الجزء الثاني في المجتمع والسياسة. الأولوية للتوحيد على المدينة؛ فالفرد سابق على المجتمع، خاصةً لو كان مجتمعًا غير كامل؛ فالتوحُّد برتبته الجسمانية والروحانية ليس جزءًا من المدينة وغايتها، ولا هو فاعلها وحافظها. وبالرتبة الثالثة قد لا يكون جزءًا من المدينة، بل يكون غايتها. إذًا لا يمكن أن يكون حافظها وفاعلها وهو مُتوحد. البداية بتحليل المجتمعات مباشرةً باستثناء فقرة عن تدبير الله للعالم في معاني التدبير قبل الاتجاه نحو الإشراقيات واتصال الفرد بالصور الروحانية.

ومع ذلك يبدو بعض التفكك في العمل؛ مما يضطر ابن باجه إلى الربط الاصطناعي، التذكير بما فات، والإعلان عما هو آتٍ، والإحالة إلى علومٍ أخرى أو إلى مواقع أخرى؛٥٠ لذلك كان رديء التأليف بالرغم من جمال العنوان، به موضوعاتٌ مُتفرقة مُتقطعة مثل الكِندي. يترك الموضوع بعد بدايته، وكما هو الحال في «رسالة الوداع»؛ البداية بالرياسة ثم تركها إلى اللذة، ثم الحديث عن التناسب والنسبة، زيد للدار، والدار لزيد، والرسول للعمامة، والعمامة للرسول.٥١

(أ) معنى التدبير

يدل لفظ «التدبير» في تدبير المُتوحد على معانٍ نفسية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، بل وكونية. الأخلاق تدبير النفس، والسياسة تدبير المجتمع. الأول موضوع علم الأخلاق، والثاني موضوع العلم المدني. بل يتَّسع المفهوم ليشمل البدن والكون؛ فالنفس مدبِّرة للبدن، كما أن الله مدبِّر للعالم. وتقوم كل هذه المعاني على تصور الرئيس والمرءوس، المخدوم والخادم، السيد والعبد. الثاني موجود للأول، والأول موجود للثاني، في دورةٍ مستمرة بين السيد والعبد. يبدأ التدبير بالبدن ثم إلى الإنسان ثم إلى المدينة ثم إلى الكون، مدينة الله، ثم تتم العودة إلى المدينة وإلى الإنسان من جديد في دورة على التبادل من البدن إلى الكون، ومن الكون إلى البدن؛ من الفرد إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى الفرد؛ من الإنسان إلى الله، ومن الله إلى الإنسان.٥٢
لذلك أخذ معنى التدبير ثلاثة مستويات؛
  • الأول: نظام الكون. فالله مدبِّر العالم، والتدبير لا يقتصر فقط على تدبير الإنسان لبدنه ونفسه ومدينته، بل أيضًا يمتدُّ إلى العالم؛ فالبنية واحدة، والمفاهيم المستعملة واحدة مثل القوة والفعل. فإذا كان الترتيب بالقوة فإنه يكون بالفكر؛ فالفكرة قوة؛ ومن ثَم فالتدبير للإنسان وحده لأنه صاحب فكر.٥٣ وتدبير الله للعالم بالمعنى المجازي وليس بالمعنى المُطلَق؛ ففي التدبير يظهر الشرف والكمال والتصور الهرمي للعالم، بداية الإنشائيات في الخطاب والاغتراب في الموقف؛ فهو من الأسماء المُشككة أو المشتركة. التشكك اشتراك، والاشتراك تشكُّك. التشكيك من الجمهور، والاشتراك من الفلاسفة. وهذا يفرض سؤال: هل الإلهيات سياسياتٌ مقلوبة إلى أعلى أم إن السياسيات إلهياتٌ مقلوبة إلى أسفل؟ هل الله مدبِّر على الحقيقة والإنسان كذلك بالمجاز أم إن الإنسان مدبِّر بالحقيقة والله كذلك بالمجاز؟ وهو ما يُسمى التقديم والتأخير في القول، أيهما أولى بالتقديم؛ أي حقيقة، وأيهما أولى بالتأخير؛ أي مجازًا؟ وفي كلتا الحالتين يضيع العلم المدني من أجل نظرية الاتصال، ويضيع التدبير الإنساني لصالح التدبير الإلهي، وتنتهي السياسة لصالح التصوف. هناك إذن علَّتان للاغتراب؛ مراتب الشرف والكمال في المدينة والطبقات من ناحية، والتوحيد والاتصال والفيض من ناحيةٍ أخرى.
  • والثاني: تدبير الأفعال وليس الأقوال أو الآراء، وبالجمع وليس بالمفرد؛ فالتدبير به عموم وخصوص. الخصوص تدبير البدن، والعموم تدبير كل أفعال الإنسان في المنزل والمدينة. وتدبير الحرب يشمل العموم والخصوص؛ لأنه التدبير الشامل. وتدبير المنزل بتعقيب؛ أي بالمعنى الخاص وليس بالمعنى العام. وكما يُطلَق التدبير على الإنسان والله، فإنه يُطلَق على الإنسان والحيوان. وكلاهما إسقاط إلى أعلى مرةً وإلى أسفل مرةً أخرى، من تدبير الإنسان لبدنه ونفسه ومجتمعه؛ أي التدبير الداخلي والتدبير الخارجي. التدبير حكم قيمة بصواب وخطأ، عكس التدبير المجازي، الله والعالم، فليس به إلا صواب. وتعني السياسة التدبير؛ فاللص يبذل جسمه لجسمه، إيثار حالة جسمانية على أخرى؛ فمقصد اللصوص السياسة لإقامة الجسم.٥٤
  • والثالث: الغاية والهدف؛ فالتدبير لا يكون إلا قصدًا، والقصد لا يكون إلا بالإرادة والاختيار. والأفعال الإنسانية أفعالٌ اختيارية، وهي المِهن والحِرف والصنائع، وهي على مراتب ثلاث طبقًا لدرجة الاختيار؛ الإنسان مع الإنسان، والإنسان مع الطبيعة، والإنسان مع نفسه؛ من الاختيار المحدود، إلى الاختيار النِّسبي، إلى الاختيار المُطلَق. الأول الاختيار المحدود، ما يبدؤه الإنسان مثل الإيلاء، ثم بعد ذلك ليس له فيه اختيار. والثاني الاختيار النِّسبي، وهو الاختيار الجزئي لاشتراك قوة أخرى غير ناطقة معه، مثل الملاحة والفلاحة. والثالث الاختيار المُطلَق، كل جزء فيه باختيار، مثل الحياكة والسكافة.٥٥
ويتأسَّس العلم المدني على الصدق اليقيني وليس المتوهَّم كما هو الحال عند الصوفية؛ فالتصوف لا يمكن أن يكون أساسًا نظريًّا للعلم المدني؛ لأنه ظنِّي وليس يقينيًّا؛ لذلك تقوم صنائع المُشعبذين على صورٍ روحانية كاذبة، إما بالحس أو لفساد الجوهر لما تطاول زمان عدمه. ومن الصور الروحانية الكاذبة يكون الرياء والمكر. يظنُّها الناس الحكمة، ويظنُّون أن من خواص مدنها التعقُّل. ليس المقصود إحصاء كل أصناف التدبير، بل التدبير الصادق فقط لأنه أفضل، وهو السبيل إلى نيل السعادة الأبدية. وهنا يكون السؤال: هل التدبير وسيلة لنيل السعادة أم إن السعادة وسيلة للتدبير؟ هل التوحيد وسيلة للتدبير أم إن التدبير وسيلة للتوحيد؟ هل الإنسان الكامل يؤدي إلى المدينة الفاضلة أم إن المدينة الفاضلة تؤدي إلى الإنسان الكامل؟٥٦

(ب) أنواع البشر والتجمعات

وأنواع البشر مقدمة لأنواع المدن؛ فالطبيعة إما بالذات أو بالعرَض. والطبيعة بالذات إما الإنسانية العامة أو الإنسانية المشتركة مثل حب الآباء للأولاد، والطبيعة بالعرَض ضرورية مثل شرف الآباء. فالعالم صور؛ صورة الأب والأم والولد والله. التنوع في الصور الذهنية قبل أن يكون في الواقع الاجتماعي.٥٧

والناس نوعان؛ الأول خسيس يُراعي صورته الجسمية فقط، والثاني رفيعٌ شريف يُراعي صورته الروحانية فقط. ويمكن تلف الصورة الجسمانية من أجل الإبقاء على الروحانية مثل الشهادة، ويمكن عدم الاحتفال بالجسمانية دون إتلافها، مثل حاتم الطائي والصوفية والفلاسفة.

وأنواع الناس ثلاثة طبقًا لدرجاتهم في المعرفة؛ الأول الجمهور، وهي المرتبة الطبيعية، ارتباط المعقولات بالصور، والخيالات بالموضوعات الهيولانية وجميع الصناعات العملية. والثاني النُّظَّار أصحاب المعرفة النظرية الذين يُدركون المعقولات عن طريق الواسطة. والثالث العُقلاء الذين يُدركون الشيء في ذاته، وهم السُّعداء. وهي مثل قسمة الصوفية مراتب العلم إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين.٥٨ والخلاف بين الأول والثاني خلاف بين الحس والعقل، بين الاستقراء والاستنباط، في حين أن المرتبة الثالثة إدراك العقل المباشر. ينظر الجمهور إلى الموضوعات أولًا ثم إلى المعقولات ثانيًا من أجل الموضوعات لأجل التشبه بالمعقولات، فيرَون المعقولات بواسطة كما تظهر الشمس في الماء؛ فإن المرئيَّ خيالاتها وليس نفسها، في حين أن الجمهور يرى خيال الخيال مثل انعكاس الشمس على المرآة، وانعكاس ذلك على المرآة. أما مرتبة العقلاء فإنهم السعداء الذين يرَون الشيء ذاته. حال الجمهور من المعقولات مثل حال الموجودين في مغارة لا تطلع على اسم الشمس فيرَونها، وحال النظار كمن يخرج من المغارة إلى البراح فيلمح الضوء ويعي الألوان، أما العقلاء السعداء فإنهم يُبصرون الشمس.٥٩ والتعبير في المرحلة الثالثة بالألغاز؛ أي بالصور والتشبيهات التي لا يفهمها الجمهور مع توحيد بين الذات والموضوع، وهو أقرب إلى المعرفة الصوفية. وواضحٌ أن المرحلة الثالثة وحدها هي التي تجمع بين المعرفة والسعادة.
وأقسام الناس مثل غايات المُتوحد تقابلًا بين التجمعات البشرية والغايات الإنسانية. فالناس ثلاثة أنواع؛ جسمانيون، وهم أخسُّ الناس. ووسط بين الروحانيين والجسمانيين. وروحانيون، وهم أقل الناس. وفي الروحاني معرفة الأوائل.٦٠ وتمتدُّ أنواع المدن طبقًا لغايات المُتوحد؛ فالمدن تعبير عن اختيارات الأفراد وغاياتهم. وغايات المُتوحد ثلاث؛ الصورة الجسمانية، والصورة الروحانية الخاصة، والصورة الروحانية العامة.٦١ وتُنال هذه الغايات بالفكر، وإلا كانت الأفعال بهيميةً لا شركة للإنسانية فيها. فالاختيار فكري، والغرض البهيمي ممكن في الإنسان. شكله إنسان، وباطنه بهيمية. وأفعال البهائم لا تُنتج مدنًا؛ فالمدينة مرتبطة بالغايات العقلية. غاية البهيمة ليست الصور الروحانية العامة، بل الصور الروحانية الخاصة، أو الصور الجسمانية. قد يُشارك الحيوان في الصور الروحانية العامة في النوع وليس في الفرد،٦٢ في حين أنه في الإنسان في الفرد الدائم في النوع في مُقابل الوقتي للإنسان. الضروري في الحيوان في مُقابل الاختياري في الإنسان. وكلاهما فضيلة باشتراك الاسم. في الحيوان الكمالات شكلية، وفي الإنسان فكرية. الكمالات الشكلية يُشارك فيها الحيوان الإنسان، والكمالات الفكرية يتفرد بها الإنسان وحده. المجتمع إذن أخلاق، والأخلاق فكر ونطق. الكمالات الفكرية للإنسان مثل صواب الرأي وجودة المشورة وصدق الظن وكثير من المِهن والقوى، مثل الخطابة وقيادة الجيوش والطب وتدبير المنزل. هي غايات تُطلَب لذاتها، في حين أن الجسمية مثل الأكل والشرب والدثار والروحانية مختصة بالإنسان لا يُشاركه غيره. الروحانية للذكرى، والجسمانية الوجود المُشار إليه. الأول بعد الخلاء، والثاني بعد الملاء. الأول بعد الزمان، والثاني بعد المكان.٦٣
وبالإضافة إلى القسمة الكيفية يعطى ابن باجه قسمة كمية. ويشبه المجتمع الكبير وهو المدينة بالمجتمع الصغير وهو المنزل. وقد يعني ذلك أيضًا تشبيه السياسة في المجتمع الكبير بالاقتصاد في المجتمع الصغير لما كان اللفظ القديم للاقتصاد هو تدبير المنزل.٦٤

والمنزل جزء من المدينة؛ فالعلاقة بينهما علاقة الجزء بالكل كالدوائر المتداخلة أو الهرم المعدول أو المقلوب عند الفارابي. والغاية من كمال المنزل كمال المدينة أو كمال الفرد؛ فالمنزل وسيلة لتحقيق كمال الفرد وكمال المجتمع، وكأن الوحدة الأولى هي المنزل ليس الفرد أو المدينة. القول في تدبير المنزل مجرد وسيلة لا غاية، قول مجرد في وقت معيَّن وفي أدبيات معيَّنة عند البلاغيين. والمنزل الناقص والفاضل كلاهما باشتراك الاسم؛ أي قول بلاغي. وهو جزء من علم النفس؛ أي التربية وأدبياتها التي تضم الوصايا (أخلاق)، أو أبواب صحبة السلطان ومعاشرة الإخوان (سياسة). والصادق منها مرتبط بعصره. وتتغير العصور وتتغير الآراء، ويصبح الضار نافعًا، والنافع ضارًّا. فابن باجه يُعيد قراءة النصوص القديمة ويُراجعها إحساسًا منه بالميدان الجديد، وبأنواع الكتابات فيه، وبتطور الزمان واختلاف العصر. والحكم على الأقاويل وأنواعها سابق على ابن رشد؛ فالأقاويل البلاغية عند ابن باجه مثل الأقاويل الخطابية عند ابن رشد، والقول العلمي عند باجه هو القول البرهاني عند ابن رشد.

(ﺟ) المدينة الفاضلة ونوابتها

أفعال الإنسان غايتها المدينة؛ المدينة الفاضلة فقط. وفي المدن الأربعة الناقصة أفعال الإنسان غاية هذه المدن، والتوطيات في المدينة الفاضلة غايات في غيرها. الخلاف إذن بين المدينة الفاضلة والمدن الأربعة الأخرى في القيم وليس في الأفعال، في مثل الجماعة ومذهبها. وإحصاء المدن، واحدة فاضلة وأربعٌ غير فاضلة، تؤيِّده الأخبار عن الأمم السابقة، وليس حصيلة مشاهدات أو تحليلات اجتماعية أو قسمة عقلية. وبفضل المدن الخمس كلها ينشأ العلم المدني، وليس بالمدينة الفاضلة وحدها. فالسلب أكثر إيجابًا من الإيجاب.

والمدن أربعة؛ الإمامية، وهي المدينة الثيوقراطية. ومدينة المال، وهي الرأسمالية. والجماعية، وهي الشيوعية. والتغلب، وهي الدكتاتورية. الأولى والرابعة نظامٌ سياسي، والثانية والثالثة نظامٌ اقتصادي. ومن أعظم أسباب الفساد ظن أن هذه المدن الأربع مدن الفضيلة؛ لأنها مدنٌ فاسدة في السياسة أو الاقتصاد. في السياسة لا فرق بين تسلط الدين أو تسلط الدولة، وفي الاقتصاد تُسيطر الطبقات العليا المُترَفة، ويُظهر أولاد المُترَفين وذوو الأحساب الفضيلة من غير أن يكونوا أهلًا لها.

والمدينة الفاضلة فاضلة الآراء والأفعال، أعطى فيها كل إنسان أفضل ما هو مُعدٌّ نحوه. آراؤها كلها صادقة، وأعمالها فاضلة بإطلاق. والأعمال فاضلة بالنسبة إلى فسادٍ موجود مثل قطع العضو الفاسد ليبدأ البدن كله، والكامل ما لا زيادة فيه، والزيادة فيه نقص كالإصبع السادس. والفرق بين الطبع والوضع أن الطبع صحيح، والوضع مُنحرف مريض. وهو التقابل بين الطبيعة والصنعة، بين الصحة والمرض، بين الخير والشر.

وكل رأي غير آراء المدينة الفاضلة وأفعالها كاذب. ولا يوضع في المدينة الفاضلة رأي أو محل غير رأيها وعملها، على عكس المدن الأربع الفاسدة، تستبقي ولا تستبعد، يتعلم كلٌّ منها من الآخر. وهو نموذج المدينة المُتعددة الآراء.٦٥ المدن الأربع أفضل؛ لأنها مُتعددة الآراء وليست أحادية الرأي، يتعلم الإنسان فيها بالطبيعة أو الاكتساب الخير والشر. ليس الخير مفروضًا عليه، والشر جاهلًا به، كما هو الحال في تصوير الجنة. يُميز فيها الإنسان، ويختار بين الصواب والخطأ إعمالًا للعقل والإرادة، ويقع العمل الخطأ لينال به غرضًا آخر وليس لمجرد اللعب. وإذا كان الخير نسبيًّا، أي بالنسبة إلى آخر، لم يعد المجتمع مثاليًّا، بل تبريرًا للشر الأقل لتوقُّع خير أعظم. وهذا التقابل بين الفاضل والفاسد ثنائيةٌ مُتطهرة تُوقع في القطعية والمذهبية، مثل الفِرقة الناجية والفِرق الهالكة، نظرةٌ مثالية للمجتمع؛ جنة الله في الأرض.
ولا تحتاج المدينة الفاضلة إلى صناعة الطب نظرًا لصحة الأبدان، ولأنها تعيش على الطبيعة والفطرة، والطبيعة تُعالج نفسها بنفسها نظرًا لاعتدال الغذاء. ولا تحتاج إلى صناعة القضاء؛ لأن الناس أخيار بالطبع، مُتحابُّون لا يتشاكسون، أفعالهم كلها صواب!٦٦ وقد يكون عدم احتياج المدينة الفاضلة إلى صناعة الطب لأنها تتبع قوانين الغذاء المعروفة في كل الأديان. وهذه حالةٌ مثالية للبدن بلا طب، وللروح بلا قضاء. ومن له تمام الأعضاء وجودة الصحة فهو عبد بالطبع لا فرق بينه وبين البهائم.

ولا يُشير ابن باجه إلى مُعلمه الفارابي؛ فيغيب التراكم الفلسفي. الكل يبدأ من الصفر وكأنه لم يسبقه أحد. ربما نشأ عدم الإحساس بضرورة الإحالة إلى السابقين في الموروث مثل الإحالة إلى الواحد لأن الموروث حضارةٌ واحدة، ينتسب إليها الحكماء، وليسوا غرباء، والموروث غير مشخَّص، ولا توجد أفكارٌ شخصية، بل فكرٌ موضوعي وحضارةٌ عامة مشتركة يعرضها الجميع.

ومن خواص المدينة الفاضلة ألا يكون فيها نوابت؛ فالنوابت معنًى قدحي. النوابت من واقع لهم رأيٌ صادق ليس في المدينة، أو كان فيها نقيضهم. المهم هو المصدر وليس الصدق، وهي حجةٌ سلفية أصولية. وكلما كان المعتقد أكثر وأعظم كان اسم النوابت أصدق. النوابت هي المعارضة الخيِّرة في المدن الفاضلة، أو المعارضة الجاهلة في المدن الشِّريرة. لا يهمُّ المكان ما دام المثل الأعلى هو الانسجام والتآلف والتناغم. وتظهر النوابت في المدن الأربع الفاسدة، وليس في المدينة الفاضلة وحدها، تنظيرًا لآية وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وهو وضع الأنبياء والصالحين ودعواتهم مع أقوامهم. وبهذه النوابت في المدن الفاسدة تتحول إلى مدنٍ فاضلة. وإذا ظهر النوابت في المدن الفاضلة تنقص رفضًا للتناقض والاختلاف. التوافق هو الحياة، والتنافر الموت. الرأي الواحد الحق، والآراء المُتعددة هو الباطل. وقد يكون النوابت من الداخل أو من الخارج، من الموروث أو من الوافد، بصرف النظر عن المصدر.٦٧ وإن سير المدن الفاضلة وغير الفاضلة هي في النهاية سيرٌ نافعة. وهو ما قاله الفارابي من قبلُ من ضرورة بَتْر المعارضة حتى يصبح النظام الهرمي الطبيعي الكوني، مثل بتر الطبيب العضو الفاسد حتى يبرأ الجسد، استعمالًا للحديث الشهير في غير موضعه عن صلة الأعضاء بالجسد دليلًا على التراحم والترابط الاجتماعي.

والسؤال هو: هل للنوابت معنًى إيجابي أم معنًى سلبي مثل الفسق؛ أي خروج النبت من الحبَّة؟ قد يكون له معنًى إيجابي مثل الغرباء والصوفية؛ أي إعلان الحق ولو كان أقلية في مواجهة الباطل ولو كان أغلبية؟ ومن هم؟ هل هم الحكماء والصوفية؛ أي المُتوحدون؟ هل هم المثقَّفون الثوريون بلغة العصر؟

(د) الرئاسة والكمال

والرئاسة الاجتماعية عند ابن باجه نوعان؛ الأول بين المُعلم والتلميذ، والملك والمدينة. والثاني المستعمَلة لغاية بالتأخير؛ أي بالتشبيه والمجاز، مثل مدبِّر المدينة الفاضلة. وهو ليس ملكًا، بل يُحقق غاية التدبير. الأول رياسةٌ ظاهرة خارجية، والثانية رياسةٌ باطنية داخلية. في الرياسة الأولى يُقدر الرئيس أفعال المرءوس كي يبلغ غرضه. وعلى هذا يُقال لمدبِّر المدينة الفاضلة الملك الرئيس. والرئاسة الثانية مستعمَلة لغايةِ إنسانٍ ما توطئةً له في غرضه. ولا يدل مدبِّر المدن غير الفاضلة بأنه رئيس إلا فيما شابه فيه الملك. الرئيس الأول يُعطي السنة ويُقدر الأفعال، والرئيس الثاني الفارس واللجام.٦٨

ويتحقق الكمال الإنساني على خمس مراتب من أدنى إلى أعلى؛ كمال الآلات واليسار، وهو الصلاح الإنساني العام؛ كمال العالم، وكمال الصحة، جسد الإنسان، وهو كمال العبد المُطيع؛ وكمال الفضائل الشكلية، وهو كمال الحيوان الراقي؛ وكمال الصناعات العملية، وهو كمال الإنسان الفرد؛ وأخيرًا الكمال الذاتي الخالص، كمال النطق. وكل كمال أدنى خادمٌ لكمالٍ أعلى. وذوو الصحة كالعبيد والعرفاء وعمال المدينة لا من أجل الفضائل الشكلية التي تجود بها المعاشرة وتتم بها مصالح المدينة. والصناعات العملية كالطب والملاحة والفلاحة والخطابة وقيادة الجيش مرءوسة، وتهدف أيضًا إلى صلاح المدينة. والكمال الذاتي ليس خادمًا لكمالٍ آخر، بل هو غاية في ذاته، في حين أن الصناعات العملية خادمة للكمال الذاتي. كل درجة دنيا خادمةٌ للدرجة العليا، وكل درجة عليا مخدومة من الدرجة السفلى. كل درجة عليا رئيس، وكل درجة دنيا مرءوس. كل درجة دنيا وسيلة، وكل درجة عليا غاية. الأولى على الإطلاق غاية وليست وسيلة، والدنيا على الإطلاق وسيلة وليست غاية، والمتوسطة وسيلة إلى ما هو أعلى وغاية لما هو أدنى منها.

وهذه الكمالات مقصودة بالطبع، ولا تتم إلا بالاجتماع المدني؛ لذلك تفاضل الناس لتكمل المدينة بهم. الكمالات إذن تراتبيةٌ طبقية، والطبقة يُحددها طبع الإنسان. والطبقة ليست المهنة أو الرزق، بل العقل أو الغاية الإنسانية. وهي واحدةٌ أبدية عقلية مثل الله. هو تفاضلٌ طبيعي كوني ليس فيه للإنسان حرية واختيار. والاختيار داخل الطبيعة، والحرية في الضرورة، أن يكون الإنسان غاية نفسه في إحدى هذه المراتب الخمس؛ فالارتقاء نظرية في الخلاص، يصل فيها الإنسان إلى حالٍ لا تُصارعه الطبيعة ولا تُنازعه النفس البهيمية. وهي حالة النطق والشرف واللذة والبهاء والبهجة دون ألم الطبيعة، حال النفس الناطقة البعيدة عن الهيولى، الوحدة التي لا ضد لها ولا كثرة فيها.٦٩
١  الفارابي، الآراء، ص٧٢–٧٥.
٢  مضادَّات المدينة الفاضلة، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٨٣–٨٧؛ القول في أهل هذه المدن، ص٩١–٩٤؛ القول في الأشياء المشتركة لأهل المدينة الفاضلة، ص٩٤–٩٨؛ القول في آراء أهل المدن الجاهلة والضالة، ص٩٨–١٠٣؛ القول في المدن الجاهلية، ص١١٠–١١٧.
٣  كنت أظنُّها قبل ذلك في مُقتبل العمر لإغراقي في المثالية وأولوية الفكر على الواقع قبل أن أتحوَّل إلى جدل الفكر والواقع. وهو نفس السؤال للفارابي: هل يعرض أنماطًا مثالية من صنع الذهن أم يصف مدنًا موجودة بالفعل؟ وهو نفس السؤال المطروح على العصر في وصف الأيديولوجيات كاختياراتٍ فكرية وأنماطٍ مثالية أم وصف النُّظم السياسة الموجودة بالفعل.
٤  السابق، ص٨٥-٨٦.
٥  الفارابي، الملة، ص٥٦.
٦  السابق، ص٤٤–٤٦.
٧  وقد وضع بنتام قوانين مُشابهة للذة بناءً على دوام الفعل وتكراره وشدته في حساب اللذات.
٨  الفارابي، الملة، ص٨٦–٨٨
٩  الفارابي، آراء، ص٩٤-٩٥.
١٠  السابق، ص٩٥-٩٦، ٨٩-٩٠.
١١  السابق، الآراء، ص٩٧-٩٨.
١٢  الفارابي، السياسات المدنية، ص٨١–٨٤.
١٣  السابق، السياسات، ص٦٣–٦٦؛ الآراء، ص٨٣-٨٤، ٩١–٩٣.
١٤  وهو ما لاحظه رافيسون أيضًا في كتابه «في العادة» De L’habitude.
١٥  الفارابي، السياسات، ص٦٢–٦٤؛ الملة، ص٤٣-٤٤، ٥٤–٥٦؛ الآراء، ص٨٣-٨٤.
١٦  النسبة بين الثلاثة الأولى والثلاثة الأخيرة ٦ : ١. وهناك تفاوت في عرض المدن؛ النذالة والخسيسة أصغرها، والضرورية أوسطها، والكرامة والتغلب والجماعية أكبرها.
١٧  ثورات الشعوب على الحكام مثل الثورات الكبرى في التاريخ؛ الفرنسية والأمريكية والروسية والإسلامية في إيران، وثورات الحكام على الشعوب مثل ثورة أخناتون وثورات الأنبياء.
١٨  من النوع الأول ربما الحاكم بأمر الله قديمًا، ومن النوع الثاني لوممبا حديثًا.
١٩  الفارابي، آراء، ص٨٣، ١١٠؛ فصول، ٤٥، ٤٨-٤٩؛ الملة، ص٤٣-٤٤، ٥٤–٥٦.
٢٠  ومثل المجتمع الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني في فلسطين المحتلَّة.
٢١  الفارابي، السياسات، ص٦٣-٦٤؛ آراء، ص٨٣-٨٤.
٢٢  الفارابي، الآراء، ص٨٢–٨٤.
٢٣  وهو المجتمع التجاري، وبلغة العصر الحديت mercantile (الفارابي، السياسات، ص٦٤؛ آراء، ص٨٤).
٢٤  الفارابي، السياسات، ص٦٤-٦٥؛ آراء، ص٨٤.
٢٥  وهذا مثل المنفعة المتبادلة عند هوبز.
٢٦  الفارابي، السياسات، ص٦٥–٦٩، ٧٥-٧٦؛ آراء، ص٨٤.
٢٧  وهي المعركة التي صمدت فيها المقاومة الفلسطينية في أغوار الأردن ضد العُدوان الإسرائيلي بعد حزيران (يونيو) ١٩٦٧.
٢٨  الفارابي، السياسات، ص٦٦، ٧٠-٧١؛ الآراء، ص٨٤.
٢٩  الفارابي، السياسات، ص٧٣–٧٥.
٣٠  وهو ما أشار إليه دارون ونيتشه.
٣١  melting pot.
٣٢  الفارابي، السياسات، ص٧٦–٧٨، ٨٤.
٣٣  الفارابي، آراء، ص٩٣-٩٤
٣٤  الفارابي، السياسات، ص٩٨١؛ آراء، ص٨٤-٨٥، ٩٢.
٣٥  الفارابي، آراء، ص٨٥، ٩٣.
٣٦  الفارابي، السياسات، ص٨١؛ آراء، ص٨٥، ٩٣.
٣٧  وذلك مثل ما كتب تارد «عالم الاجتماع في التعارض الشامل G. Tarde: L’Opposition Universelle».
٣٨  وذلك مثل الجدل الصيني القديم بين الين واليان، والجدل عند كيركجارد حديثًا بين الشيء ونقيضه دون جمعهما في مركَّبٍ ثالث G. Tarde: L’Opposition Universelle.
٣٩  وذلك مثل قوانين الصراع والبقاء للأصلح عند دارون.
٤٠  وهذه هي العلاقة بين إسرائيل وفلسطين؛ إذ تعتبر إسرائيل وجود فلسطين طعنًا في وجودها، والفلسطينيين مجرد أداة لخدمتها.
٤١  الفارابي، آراء، ص٩٨–١٠٠.
٤٢  وذلك مثل: (١) الاشتراك في الولادة من والدٍ واحد هو الأصل. فإذا غاب الأصل وحدث تباين في الآباء نشأ التفكُّك بين الأبناء وانفراط عصبية الدم. ويحتاج الأمر بعد ذلك إلى جماعة لمواجهة الخطر الخارجي. (٢) الاشتراك في التناسل ذكورًا وإناثًا، ثم المصاهرة من أجل توسيع قاعدة الجماعة. (٣) الاشتراك في الرئيس الأول؛ أي في السلطة السياسية؛ مما يجعل السيادة جماعية. (٤) الإيمان والتحالف والتعاهد على النصر المُتبادل وعدم الخذلان، كما كان الحال في الحياة العربية، وعقد الأحلاف والمواثيق بين القبائل والطوائف والمِلل. (٥) التشابه في الخلق والشيم الطبيعية، والاشتراك في اللغة واللسان إذ تتوحَّد الأمم وتتباين بينها. (٦) الاشتراك في المنزل ثم في السكن ثم في الحي ثم في المدينة ثم في الصقع الذي فيه المدينة؛ فالجِوار أساس التعاون. ويشمل الصقع عدة مدن مثل الدلتا والصعيد. ويتوقف الفارابي عند الصقع، ولا يذهب أبعد من ذلك إلى المعمورة آخر الإنسانية جمعاء (الفارابي، آراء، ص١٠٠–١٠٣).
٤٣  وهي ستة: (١) طول التلاقي؛ أي الصداقات. (٢) الاشتراك في طعام وشراب؛ أي الدعوات. (٣) الاشتراك في الصنائع؛ أي الجماعات المِهنية والحِرفية. (٤) الاشتراك في شرٍّ داهم؛ أي المصالح المشتركة. (٥) الاشتراك في لذةٍ ما؛ أي الهوايات. (٦) الاشتراك في الأمكنة للاطمئنان المتبادل؛ أي السفر الجماعي والجيرة.
٤٤  وهو أقرب إلى آراء هوبز ونيتشه في الفلسفة الغربية.
٤٥  الفارابي، آراء، ص١٠٣–١٠٥.
٤٦  السابق، آراء، ص١٠٦–١٠٨.
٤٧  السابق، ص١١٠–١١٢.
٤٨  السابق، ص١١٢–١١٧.
٤٩  السابق، ص١٠٨–١١٠
٥٠  أفعال الماضي للاستقصاء والبيان والقصد والكلام، وأفعال المضارع للترك والعروج والعرض والقول والاقتصار، وأفعال المستقبل للتلخيص والإرجاء (ابن باجه، تدبر المُتوحد، ص٤٢، ٤٣، ٤٩، ٥٦–٥٨، ٦٤–٦٦، ٧٠-٧١، ٨١–٨٣، ٨٨–٩٠، ١٢١–١٢٥).
٥١  ابن باجه، رسالة الوداع، ص١٣، ١٣١-١٣٢.
٥٢  ابن باجه، تدبير المُتوحد، ص٦٣–٦٥.
٥٣  وهو التيَّار الذي يمثِّله فوييه FouiIIée في مذهبه «الأفكار-القوة» ldeés-Forces.
٥٤  السابق، ص٣٩–٤١، ١٠١.
٥٥  السابق، ص٦٩-٧٠، ٧٣.
٥٦  السابق، ص٦٣–٦٥.
٥٧  السابق، ص٨٧–٩٣.
٥٨ 
ابن باجه، اتصال العقل الإنساني، ص١٦٥–١٦٧. وهي مثل درجات المعرفة الثلاث عند اسبينوزا؛ الحس والعقل والحدس؛ أو درجات المعرفة الثلاث عند كانط في «نقد العقل الخالص».
٥٩  وهو ما يُشبه أسطورة الكهف عند أفلاطون.
٦٠  مثل أُوَيس القرني وإبراهيم بن أدهم وهرمس، وكأن هرمس من الصوفية؛ لأنه باطني، وأرسطو أيضًا وبعض الشعراء العرب.
٦٢  وذلك مثل حياء الأسد، وعجب الطاوس، وملق الكلب، وكرم الديك، ومكر الثعلب.
٦٣  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص٩٥–١٠٨.
٦٤  السابق، ص٤١–٤٣.
٦٥  السابق، ص٨٣-٨٤، ٩٢-٩٣.
٦٦  السابق، ص٤٣–٤٥؛ رسالة الوداع، ص١٣١–١٣٦.
٦٧  ابن باجه، ص٤٥-٤٦.
٦٨  ابن باجه، رسالة الوداع، ص١٣١–١٣٦.
٦٩  ابن باجه، رسالة الوداع، ص١٣٦–١٤١؛ الغاية الإنسانية، ص١٠٠؛ الوقوف على العقل الفعال، ص١٠٧.