سيرة التطور من سيرة داروين
المذهب والشخص وحدة لا تتجزأ، ذلك في الرجال الذين وضعوا المذاهب الفكرية والعلمية في تاريخ الحضارة. أما في غيرهم من رجال الفتوح والمخترعين والرواد، فقد يختلف الأمر عن ذلك بعض الشيء، ذلك بأن الحظ — وإن شئت فقل «القدر» — قد يكون له من الأثر في حياة هؤلاء أكثر مما له في حياة أولئك.
فالمذهب وحدة أو كل، تتكون أجزاؤه على مدى الزمن، وتتجمع أساسياته درجة بعد درجة، حتى يتضح على صورة تلابس الفكر بمقتضى الحقائق أو الوقائع التي تكون أكثر وضوحًا للأذهان في عصر من العصور. أما الفاتح أو المخترع أو الرائد، فقد تهبط عليه الفرص هبوط الوحي، لا يدري لها باعثًا، أو يواتيه الحظ بفكرة أو اتجاه أو رغبة أو شهوة، لا علاقة لها بما اتضح لأذهان الناس من حقائق أو وقائع في فترة من فترات الزمن، فأصحاب المذاهب إذن تطوريون بمقتضى الفطرة والاتجاه، وغيرهم طفريون، إن صح هذا الاصطلاح، يواتيهم الحظ ويوجههم القدر أكثر مما يوجههم الفكر أو التأمل.
والعلامة «داروين» صاحب المذهب المعروف في تفسير حقائق التطور، مثل حي مجسم على ما سقنا القول فيه. وإذن يكون «داروين» ومذهبه وحدة متماسكة الأطراف، متكاملة الصورة، منتسقة الجوهر. ولعل هذه الوحدة الكاملة التي تربط بين هذا العالم الفذ ومذهبه، هي المرجع الذي يعود إليه ذلك الأثر البالغ الذي أحدثه في الفكر الحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر.
كانت الموروثات القديمة قبل عصر «داروين» هي الموئل الأسمى لسلوك الإنسان وتصوره في أصل الكون، ولقد تقبلت أفكار الناس هذه الموروثات على علاتها، وما زالت حتى عصرنا هذا، عصر التطور والذرة، موضع عقيدة عمياء، تسوق الناس إلى القول بأنها الحق الثابت الراسخ، حتى إن مجرد المناقشة فيها قد يعده السواد الأعظم من الناس انحرافًا عن جادة الحق والصواب.
منذ أربعة قرون مضت، أخذ الشك يغزو تلك الموروثات، ومضى الريب يزداد فيها ويقوى مع كل كشف جديد من كشوف العلم، وراحت الحقائق الجديدة تمعن فيها نقضًا وتقويضًا، حتى استحال على المفكرين أن يظلوا سامدين عنها، مقفلي الأعين دونها.
عبثًا ما حاول كثير من عبَّاد القديم والتقليديون أن يوفقوا بين المأثورات الأولى والكشوف العلمية، فما أغنى عنهم تعسفهم في التأويل شيئًا أمام القوة الجارفة التي سلطها منطق العقل على مذاهبهم، فالجيولوجيا (علم الأرض) وعلم الأحياء، قد طوحا بالكثير من الأفكار والمعتقدات والقصص القديمة، واتسع نطاق العلم شيئًا بعد شيء، فشمل علم الإنسان (الأنثروبولوجية): قصص الأساطير والتاريخ، وراح بعض العلماء يقيسون الروايات المنقولة بمجموعات متفرقة من مفردات المعرفة انتزعوها من الإكباب على درس الإنسان البدائي، بينما مضى آخرون في الكشف عن المنابع التي استُقيت منها تلك القصص والروايات، فنشأ بذلك علم موازنة المأثورات أو المقدسات.
لا يزال العلم بهذه الحقائق التي أشرنا إليها، مقصورًا على قلة من المتعلمين، ولم تأخذ لها طريقًا بعدُ إلى برامج التعليم في المعاهد، وإن كان من الواجب أن يفسح لها المجال فيها.
والكونيات القديمة، بالرغم من أنها في حكم الموات، لا تزال مما يُلقى في المعاهد، ويُعلم في بعض المدارس باعتبارها حقائق ثابتة لا يأتيها الباطل من حيث سلك، ويلقنها للناشئين رجال يعلمون حق العلم أنهم إنما يلقنون طلاب العلم أباطيل لا غنية فيها.
يُضاف إلى جهل الأكثرين بهذه الحقائق، تحكم العادة واستبدادها بالعقول، على أن قبول ما انعقدت عليه الموروثات التي ربت وتنشأت على مر قرون طوال، إنما هي وراثة ورثناها عن أسلافنا من الهمج، وما لم تفزع إلى مقاومتها بمعارضة حقة إيجابية، فإن ذلك الاتجاه العقلي الهمجي سوف يحول دائمًا دون التطرق إلى مسالك الارتقاء الحضاري، ولا سيما فيما يتعلق بالاعتقاد في الأساطير والخرافات.
وعندما يُفرض الجهل على الناس فرضًا، ولا يكون لهم من خيار في أن يكونوا جهلاء، ينبغي أن يُبذل من الجهد ما تستنير به العقول المستعدة لتقبل العلم، والعكوف على التأمل من المعارف الخالصة التي لا أثر للتعصب فيها؛ ولذا كان واجب أحرار الفكر الذين انسلخوا عن الجاهليين فكرًا وعقيدة، أن يبصروا أهل عصرهم بكل الحقائق المتعلقة بنشوء الأرض وأصل الإنسان وتطور الفكر، والدور العظيم الذي أداه على مسرح الفكر البشري «مذهب النشوء والارتقاء»؛ أي التطور اختصارًا.
إن الآراء التي درج عليها الإنسان قبل أن تنشأ علوم «الجيولوجيا والأحافير» والإنسان، فتظهر تقادم الأحقاب التي مضت على الأرض منذ أول نشوئها، وقِدم الإنسان منذ ظهوره، قد قامت جميعًا على الموروثات الفكرية التقليدية، فقد قدر «يوشر» بدء الخلق وحدده بسنة ٤٠٠٤ق.م، وعقب عليه دكتور «لا يتفوت» فحدد يوم الخلق وساعته، فقال بأنه اليوم الثالث عشر من أكتوبر عند الساعة التاسعة من الصباح، وكان لا معدى للعقل من أن يستهدي بالفلك والأحافير و«الجيولوجيا»، إذا ما أراد أن يقع على الحق الصُّراح، الذي يهدينا إلى أن الكون، ومنه الأرض، يرتد عمره المديد إلى بلايين السنين.
فمن حيث علم الفلك، نجد أن ذلك العلم الإيجابي قد نقض القول بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس والقمر والنجوم يدرن من حولها تكريمًا لها بأنها مقر الإنسان «سيد المخلوقات». فأثبت ذلك العلم أن الأرض ليست إلا سيارًا صغيرًا يدور من حول الشمس التي تزودها بالضوء والحرارة، ومع الأرض عدد آخر من السيارات، كبار وصغار هي: عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وأفلوطن، وهن كالأرض، يدرن من حول الشمس. كما أثبت ذلك العلم أن لكثير من هذه السيارات أقمارًا؛ أي توابع تدور من حولها، فللمشتري تسعة أقمار وللأرض قمر واحد. وثبت أيضًا أنه فضلًا عن هذه السيارات، يوجد بضع مئات من السُّيَيرات هي بقايا سيار تحطم بين فلكي المريخ والمشتري، وهذه السيارات والسييرات والأقمار تؤلِّف ما ندعوه «النظام الشمسي».
إذا تطلعت في السماء، ذات ليلة صافية الأديم، وقعت على عدد وفير من النجوم، تظهر لباصريك كأنهن ومضات من الضوء، فإذا نظرت إليها من خلال مرصاد (تلسكوب) ظهرت كأنها بقاع مضيئة، على أن بعدها العظيم عن الأرض لا ييسر لك أن تقدِّر بعدها عنك. أما عددها، بحسب بعض التقديرات، وبمقدار ما تتيح لنا أجهزتنا الفلكية، فقرابة أربعمائة ألف مليون، وجلها نجوم ثابتة بمعنى أنها تحتفظ، من حيث الموضع، بنسب ثابتة بعضها من بعض على وجه الدوام، وهذه الثوابت نجوم كشمسنا، بل إن منها ما يكبر شمسنا كثيرًا من حيث الحجم، وهي ذاتية الضوء؛ أي إن ضوءها ينبعث منها، لا بالانعكاس، شأن السيارات، التي تستمد ضوءها بالانعكاس عن ضوء الشمس، هذا بالرغم من أن البعض يرجحون أن يكون لبعض السيارات استضواء ذاتي؛ أي إشعاع يصدر عن جِرمها.
ينتشر في السماء أيضًا غمامات ضبابية مضيئة، وقف الفلكيون والكيميون على سر العناصر التي تتألف منها، إنها كتلة مضيئة شديدة الحرارة، سماها العلماء السُّدُم (مفردها: سَدِيم)، والمعروف منها قرابة مليونين، على أن الرأي يختلف في قوامها: أهي غازية أم جزئيات صُلْبة؟ أما المتفق عليه بين العلماء، فهو أن النظم الشمسية جميعًا ناشئة عنها، واختلف الرأي في الطريقة التي تألَّف بها نظامنا الشمسي، ولكن أقربها إلى المعقول مذهب الأستاذ «سير جيمس جينز» الفلكي المعروف، ومحصله أن النظام الشمسي الذي تؤلِّف الأرض جزءًا منه، إنما كان في الأصل جزءًا صغيرًا جد الصغر من كتلة سديمية هائلة الحجم عظيمة الأبعاد، تهشمت فتناثرت منها شموس كبيرة، وما شمسنا إلا إحدى هذه الشموس، فلما اقترب منها نجم ضال، حدث جذب مدِّي على جِرم الشمس، فخرج منه ذراع انعقدت فيه كتل، كانت فيما بعد الأرض وأخواتها من السيارات.
وإلى هنا أدى علم الفلك رسالة التوضيح عن حقيقة النظام الذي نعيش فيه، ومن ثَمَّ أخذ علم الجيولوجيا يؤدي إلينا رسالة ثانية.
كانت الأرض عند أول انفصالها من سديم الشمس كتلة من المادة وفيرة الحرارة، مضت تبرد ببطء شديد حتى أخذت قوام الجماد، وقبل ذلك؛ أي عندما بدأت تأخذ القوام العجيني، كانت كتلة من المادة المصهورة شديدة البياض، وبتناقص الحرارة تدرجًا، نزلت إلى الحالة النارية؛ أي أصبحت حرارتها حمراء اللون، أما الجزء الأثقل وزنًا من هذه الكتلة، فانفصل عن الجزء الأخف وتألَّف منه بطن الأرض، كما تألَّف من الجزء الخفيف قشرتها.
ولسنا نعرف شيئًا عن مركز كرة الأرض؛ أي بطنها، ولكن الراجح أنه يتألف من معادن تارزة ثقيلة، لا تزال في حالة الذوبان، أما القشرة فتؤلِّف ذلك الأديم الذي نسميه «التربة» أو «الثرى».
فوق الأرض أيضًا ذلك الماء الذي نسميه البحار والبحيرات والأنهار. وفي الدور الذي كانت فيه الأرض كتلة منصهرة، غشاها غلاف كثيف من الماء بخاري القوام، فلما بردت برد معها ذلك الغلاف البخاري واستحال ماء، كذلك تقلصت الأرض عندما أخذت تبرد تدرجًا، فتجعَّد سطحها كجلد تفاحة جفت وانضمرت، وفي الأغوار المنخفضة تجمع الماء، وانتهى الأمر بأن أصبحت الأرض كرة من يابس وماء.
لقد اقتضى التطور، حتى بعد أن بلغت الأرض هذا المبلغ من التنشؤ، أزمانًا متطاولة، بل موغلة في التطاول، قبل أن يظهر على سطحها شيء من الكائنات الحية، وفي الماء أخذت الحياة تتأصل، أما تفصيل الأدوار التي مضت فيها الأرض حتى أصبحت بيئة صالحة للحياة، فمن اختصاص علم الجيولوجيا، ومن ثمة يبدأ علم الأحافير يؤدي رسالة ثالثة.
خلَّف الأحياء آثارًا في صورة أجزاء من نبات وأصداف وحشرات وأسماك وعظام وطبعات أقدام لطيور أو ذوات أربع، ومن مجموع هذه الآثار، يؤلِّف علم الأحافير مدونة العصور الخالية.
حتى منتصف القرن الماضي، كان المعتقَد أن كل نوع من الأنواع الحية قد خُلق مستقلًّا، وأن خَلْق الإنسان كان النهاية التي توَّجت أعمال الخلق، وينبني على هذا، أن الأنواع ثابتة لا تتغير ولا تتطور.
في سنة ١٨٥٩ أظهر «داروين» خطأ هذه العقيدة، وأن الأنواع المختلفة، نباتًا كانت أم حيوانًا ومعها الإنسان، إنما نشأت تدرجًا من طريق الاحتفاظ بمختلف التحولات التي تنشأ في أفراد كل منها، أما هذا التحول فقد استغرق أحقابًا طويلة جهد الطول، وفقًا لما يقتضيه تأثير سُنن طبيعية دائمة التأثير في طبائع الأحياء.
ولقد أبان «داروين» أن ما في مستطاع الإنسان أن يبتكر في السلالات الداجنة من صور مستحدَثة بالانتخاب الاصطناعي، في مُكْنة الطبيعة أن تستحدث مثله بالانتخاب الطبيعي، وإن كان الانتخاب الطبيعي أبطأ أثرًا في تحول الأحياء من الانتخاب الاصطناعي.
- (١)
الوراثة: ومحصلها أن الشبه يأتي بمشابهه، فالسنانير لا تلد كلابًا، بل سنانير؛ أي إن صغار كل نوع تشابه آباءها، ذلك في النبات، كما في الحيوان.
- (٢)
التحول: أفراد كل نوع تتشابه ولا تتماثل؛ أي لا تكون نسخة مطابقة لأصولها، فهي تشابه آباءها ولكن لا تماثلهم، ففي بطن من السنانير مثلًا، لا تقع على اثنين متماثلين تمامًا، وإن تشابه الجميع حتى في اللون، فإنها تختلف في الظلال التي يمتد فيها اللون.
- (٣)
التوالد: إن ما يولَد من النبات والحيوان أكثر مما يقدَّر له البقاء، فالطبيعة تسرف في الإيجاد، كما تسرف في الإفناء، ومن هنا ينشأ العامل الرابع وهو:
- (٤)
التناحر على البقاء: وهو عامل مضطرد التأثير غير منقطع الفعل. فكل نبات أو حيوان يبرز في الوجود، ينبغي له أن يسعى إلى الرزق، وأن يجالد في سبيل ذلك، وأن يجاهد غيره على ضرورات الحياة، وينشأ عن هذا:
- (٥)
بقاء الأصلح: فالأفراد التي تتزود من بنائها بقوة أوفى أو حيلة أزكى، أو تكون أكثر قدرة على مقاومة الأفاعيل الطبيعية، تكون أكثر قابلية للبقاء، وأعقاب نسل فيه صفاتها التي مكنت لها في الحياة.
وباستمرار فعل هذه العوامل الخمسة، أمكن للأحياء أن تعمِّر رقعة الأرض جميعًا.
إذن، فما هي المدارج التي سار فيها تطور الأحياء؟
طوال عهود من الزمان موغلة في القِدم، تنشَّأت صنوف مختلفة من الأحياء، ومضت متطورة ضاربة في سبيل الارتقاء، كما فنت غيرها وبادت لعجزها عن مسايرة مقتضيات التطور، كليًّا أو جزئيًّا. وما فني وباد من الأحياء احتل مكانه غيره من الكائنات؛ لأنها أصلح للبقاء منها بقدرتها على تحصيل الرزق أو مقاومة أفاعيل الطبيعة، كالحر والبرد والرطوبة والجفاف وغير ذلك. وهذه الصور المتفوقة خلال بعض الأزمان، عادت فأخلت السبيل لغيرها من الصور الحية، لما أن نضب فيها معين القدرة على التكيف التي من شأنها أن توائم بين حاجات حياتها وبيئتها التي تعيش فيها.
عقيب ذلك ظهر الحيوان الدودي الصورة أو الحيوانات الدودانية التي منها «الرخويات» كالمحار والحلازين والحبارات من الأسماك، ثم «الشوكيات» كنجوم البحر وقنافذ البحر وخيار البحر، ثم «القشريات» كالسراطين والأربيان (الجمبري)، ثم من بعد ذلك ظهرت الحشرات.
من ثمة ظهرت صور جديدة من الحيوان، هي عشائر ذوات صفات مستحدثة، دل وجودها على وقوع انقلاب كبير في سير الحياة، فكل الحيوانات التي ذكرنا من قبل، كانت رخوة القوام لينة الأجسام، معدومة العظام، ولو أن بعضًا منها كالسراطين والمحار وقنافذ البحر، قد اختصت بأصداف تقي ذواتها من العطب، أما الصور الجديدة فكان لها حبل متين يمتد طوال الجسم، ويُسمى علميًّا «الرَّتمة». وكان ظهور هذا الحبل أول مدرج من مدارج التطور نحو «فقارة»، أما أوالي الحيوانات ذوات الرَّتمَة وقد نسميها علميًّا «الرتميات»، فكانت سهمية الشكل، ومن أهل الماء وأشهرها «الإطريف» وقد يُسمى «السهيم» أو الحريب أيضًا، ومن «السهيم» نشأت الأسماك.
الإنسان | Man |
السعادين (ذوات الذيول من الرئيسات) | Tailed monkeys |
القردة (فاقدة الذويل من الرئيسات) | Tailless Apes |
الصعابير (أو) الليامير | Lemurs |
الخفافيش | Bats |
اللواحم (آكلة اللحم) | Lions, tigers etc. |
الحيتان (الثدييات المائية) | Whales |
القواضم: الجرذان والفئران وما إليها | Gnawing animals (Rats, mice etc). |
الأناعيم (ذوات الخف والظلف والحافر) | Hoofed animals (Horse, Elephants, Rhinoceros etc.) |
الخيلان | Manatu and Dugong |
الجلبانيات (ذوات الكيس) | Pouched animals |
الثدييات البَيُوض | Egg-Laying Mammals |
الطيور | Birds |
السلاحف | Tortoises |
التماسيح | Crocodiles |
العظايا | Lizards |
الزواحف | Reptiles |
البرمائيات | Amphibia |
ذوات التنفسين | Dipnoids |
الأسماك ذوات العظام | Bony fishes |
القروش والراي | Sharks and Rays |
الجلكيات | Sea spuids |
المحربات (السهميات — الرمحيات) | Lancelets |
الرخويات | Mollusks |
الحشرات | Insects |
السراطين | Lobsters, Crabs etc. |
قنفذ البحر، نجم البحر، خيار البحر | Sea Urchins, Starfish and Sea-cncumber. |
الديدان | Worms |
المرجان وقناديل البحر وشقائق البحر | Corals, Jelly-fish, Sea-anemones |
المتزويات. متعددة الخلايا | Metazoa (Many-celled Animals) |
الأوالي: أحادية الخلية | Protozoa (One-celled Animals) |
النباتات | Plants |
الجبلة: المادة الحية الأولى | Protoplasm |
وقد بدأت بالصورة ذوات الهيكل الغضروفي وأترابها، ثم ظهرت الأسماك ذوات الهياكل العظمية الصلبة، كالصمون والقد والفرخ، كما تفرع من «الحريب» صورة أخرى كالسباذج والجلكيات، وهي من الأحياء التي لا ترتمة لها؛ أي ليس لها حبل ظهري، إلا عندما تكون صغيرة، وفي أول عهدها بالحياة.
أما الأحياء التي نشأت من بعد ذلك فجميعها من ذوات الفقار، وبذلك انقسمت الأحياء قسمين عظيمين: اللافقاريات (معدومة الفقار)، والفقاريات (ذوات الفقار).
ظهر من بعد ذلك أسماك متطورة تستطيع أن تعيش في الطين اللازب، إذا ما غاض الماء في فصول الجفاف، وبدلًا من أن تتنفس بخياشيمها كبقية الأسماك، نشأ لها مع هذا التطور جهاز آخر هو عبارة عن رئات أولية، تحولت عن مثانة السبح (العوامة) فتدرعت بذلك في معركة الحياة بجهازين للتنفس، ومن ثم سُميت هذه الأسماك «ذوات التنفس».
ومن ذوات التنفسين تنشأت البرمائيات (الكائنات البرية المائية) كالضفادع وما إليها، وهي التي تستطيع العيش في اليابسة، كما تستطيع العيش في الماء، ومن البرمائيات تنشأت الزواحف كالعظايا والتماسيح والحيات، ومن فرع من الزواحف تنشأت الطيور.
ومن الزواحف أيضًا تنشأت ذوات الثدي التي تغذي صغارها بسائل هو اللبن؛ ولذا سماها بعضهم «اللبونات»، ولكنها تسمية غير موفقة، وكانت أوالي الثدييات حيوان بَيُوض — تضع بيضًا كالزواحف والطيور — فإذا نقف البيض عن صغارها أرضعتها، ولا يزال بعضها عائشًا حتى اليوم كالصلول والنفطير، وكلاهما يعيش في أستراليا، وليس في غيرها من بقاع الأرض. ومن الثدييات البَيُوض تنشأت الجلبانيات (ذوات الكيس) كالكنغر وغيره.
تفرع من الجلبانيات شُعب متفرقة من الأحياء، أهمها من وجهة النظر البشرية ما يُسمى علميًّا «الصعابير» أو «الليامير»، فإن من هذه الصعابير تنشأت السعادين (ذوات الذيول) والقردة (فاقدة الذيول) والبشرانيات. أما من أية من الشُّعب العديدة التي تحولت عن الصنابير قد تنشأ الإنسان، فأمر لا يزال محوطًا بكثير من الشك عند العلماء، ولكن الراجح أن سلفًا من الأسلاف البشرية — المشابهة للبشر — قد تطورت عنه شُعب جاء منها الغرلي والشمزي والأرطان والحبن ثم الإنسان، ويظهر أيضًا أنه من الصعابير جاء «السغل»، وهو حيوان صغير من الرئيسات، في دماغه تلك البلديات التي على غرارها تشكل الدماغ البشري، ومما يذهب إليه بعض الأحيائيين أن «السغل» قد يكون الأصل الذي منه نشأ الإنسان.
ومن هنا نرى أنه بالتطور قد وجدت جميع الكائنات الحية، فخرج بعضها من بعض على طول الأحقاب الجيولوجية. ومما يزودنا به علم الفلك والجيولوجيا والأحافير، يقول العلماء: إن الزمن الذي انقضى منذ انفصال الأرض من السديم الأصلي، حتى ظهور الإنسان يتراوح بين ثلاثة آلاف وخمسة عشر ألف مليون سنة؛ أي إن الفرق بين تقدير العلماء في قياس ذلك الزمن يبلغ اثني عشر ألف مليون سنة، وقد يكون ذلك الزمان أطول مما يقدر له العلماء، ولكن الملحوظ أنهم إنما يقدرون أقل ما يمكن من الزمن؛ لتتم فيه تلك العملية التطورية العظمى.
بالرغم من أن الإنسان قد وجد في الأرض خلال أزمان قريبة نسبيًّا بالقياس على تطول الأحقاب الجيولوجية، فإنه ينبغي لنا الكلام في التقدير الزماني لوجوده في الأرض منذ نشأ من الصور الحيوانية الأدنى منه مرتبة في نظام الأحياء.
ذلك لتظهر أنه عاش في هذه الأرض أزمانًا أطول بكثير مما تقدِّر المأثورات القديمة.
ترك الإنسان، منذ أن عمَّر هذه الأرض، آثاره المستحجرة في الطبقات الجيولوجية، ولقد عثر العلماء على جماجم، وعلى عظام أخرى من الهيكل البشري، مطمورة في رواسب الكهوف وفي المدر، ورواسب الأنهار القديمة، وفي المحاجر التي تُقتطع منها حجارة البناء، ومن هذه الآثار استطاعوا أن يؤلفوا فكرة عن الصورة التي لابست الإنسان في تلك العصور، ومما أثبت سير «أرثركيث» في كتابه «قِدم النوع البشري» يظهر بوضوح من الفحص عن الجماجم القديمة التي عثر عليها في بقاع متفرقة من كرة الأرض، أن الإنسان الحديث قد عمَّر الأرض منذ أزمان عريقة في القدم، حتى يتدرج في التطور والتحول إلى الصورة البشرية، منحدرًا عن أسلافه من الكائنات المشابهة للقرود، وقد قيل: إن مليونًا من السنين، تقديرًا لهذا الزمن، لا يعتبر تقديرًا مبالغًا فيه.
بجوار تلك العظام التي خلَّفها الإنسان من هيكله، وهي قليلة؛ لأنها سريعة العطب والانحلال، خلَّف الأدوات التي استعملها، كالحراب والمُدى والمطارق والكلاليب والإبر والسهام وغيرها، وهي في الأكثر مصنوعة من الصَّوان أو غيره من المواد الصلبة، وقد قضى الإنسان زمنًا طويلًا يستعمل هذه الآلات الحجرية قبل أن يهتدي إلى اصطناع المعادن.
(١) أين نشأ الإنسان؟
ذلك أمر لا يزال موضع شك عند العلماء، ولكن الواقع أن أوالي البشر لم يكونوا على صورة الإنسان الحالي، بل كانوا أكثر مشابهة للقردة العليا كالغرلي والشمزي والأرطان منهم للإنسان الحديث، ومن أجل أنهم عاشوا في الكهوف، اغتذوا بالجذور والدرنات والجوز، واتخذوا من أدوات الدفاع عن النفس عِصيًّا وأحجارًا جمعوها خبط عشواء، غير أنهم اصطنعوا بعد ذلك أدوات من الصوان جلبوها بالنحت؛ لتتفق مع أغراضهم وتركوها غير مصقولة، واستمر الإنسان يستعمل هذه الأدوات الحجرية الغشيمة أزمانًا طويلة، ولكن بمرور الزمن اكتسب قدرة على حسن الصناعة، فأخذت أدواته ترتقي متدرجة مع تدرجه في سلَّم الارتقاء والتطور العضوي والذهني، وفي زمن ما عرف الإنسان كيف يستخدم النار، وسيظل الزمن الذي استكشف فيه الإنسان النار مجهولًا، ويقول البعض: إن الإنسان أول ما رأى النار مشتعلة، كان بسبب انقضاض صاعقة على الهشيم الجاف فاشتعلت، ومضى محتفظًا بها يذكيها كلما كادت تخبو. ولكنه اهتدى بعد ذلك إلى الطريقة التي يولِّد بها النار، وهي نفس الطريقة التي يستخدمها البدائيون حتى اليوم. ولقد كان لتوليد النار أثر انقلابي في حياة الإنسان، حتى لقد أُلفت فيها الأساطير العديدة.
لما استطاع الإنسان أن يحسِّن من أدواته خرج للصيد، وطبخ لحم الحيوان، واتخذ من جلده كساء، وكان إنسان الكهوف فنانًا بطبعه، فخلَّف آثاره الفنية منقوشة على العاج أو العظام أو الحجر، أو صوَّرها خطوطًا أو تلوينًا على جوانب الكهوف التي عاش فيها.
بعد ستمائة ألف من السنين، خطا الإنسان خطوة أخرى نحو التقدم والارتقاء، على أن تقدير الأطوار النشوئية التي مضى فيها الإنسان بالسنين، أمر تقريبي صرف، وكلما تقدمت البحوث العلمية والكشوف الأثرية، ردت نشأة الإنسان إلى عهد أبعد وأعرق في القِدم.
كذلك تدرجت القدرة على «الكلام» في درجات من التطور، استطاع الإنسان بعدها أن ينقل إلى نسله عاداته الكلامية، ولما بلغ هذا المبلغ أصبح وجوده أثبت، وعيشه أيسر مما كان في عصوره السابقة، غير أن أدواته كانت ما تزال مصنوعة من الصوان وغيره من الحجارة الصلبة، بعد أن اتخذت صورة جديدة، فصارت حديدة السنان، ملس السطوح؛ أي إنه أخذ يصقلها، واخترع القوس والسهام والصنانير والكلاليب التي اتخذها من قرون الأيايل، ونسج الملابس، وصنع الفخار، وزرع بعض صنوف من الحنطة، كذلك ألِف الكلب، فكان لإيلافه أثر بعيد في حياته؛ إذ أصبح له صديقًا ورفيقًا استعان به على رد عادية الذئاب والنمور، التي كانت أعدى أعدائه في حياته البدائية.
ولا شك في أن الإنسان إنما ألِف ضربًا من الذئاب انحدرت منه جميع سلالات الكلاب التي نعرفها، فذئب جريح فاقد الحيلة، قد يرتد أليفًا بعد أن يُعْنَى به إنسان بدائي، يضمد جراحه ويعوله، فيصبح النواة الأولى في تأليف أترابه من ذوي جلدته، وعقيب ذلك اهتدى الإنسان إلى إيلاف الحصان، فأضاف ذلك إلى ميسراته الأولى ميسرات جديدة.
العصر الحجري، وهو من عصور التقدم البشري، ينقسم عند العلماء ثلاثة أقسام: الأول: العصر الحجري البدائي، ومن مميزاته أن الأدوات التي صُنعت فيه كانت خشنة، وقد عثر على مثال لها عالم إنجليزي اسمه «بنيامين هريسون» في الحصى المتراكم في قيعان الأنهر القديمة في «كِنت» بمقاطعة «ساسكس» وفي غيرها من البقاع، والثاني: العصر الحجري القديم، والثالث: العصر الحجري الحديث.
على أن هذه العصور الثلاثة، لا يفصل بينها فواصل محدودة متفق عليها زمانيًّا، بل يتدخل بعضها في بعض، حيث عثر على أدوات من العصر الحجري البدائي مطمورة مع أدوات من العصر الحجري القديم، ومما لا شك فيه أن العصر الحجري بأقسامه الثلاثة قد سبقه عصر آخر استعمل فيه الإنسان العصي والحجارة الغشيمة (غير المصنوعة) مما كان يقع تحت بصره خبط عشواء، على أن هذه العصور لا تدل على عهود زمانية معينة، وإنما تدل علميًّا على درجات ثقافية، يُستدل عليها بالآثار التي يُعثر عليها.
لما كشف الإنسان عن المعادن تسارع ارتقاؤه، فاستعمل النحاس الأحمر أول شيء، ولكنه أنس فيه من الطراوة ما لا يتفق ومطالبه، فمزجه بالقصدير ليُخرج منه سبيكة البرونز، ولما أن اهتدى إلى البرونز، وضرب مسارعًا إلى التقدم بدخوله في مطاوي العصر البرونزي، بدأ يعيش في جماعات أكبر من تلك التي كان يعيش فيها من قبل. وفي أخريات العصر الحجري الحديث، ترك الإنسان العيش في الكهوف، ونزع إلى العيش في الأكواخ، وتجاورت الأكواخ فتألفت منها مجموعة لتصبح قرية، وظل الإنسان يعيش في جماعات قروية أزمانًا متطاولة، أُقيم بعضها على قضبان من أطراف البحيرات طلبًا للأمن، وقد سُميت هذه القرى «المرَابي البُحيريَّة».
بحلول العصر البرونزي، تمادت بعض القرى في الكبر والتضخم، فصارت بلادًا، وكبرت البلاد فصارت مدائن، وكبرت المدائن فصارت عواصم، كما أن الأكواخ البسيطة استحالت بيوتًا، مضت في الاتساع والتشكل حتى أصبحت تلك القصور العظيمة والبروج المطوحة التي تقَع على أمثالها في حضارات مصر وآشور وأثينا ورومية.
ولقد استغرق هذا التطور دهورًا إثر دهور؛ إذ إنه تبع دائمًا تطور المهارة الصناعية والفراهة الهندسية والفكرة في تطويرات الحياة وزخارفها، ولما أن بلغت الجماعات القروية مبلغًا ما من الاتساع والكبر، بدأ الأفراد يستقلون في حياتهم الخاصة فظهرت الطبقات لأول مرة في تاريخ البشر، كالسماك والقناص والمحارب وجابل الصوان وغير ذلك، أولئك الذين أقاموا أول العلاقات الاجتماعية والطبقات المدنية، وما ترتب عليها من النظم التبادلية والتجارية، وكان ذلك أول نشوء الحضارات الكبرى في تاريخ البشر.
(٢) ابن الطبيعة الثائر
لم تكن قولة الشاعر «بوب» — بأن العلم بالإنسان أمثل سبيل للعلم بالإنسانية — بأبين قيمة، في أي وقت منها في عصرنا هذا، ففي كل مستوى من مستويات العلم، نجد أن الإنسان موضع البحث الناشط الدقيق، احتفرت عظام أسلافه من جوف الأرض؛ لكي تستكنه منها الوسيلة التطورية التي من طريقها وصل إلى مكانته العليا في هذا الزمن. أما العديد الوافر من المقومات التي تقوِّم ذاته، فقد دُرست بوسائل من علم الوظائف حادة باترة، ومضى علم النفس يكشف عن مكنونات عقله، وطفق علماء البشر يَصرفوُن من جهد البحث الدقيق في الكشف عن قوالب حياته الاجتماعية، مثل ما يصرف الأحيائيون نحو مستعمرات النحل والنمل. أما ما هي طبيعته، فقد انقطع لمدارستها الشاعر والفيلسوف واللاهوتي، بكل ما أوتوا من همة وقدرة، ولقد انكشف لنا عن الكثير من أمره، ولكن تبقى الأكثر مما لم يُعرف، فالإنسان ما يزال قادرًا على الإفلات من ثقوب الشباك التي نحاول أن نصيده بها. إنه عَقِد بحيث يتعذر أن يُحصر في قالب، شقيت النواحي، بحيث يعسر أن يُعرف ببساطة. إنه مزيج من المتناقضات المحيرة، إنه ما يزال بحق: جلال الكون ونكتته وسره.
لم ينظر العلامة «داروين» في الإنسان «ابن الطبيعة الثائر» كما ينعته سير «راي لنكستر»، من وجهة النظر التي تعبر عنها الأسطر التي نقلناها عن الأستاذ «أدموند و. سينوت». نظر فيه من زاوية أخرى، أقصر باعًا من هذه، نظر من الزاوية التي رسمها في كتابه «أصل الأنواع»، وقد فسَّر فيه أسباب التطور العضوي، وطبَّقها على الإنسان في كتابه «نشوء الإنسان» الذي نشره بعد كتابه الأول بجملة من السنين.
إن نزعات العلم الحديث قد رفعتنا، على ما أعتقد، إلى ذروة نشرف منها على ذلك اللج الواسع، لج الفلسفة. أما إذا جازفت بأن أنغمر فيه، فليس ذلك عن إيمان بقدراتي على السبح، بل ابتغاء أن أُظهِر، كم هو عميق ذلك الماء!
إزاء هذا التحول الكبير في وجهة النظر الإحيائية — وإن شئت فقُل في موقف العلم من ماهية الحياة — يتعذر على كاتب يحاول أن ينصف الفكر، أن يهمل في بحث الإنسان إحدى الناحيتين: ناحية جسده بوصفه حيوانًا، وناحية نفسه بوصفه ذا ماهية حيوية. أما الناحية الأولى فسنقصرها على وجهة النظر التي مضى فيها «داروين»، ثم نعقِّب عليها بما تحول فيه الفكر من بعده.
بعد أن استتب الأمر لمذهب التطور، وهدأت من حوله العاصفة التي أثارها المتزمتون في أنحاء الدنيا، نشر العلامة «أوزبورن» كتابه المعروف «من الإغريق إلى داروين»، وأتى فيه على تاريخ تدرُّج الفكر في التأمل من تطور الأشياء، فكان ذلك خاتمة الجهد الفكري العنيف الذي قضى على القول بالخلق المستقل؛ أي القول بأن الأحياء قد خُلقت: أجناسها وأنواعها وضروبها، مستقلات بعضها عن بعض بفعل قوة صورتها جميعًا في قوالب لا يمت قالب منها لبقية القوالب التي صيغ على غرارها بقية الأحياء.
من الطبيعي أن الأغارقة لم يطبقوا مذهب التطور على الأحياء بما يظهِرنا على طبيعة الفكرة التي قامت عندهم عن هذا المذهب، وإنما هم كانوا أكثر بيانًا في تطبيقه على تطور الأشياء المادية الجامدة، منهم لدى تطبيقه على الأحياء باعتبارها طبقات بعضها مشتق من بعض، غير أن العرب خطوا بعد ذلك خطوة، فقالوا: إن آخر أفق الجماد متصل بأول أفق النبات، وإن آخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان، وإن آخر أفق الحيوان متصل بأول أفق الإنسان، قال بذلك إخوان الصفا وابن حزم وابن مسكويه وغيرهم.
ثم اتجه الفكر في العصر الحديث نحو النظر في تطور الأحياء، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، وكان «بافون» العالم الفرنسي (١٧٠٧–١٧٨٨) أول مَن كتب فيه بأسلوب علمي، وعقَّب عليه «لامارك». ففي سنة ١٨٠٩ وقبل ظهور «أصل الأنواع» بخمسين سنة، نشر كتابه «فلسفة الحيوان» ثم كتابه «تاريخ الفقاريات الطبيعي»، فأيد في كليهما مبدأ أن الأنواع — ومنها الإنسان — ناشئة من أنواع أُخر. وكان من أثر بحوثه أن نبَّه الأذهان إلى أن ضروب التحول في العالم العضوي وغيره نتيجة سُنن طبيعية صرفة.
وتوالى من بعد ذلك العلماء، متجهين ذلك المتجه، منهم «جفروي سانتيلير» (١٧٩٥)، ودكتور «ولز» (١٨١٣)، و«وليم هربرت» (١٨٢٢)، و«جرانت» (١٨٢٦)، و«باتريك ماتيو» (١٨٣١)، و«فون بوخ» (١٨٣٦)، و«دوماليوس دالوي» (١٨٤٦)، و«رتشارد أوين» (١٨٤٩)، و«هربرت سبنسر» (١٨٥٨)، و«هوكر» (١٨٥٩)، حتى ظهر كتاب «أصل الأنواع» في سنة ١٨٥٩، فكان ظهوره بدء المعركة التي انتهت بإثبات مذهب التطور، وإقراره، وخروجه من حيز النظريات.
منذ أن اختمر مذهب التطور واستوى في تصور «داروين»، وبان له بالشواهد الثابتة أن الأنواع تتغاير وتتحول، لم يستطع أن يفلت من الاعتقاد بأن الإنسان لا بد من أن يكون قد مضى في طوال تاريخه العضوي، خاضعًا لنفس السُّنن التي خضعت لها جميع الأحياء، وبعد أن نشر كتابه «أصل الأنواع» وقبِل الطبيعيون نظريته في الجملة، فكَّر في أن يطبق هذه النظرية على الإنسان، فأكب على الحقائق التي استجمعها، يرتبها ويوازن بين بعضها وبعض، ويستخلص منها النتائج التي يثبت بها أن الإنسان ناشئ من صورة دنيا، هي أقرب إلى القردة العليا، منها إلى أية صورة أخرى من صور الأحياء، وقد فرغ من كتابة فصول كتابه في ثلاث سنوات كاملة، ونشره في فبراير من سنة ١٨٧١؛ أي بعد ثلاث عشرة سنة من نشر كتاب «أصل الأنواع».
إن مَن يريد أن يقضي بحكم فيما إذا كان الإنسان خلقًا متطورًا عن صورة حيوانية كانت موجودة من قبل ثم انقرضت، ينبغي له، أول كل شيء، أن يبحث فيما إذا كان الإنسان يتحول ولو تحولًا تافهًا، في تراكيبه الجسمانية وكفاياته الذهنية، وهل تنتقل هذه التحولات إلى أخلافه، وفقًا للسنن التي يمتد سلطانها إلى الحيوانات الأدنى منه مرتبة؟
ثم عليه أن يتساءل: هل هذه التحولات نتيجة لنفس الأسباب الطبيعية العامة؟ وهل تحكمها نفس السُّنن السائدة التي تؤثر في غيره من العضويات، مثل: التبادل النمائي واستعمال الأعضاء وإغفالها وغير ذلك؟ وهل الإنسان خاضع للانحرافات الخلقية الناشئة عن توقف النماء في بعض الأعضاء؟ وهل يعود شيء من هذه الانحرافات التركيبية إلى رجعي وراثية تنتقل إليه من طراز بدائي من الصور العضوية؟
كذلك من الطبيعي أن نبحث: هل الإنسان، ككثير من الحيوانات، قد أنشأ عترات وسلالات يختلف بعضها عن بعض ولو اختلافًا يسيرًا، أو تتباين بحيث يبلغ تباينها درجة تحملنا على أن نعتبرها أنواعًا متحيرة أو مشكوكًا في نوعيتها، بمعنى أنها لا هي أنواع ولا هي ضروب؟ وكيف تتنوع هذه السلالات استيطانًا في كرة الأرض؟ وكيف يكون سلوكها الحيوي عند تهجين بعضها من بعض في الجيل الأول من نسلها وفيما يعقبه من الأجيال؟ إلى غير ذلك من أطراف البحث الأخرى.
ينبغي للباحث أن ينتقل بعد ذلك إلى مسألة ذات بال متسائلًا: هل ينزع الإنسان إلى التكاثر بنسبة سريعة بحيث يؤدي تكاثره إلى صور من التناحر الشديد على البقاء، مما يجر حتمًا إلى تحولات مفيدة تصيب الجسم والذهن فتبقى، أو إلى تحولات مضرة فتفنى؟ وهل سلالات الإنسان — وإن شئت فقل ضروبه — إذا شئنا أن نداول بين الاصطلاحين في الاستعمال، يزاحم بعضها بعضًا في الموطن مزاحمة تنتهي بأن ينقرض بعضها؟
لقد أثبت «داروين» بما لا سبيل إلى دفعه، أن جميع ذلك واقع في عالم الإنسان، وأنه ما من سؤال من هذه الأسئلة إلا وينبغي أن يُجاب عليه بالتسليم والإيجاب، كما لو كان موضوعها حيوانات أخرى أدنى مرتبة من الإنسان، ولنبدأ إذن في النظر إلى أي حد يدلنا تركيب الإنسان العضوي، دلالة واضحة أو متهافتة، على انحداره من صورة أحط منه في سلم الارتقاء.
من الحقائق التي لها دلالتها الواضحة القوية، أن الإنسان مركب على نفس الغرار العام — وإن شئت فقل على نفس القالب — الذي انصبت فيه بقية ذوات الثدي. فكل العظام التي يتألَّف منها هيكله، لها مثيلاتها في القرد أو السعدان أو الخفاش أو الصيل، وكذلك عضلاته وأعصابه وأوعيته الدموية وأمعاؤه والدماغ — ويتركب من شقي المخ والرنح والمخيخ وبداية النخاع المستطيل — وهي أهم الأعضاء جميعًا، لا يند على هذا القانون، كما أبان عن ذلك المشرح «هكسلي» وغيره من المشرحين، حتى إن «بيشوف» — وكان من المنكرين — يسلم بأن كل شق وكل طية في دماغ الإنسان، لها ما يقابلها في دماغ الأرطان (إنسان الغاب) وهو من القردة، ولكنه يزيد إلى ذلك أن دماغيهما لا يتماثلان في أي طور من أطوار نمائهما، ذلك ليقول بأن عدم تماثلهما برهان على تفارقهما أصلًا، وقد غفل عن أنهما إذا تماثلا، وذلك مستحيل؛ إذن لتماثلت قواهما العاقلة تمامًا.
على أنه من الإطناب الذي لا طائل وراءه، أن نمضي في تفصيل المشابهات الكائنة بين الإنسان والحيوانات العليا، من حيث تركيب الدماغ وبقية أجزاء الجسم؛ لأن ذلك يتعلق ببحوث تشريحية لا محل لها هنا. ولكن ذلك لا يمنع بديهة من ذكر بعض ظواهر عامة، إن كانت لا تتعلق مباشرة أو ظاهرًا بالتركيب العضوي، فإنها تثبت بجلاء ذلك التجاوب أو تلك الصلة الكائنة بين الإنسان والحيوان.
قد يتقبل الإنسان من حيوانات أحط منه، كما قد ينقل إليها، أمراضًا معينة، كالسعار (الكَلَب) والذيبة والزهري والكوليرة والهرص، وغير ذلك، وهذه الحقيقة تقيم الدليل على المشابهة بين الأنسجة والدم، سواء في التكوين أم التركيب، على صورة هي من الوضوح والجلاء، بحيث لا تبلغ إليها المقارنة بأقوى المجاهر أو بأدق التحليلات الكيماوية. والسعادين (النسانيس) عرضة للإصابة بنفس الأمراض غير المعدية التي تعرض للإنسان، ولقد عرف «ريخر» بعد أن عكف طويلًا على ملاحظة نوع منها يُسمى «الحَوْدَل الأزاري» في مواطنه، أن هذا السَّعدان كثير الاستجابة إلى الزكام بنفس أعراضه المعروفة، وأن الزكام إذا عاوده في فترات قريبة، فقد يكون سببًا في أن يُصاب بالسل، وتُصاب هذه السعادين أيضًا بالحمرة والتهاب الأمعاء وبياض العين، كما لوحظ أن صغارها قد تموت وهي تشق أسنان اللبن، وللعقاقير فيها نفس تأثيرها في الإنسان، وكثير من السعادين تهوى الشاي والقهوة والمشروبات الروحية وتدخن الطُّبَّاق بلذة كبيرة، ويؤكد «برهم» أن سكان شرقي أفريقيا يصطادون الربابيح (جنس من السعادين الكبيرة) بأن يتركوا بمقربة من مرابعها أوعية مفعمة بالمَرِيسة (البوظة) فتشرب منها حتى تثمل. ويقول «برهم» إنه رأى بعض هذه السعادين، وكانت مأسورة عنده، في مثل هذه الحال، ووصف من تصرفاتها وسلوكها وحركاتها ما يُضحِك ويسلِّي، وقال إنها في صبيحة اليوم التالي كانت في خُمار شديد، كظيمة خائرة القوى، تمسك رءوسها المصدعة بأيديها، معبرة عن آلامها بما يثير الشفقة بها والعطف عليها، فإذا قدمت لها المريسة أو الخمر، عافتها وتنكرت لها، واستحبت شراب الليمون، وعُرف عن سعدان أمريكي من جنس «الكهول» خَمِر مرة بشراب «البراندي»، فعافه ولم يمسه مرة أخرى، فكان بذلك أعقل بكثير من أبناء آدم، وهذه الحقائق على بساطتها تظهِر إلى أي حد تصل المشابهة بين أعصاب الذوق في الإنسان والسعدان، وعلى أية صورة من التماثل يتأثر الجهاز العصبي فيهما.
يغزو الإنسان طفيليات جوفية، كثيرًا ما يكون لها آثار مهلكة، كما أنه يُصاب بطفيليات خارجية كلها ترتد إلى ذات الأجناس أو الفصائل التي تصيب غيره من ذوات الثدي، وفي مرض «الجرب» تكون من نفس النوع، ويتعرض الإنسان تعرض الثدييات والطيور، وحتى الحشرات، لحكم تلك السُّنة الخفية التي تسبب مظاهر سوية في الأفراد، كالحمل ونضوج حضانة بعض الأمراض ومداها، متبعة في ذلك دورات قمرية، والجروح في الإنسان تلتئم بنفس الطريقة التي تلتئم بها في الحيوان، وكذلك الجذامير التي تتخلف بعد بتر بعض أطرافه، وبخاصة في بداية الطور الجنيني، كثيرًا ما تكون حائزة للقدرة على التجدد، كما يُشاهد في أحط صور الحيوان.
يتضح من ذلك إذن أن علاقة الإنسان بما هو أدنى منه في عالم الحيوان، علاقة تتجاوز حد التشابه الظاهري، بل تتخطى هذه العلاقة الظاهرية، إلى علاقة النشأة والدم والاستعداد الفزيولوجي.
ولا تقف حقائق العلم عند هذا وحسب، بل هي تدخل في حيز المشاهدة العيانية. فالإنسان في الطور الأول من تخلقه الجنيني يكون بُيَيضة ملقَّحة، لا يتجاوز قطرها واحدًا على خمس وعشرين ومائة من البوصة، وليس هذا فقط، بل إن هذه البييضة لا تختلف في التركيب الكيموي عن بقية بييضات ذوات الفقار، أضف إلى ذلك أن الجنين البشري، في أول مدارج تخلقه، يتعذر تمييزه من بقية أجنة ذوات الفقار، وفي هذا الطور المبكر تمتد الشرايين في فريعات أشبه شيء بالأقواس، كما لو كانت تنقل الدم إلى شُعَب لا وجود لها في الفقاريات العليا، بالرغم من وجود البقور البلعومية على جانبي العنق، مشيرة إلى مكان وجودها في أسلافه، ولقد حقق الأستاذ «فون باير» أنه عندما يتقدم تخلق الجنين البشري شيئًا ما، تبدو أطرافه (اليدان والساقان) متخلقة على نفس الصورة السوية التي تظهر بها أرجل العظايا (السحالي) وذوات الثدي، وأجنحة الطيور وأرجلها.
في مدارج متقدمة من تطور الجنين البشري، تبدو الانحرافات التي تميزه من جنين القرد، في حين أن جنين القرد ينحرف عن جنين الكلب في تخلقه، بمقدار ما ينحرف جنين الإنسان عن جنين القرد، وبالرغم مما في هذه الحقائق من الروعة البالغة، فإنها حقائق ثابتة تؤيدها المشاهدة.
وما دام الأمر على هذه الصورة من البيان، فإنه من الإطناب الذي لا غنية فيه، أن نمضي في جولة من الموازنات تظهر فيها أوجه المشابهات التي تقع بين أجنة الإنسان وأجنة غيره من ذوات الثدي، ولكن مما لا يحسن إغفاله أن جنين الإنسان يشابه غيره من أجنة الحيوان الأدنى منه مرتبة في سلم الارتقاء، وفي مدارج متقدمة من تخلقه. فالقلب مثلًا يلوح كأنه وعاء نابض صغير، وعظم العصعص (نهاية العمود الفقاري الأسفل) يظهر كأنه ذَنَب كامل، وفي أجنة الفقاريات التي تتنفس الهواء توجد غدد خاصة تُسمى «الأجسام الولفية»، وهي تقابل وتعمل عمل الكليتين في الأسماك البالغة، ولقد نرى في أواخر مدارج التخلق الجنيني في الإنسان مشابهات مثيرة بين الإنسان والحيوان الأدنى، وفي هذا يقول المشرح «بيشوف»: «إن تلافيف الدماغ في الجنين البشري عندما يبلغ الشهر السابع من العمر، يكون مماثلًا، من حيث النماء والتكوين لدماغ الحبن (الجيبون: من القردة) عند البلوغ.»
إن إبهام القدم في الإنسان، وهو مركز الاتزان عند الوقوف والمشي، ربما يكون أخص تركيب تشريحي فيه.
ذلك لأن إبهام القدم في القردة يؤلِّف زاوية منفرجة من بقية أصابع القدم، ولا يساير اتجاهها كما في الإنسان. ولكن العلامة «ويمان» قد وجد أن إبهام القدم في جنين بشري طوله بوصة واحدة، يكون أقصر من بقية الأصابع، وبدلًا من أن يكون مسايرًا لاتجاه بقية الأصابع، يبرز منحرفًا عن القدم مكونًا في انحرافه زاوية مقدارها كمقدار نفس الزاوية التي ينحرف بها إبهام القدم عن بقية الأصابع في الأيدويات (أي ذوات الأيدي الأربع)، وهي القردة بأجناسها الأربعة المعروفة: الغرلي والشمزي والأرطان والحِبْن.
الخلاصة من ذلك كله تنتهي عند قولة العلامة «هكسلي» إذ يتساءل: «هل يتولد الإنسان بأسلوب غير الأسلوب الذي تتولد به الكلاب والطيور والضفادع والأسماك وغيرها من ذوات الفقار؟» يقول «هكسلي»: إنه لا يتردد لحظة واحدة في القول بأن أسلوب التولد البشري، وبخاصة في خلال المدارج الأولى من تخلقه الجنيني، مماثل تمامًا للأسلوب الذي تتولد به أجنة غيره من الحيوانات التي تنزل عنه رتبة في سلم التطور، وإن الإنسان، من حيث علاقته النشوئية، أقرب إلى القردة، من علاقة القردة بجنس الكلب؛ أي إن الفرجة بين القردة والكلاب تتسع، كما تضيق الفرجة بين الإنسان والقردة العليا.
في جميع الحيوانات العليا، ومنها الإنسان، أعضاء أثرية، بمعنى أن هذه الأعضاء كان لها منفعة خاصة في أسلافها، ثم قلَّت الحاجة إليها، فأغفل استعمالها حتى انضمرت وتعطلت وظائفها، وصارت في قوام الجسم آثارًا لا تقع منها، وإنما تدل على علاقة بالحيوانات التي تملك مثل هذه الأعضاء، ولا تزال ذات نفع حيوي لها في حياتها الحاضرة.
ويفرِّق «داروين» بين الأعضاء الأثرية وأخرى يسميها الأعضاء المتعطلة، فالأولى أعضاء فقدت كل وظائفها الأولى، ولم يبقَ لها من وظيفة فزيولوجية أو حيوية تؤديها. أما الأعضاء المتعطلة، فأعضاء قلَّت الحاجة إليها، فأخذت تتعطل لتمضي نحو الحالة التي بلغتها الأعضاء الأثرية. فالأعضاء المتعطلة إذن أعضاء ماضية في مدرج انقراضي، خطوته التالية أن تصبح أعضاء أثرية.
من أين تأتي هذه الأعضاء الأثرية في حيوانات عليا، إن لم تكن هي بذاتها العاملة في أسلاف هذه الحيوانات، أخذت تضعف لقلة الحاجة إليها، ثم مضت نحو الزوال بفقدان وظائفها كليًّا أو جزئيًّا؟ على أن للانتخاب الطبيعي أثرًا كبيرًا أيضًا في تخليف هذه الأعضاء، فإن تغاير حالات الحياة، قد تفضي ببعض الأعضاء أن تصبح مضرة بالأحياء، فإن لم تسارع الطبيعة بتعطيلها والعمل على وقف وظائفها أو تعويضها بأعضاء أخر تؤدي وظائف جديدة، كان ذلك سببًا في انقراض الأحياء؛ أي انقراض أنواع أو أجناس برمتها.
ففي الإنسان مثلًا عدد كبير من العضلات المتعطلة والعضلات الأثرية، يمكن أن يعثر على ما يقابلها عاملة قائمة بوظائف رئيسة في حيوانات أُخر، فليس منا من لم يشاهد حصانًا أو حمارًا يحرك جلده حركة تموجية ليطرد عنه الهوام، في جسم الإنسان بعض عضلات مشابهة لهذه العضلات، كعضلات الجهة التي بها يمكن تحريك غضونها. وكذلك العضلات السطحية التي تكون تحت فروة الرأس والعضلات المحركة للأذن، إنها في الإنسان عضلات أثرية، ولكن لها وظائف عاملة في حيوانات أخر، فمن أين تكون في الإنسان إن لم تكن آتية إليه بالوراثة من أسلافه الذين كانوا في حاجة إليها، وكانت هي ذات فائدة لهم في مدرج ما من مدارج النشوء العضوي؟
ولقد عقد «داروين» فصلًا طويلًا في تعداد هذه الأعضاء الأثرية في الإنسان، مستقصيًا أصولها في غيره من الحيوانات، وبخاصة القردة والسعادين.
ولم يقتصر «داروين» على ذلك، فقد عقد فصولًا أخرى في تقصي قوى الإنسان العقلية من حيث دلالتها على تطوره من صورة دنيا، وكذلك تناول مواهبه وخِصِّياته الأدبية والذهنية ونشوءها في العصور البدائية وفي عصور الحضارة، وبحث فوق ذلك مركز الإنسان في نظام الطبيعة.
عندما نشر «داروين» كتابه «أصل الأنواع» ثارت ثائرة أصحاب الرأي القديم؛ لأن النظريات العلمية التي أقام عليها مذهبه تنقض الآراء التي ورثوها عن أسلافهم الأولين، ولما نشر كتابه «نشوء الإنسان» ثارت ثائرتهم وعملوا على نقض مذهبه ببراهين مستندة إلى المنقولات القديمة تأييدًا لوجهة نظرهم، أما وجهة نظرهم فتعبر عنها بعض نقوش صُورت في كثير من الآثار والمعابد، ومن هذه النقوش نقش يمتاز بالتعبير عن المذهب القديم في الخلق وأصل الكون، فالواحد القهار — تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا — جالس في صورة بشرية بوداعة ولين، يصنع الشمس والقمر والنجوم، ويعلقها في القبة الصلبة التي تحمل من فوقها السماوات العلى، وتظلل الأرض السفلى!
من حول هذه الفكرات، وغيرها من الآراء والتصورات التي عبَّرت عنها النقوش والصور وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفسا والحفر في خلال القرون، تكثفت نواة من الاعتقاد، مضت محتكمة في كل ما أبرز العقل الإنساني من صور الفكر.
بدأت معاول الهدم تقوِّض أركان ذلك الاعتقاد منذ أواخر القرن السادس عشر، فنقضت النظرية القديمة في الفلك، وكان ذلك أول ما هزَّ الأساس المأثوري من أعماقه. وفي أواخر القرن التاسع عشر تم ﻟ «داروين» ونصرائه تقويض البقية الباقية من ذلك البناء، وارتدت الأرض سيارًا صغيرًا يدور من حول الشمس، بعد أن كانت مركز الكون والخليقة، وعاد الإنسان حيوانًا متطورًا من صورة أقل منه ارتقاء، وأرقى قليلًا من القردة العليا.
لقد وقف إنسان القرن التاسع عشر يترنح من أثر الصدمة، هل يودع الإنسان معتقداته القديمة كلها ويدفنها في ثرى الفكر، كما دفن من قبلها معتقدات وأوهامًا؟ هل هو حيوان ولا شيء غير ذلك؟ ما خطب إنسانيته؟ وما خطب طبيعته المزدوجة التي رافقه الاعتقاد بها مئات الألوف من السنين منذ أن كان كائنًا قليل الحول فاقد الحيلة يسكن الكهوف ويغتذي بما يجد، لا بما يشتهي؟ لقد انتهى «داروين» من أمر الجسد، فأثبت أنه جسد حيوان أرقى من غيره، ولكن ما خطب النفس؟ ما خطب الروح؟ وما خطب الغيب الذي تحيط به أسبابه إحاطة السوار بالمعصم؟
كان مذهب «داروين» انتصارًا للمادية الصرفة، ولكنه انتصار لم يكن حاسمًا ولم يكن قاطعًا، غير أن الفكر بعد أن اصطدم بصخرة «التطور» مضى يتخبط غير مستقر، ومضى زمن طويل قبل أن يدرك سواد الناس أن «داروين» إنما تناول ببحثه العلمي عصر «ما بعد الخلية» التي هي أساس الحياة بكل صورها، ولكنه لم يعرض للبحث في عصر «ما قبل الخلية» ليعرف كيف نشأت الحياة في تلك الصورة البسيطة، ومن أين هبط ذلك السر الرهيب، سر الحياة الذي جعل من المادة الجامدة كائنًا حيًّا.
إذن، فلم يكن انتصار المادية انتصارًا حاسمًا قاطعًا، بل كان انتصارًا جزئيًّا، لم يتجاوز أنه تفسير لبعض وجوه من خِصِّيات المادة، تناول «داروين» منه ناحية المادة الحية؛ أي المادة بعد أن دبَّت فيها الحياة، ولكن ما الحياة؟ ذلك هو سر الأسرار!
عندما شعر الماديون بأن انتصارهم لم يكن حاسمًا، وأن الحياة — وإن شئت فقل ماهية الحياة — هي الصخرة التي تتحطم عليها أسس المادية، قالوا بالتولد الذاتي؛ أي إن الحياة قد تتولد ذاتيًّا، من مادة غير حية، غير أن ذلك لم يقم على شيء من حقائق العلم، ولم يثبته الأسلوب العلمي؛ لأن العلم إنما يثبت، كما قال «باستيان» أن كل حي إنما يتولد من حي مثله. وإذن فهنالك حادث خطير وقع فاصلًا بين عصرين: عصر ما قبل الخلية، وعصر ما بعد الخلية، وفي الكشف عن السر الذي يختفي من وراء ذلك الحادث، ينطوي مستقبل الإنسان كله، أيتجه إلى المادة، أم يتجه إلى الروح؟
لقد ظهر للباحثين أن للأحياء مقومات تبثها فيهم فطرة الحياة، وأن لجميع هذه المقومات مظاهر لم يعللها العلم الطبيعي ولا علم الأحياء، ولا تعود كذلك إلى تفاعلات كيموية. فما هي إذن؟ لقد عجز العلم المادي عن أن يجيب على هذا السؤال حتى الآن.
وهذا الكتاب بالرغم من أن نتائجه قد تعاند مأثورات متفرقة، له فكرة جوهرية ثابتة، فإنه يحاول أن يرد كل مجالي الحياة الطبيعية في الإنسان، إلى حقيقة أحيائية هي «التقويم الذاتي» — هذه الخِصِّية التقويمية في الأشياء الحية، وهي بينة في الأسلوب الذي ينتحيه الكائن العضوي المتخلق بصلابة وتزمت — إذ يدرج نحو الاكتمال، منسقًا نواحي نشاطه بمعيار غاية في الضبط والدقة، قد يعتبر نوعًا من «نشدان الهدف»، ومن ثمة ظاهرة عقلية. ولقد نبَّه عدد من فواره الأحيائيين إلى المشابهة بين الناحيتين، العقلية والتخلقية في الأشياء الحية، ومنها يمكن استنباط نهج سديد لتعليل كليهما، استنادًا إلى «الغاية القصدية الأحيائية».
ويقول: «إن الروح هي جملة المثيرات الطبيعية والرغبات والانفعالات التي تنبع من «القصدية الجبلية»؛ لتغرس فينا أهدافًا ونزعات مختلفة الصور، وعيية ولا وعيية، وهذه أشياء فطرية في الخلية الحية، ولو أنها عرضة للاستعلاء والاستدناء، ومثل هذا التصور يهيئ لنا أساسًا لمذهب فلسفي، يتخذ من «نشدان الهدف» بؤرة مركزية، ويهيئ مكانًا للقيم الروحية وللنفس ولله.»
«إن أعسر مشكلة في علم الأحياء، هي أن نستكشف كيف تستحدث صورة سوية مخلقة، لا كتلة معدومة الصورة، في أثناء تنشئة الحيوان والنبات، إن كل كائن حي، هو عبارة عن كيان متعض، ونسميه الكائن العضوي، وكل وظيفة أو جزء فيه، متصل اتصالًا وثيقًا ببقية الكيان، بحيث يتجه الكل عند التدرج في النماء نحو اكتمال الفرد البالغ، كأنما هو يتجه نحو «هدف»، فإذا عيق التخلق أو اضطرب حبله، فإن الكائن العضوي، وبخاصة في أطواره الأولى، وفي صور الأحياء الدنيا، يبدي نزعة قوية نحو استعاضة أعضاء فُقدت، أو تنظيم مقومته النمائية؛ ليقتدر بذلك على أن يصل إلى «هدفه». فكل جزء يكون قادرًا، ولو بالقوة، على أن يعيد تخليق الكل، فيظهر الكل كأنه كائن في جميع الأجزاء.»
إن نزعات العلم الحديث قد رفعتنا، على ما أعتقد، إلى ذروة تشرف منها على ذلك اللج الواسع، لج الفلسفة، أما إذا جازفت بأن أنغمر فيه، فليس ذلك عن إيمان بقدراتي على السبح، بل ابتغاء أن أُظهِر كم هو عميق ذلك الماء!
(٣) عراف الطبيعة
«تشارلس روبرت داروين»، خامس أولاد «روبرت وارنج داروين» وثاني أبنائه، من زوجته «سوزانة ودجوود». وُلد في ١٢ من فبراير سنة ١٨٠٩ في «شروزباري» حيث كان يقيم أبوه، وكان أبوه طبيبًا نابهًا موثوقًا به، فعاش في رغد مكفي الحاجة.
قد يقنعنا ذلك بأن صفات «داروين» العلمية والتأملية قد انحدرت إليه عن الأصلاب لا عن الأرحام، غير أن إطلاق أحكام تعميمية في مثل هذه المسائل أمر لا يخلو من تورط فيما لم تتضح حقائقه العلمية بعد بصورة قاطعة.
إن طفولة «داروين» وشبابه، لم يدلا على أنه سيكون شيئًا فوق الأوساط من الناس. غير أن هنالك حقيقة لا ينبغي أن نهمل ذكرها، هي أن المؤثرات التربوية التي عرضت له في ذلك الدور من حياته، لم تكن مواتية لحفز مواهبه الكامنة، وكثيرًا ما يعرض لناشئين ذوي عبقريات كامنة، أن يطفئ فيهم هذه الشعلة القدسية، نظام تعليمي قاسٍ، أو معلم فاسد الذوق، أو بيت يجهل أربابه كيف يُساس الناشئ لكي يحتفظ بما وهبته الطبيعة من كامن الصفات، ولست أرى أن الفارق بين المواهب في الأفراد الأسوياء كبير كما يُخيل لبعض الناس، بل أعتقد أن الفوارق قليلة، وإنما تعظم الفروق وتتسع المباينات، وفقًا لظروف النشأة والتربية ووسائل التعليم.
عرض مثل هذا للصبي «داروين»، ولولا أنه كان ذا شخصية قوية ومؤهلات خلقية فيها صلابة الفولاذ، إذن لما شقت عبقريته الطريق إلى الظهور؛ ليتسنم بها تلك البقعة الشامخة من المجد العلمي.
أضف إلى ذلك أن للصفات البدنية في الناشئ أثرًا كبيرًا في تغلبه على عقبات التربية والتعليم، إن صادفته عقبات، وعلى هذا كان «داروين» في صباه نشيطًا ذا بسطة في الجسم والعقل، وبه رغبة في حياة الحقول وألعابها ومسلياتها، مستهينًا بالمتاعب الجسمانية، تلك الصفات التي هي من خصائص أهل الريف، أولئك الذين كانوا المنبع الذي استمد منه التاريخ كثيرًا من عباقرة الرجال.
كذلك اختُص «داروين» بقدرة عقلية لا تمل من التأمل في الأشياء فلا ينتابها التراخي، كما تأفف من النظر في مشكلات العلم والحياة من زاوية واحدة، يفسر ذلك ما قال «داروين» في سيرته الشخصية من أنه كان كثير الإكباب على النظر في كل ما يستهويه إطلاقًا ومن غير تحديد لموضوع أو شيء، كذلك كان ذا قدرة نادرة على متابعة العمل مهما كان مرهقًا، كما كان يفضل الموضوعات الصعبة المعقدة على غيرها من الموضوعات الهينة، من ذلك ما أظهر من ميل إلى دراسة الكيمياء العلمية مشتركًا مع أخيه الأكبر حيث كان يكب على التجارب في معمل صغير إلى ساعة متأخرة من النهار، حتى سماه أقرانه في المدرسة «مستر غاز»، على أن ذلك لم يكن ليصرفه عن الأدب، وكان له به شغف خاص، فقد كان من هوياته المحببة الإكباب على قراءة «شكسبير» و«ولتر سكوت» و«بيرون»، وكان شغوفًا بقصائد «هوراس»، ولما ارتحل للطواف حول العالم، اختار أن يكون ديوان «ملتون» رفيقه المفضل.
إذن، فقد كان «داروين» مستعدًّا لأن يتعلم، مؤهلًا بالطبيعة أن يصبح شيئًا في دنيا الإنسان.
من سوء حظه، أن مدرسة «شروزبري» عندما التحق بها «داروين»، كانت كأنها متحف لعروض الماضي، اقتصرت الدراسة فيها على الأدب القديم، وبخاصة التمرس على قرض الشعر، لم يعنَ فيها أية عناية بالمعلومات الأخرى اللهم إلا بقليل من الجغرافية القديمة، والتاريخ القديم. أما الرياضة فلم يكن لها كبير شأن في تلك المدرسة، إلا شيئًا من هندسة إقليدس، استعان «داروين» على تحصيله بمدرس خاص. ثار مدير المدرسة يومًا على الصبي «داروين» وعنفه بشدة؛ لأنه كثيرًا ما ينفق وقته في تحصيل مادة تافهة كالكيمياء. أما الأدب واللغات الحديثة والجغرافية الحديثة والتاريخ الحديث فموضوعات لم تكن بأسعد حظًّا من الكيمياء عند القائمين على ذلك المعهد.
لا جرم أن هيئة التدريس في مدرسة «شروزبري» لم ترَ في الصبي «تشارلس داروين» غير إمعة بليد الذهن، فالعقل الذي يتجه إلى تحصيل المعرفة، ويأنف من الصم، العقل الذي يمجِّد الأدب، ويمتعض من الإكباب على الآجرومية الصرفة، لن يكون في نظرهم عقلًا فيه خصوبة يُرجى منها نفع، أو يكون به قدرة على الابتكار، لقد كانت سنوه المدرسية غفلًا من كل فائدة يمكن أن يحصلها فتى يتهيأ لمواجهة الدنيا، خرج من المدرسة وليس له من علم بشيء مما يحتاج أن يكون عالمًا به، منزهًا عن كل دُربة عملية يمكن أن يستفيد بها في حياته، ولا شك في أن التمكن من أدب اللغة والعلم بمبادئ العلوم الطبيعية، كان مما يستفيد به «داروين» في مستقبل أيامه، فضلًا عن ترويض عقله ترويضًا يتمشى مع متجهاته الفطرية، كما أن العلم بلغة أجنبية كالفرنسية أو الألمانية، كان مما يزيح كثيرًا من العقبات التي عاناها في بحوثه العلمية.
في سنة ١٨٢٥ صح عند دكتور «روبرت داروين» أن ابنه «تشارلس» لن يستفيد بشيء من بقائه في مدرسة «شروزبري»، فأرسل به إلى «أدنبرة» وكان بها شقيقه «إراسموس» لكي يدرس الطب ويصبح في النهاية طبيبًا معالجًا، غير أن الظاهر أن الأخوين كانا من فكرة واحدة، أو كانا على الأقل مدركين أن ميراثهما كافٍ لأن يعفيهما من العمل على الكفاح في سبيل الحياة، ذلك الكفاح الذي هو من نصيب أصحاب المهن العلمية أو الفنية، ومن ثمة أطلقا لميولهما العنان، منصرفين إلى ما يرضي ذوقيهما، أكثر من انصرافهما إلى الإكباب على تحصيل برنامج الطب، كان «إراسموس» ضعيف البنية، فريسة لنوبات من المرض، صدته عن أن يفكر في مجد يناله أو صيت يتيه به في مجتمعه، غير أنه كان مفرط الذكاء واسع المعرفة بكثير من الأشياء، فلا شك في أن ذلك كان له أثر في أخيه «تشارلس» أو على الأقل في توجيهه، ولو لم يكن ذا علم واسع بعلوم البيولوجيا، أو كبير الاهتمام بها، كذلك لا نشك في أن صلته باثنين من أقرانه هما: «كولدستريم» و«جرانت»، وقد أصبحا فيما بعد من علماء الحيوان المعروفين، ومن مؤيدي مذهب «لامارك» في تحول الأحياء، كانت السبب في أن يتوجه «داروين» إلى دراسة الأحياء المائية، وكان يتردد على جمعية «فرنر» العلمية، فاتصل بالعلامة «مكجليفاري» العالم الأورنيثولوجي المعروف، ومن طريقه اتصل بالعالم «أوزوبون» الذي هام بحياة الطيور ورسمها مصورًا مختلف تصرفاتها أدق تصوير، أضف إلى ذلك أنه تلقى عن زنجي كان يرافق الرحالة «ووترتون» قبل أن يستقر في «أدنبرة» صناعة تحنيط الطير.
ما من شك في أن «داروين» قد حصَّل كثيرًا من أطراف المعرفة في أثناء عامين أقامهما في «إيقوسيا»، غير أن جميع ما حصَّل في تلك الأثناء لم يكن ذا علاقة بالتعليم الأكاديمي، ولا مراء في أن هيئة الأساتذة في «أدنبرة» كانت إلى السلب لا إلى الإيجاب في حياته التعليمية، بل أخشى أن أقول إنها كانت عائقًا أكثر منها حافزًا؛ ذلك بأنها كانت السبب في أن يكره قاعة المحاضرات، بل إنها غرست في نفسه كراهية شديدة لمواد العلم، حتى ولدت فيه التبرم بها والضجر منها، فلم يستثنِ من هيئة الأساتذة غير دكتور «هوب» أستاذ الكيمياء، أما البقية فكانوا لديه من الخمول بحيث يتعذر احتمالهم، ولم يستطع أن يتخلص من ذلك الأثر النفسي برهة طويلة من حياته.
فمن بعد أربعين سنة، طاف بخياله محاضرات أستاذ «المادة الطبية» في «أدنبرة» فوصفها بأنها «ذكرى مخيفة». أما أستاذ التشريح فكان في محاضراته من الخمول ما يعبر أفصح تعبير عن خموله، ولا أذكر أني قرأت في جميع ما اطلعت عليه من رسائله وكتبه، عبارة فيها من القسوة والتشفي مثل ما وصف به أستاذ التشريح، أما أستاذا الجيولوجيا والحيوان، فلم يتحرج عن أن يقول فيهما إنهما بلغا من بلادة الذهن مبلغًا يبعد تصديقه، حتى إن سامعيهما قد تتولد فيهم نزعة خطيرة بأن يعاهدوا أنفسهم على ألا يقرءوا كتابًا في الجيولوجيا، أو يجازفوا بمدارسة هذا العلم، ما امتدت بهم الحياة!
إن ما بلغ إليه «داروين» من نباهة الذكر وبسطة العلم، لا شك يبرر كثيرًا من انصرافه عن هذه المحاضرات المعنِتة، إلى القراءة فيما يلذ له من موضوعات الأدب والعلم، غير أن الناحية التي استغرقت مواهبه فيما بعد، كانت — ولا شك — تحتاج إلى علم واسع بالتشريح، فكان نفوره من شهود محاضراته ودروسه العملية سببًا في أن يشعر ذلك العالم الكبير بنقص في مؤهلاته، حتى لقد قال بأن ذلك كان شرًّا مستطيرًا.
ذكر «داروين» في سيرته الشخصية أنه كان يميل إلى دراسة الطب وممارسة المهنة، كما تؤيد أعماله العلمية أن به استعدادًا للتشريح، وبالرغم من مقته الشديد للجراحة، فقد كان يمكن أن يصبح — لو هُيئت له الأسباب — طبيبًا كأبيه، وكان من المحتمل ألَّا يكتب «أصل الأنواع».
بعد عامين قضاهما في «أدنبرة» أدرك أبوه بما اتُّصف به من حصافة وحدة ذهن، أن شابًّا لا يجد في محاضرات الأساتذة إلا البرم والضجر، ولا يقوى على أن يدخل قاعة التشريح، ويهرب من النظر إلى العمليات الجراحية، ويرى أنه في غير حاجة إلى مهنة تكفيه حاجة العيش، مستحيل عليه أن يكون طالب طب، وهداه تفكيره أن يحوِّل «تشارلس» إلى جامعة إنجليزية، وأن يوجهه نحو الكنيسة، ورأى الشاب أن الفكرة حسنة، بالرغم من أن رجل الدين، وفي بيئة ريفية، لا يجمل به أن ينصرف إلى هواية من الهوايات، وبخاصة جمع نماذج من الأحياء لدراسة التاريخ الطبيعي، والصيد في الغابات والمروج، وبعد تفكير وبحث، وافق على مقترح أبيه.
إلا أن «داروين» لم يكن خاملًا ولا بليدًا ولا متلافًا مضيعًا لوقته وعمره؛ ذلك بأنه وجد في كتاب «بالي»: «فلسفة المعنويات» وكتاب «شواهد النصرانية» غُنية عن هواياته فأكبَّ عليهما؛ لأنه وجد في منطق الكتابين لذة وفائدة، لم يدانهما عنده إلا اللذة والفائدة التي أنسهما في كتاب «إقليدس».
•••
لم يكن ذا أذن موسيقية، وكان ضعيف الذاكرة في تملي الأنغام، ولكنه بالرغم من هذا كان شديد التعلق بالموسيقى، فالتحق عضوًا بجمعية موسيقية، ولم يكن نقَّادة لأعمال الفن وبخاصة الرسم، غير أنه كان يبدي على بعض اللوحات نقودًا هي في صميم ذلك الفن الرفيع.
إن حياة «داروين» حياة تعلقت بالعلم، وبعلم الأحياء وما يتعلق به أو يتفرع عنه عامة، فلنعد إذن إلى تلك الناحية، بعد أن أنصفناه، فوصفنا من هواياته ومن ميوله الشاعرية ما يكفي أن نعرف عن عالم سلك طريق العلم، فاستطاع أن يستحدث فيه ما حوَّل تيار الفكر العلمي كله في أواسط القرن التاسع عشر.
لقد ولج «داروين» أبواب «كمبردج» وفي نفسه غضاضة من علم الجيولوجيا، ورثه عن مقامه في «أدنبرة»، غير أن الأساتذة الذين شغلوا كثيرًا من كراسي الأستاذية في «كمبردج»، وبخاصة في علمي النبات والجيولوجيا، كانوا من طابعٍ باينَ طابع أساتذة «أدنبرة» مباينةً تامة، وكان ذلك سببًا في أن يعزف «داروين» عن محاضرات الأستاذ «سدجويك» الجيولوجي المعروف، غير أنه انتمى إلى شعبة النبات، ولم يبدِ بالنبات كبير اهتمام، ولكنه كان شديد الشغف بالرحلات العلمية التي كان يضفي عليها «هنسلو» أستاذ علم النبات كثيرًا من المرح والاستفادة العلمية من ناحية، ولأن التطواف في أنحاء الريف كان من هواياته المحببة.
لا شك في أن مؤهلات «داروين» في ذلك الطور، لم تكن تتعدى مؤهلات شاب عاقل ذكي صبور على جمع الطرز الطبيعية، وتدوين مذكرات واضحة بما يقع تحت عينه من مشاهدات، ولقد كان شاعرًا بجميع ذلك عارفًا بحقيقة كفاياته، فلم تتعدَّ مطامعه أن يعود إلى بلاده بجملة من مادة العلم الأولية ينتفع بها علماء وطنه، بحيث يكون ما يجمع وما يدوِّن محلًّا لثقتهم، ولا يجعلهم في شك من أمر ما يزودهم به منها.
كان هذا بدء المرحلة الرابعة في حياة «داروين» التعليمية، ولا شك أنها المرحلة التي كوَّنت الرجل والعالم والفيلسوف، ولم تكن المراحل السابقة غير تمهيد أولي صرف، أعد ذهنه الخلاق إعدادًا صرفه إلى ناحية التاريخ الطبيعي.
إن الحقائق التي أشار إليها «داروين» فيما سبق، من شأنها — ولا شك — أن تثير فضول الفيلسوف المفكر، غير أنها — ولا شك — تظل أساسًا غير سليم للتأمل والاستقراء الصحيح، ما لم تستجلِ، وذلك بقدر كافٍ من الضبط والدقة، حقيقةَ العلاقات الكائنة بين الأنواع الموجودة والأنواع المنقرضة، وكذلك العلاقات الكائنة بين مختلف الأنواع التي تقطن بقاعًا جغرافية متباينة، ولم يتسنَّ ذلك له قبل عودة «البيجل» إلى أرض الوطن.
ولقد حدد «داروين» ذلك التاريخ (يولية سنة ١٨٣٧) عندما أشع في فكره أول بارقة من الضوء أنارت سبيله إلى مذهبه العظيم.
لما كنت على ظهر «البيجل» مضيت أعتقد في ثبات الأنواع، ولكن على قدر ما تعي ذاكرتي، كانت تساورني شكوك غامضة إزاء ذلك بين آونة وأخرى، ولما عدت إلى الوطن في خريف سنة ١٨٣٦ عكفت بلا تردد على إعداد مذكراتي العلمية لتُنشر، فآنست إذ ذاك كثيرًا من الحقائق التي تؤيد تحول الأنواع وتسلسل بعضها من بعض، وبدأت في شهر يولية سنة ١٨٣٧ في تدوين الحقائق التي قد يكون لها صلة بهذا الموضوع، ولكني لم أقتنع بأن الأنواع كائنات متحولة، قبل مضي عامين أو ثلاثة أعوام على ما أتذكر.
إذن، فاتجاه «داروين» الذهني قد مضى يتحول، أخذ بجانب علم الجيولوجيا شيئًا ما، وينزع إلى علم الأحياء (البيولوجيا)، كيف يستطيع أن يفلت من ذلك الاتجاه، وقد صُورت في ذهنه صورة فرضية تؤيدها حقائق بين يديه، وقد رأى فيها أنها المفتاح إلى «سر الأسرار» كما يقول في مقدمة كتابه «أصل الأنواع».
على هذا النهج رُبي وترعرع المذهب الذي شغل عقل «داروين» بقية أيام حياته. لأي من الأسباب تعود تلك الظاهرة، ظاهرة أن بين الأنواع علاقات واضحة تربط بينها مكانيًّا وزمانيًّا؟ ما هو السبب في أن حيوانات أرخبيل «جلاباجوس» تشابه حيوانات جنوبي أمريكا، بيد أنها تختلف عنها بعض الشيء؟ لماذا تختلف حيوانات تلك الجزيرات بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا في بعض الحالات، تافهًا في غيرها؟ لِمَ تكون حيوانات الدور الجيولوجي الأخير في جنوبي أمريكا مشابهة في المظهر لتلك التي تعيش الآن، بيد أنها تباينها نوعيًّا وجنسيًّا؟
مضى الباحثون عن الإجابة على هذه الأسئلة قبل عصر «داروين» يقولون بأن الحيوانات والنباتات قد خُلقت على ما هي عليه وكما تقع عليها أعيننا في هذا الزمن، وأن استيطانها الحالي إنما يرجع إلى هجرات واسعة النطاق أقدم عليها أسلافها الأقدمون بعد أن غيض ماء الطوفان واستوت سفينة نوح على اليبس.
وبالرغم من أن كثيرًا من الجيولوجيين قد عملوا جاهدين على إثبات أن الطوفان لم يعم وجه الأرض في عصر من العصور السالفة، وأن الأرض إن كانت قد أصابتها الطوافين، فإنها كانت طوافين موضعية صرفة، فإن كثيرًا منهم، وعلى رأسهم «سير لايل» كانوا يعتقدون بنظرية الخلق المستقل لصور الحيوان والنبات. ذاعت قبل «داروين» مذاهب في تعليل تطور الأنواع، منها مذهب «ده ميليه» و«إراسموس داروين». غير أن أشهرها جميعًا مذهب العالم الفرنسي «لامارك»؛ إذ كان فيه إثارات من التعليل العلمي القائم على المشاهدة.
كثيرًا ما أشرت إلى مذهبي على أنه تحوير في مذهب «لامارك» في النشوء والارتقاء. أما إذا كانت هذه هي فكرتك النهائية في الموضوع، فليس عندي إذن ما أقول، غير أن ذلك ليس الواقع على ما يلوح لي، فإن «أفلاطون» «وبافون» وجدي «إراسموس»، قد ذهبوا من قبل «لامارك» مذهب أن الأنواع إذا لم تكن قد خُلقت مستقلًّا بعضها عن بعض، فلا مناص من القول بأنها قد تحولت عن أنواع أخر. ولست أرى بين مذهبي في «أصل الأنواع» وما قال به «لامارك» من شبه غير ذلك. على أن تفسير المذهب على هذه الصورة مضر به مفسد لحقيقته.
لقد عثر على مفتاح ذلك السر بعد قراءة مستفيضة واستيعاب ذهني كامل لمقالة مشهورة كتبها «مالتوس» عن «التعداد» وتكاثر السكان، وكان ذلك في خريف سنة ١٨٣٦، ظهر له من هذه المقالة أن تزايد الأفراد غير المحدود، يقتضي حدوث ما سماه التنافس على وسائل البقاء، وأن نجاح جانب من المتنافسين معناه خيبة الآخرين، وأن ذلك معناه الانقراض. وأن «الانتخاب»؛ أي انتخاب المتفوقين في معركة التنافس، إنما يرجع إلى أنهم أكثر تكيفًا مع الوسائل والحالات التي يقتضيها التنافس، فإذا كان التحول العضوي قد يحدث في ظل الطبيعة الصرفة حدوثه في ظل الإيلاف، إذن فالتكاثر غير المحدود يقتضي تنافس الضروب المختلفة، وأن ذلك التنافس لا بد من أن ينتهي بانتخاب الأكثر تكيفًا مع مختلف حالات الحياة.
من الطبيعي أن «إراسموس داروين» و«لامارك» لم تمر بذهن أي منهما خطرة من الظن بأثر ذلك النهج الطبيعي الذي سماه «داروين»: الانتخاب الطبيعي. وعلى الرغم من أن شيئًا من ذلك كان قد مر بخاطر «دكتور ولز» في سنة ١٨١٣ وتوسَّع فيه «باتريك ماتيو» في سنة ١٨٣١، على ما أثبت «داروين» في ملحق تاريخي لتدرج العقول في فكرة أصل الأنواع، نشره في أول كتابه، فإن هذه الآراء ظلت مجهولة لدى علماء التاريخ الطبيعي حتى نشر كتاب «أصل الأنواع».
مبدأ انتخاب التحولات النافعة التي تولِّدها الأسباب الطبيعية، طريقٌ علَّل به «داروين» ظاهرة التكيف التي عجز عن تعليلها من قبل، ذلك بالإضافة إلى أنه السبب في نشوء مختلف أنواع الصور الحية، ذلك بأن الانتخاب الطبيعي إنما يقوم أساسًا على مقومة التكيف؛ إذ لا فارق مطلقًا بين قولك: إن الفرد الناجح في معركة التنافس هو «الأصلح» للبقاء، أو قولك: هو الأكثر «تكيفًا» مع البيئة. ولا شك في أن أكثر صور «التكيف» تعقدًا أو رقيًّا، قد يكون نتيجة منظومة طويلة من التحولات النافعة تُستجمع على مدى الزمن.
من العجيب أن يبدي «داروين» كثيرًا من الاهتمام بتعليل هذه الظاهرة الثانوية، ويعقد على تعليلها أهمية كبرى، إلى جانب تلك السُّنة الأحيائية الكبرى، سنة الانتخاب الطبيعي … غير أن هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على ما انعقدت عليه عقلية «داروين» من نزعة علمية ثابتة، وما جرت عليه أساليب بحثه في جميع المسائل التي عالجها، فأتفه الظواهر في نظر العالم، لا تقل شأنًا عن أجلها وأخطرها، فربما كانت التوافه مفتاحًا لأعصى الأسرار.
ومهما يكن من أمر ذلك، فإن نظرية أصل الأنواع بالانتخاب الطبيعي، تتضمن بالضرورة ظاهرة انحراف الصورة المنتخبة عن صفات أصولها، فإن الفرد الذي يمضي في التحول، لا بد من أن ينحرف عن طراز نوعه، أما أنساله التي لا محالة يزداد فيها التحول بتأثير الانتخاب، فلا شبهة في أن يزداد فيها الانحراف استتباعًا، لا عن العترة الأصلية فحسب، بل عن كل سلالة تابعة لتلك العترة، مبتدئة بتحول له مظهر مباين لمظهر غيره من التحولات الأخرى. أما عملية الانتخاب فلا يمكن أن تؤثر أثرها، ما لم تكن الصورة المنتخبة — أو إن شئت فقل الضرب المنتخب — أكثر تهايؤًا وتكيفًا مع الحالات الطبيعية، مما تكون عترته الأصلية، فإذا عز التحول على صور في بيئة كثرت فيها الصور المتحولة، كان ذلك إيذانًا بانقراضها، في حين أن الصور المتحولة؛ أي القادرة على أن تزداد تكيفًا وتهايؤًا مع الحالات الطبيعية، فتلك تزداد انتشارًا، وتحتل في نظام الطبيعة مركزًا أفسح وأكثر تنوعًا في ظواهره.
إن نظرية الانتخاب الطبيعي على الصورة التي ظهرت في كتاب «أصل الأنواع»، كانت قد اكتملت في عقل «داروين» في سنة ١٨٤٤؛ إذ كتبها وأفرغ فيها جهد العالم المؤمن بصحة علمه، حتى إنه اتخذ كل حيطة لكي تنشر في الناس إذا حدث به حدث الموت.
غير أن هذا الرجل قد ضرب لكل المشتغلين بالعلم والمفكرين أعلى المُثل على الصبر وبُعد النظر والتريث في الوثوب إلى النتائج قبل التثبت من جميع مقدماتها واحتمالاتها؛ إذ ظلت هذه النظرية تحوم في تفكيره خمس عشرة سنة من بعد ذلك، لم ينفق منها ساعة من ساعات عمله إلا باحثًا وراء ما يؤيدها من حقائق يستجمعها من قراءاته الواسعة المستفيضة لكل المؤلفات التي يتوسم أن يكون فيها شيء ينتفع به في تأييدها أو إثبات طرف من أطرافها، كذلك لم يألُ جهدًا في أن يراسل أي عالم يتوقع أن يجد عنده شيئًا من العلم يستفيد به في بحوثه، على أن هذا الجهد العلمي الفريد، ظلت المعرفة به مقصورة على صديقين أو ثلاثة من خاصة أصدقائه، ولعل هذه الصفة، صفة التريث والخوف من تغلغل الخطأ في ثنايا البحث العلمي، كانت أخص الصفات التي مكَّنت لهذا الرجل العظيم من أن يكون المثل الأعلى للعالم والباحث والمفكر.
كان لهذه التجربة العلمية أثر عظيم في إثبات أن الصور المتقاربة في سلم الارتقاء الطبيعي يدخل بعضها في بعض حتى ليتعذر تعيين مركزها في التصنيف الطبيعي، وأن ذلك التدخل إنما يحدث عند محاولة التفريق بين الضروب الراقية المتحولة والأنواع، فيتراءى للمصنف في هذا المجال كثير من الصور التي سماها «داروين» الصور المتحيرة أو الأنواع المتحيرة حينًا والأنواع المبدئية حينًا آخر.
في سنة ١٨٥٤ انتهى «داروين» من كتابه عن السلكيات. وما لبث أن عاد إلى مدوناته التي كتبها في تحول الأنواع، مكبًّا على درسها مستزيدًا من مذكراتها، ومضى يبوبها، حتى تكتمل عنده الصورة التي يمكن أن يستهدي بها في معالجة «أصل الأنواع».
في شهر يونية سنة ١٨٥٨ وصلته رسالة من «ألفرد روسل وولاس» وكان في أرخبيل الملايو يدرس التاريخ الطبيعي لتلك الأنحاء عنوانها: «بحث في نزعة الضروب العضوية إلى الانحراف كليًّا عن طرازها الأصلي». ولقد وصف «داروين» هذه الرسالة فقال: «إن «وولاس» لو اطلع على الخلاصة التي كتبتها في سنة ١٨٤٢، لما استطاع أن يستخلص منها أكثر مما جاء في رسالته، إن كثيرًا من اصطلاحاته التي استعملها قد دخلت كتابي عناوين لبعض فصوله.»
ولقد طلب «وولاس» من «داروين» أن يرد إليه الرسالة بعد قراءتها؛ لأنه لا يريد أن ينشر محتوياتها، ولكن «داروين» كتب إليه يستأذنه في أن يرسل بها لأية صحيفة، ولو أن نشرها كان من شأنه أن يستلب من «داروين» كل ما في عمله من ابتكارية وإبداع، ويرد عمله كله مجرد تطبيق للنظرية التي فصَّلها «وولاس» في رسالته.
(٤) أصل الأنواع
قفَّى «داروين» على هذا بكتابة ملخص كامل أحصى فيه النتائج التي اطمأن إليها في مدى عشرين سنة قضاها باحثًا في أصل الأنواع، قضى مكبًّا على هذا العمل ثلاثة عشر شهرًا، وظهر مطبوعًا في نوفمبر من سنة ١٨٥٩ بعنوان: «أصل الأنواع وتطورها بالانتخاب الطبيعي وحفظ السلالات المحبوة في التناحر على البقاء». بهذا وُلد «كتاب أصل الأنواع» بعد ذلك المخاض الطويل.
قد يخامرنا الشك في أن كتابًا غير «أصل الأنواع» ما عدا كتاب «المبادئ» ﻟ «سير إسحق نيوتن»، قد أحدث من الثورة الفكرية ما أحدث هذا الكتاب، وفضلًا عن تلك الثورة التي أحدثها، كان له أثر آخر، هو أنه طبع التفكير العلمي بطابع ثابت عميق الأثر، فلم يكن إذن عبارة عن بحث أثبت أن الأنواع متأصل بعضها عن بعض، وأن الإنسان حيوان متطور، بل تعدى ذلك إلى مناحي التفكير في كثير من مجالاته الأخرى، فاكتسب بذلك صفة الأثر الدائم في تحويل تيار الفكر والبحوث العلمية معًا.
إن العاصفة التي أثارها «أصل الأنواع» كانت ذات طابع خاص، والدليل على هذا أن أصدقاء «داروين» وأعداءه، كلاهما أساء فهم الكتاب، وتولى عنه رجال العلم، كما تولى عنه رجال اللاهوت، فلئن كان كتاب «المبادئ» قد ينافس «أصل الأنواع» فيما أحدث من ثورة فكرية، فقد تفرد «أصل الأنواع» بأن يثير عجاجة بل عاصفة هوجاء، إن تطامنت وهدأت في خلال قرن كامل (١٨٥٩–١٩٥٩) بعض الشيء، فإن كل شواهد التقدم العلمي تدل على أنها ستظل ثائرة عددًا لا نحدسه من الأجيال في المستقبل.
كثير من الناس يدخلون التاريخ، ولكنَّ للتاريخ بابين: بابًا أماميًّا، وبابًا خلفيًّا، الأكثرون يدخلون التاريخ من الباب الخلفي، فلا يلبثون غير قليل حتى تغمرهم موجات الزمن، أما «داروين» وبيده كتاب «أصل الأنواع»، فمن القلة القليلة الذين دخلوا التاريخ من بابه الأمامي، ولم يدخله خلسة، بل دخل التاريخ، وبابه الأمامي مفتوح على مصراعيه.
كان السبب فيما أصاب هذا الكتاب من شهرة كبيرة، وما أفضى إليه من جدل واسع عريض، اتصال بعض نواحيه بمسائل فلسفية ولاهوتية، لها في أذهان الأذكياء من الناس إما كثير من الاحترام وإما كثير من القداسة، غير أن هذا وحده لا يكفي أن يكون تعليلًا لما نال الكتاب من صيت بعيد ومنزلة في عالم الفكر، سلَّم بها المؤيدون والمفكرون على السواء.
من ذلك، بل من أهم هذه الأسباب، أسلوب الكتاب، فإن أسلوب «داروين» في «أصل الأنواع» بالذات، أسلوب امتاز بالليونة والهدوء، اللذين يخفيان من ورائهما صعوبة الموضوع وتعقده، أسلوب هو أشبه شيء بلين الرمال التي إن غرتك ليونتها، فإنها لا تلبث أن تبتلعك، ومن ذلك أيضًا ما يحفل به الكتاب من ضخامة المعلومات العامة، وفخامة التنسيق وفراهة الحكم واستقلال الرأي إزاء أية مشكلة من مشكلات التاريخ الطبيعي عُرضت فيه، ومنها مشكلات لا يستسيغها غير الراسخين في العلم، أو أولئك الذين حلَّق خيالهم في آفاق العبقرية، وقليل ما هم.
نحن لا نكتب سيرة «داروين» بوصفه «كائنًا عضويًّا» وُلد ومات، وإنما نكتب سيرة تطوره العقلي، وإذن فنحن هنا نكتب سيرة «إنسان» عاقل وضع مذهبًا حوَّل عجلة الفكر عن مجراها القديم. فلنا العذر إذا عاودنا الكلام في أساسيات ذلك المذهب بقدر ما يكون ذلك صالحًا لرسم صورة كاملة من تاريخ تطوره الفكري.
إذن، فالذين يقولون: إن «داروين» قد وضع نظرية أثبت بها تكيف الأحياء للبيئة، ولم يثبت كيف تأصلت؛ أي «أصل الأنواع»، إنما يكونون قد أساءوا فهم النظرية إلى درجة كبيرة، ذاك بأن الواقع أنه طوعًا لنظرية الانتخاب ينبغي أن يحوز كل نوع من الأنواع خِصِّية أو أكثر من الخِصِّيات التركيبية أو الوظيفية، تمكِّنه، بما تضفي عليه من تأييد وغلبة، أن يشق طريقه في غمار المنافسين والأعداء، فيفوز بالبقاء، وبهذا المعنى يكون كل نوع قد «تأصَّل» بطريق الانتخاب.
هنالك حالة أخرى يلوح معها «الانتخاب» كأن لم يكن له أي أثر في التأصيل. يقول «داروين» في «أصل الأنواع»: «ما لم تتولد التحولات المفيدة … يعجز الانتخاب الطبيعي أن يأتي بشيء.» (ص٨٢، الطبعة الأولى)، وقال: «ما من شيء يمكن حدوثه (في الأحياء) ما لم تظهر التحولات المفيدة.» (ص١٠٨)، وقال: «إن ما ينطبق على حيوان، لا بد من أن ينطبق على غيره من الحيوانات خلال كل العصور، بمعنى أنها إذا تحولت وإلا فالانتخاب الطبيعي يعجز عن إبراز أي أثر فيها، وهكذا الأمر في النبات.»
ومحصل هذا كله أن «أصل الأنواع» إنما يقوم في جملته على نشوء «التحولات». في حين أن أصل كل نوع بذاته إنما يرجع إلى نشوء التحولات، ثم انتخاب تحول بعينه والاحتفاظ به راسخًا في صفات النوع.
إن الوقوف على حقيقة هذا الأمر ضروري للاحتراز من الوقوع في أخطاء كثيرًا ما أضلت النقاد والباحثين.
كذلك خلط كثيرون بين فعل الأسباب الطبيعية التي تولد التحولات والانتخاب الطبيعي، مشيرين إلى ذلك بما سموه «المصادفة»، وهؤلاء ومن يجري على نمطهم، قلما قرءوا العبارة الأولى من الفصل الخامس من «أصل الأنواع»؛ إذ يقول «داروين»: «تكلمت في بعض الأحيان كما لو كانت التحولات راجعة إلى محض المصادفة، إن هذا التعبير بعيد عن الصحة بعدًا كبيرًا، غير أنه يكفي، على ما يظهر، للتعبير عن جهلنا عن السبب في حدوث كل تحول خاص.»
أمر آخر له أهمية كبرى في تفهم حقيقة النظرية، محصله أن كل نوع بينما هو في حاجة إلى خِصِّيات تكيفية إليها يرجع بقاؤه وغلبته بطريق الانتخاب، قد يكون حائزًا لخِصِّيات أخرى لا هي مفيدة ولا هي ضارة، بل هي خِصِّيات «محايدة»، كما قد تكون غير مواتية لمصلحة النوع شيئًا ما، ذلك بأن التحولات لا تتولد في عضو معين أو وظيفة معينة في وقت لا غيره، بل هي تتولد في أوقات كثيرة، وإذن فتحول مفيد من شأنه أن يفضي إلى انتخاب سلالة جديدة أو نوع جديد، قد يصاحبه تحولات أخرى «محايدة» أي لا هي ضارة ولا هي نافعة، في حين أنها تكون وراثية ثابتة في وراثيتها، ثبات التحولات المفيدة. فتركيب عضوي مفيد هو ثمرة تكوين عام متكيف، قد تبرز وتتجلى من بين ثمرات تكوينية كثيرة أخرى، في حين أن مقومة الانتخاب الطبيعي، تسوق التكوين العام في السبيل الذي تفرضه خِصِّية مفيدة معينة، ومثال ذلك نبات من نوع ما، قد يتوقف بقاؤه على التكيف الانتخابي في زهراته إلى حشرات تخصبها. غير أن صفات أوراقه قد تكون نتيجة تحولات ذات صفات «محايدة»، وإنما يشير «داروين» إلى أصل هذه التحولات، وكثيرًا ما أشار إليها، بما سماه «سنن النماء المتبادل» أو «التحول المتبادل».
تسوقنا هذه الاعتبارات إلى النظر في ركاكة الاعتراضات التي وجهت إلى نظرية «داروين»، قائمة على القول بأن الانتخاب الطبيعي لا يكفي لتعليل نشوء الأعضاء المفيدة للأحياء في بدايتها، إن المصدر الذي نبحث فيه عن هذه «البدايات» إنما هو «التحولات» المختلفة التي تظل بمنجى عن التأثر بالانتخاب الطبيعي، حتى تتشكل بصورة تصبح عندها مما يُستفاد به في «التناحر على البقاء».
لا تحتاج نظرية «داروين» إلى أوليات تقوم عليها أكثر من الحقائق المستمدة من الوراثة والتحول والتكاثر غير المحدود، وصحة ما يُستقرأ من تأثير العامل الأخير في الضروب، وما ينبني عليه من حدوث التناحر على البقاء، كما أنه ليس بذي بال لإثبات هذه النظرية أن يمشي التحول في طريق تدريجي أو في طريق قطعي، أو أن يكون التحول محدودًا أو غير محدود، كذلك نجد أن هذه النظرية أقل احتياجًا إلى البحث في أسباب الوراثة أو أسباب التحول؛ لأن كل ملابساتها إنما تتعلق بالظواهر المترتبة على هذه العوامل الخفية.
حقيقة أن «داروين» قد أبدى في سياق بعض بحوثه في «أصل الأنواع» اقتناعًا بالأسباب المفضية إلى فئة من هذه الظواهر، غير أن هذه الآراء، وبمقدار ما لها من علاقة بالمذهب في واقعه، هي من الاستطرادات لا من الصلب، فكانت تأتي عرضًا وعفو الخاطر، ففيما يتعلق بالأسباب المحدثة للتحول، وبخاصة في الطبعة الأولى من الكتاب، قد أتت من أولها إلى آخرها بحكم السياق، فقد رُد السبب الأقوى فيها إلى تأثير التغايرات التي تصيب حالات الحياة التي حفت بأسلافها، وقد ظن أن لها فعلًا ثابتًا في الجرثومة المولدة عن طريق أعضاء التناسل، ولقد أشار المرة بعد المرة إلى العادة والاستعمال والإغفال وتأثير الحالات الطبيعية بطريق مباشر وإن كان غير ذي أثر كبير، كما أنه نبَّه إلى صعوبة التفريق بين الآثار التي تخلفها هذه العوامل، والآثار التي يخلفها الانتخاب، على أن هنالك صنفًا واحدًا من التحولات استمده من تأثير الانتخاب، هي التحولات التي تصيب الخصب التناسلي في الصور التي تتصل لُحمتها الطبيعية قليلًا أم كثيرًا، فهو يعتبر أن قلة الخصب أو العقر، كاملًا أو جزئيًّا، إنما يأتي في أعقاب حدوث التباينات المكتسبة.
من حيث الصعاب التي اكتنفت مسألة الأسباب التي يرجع إليها التحول، لا ينبغي لنا أن نُؤخذ بالعجب في أن «داروين» مضى يتراوح حينًا إلى ناحية وحينًا إلى أخرى، ولسنا نقع على فروق كبيرة بين الطبعة الأخيرة من «أصل الأنواع» (١٨٧٢) والطبعة الأولى في هذا الصدد.
ما من شيء يصح أن يحول بين المؤيدين لنظرية الانتخاب الطبيعي، إذا أرادوا أن يعزوا أهمية كبرى إلى تأثير حالات البيئة تأثيرًا مباشرًا وانتقالية التكيفات الوراثية التي قد تحدثها تلك الحالات، وهنالك الكثير مما يمكن أن يؤيد القول بأن ما يُسمى الأثر المباشر لحالات البيئة، هو بذاته مظهر من مظاهر الانتخاب الطبيعي.
(٥) صوى الطريق
بعد فترة قصيرة قضاها «داروين» في مدينة «كمبردج» نزح إلى لندن، وأقام بها خمس سنوات بعد عودته من رحلته الطويلة، وفي أثناء إقامته في لندن شغل وظيفة كاتم السر للجمعية الجيولوجية، بالرغم من رأي صديقه الكبير «سير تشارلس لايل» في أن «الوظيفة» حرة أو حكومية، من شأنها أن تحد من النشاط العقلي، وقد يترتب على ذلك أن يفوت المرءَ كثيرٌ مما قد يمكن أن تصل إليه مواهبه في نواحي المعرفة، علمية أو فلسفية، من حسن حظه أنه لم يكن مضطرًّا أن يدفع مثل هذه الضريبة يقتطعها من حريته أو مواهبه أو ميوله العلمية أو الأدبية، غير أن حملًا أثقل من جميع ذلك كان يتربص به في مطاوي العمر.
في أثناء النصف الأول من رحلته، ظل «داروين» محتفظًا بصحته وعنفوانه البدني الذي اتصف به في صباه، بل كان مثالًا لبحارة السفينة في القدرة على احتمال المتاعب وصنوف الحرمان، غير أنه لم يكد يصل ثغر «فلباريزو» في سنة ١٨٣٤ حتى أصابه اضطراب جسماني شاذ غريب الأعراض، إن استطاع أن يفلت من براثنه، فقد ترك في كيانه وبنيته آثارًا لم تفارقه مدى البقية الباقية من حياته، وفي أثناء إقامته بمدينة لندن كانت تعاوده نوبات من الغثيان مصحوبة بانحطاط كبير في قواه، وكانت هذه النوبات تتولاه في دورات متقاربة، ولما تقدم به السن، كان يقضي الشطر الأكبر من يومه، حتى في أحسن أوقاته، صريع الألم، ممسوسًا بكثير من الشعور بالتعاسة، وغالبًا ما كان يقضي أشهرًا في ألم متصل، عاجزًا عن تأدية أي عمل، أو التفكير الهادئ الذي تتطلبه اتجاهاته العلمية، ومما لا شك فيه أن صلابته وجَلَده وتصميمه على أن يستفيد بكل جزئية من الطاقة العقلية والجسمية تُتاح له، ما كانت لتمكنه من أن ينجز جزءًا صغيرًا من العمل الشاق الذي أكب عليه في خلال الأربعين السَّنة التالية، لولا تلك العناية الرحيمة الرشيدة الممسوسة بحرارة الحب، والتي هبطت عليه منذ أن تزوج في سنة ١٨٣٩.
في باكورة سنة ١٨٤٢ ساءت حالته الصحية حتى أصبح الخروج من مدينة لندن أمرًا لا مفر منه، فاشترى بيتًا وأرضًا في مقاطعة «كنت»، وعاش فيه بقية أيام عمره، على أن القدرة الذهنية التي تبدت في ذلك المتقاعد الضعيف — وبخاصة في ظل الحالات التي لم يكن محيص من أن يعيش فيها إنسان واهن القوة متهالك الجثمان — كانت مما يستخذي إلى جانبه كثير من الأصحاء، أما في خلال الفترات التي كان يستطيع فيها أن يتمالك نفسه فيعكف على العمل، فإن أطيافًا من الحب والرحمة والحنان، كانت تظل محوِّمة في جوه منبعثة من قلوب جميع الذين من حوله، ولقد وصف كثير من أصدقاء الأسرة الذين كانوا من خلصائها المترددين عليها، ما كان يرفرف على ذلك البيت المنعزل من الطمأنينة والسكينة وهدوء النفس، وصفًا يأخذ بالألباب، ويهز أعمق المشاعر الإنسانية.
مما نشر «داروين» بعد سنة ١٨٥٩ — وهي السَّنة التي نشر فيها «أصل الأنواع» — عديد من البحوث الطوال ناقش فيها بعضًا من النظريات التي اضطر أن يُجْملها في «أصل الأنواع»، وقد انتزعها جميعًا — أو قُل انتزع أكثرها — من مذكراته التي اتخذها مرجعًا لكتابه العظيم.
من هذه البحوث كتابه: «الوسائل المختلفة التي بها تتخصب السحلبيات بوساطة الحشرات»، وقد نشر في سنة ١٨٦٢، وسواء نظرنا في هذا الكتاب، على ما يقول النقاد، من ناحية أهمية النظرية وصحة المشاهدة وفراهة البحث والاستنتاج، أم من ناحية ضخامة المادة واتساع رقعة التنقيب عن الحقائق، فهو من الكتب ذوات الأولوية والصدارة من حيث الأهمية، على أن لهذا الكتاب وجهًا آخر من الأهمية إذا نظرنا فيه من ناحية الاتجاه العقلي الذي اتجهه المؤلف، وعلاقة ذلك بالبحث في أصل الأنواع، فمنذ بداية تفكيره اعتقد «داروين» أنه ما من نظرية في تعليل أصل الأنواع يمكن أن ترضي نزعة المنطق ما لم تتضمن تفسيرًا للطريقة العملية التي تؤدي إلى استحداث التكيفات التركيبية، وكما قلنا من قبل: رفض «داروين» وجهة نظر «لامارك» لما بها من قصور ظاهر عن تزويدنا بمثل هذا التفسير فيما يتعلق بالكثير الغالب من الآليات الحيوانية؛ أي التصرفات الآلية للحيوان، وكل ما في عالم النبات من مثل ذلك.
تدرج «داروين» في معلوماته الطبيعية من هذه الناحية، ولمس ما للتخاصب التهجيني من قيمة كبرى في فترة تقع بين سنة ١٨٣٩ وسنة ١٨٥٧ عندما نشر مقاله الهام «إخصاب الأزهار» في مجلة «البستاني»، وسواء أكانت النتائج الأخيرة التي وصل إليها «داروين»، وتقضي بأن التخاصب التهجيني مفيد لزيادة الخصب في الآباء وزيادة القدرة في النسل، صحيحة أم غير صحيحة، فيترتب على ذلك أن كل تلك الأجهزة الآلية التي تسوق إلى التخصيب الذاتي والتهاجن المفيد، لا بد من أن تكون ذات نفع في معركة التناحر على البقاء، وكلما كان فعل الجهاز الآلي أكمل، كانت الفائدة أعظم، ومن هنا يفتح الباب على مصراعيه أمام الانتخاب الطبيعي؛ ليتدرج بالزهرة حتى تبلغ درجة الكمال بوصفها «مصيدة للإخصاب». ومثل هذا يُقال في الحشرة، فكلما كان تركيبها أكثر تكيفًا مع هذه «المصيدة»، كانت قدرتها على الانتفاع بمطلوبها من الغذاء أشمل، سواء أكان ذلك الغذاء رحيقًا أم لقحًا، في حين أن غيرها من المنافسات تظل بمنأى عن الزهرة فلا تطولها، وبهذا وعن طريق الفعل والانفعال، تتولد منظومتان من التكيف التهايئي: أحدهما في الزهرة، والأخرى في الحشرة.
في سنة ١٨٦٥ بدأ «داروين» شوطًا طويلًا من البحث أقامه على تجاريب صعبة دقيقة، واستمر في شوطه هذا إحدى عشرة سنة، فتزود من ذلك ببينات قوية ثابتة، تؤيد ما للهجنة من أثر في الأحياء، ونشر ثمرة بحوثه هذه سنة ١٨٧٦ في كتاب عنوانه: «تأثير الهجنة والإخصاب الذاتي في مملكة النبات».
وما عكف «داروين» على هذا البحث الشاق، إلا لما تبين له ما فيه من علاقة بنظريته في نشوء الأنواع، غير أنه لم يقف عند هذا، بل قفَّى على هذا العمل بآخر لا يقلُّ عنه مشقة ولا ينزل عنه قيمة علمية، وانتهى منه بمجموعة من الاختبارات استشف منها مجمل التنسيقات المختلفة التي من طريقها تصبح الهجنة من محبُوَّات الطبيعة من جهة، وكيف تسوق إليها ضرورات الحياة من جهة أخرى، وأظهر جميع ذلك في كتاب عنوانه: «صور الأزهار المختلفة في النباتات التابعة لنوع معين». ولقد نُشر هذا الكتاب في سنة ١٨٧٧.
في خلال عشرين سنة عمل فيها «داروين» على ارتياد نواحٍ جديدة من البحث فتحها لعلماء النبات، مظهرًا أهمية تلك الاختلافات الكبيرة في التركيب الزهري وما لها من أثر عميق في حياة النبات من ناحية فسيولوجية صرفة، لم يغفل ساعة واحدة عما يمكن أن يصادفه في خلال بحوثه من ظواهر أخرى أَنِسها في حياة النبات.
جميع هذا ولم يكن من ذوي الاختصاص في النبات، فكثيرًا ما أشار في رسائله إلى جهله بالناحية التصنيفية لمملكة النبات، كما كان علمه بتشريح النبات فسيولوجية أنحف ما يكون، ومع هذا فإن أية ظاهرة نباتية أخرى تعرض له في غير فسيولوجية النبات وتشريحه، تحرك ما غرست فيه الطبيعة من حب التنقيب عن الأسباب، فتسوقه إلى البحث في «كيف» و«لماذا» كانت الظاهرة على ما شهدها، ومن أية ناحية تتصل بوجهة نظره عامة، ومن حسن حظه أن ما ورث عن آبائه من نزعة إلى تكوين النظريات التعليلية والفروض التي تتخذ قاعدة للبحث، قد صحبها نزعة أخرى صرفته إلى إثبات صحة نظرياته وفروضه باختبارات وتجاريب، حتى تكون نتائجه حقيقة بالنشر والعرض على الناس، فجاء كل ما نشر موسومًا بدقة البحث والبيان والتفصيل.
واستمر في بحثه حتى أقام البرهان على أن النبات له القدرة على إفراز مائع هضمي كذاك الذي يفرزه الحيوان، وأنه ينتفع بما يتم هضمه، ومن هنا تدرج في البحث حتى أثبت أن الأجهزة الخاصة في «النباتات الحشرية» — آكلة الحشرات — يمكن أن ينطوي نشوءُها تحت تأثير الانتخاب الطبيعي، أضف إلى ذلك أن هذه البحوث قد أضافت جديدًا إلى معلومات المشتغلين بالنبات من حيث العلم بالطريقة التي تنتقل بها المنبهات في النبات، وزادت الأمل في الكشف عن المقايسة بين المقومات الحركية في النبات والحيوان.
في هذه الغمرة الغامرة من العمل العلمي، وما له من قيمة كبيرة من حيث التنوع، وقد قصره «داروين» على البحث في النبات، لم يغفل عالم الحيوان، فإن الجزء الأكبر من كتابه المستفيض: «تحول الحيوان والنبات بتأثير الإيلاف» (١٨٦٨) وهو البحث الذي قصر عليه الفصل الأول من «أصل الأنواع». قد خص به عالم الحيوان الأليف، وصاغ فيه نظريته في «وحدة التأصل» التي مضى يطبقها على عالم الأحياء كله، نباتًا وحيوانًا.
من أعجب ما تقع عليه في تاريخ الأدب العلمي أن مَن يجاهر بهذا الرأي، يكون مضطرًّا بحكم الظروف أن يخفي في نفسه ما انعقد عليه فكره تلقاء أصل الإنسان، ولقد ظل على ذلك حتى سنة ١٨٧١ عندما نشر كتابه «أصل الإنسان».
أما كتابه «تعبير الانفعالات» فقد كُتب أول الأمر ليكون فصلًا من كتاب «أصل الإنسان»، ثم تضخم فصار كتابًا مستقلًّا، نُشر في سنة ١٨٧٢، وبالرغم من أن «داروين» ظل طوال أيامه حفيًّا بعلم الجيولوجيا، فإنه لم يجد من الوقت ما يصرفه إليه، حتى ولو سمحت بذلك صحته، بعد أن انغمر في بحث الأنواع ونشوئها، غير أن الواقع يدلنا على أن كتابه «تكوين الفطر النباتي بفعل الديدان» إنما هو مثال من النتائج العظمى، التي توقع «سير لايل» أن تبرز بفعل الأسباب الأولية التي ظلت مؤثرة في تضاعيف الطبيعة.