مقدمة
وليس من المستطاع أن تستوفي الخلاصة التي أقدمها اليوم للنشر وجوه الكمال، كما أنه من المتعذر أن أذكر هنا كل الأسانيد والمراجع التي بنيت عليها ما ثبت من بحوثي؛ ولذا آمل من القراء أن يحلوا ما آتيهم به من الثقة محله، ولا شك في أن الخطأ قد دبَّ إلى أطراف من كتابي هذا، غير أني على ثقة من أني تحرزت فلم أستهدِ إلا بأسانيد الثقات. أما النتائج العامة التي انتهت إليها بحوثي، مشفوعة ببعض الحقائق التوضيحية، فذلك ما أستطيع أن آتي على ذكره، وآمل أن تفي بما رغبت فيه، ولا محل للظن بأن ثمة سبيلًا أقوم بما ألجأتني إليه الضرورة من إبقاء المطولات مقرونة بالحقائق وما يتبعها من الأسانيد التي أقمت عليها ما بلغت إليه من النتائج العامة، إلى كتاب أضعه بعد هذا في المستقبل، ولقد بالغت في التحرز من أن أتناول بالبحث في هذا الكتاب شيئًا لا يؤدي إلى إبراز حقائق، يغلب أن تفضي إلى نتائج يناقض ظاهرها، دون حقيقتها، ما أحاط به البحث في تدبر قضيتي، ولا سبيل للوصول إلى النتائج الصحيحة إلا بوزن الحقائق والأقوال بميزان التريث والحكمة، حيث تقلب على أوجه النقد إزاء كل مشكلة بذاتها، وذلك ما ليس في مستطاعنا الأخذ به في هذا المقام.
ولشد ما آسف لما يحول دون استيفاء الاعتراف بما أمدني به كثير من العلماء الطبيعيين من المساعدات، وأخص بالذكر منهم فئة لم تجمعني بهم جامعة شخصية، بما أن ذلك يستغرق فراغًا كبيرًا. بيد أنه لا يسعني أن تمر هذه الفرصة دون أن أعبر عن خالص شعوري لدكتور «هوكر» وقد عضدني خلال الخمسة عشر عامًا المنصرمة، ومهَّد لي كل سبيل مستطاع بما أوتيه من بسطة العلم، وما خُص به من فراهة الإدراك في الحكم ودقة النظر.
•••
وفي ظني أن مؤلف «آثار الخلق» سيقول إنه بعد عدد غير معروف من الأجيال إن بعض الطير سينتج ثقابًا للخشب، وإن بعض النبات سينتج نبات الدبق، وإن هذه وتلك كانت تشبه تمامًا ما نراه اليوم من هذه الأنواع، ويبدو إليَّ أن هذا الغرض ليس تفسيرًا؛ لأنه يترك حالة التكيف والملاءمة بين الكائنات الحية فيما بينها وبين ظروف الحيل الطبيعية المحيطة لم تمس ولم تفسر.
ولما تقدم كان ما ندعو إليه من تدقيق النظر في أسباب التكيف، وحالات التهايؤ المتبادل، أمرًا على أعظم جانب من الأهمية؛ ولذا غلب على ظني؛ إذ ألقيت أول نظرة على هذه القضية، أن دراسة الحيوانات الداجنة، والنباتات المزروعة، خير سبيل أستطيع به أن أستجلي حقيقة ما أُبهم عليَّ من أمرها، فلم تكذبني فراستي، وكنت أجد في هذه الحالات وما يماثلها من الظروف المهوشة المتشاكلة عامة، أن مبلغ معرفتنا على ما به من القصور والتخلخل، لا سيما في حالات التغاير بالإيلاف، قد تنفحنا بأحسن الأدلة والبراهين، وإني لأجدني مسوقًا إلى الاعتقاد بأن دراسة مثل هذه الحالات وما يماثلها، ذات قيمة كبيرة، وإن أنكر شأنها المواليديون (الطبيعيون).
أما الانتخاب الطبيعي، ذلك الموضوع الجوهري، فسوف أعالجه في الفصل الرابع، وسأسهب فيه لنرى كيف يؤدي انتخاب الطبيعة حتمًا إلى انقراض صور الأحياء المتخلفة عن الارتقاء، وكيف يؤدي إلى ما نسميه «انحراف الصفات»، وسأعالج في الفصل التالي لهذا تلك القوانين المعقدة ومعلوماتنا عنها قليلة عن التحول وارتباطه بالنمو، أما الفصول الأربعة التالية لهذا، فسأعرض فيها لأبين المشكلات التي تعترض النظرية، فأعالج، أولًا: مشكلة «التدرجات»؛ أي كيف أن كائنًا أو عضوًا بسيط التركيب، يمكن أن يتطور فيصير كائنًا كامل التطور أو عضوًا مفصل القوام. وثانيًا: موضوع الغريزة أو القوى العقلية في الحيوان. وثالثًا: التهجين، أو عقم الأنواع من جهة وخصب الضروب عند المهاجنة من جهة أخرى. ورابعًا: فجوات السجل الجيولوجي. أما الفصل التالي لهذه الفصول فموضوعه تعاقب العضويات وتدرُّج وجودها خلال الأزمان الجيولوجية. أما الفصلان الحادي عشر والثاني عشر فالكلام فيهما على التوزيع الجغرافي (توزع الكائنات في بقاع الأرض). وسأخص الفصل الثالث عشر بتصنيف العضويات من حيث صلاتها المتبادلة في حالة البلوغ وفي الحالة الجنينية. وسأشرح في الفصل الأخير محصل الكتاب من ألفه إلى يائه، مشفوعًا ذلك ببعض نتائج عامة.
ولا ينبغي أن نعاب على ما لم نظفر باستجلاء غامضه من قضية أصل الأنواع والضروب، فإن جهلنا الجهل كله حقيقة الصلات المتبادلة بين العضويات التي تعيش من حولنا، لا يترك في التورط في لومنا سبيلًا. مَن مِن الباحثين يستطيع أن يوضح لنا سر أن نوعًا ما يكون كثير الذيوع وافر العدد، وأن نوعًا آخر، يمت إليه بحبل النسب، يكون قليل الانتشار ضئيل العدد؟ وعندي أن لهذه الصلات من الشأن ما لا وراءه في الاعتبار غاية؛ لأنها تحدد لكل كائن يعمر هذه الأرض نصيبه من التفوق والغلبة في هذا الزمان، وفيما سيعقبه من الأجيال، كذلك يغيب عنا ما كان من أمر هذه الصلات المتبادلة وأثرها في الكائنات الوفيرة التي عمرت الأرض في خلال العصور الجيولوجية الخالية. ومهما يكن من استغلاق هذه الحقائق علينا في هذا الزمان، ومهما يكن من اعتقادي في بقائها مستغلقة دهورًا متطاولة في مستقبل الأيام، فإني بعد إذ أنفقت ما أنفقت من الوقت في البحث وتقليب الأسفار، وكثرة التأمل والاستبصار، وبما عرفت من الأحكام والاستنتاجات الجُلَّى، وبما لي من الثقة في ذلك كله، لا يمر بي خلجة من الشك في أن ما كنت أقطع به، كما قطع الطبيعيون من القول بأن كل نوع من الأنواع قد خُلق مستقلًّا بذاته، خطأ محض، وإني لعلى تمام الاعتقاد بأن الأنواع دائمة التحول، وأن الأنواع التي تلحق بما نسميه الأجناس اصطلاحًا، هي أعقاب متسلسلة عن أنواع طواها الانقراض، على نفس الطريقة التي نعتبر بها الضروب التابعة لأي نوع، أعقابًا متسلسلة عن ذلك النوع ذاته، وإني فوق ذلك لشديد الاقتناع بأن الانتخاب الطبيعي هو السبب الأكبر والمهيئ الأقوى لحدوث التحولات، ولو لم يكن السبب الأوحد الذي تفرد بإبرازها إلى عالم الوجود.