مقدمة: أنواع الطِّب
هذا كتاب موجَز عن موضوع كبير جدًّا، وقد حاولتُ في هذا الكتاب تقديم إطار عامٍّ لفهم تاريخ الطب منذ أن أَسَّس الإغريق ما يمكن أن نطلِق عليه: الممارسة الطبية الغربية. وإنني لأقدِّم هذا السرد التاريخي من خلال تصنيفٍ يشمل «أنواع» الطب، التي ألخِّصها في الجدول الوارد أدناه، وأتناولها بالشرح في الفصول الخمسة الأولى.
الخصائص | |||||
---|---|---|---|---|---|
مثال | الهدف | شكل ومكان الدراسة | موضوع الدراسة | ||
الأنواع | الطب عند فراش المريض | المريض كاملًا | التدريب الحِرَفي | العلاج | أبُقراط (نحو ٤٦٠–٣٧٠ق.م) |
طب المكتبات | نص | دراسة أكاديمية ولغوية، في الجامعة | الحفظ والشفاء والشرح | قسطنطين الأفريقي (تُوفي قبل ١٠٩٨) | |
طب المستشفيات | المريض، عضو منه | المستشفى | التشخيص | آر تي إتش لاينِك (١٧٨١–١٨٢٦) | |
الطب المجتمعي | السكان، الإحصاءات | المجتمع | الوقاية | جون سايمون (١٨١٦–١٩٠٤) | |
طب المعامل | نموذج حيواني | المعمل | الفهم | كلود برنار (١٨١٣–١٨٧٨) |
إذن فتلك الفئات التاريخية لا تزال فعَّالة، وهي تتيح أسلوبًا للتفكير في تاريخ الطب لا يزال يلقى صدًى لدى مواطني اليوم، الذين يمثِّلون أيضًا دافعي الضرائب، والمنتفعين بالرعاية الصحية، والمستفيدين من استراتيجيات الصحة العامة. تلك «الأنواع» من الطب تدلُّنا على كلٍّ من الأهداف الرئيسية العامة لميزانيات الصحة المعاصرة، وكذلك هوية جماعات المصالح، لا سيَّما على الساحة الأمريكية؛ حيث يتأثر الإنفاق على الصحة بالضغوط التي يمارسها أصحاب المصالح الخاصة؛ ففي جُملة المطالب الصحِّيَّة الرئيسية — مثل: الرعاية الصحية، وخدمات المستشفيات، والصحة العامة، وأبحاث الطب الحيوي، وبناء المعلومات وإتاحتها — ليس ثمة أمورٌ أخرى تقريبًا ينبغي لوزير الصحة في العصر الحديث أن يُعنى بها، ولكنَّ المشكلةَ تكمن بالطبع في تنافُس كلٍّ من تلك الفئات مع الأخرى بصورةٍ ما؛ إذ إنَّ ميزانيات الصحة دائمًا ما تكون محدودة، فكلما زاد إنفاقك على البحث، قلَّ إنفاقك على تزويد المستشفيات بالعمالة أو على الصحة العامة، والعكس صحيح.
كان ثمة تداخُل بين تلك الفئات عبر التاريخ؛ فقد ابتكر الإغريق والرومان — كلٌّ بطريقته — تلك المجموعة الكبيرة من النُّهُج المستخدَمة في التعامل مع المشكلات المتعلقة بالصحة؛ فقد حاولوا الوقاية من الأمراض داخل المجتمع، وأَنْشَئُوا مؤسسات بسيطة للعناية بالعبيد والجنود، واحتاجوا إلى أماكن لتجميع النصوص الطبية، وحاولوا الإضافة إلى متن المعرفة الطبية عن طريق البحث، وبالطبع اعتنَوا بالمريض في فراشه. إلا أن الفئات الحديثة المتمثلة في طب المستشفيات والطب المجتمعي وطب المعامل، نشأت في صورتها الحالية أثناء القرن التاسع عشر، وهي تمثِّل ما نعتبره «حداثة». وفي الفصل الأخير، استخدمتُ التصنيف لصياغة سرد موجز للتطوُّرات الكبرى التي حدثت خلال القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، عندما أصبحت «أنواع» الطب متداخلة.
لقد بنيتُ هذا السرد المختصر بأسلوب يُغَلِّب الممارسة الطبية الغربية، التي تهيمن على جانِبَي الاستهلاك والإنفاق في مجال الصحة في الغرب، كما أنها تمثِّل قوة كبرى في كل مجال. ثمة أساليب كثيرة أخرى بَنى بها المؤرخون رواياتهم، ولكنني اخترتُ هذا الأسلوب لأنني أعتقد أنَّه يتَّسم بكيان تاريخي متَّسِق، وهو مفيد لطرح الموضوع على القارئ المهتم.
لو كنتُ أقدِّم هذه النسخة الخطية إلى مجلة طبية، كان سيُطلَب مني ذكر أي مصالح متنازعة يمكن أن تؤثر على تأويلي للبيانات. وقد عملتُ مؤرِّخًا طِبِّيًّا قرابة أربعة عقود من الزمان، ولكني تلقَّيتُ تعليمًا في الطب أيضًا، أثناء «العصر الذهبي» الذي عَرَّفتُه في الفصل السادس. لا شك أنَّ دراستي الطِّبِّيَّة أثَّرت على تأويلي لماضي الطب، ولكنني حاولتُ هنا أن أتجنب كلًّا من «النزعة التحرُّرية» البالية — التي كانت تنظر إلى التاريخ كله باعتباره عمليةً تطوريةً وسلسلةً من الخطوات المفضِيَة حتمًا إلى الحاضر — وصورتها الأحدث، التي استعاضت عن القيم الفكرية بالقيم الأخلاقية المعاصرة؛ ومن ثَمَّ صارت تُدين التحيز الجنسي والتمييز العنصري وغيرهما من النزعات التي سيطرت على أسلافنا. ويبدو لي أنَّ مَن أمكنهم الوصول إلى الرعاية الطبية المتاحة في الماضي، كانوا يلتمسونها عادةً، ويؤمنون بأنه ثمة طبيب جيِّد وطبيب سيئ، فكانوا يرغبون في أنْ يعهدوا برعايتهم إلى طبيب جيِّد، وكذلك نحن مثلهم، أما ما تغيَّر فهو تعريف الطبيب «الجيِّد».