تقديم أول
وفي تبرير هذه المجموعة من الكتابات، كتبَت مُحررة الكتاب تقول، إن سنوات الستينيات شهدت تغيرًا عظيمًا في الطريقة التي تكتب بها المرأة، وفي موضوع كتابتها؛ فقد أصبحَتْ أصلبَ عودًا، وأقلَّ سنتمنتالية، ولم تعُد تعبأ برقَّة التعبير، والأهم من هذا كله، أن كتابتها صارت في أغلب الأحيان كتابةً شخصية.
وترى المُحررة أن السمة الأخيرة تُشكل مظهرًا جديدًا للنفس المعاصرة التي تستبدل الرؤية الشخصية بالمعرفة الشاملة، وتعكس التغيرات في الأعراف والمُحرمات. فبفضل تحوُّل الموضة من الكاتب «الإله»، إلى الكاتب «أنا»، وما تحقَّق من اختراقٍ لقيود النشر في إنجلترا والولايات المتحدة، «بدأت الكاتبة تستكشف وضعَها والعالَم بأمانةٍ أكثر، وطبيعيةٍ أكثر، وجديةٍ أكثر.»
•••
لماذا الجنس؟
ترى مُحررة الكتاب أن الكتابة الذاتية لا الموضوعية، والكتابة عن الجنس، أمران طبيعيَّان بالنسبة للمرأة، و«لعل الكتابة بحُرية عن الجنس أكثر أهميةً للنساء منه للرجال.» فالمرأة تقع في نقطة توتُّر بين طبيعة بيولوجية لم تتغير على الإطلاق، ورؤيةٍ حديثةٍ بعض الشيء عن حُرية جديدة، مما يجعلها مشغولةً بالمحيط الذي تعمل فيه بيولوجيتها: «الجنس هو مركز هذا المحيط، ولهذا فإن أسبابه ونتائجه، وتأثيراته الاجتماعية والوجدانية، تُشكل مادةَ وجودها. إن التجربة الجنسية لأغلب النساء ليست مجرد تجربةٍ جنسية، وإنما هي محاولة للإمساك بالكون. وسواء كانت حسنةً أم سيئة، فإنها تُسفِر دومًا عن كشف.»
•••
وبالطبع، فإن الجو الذي ساد العالم في الستينيات، هو الذي دفع المرأة الكاتبة، وأتاح لها، أن تتمعَّن عالَمها الجنسيَّ بحُرية.
ولا شك أنه كان عقدًا فريدًا، شهد فيه العالم أحداثًا هائلةً: اكتشافات علمية، غزوًا للفضاء، ثورات تحريرية (من الجزائر إلى فيتنام)، وتمرُّدات على الأنظمة في الغرب والشرق على السواء (من الثورة الثقافية الصينية وربيع براغ إلى ثورة الطلَّاب في ألمانيا وفرنسا). كان هناك ضِيقٌ عارمٌ بالأوضاع المُستقرة، وبالمنظومة الأخلاقية السائدة. وانفجرت الحركة النسوية. واستكشف المُنتجون (في الفن والصناعة) إمكانيات التعبير الفردي الجريء (من الملابس إلى السينما). وكما كان الشأن في الانقلابات الكبرى (الثورة الفرنسية ١٩٧٠م والروسية ١٩١٧م) ارتبط الموقف من العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية بالموقف من وضع المرأة وقضايا الجنس. وسواء بالحق أو الباطل، ارتبطت المظاهرات الطلابية التي جابت شوارع أوروبا والولايات المتحدة ضد العدوان الأمريكي على فيتنام، والمؤسسة البرجوازية ذاتها، بتدخين المارجوانا، والموسيقى الجديدة، بمثل ما ارتبطت بالحُرية الجنسية.
فإلى جانب اليوتوبيا الاجتماعية السياسية، والتي يحصل فيها الفرد على كل ما يحتاج إليه، ويشارك في صنع القرار العام، وهي التي ألهبت خيال المتظاهرين، كانت هناك يوتوبيا أخرى تُحركهم، يوتوبيا جنسية، مؤدَّاها سيادة كل فرد على جسده، وحقه في الاستمتاع به بالشكل الذي يجلب له السعادة، على أي وجهٍ، ودون أي قيد.
(مما يلفت النظر، أن عام ١٩٦٧م وحده، شهد في إنجلترا صدور قانونٍ يُبيح الإجهاض، وآخر يرفع التجريم عن العلاقة الجنسية بين رجُلين بالغَين طالما تتم باتفاقهما الحُر، كما شهد العام التالي إلغاء الرقابة على المسرح الإنجليزي، وفي نفس الوقت ألغت الولايات المتحدة القوانين التي كانت تُحرِّم البورنوجرافيا، وتُعاقب على نشر الكتُب والمجلات والأفلام التي تتناول الجنس بصورة مباشرة وصريحة).
•••
لكن «الثورة» لم تستمر طويلًا. وسواء أثبتت الأنظمة قُدرتها على الثبات في وجه رياح التغيير — ولو إلى حين — أو أن «الحركة» استنفدت قواها، أو ببساطةٍ أن الموضة تغيَّرت، فإن الطلَّاب عادوا إلى مقاعد الدراسة، بعد أن حصلوا على بعض المكاسب، وغادروها بعد قليلٍ ليلتحقوا بالمؤسسة، ويتفانوا في خدمتها. وعادوا يُعلون من شأن قيد الزواج (والخيانة الزوجية بالتالي!) الذي تمرَّدوا عليه، وخرجت المرأة بالذات، مُثخنة بالجراح، ولم يمضِ عقد إلا وقد انفجر طاعون «الإيدز»!
•••
كان صدور كتاب مثل «نساء جديدات جريئات» أمرًا طبيعيًّا إذن في أواسط العقد الفريد، بمثل ما كان اهتمامي به آنذاك.
والحق أنه يُمثل «وثيقة» هامَّة تتعلق بعالَمٍ ما زال يحتاج كثيرًا من الكشف.
فقد حرصت مُحررة الكتاب، عند اختيار النصوص الإبداعية، على تحقيق التنوُّع الذي يسمح بتغطية الحياة الداخلية للمرأة في مراحلها المُتعدِّدة وصورها المختلفة، فتتبعتها مراهقةً، عاشقةً، زوجةً، مغامرةً، باحثةً عن اللذَّة، أُمًّا، ضحيةً للبرود الجنسي، ومُحْبَطة.
وعندما سافرتُ إلى الخارج في صيف عام ١٩٦٨م، كان هذا الكتاب من بين الكتب التي حملتُها معي وحرصت على عدم مُفارقتها سنواتٍ طويلة. فقد كنتُ أُداعب فكرة ترجمة بعض نصوصه إلى اللغة العربية. وألفيتُ نفسي بعد قليلٍ مدفوعًا إلى ذلك بضغط الحاجة، خلال وجودي ببيروت (رغم الإقامة الآمنة التي وفَّرها لي زميلي في وكالة أنباء الشرق الأوسط وقتَها المرحوم فتحي القشاوي). وعرضت الفكرة على الشاعر أنسي الحاج الذي كان يرأس تحرير مجلة «الحسناء»، ويكتُب لها افتتاحياتٍ بأسلوبٍ رشيقٍ يتعمَّد إلهاب خيال المُراهقات، فرحَّب بالأمر. وقع اختياري على النصوص التالية:
•••
كانت هذه هي النصوص التي اخترتُها، وبدأتُ ترجمتها على الفور، كما بدأ أنسي الحاج في النشر بحماسٍ، وقد أتاحَتْ له ممارسة هوايته اللُّغوية، فقدَّم أحدها مثلًا على أنه يُصوِّر «عالم المُراهقات المُوحش واللذيذ والوحشي!» لكنه لم يلبث أن قال لي مُستنكرًا: «أنت تكتُب لنا دعارة!» وتوقَّف النشر. لكني لم أتخلَّ عن مواصلة الترجمة. بل وأقبلتُ أجمع في اهتمام، طوال الأعوام التالية، النصوص المُماثِلة، وكأني في رحلتي الشخصية من أجل دراسة وفهم المرأة والسلوك الجنسي عامة، كنتُ أستكمِل، بلا وعيٍ، كتابًا أُقدِّمه لقرَّاء العربية ذات يوم.
بدت لي هذه الشخصية الفريدة في مبدأ الأمر غير حقيقية، مُخْتَلَقة، وشككتُ طويلًا في أنَّ اسمها مُستعار، يتخفَّى وراءه أحد الكتاب المعروفين، إلى أن قرأتُ يومياتها.
وُلِدَت أناييس عام ١٩٠٣م (وماتت عام ١٩٧٧م) من أبٍ إسباني، عازف بيانو ومؤلِّف موسيقي، وأمٍّ دانمركية، وقضت طفولتها في أجزاء مختلفة من أوروبا، ثم تركت باريس في الحادية عشرة من عمرها إلى الولايات المتحدة. وعادت بعد ذلك إلى باريس حيث درسَت علم النفس على يدِ العالِم المعروف أوتورانك، وتعرَّفت على الكتَّاب والفنانين الذين كانت تموج بهم العاصمة الفرنسية في العشرينيات (وهي فترة شبيهة بالستينيات، تكرَّرت من قبل في القرن التاسع عشر، مما يُوحي بوجود دورةٍ ما لموجات التمرُّد والثورة تعقبها فترة من المحافظة يتراوَح أمدُها بين ثلاثة عقود وأربعة)، من مبتدع المسرح الأسود، أرتود، إلى رائد الأدب الجنسي هنري ميلر.
وفي الحادية عشرة من عمرها، بدأت يومياتها الفذة، على هيئة رسائل إلى أبيها الذي كان قد هجر الأسرة. وظلت تكتب هذه اليومات طول حياتها، بالفرنسية حتى عام ١٩٢٠م وبعد ذلك بالإنجليزية، إلى أن بلغ عدد صفحاتها ٣٥٠٠٠ صفحة! وأتاح لها العمل اليومي في هذه اليوميات، دون قرَّاء أو رقابةٍ ما، القُدرة على تسجيل مشاعرها وعواطفها بدقة، وهي القُدرة التي بلغت أوجها في فترة علاقتها بهنري ميلر التي بدأت عام ١٩٣١م.
وهنري ميلر، أيًّا كان الرأي في قيمة كتاباته اليوم، هو بلا شكٍّ من أوائل الكتاب المُعاصرين الذين تحدَّوا المنظومة الاجتماعية والأخلاقية السائدة، بإصراره على تسمية الأشياء بأسمائها، واستخدام ما سُمي بكلمات الأربعة حروف، التي كانت مُحرَّمة قبل سقوط قيود البورنوجرافيا في الستينيات، في كتُب مثل «مدار السرطان» و«مدار الجدي»، ظلت تُطبع سرًّا في السلاسل الجنسية حتى هلَّ العقد الفريد.
داعبَتني فكرة ترجمة اليوميات، التي تُمثل رحلةً رائعة من أجل اكتشاف الذات، خاصة بعد نشر أجزاءٍ كاملة منها، بالأسماء الحقيقية للشخصيات الواردة بها، عام ١٩٨٦م، بعد وفاتها. لكنني اصطدمتُ بالصعوبة التي تُواجِه كلَّ من يحاول اليوم ترجمة الإنتاج الأدبي العالمي الحديث إلى العربية، فلن يتبقى شيءٌ من «اليوميات»، إذا جُرِّدت من التحليل الدقيق لمشاعر الكَتَبة، أو من بعض المعلومات الكاشفة عن شخصيات معروفة مثل هنري ميلر (من قبيل انشغاله بصِغَر حجم أعضائه التناسُلية، وهو ما قد يُفسِّر إصرار الراوية في معظم كتُبه وخاصة تلك التي كتبَها عن عمد من أجل الإثارة الجنسية مقابل دولارٍ واحد للصفحة، على الإشادة دائمًا بالعكس!)
•••
تقول ألدريش في مقدمة الكتاب، إن المرأة المِثلية كانت موضوعًا مثيرًا للأدب من عصر «سافو» في القرن السادس قبل الميلاد، «ولمَّا كان الأدب هو مرآة الحياة، فإن ما تعكسه هذه المرآة يُبلور أفكار وآراء أغلبية كبيرة من الناس. ويمكننا أن نعرف الكثير عن موضوع المثلية النسائية بقراءة التعبير الأدبي القصصي عنه، مثلما يحدُث عندما نقرأ الدراسات العلمية عنه.»
وتُلاحظ ألدريش أن الكتابات المعاصرة لا تتعامل مع المثلية النسائية كحالةٍ شاذة جديرة بالإدانة أو السخرية، وإنما كموضوع واقعي جدير بالاهتمام والفهم. فقد اختفت الصورة القديمة للمرأة المِثْلِية، (الشريرة أو المجنونة وفي أحسن الحالات المُسترجلة ذات الشعر القصير والبنطلون) وحلَّت محلَّها صورتها الواقعية كامرأة، لا ككائنٍ غريب بين الجنسَين.
•••
وفي تعليل هذا التطوُّر المأساوي تقول الكاتبة إن أغلب الرجال في المجتمع الإفريقي الحديث مرُّوا بثلاث فتراتٍ زمنية. في العصور القديمة، قبل الغزو الاستعماري، كان الرجل يعيش حسب التقاليد والتابوهات التي حدَّدها أسلاف القبيلة. وقد ارتكب هؤلاء الأسلاف أخطاءً فادحة، أكثرها مرارة أنهم أعطوا للرجل مركز المُتسيِّد في القبيلة، بينما اعتبروا المرأة، شكلًا ناقصًا من أشكال الحياة الإنسانية.
ثم جاء العصر الاستعماري، وصحبته ظاهرة النزوح للعمل في مناجم جنوب إفريقيا، فتحطَّمت سيطرة الأسلاف، وتحطم الشكل القديم التقليدي للحياة العائلية، إذ اضطرَّ الرجل للافتراق عن زوجته وأطفاله فتراتٍ طويلة، يعمل خلالها من أجل الفتات كي يجمع من النقود ما يكفي لسداد ضريبة الرأس الاستعمارية البريطانية.
وبدا الاستقلال مجرد بلوى جديدة فوق البلاوي التي نزلت بحياة الرجل الإفريقي. فقد غير نسق التبعية الاستعمارية تغيرًا مفاجئًا ودراميًّا. سنحت فرص أكثر للعمل في ظلِّ برنامج المحليات الذي تبنَّته الحكومة الجديدة، وارتفعت الرواتب ارتفاعًا صاروخيًّا، فتهيأت الفرصة الأولى لحياةٍ أُسرية من نوعٍ جديد، أرقى من نظام العادات الطفولي، ومن مهانة الاستعمار، ووصل الرجل إلى نقطة التحوُّل هذه «حطامًا هشًّا، دون أي طاقاتٍ داخلية. وكأنما استبشع صورته، فحاول أن يهرب من فراغه الداخلي، ولهذا أخذ يدور مُبتعدًا عن نفسه، فسقط في دوَّامة من التبديد والتدمير، أقرب إلى رقصة الموت.»
•••
توفَّر لديَّ بذلك عدد من النصوص، يكفي لتشكيل الكتاب الذي اكتملَت صورته في ذهني. وقررتُ أن أستهلَّه بنص فرانسواز ماليه، الذي يُحقق نوعًا من التسلسُل الزمني لمحتويات الكتاب، يُواكب التدرُّج في العالَم النفسي الذي تصوره.
•••
•••
وأعترف بأنني تردَّدت طويلًا قبل الإقدام على نشر هذا الكتاب. فالمواجهة المُستمرة، طوال العقود الأخيرة، مع قوى الإمبريالية من ناحية، والتخلُّف والرجعية من ناحيةٍ أخرى، دفعت بعديدٍ من القضايا، إن صوابًا أو خطأ إلى مرتبةٍ ثانوية، ومنها قضايا بالِغة الأهمية، مثل تلك المتعلقة بوضع المرأة والأقليَّات الدينية والعرقية والجنس. وكان التقدير أنَّ حل القضية الجوهرية، وهي التنمية المُستقلة، سيُسفِر بطبيعته عن حلِّ بقية القضايا.
حسنًا! (بلُغة الروايات المترجمة)، مرَّت السنوات دون أن تُحَل القضية الجوهرية، بل تعمَّقت التبعية، ونشر الأجنبي مظلَّتَه فوق بلداتنا، جنبًا إلى جنب العباءة السوداء لقوى الظلام والرِّدة. وتعمَّق الجهل بأمورٍ صارت من أمدٍ مَوضع دراساتٍ نظرية وإحصائية ومعملية، وإبداعات أدبية وفنية. وازداد وضع المرأة تدنِّيًا، وجرت محاولة إعادتها إلى ركن التفريخ، لتُصبح مجرد «أداة جنسية»، كما كانت في الماضي السحيق، ومحاولة التعمية على مشاعرها وعواطفها، بل وعلى وجهها وملامحها الخارجية أيضًا.
كل ما أرجوه من هذا الكتاب، هو أن يزيد من معرفتنا بالمرأة، وفهمنا لأنفسنا، وأن يُساهم في تقريب اليوم الذي لا تدفع فيه نساء بلادنا الثمن!
أكتوبر ١٩٩٢م