مقدمة المؤلف
ورجل التاريخ ذلك هو، على الدوام، أحكم من طريقته وأعقد من صورته. ولا نجد أن نسير على غِرار المحافل العلمية فنُثقل وصفه بالحواشي والمذكِّرات، بل يجدر بزماننا أن تُعرَض الأخلاق العامة فيه عرضًا ماثلًا، وأن يُستخرج منها للعالَم بأسره مَثَلٌ ودرسٌ، والمرء رجلًا يتعذر فصله عنه قطبًا سياسيًّا، فمشاعره وأعماله متلازمة متفاعلة، وحياته الخاصة وحياته العامة كلتاهما متسايرة متجارية. وواجب المتفنِّن هو في صنع الشيء الواحد من الموادِّ التي يأتي بها الباحث الفاحص.
وكلين هاتنجن — الذي لم يُعرف قدْره — هو الكاتب الوحيد الذي استطاع أن يُجيد وصف بسمارك وصفًا نفسيًّا مستعينًا بالوثائق التي أمكن الوصولُ إليها في زمنه. ولما حلَّت سنة ١٩١١ حاولتُ أن أقِف حيال أسطورة هذا الوزير الحديديِّ في رسالةٍ نفسيةٍ، عارضًا فيها — بطريق الوصف — طبيعةً عُدَّت من الألغاز. ثمَّ انقضت عشر سنوات فوضعتُ روايةً مؤلَّفة من ثلاثة فصول عن بسمارك طامعًا أن تُمثَّل على المسرح الألماني.
ويختلف السِّفر الوصفيُّ الحاضر عن ذلك السِّفر غير السياسي الباكر، وليس في هذا الكتاب اللاحق ما هو مقتبسٌ من ذلك الكتاب السابق؛ فما في هذا الكتاب من عرضٍ لبسمارك فقد تم على نور جديد. ولا تُبصِر في الكتابين من أَوْجُه الشبه سوى الصورة الأساسية التي تجلَّت بها تلك الطبيعة المعقدة، ومما اقتضى وضعَ كتابٍ جديدٍ عن بسمارك أكثرَ ملاءمةً لأُصُول النقد، ما أسفرت عنه الحرب الأخيرة من نشر وثائق قاطعةٍ ومذكِّراتٍ مفيدة، وما اتَّفق لنا من النُّضج.
وبدا أمر بسمارك الواضح الغامض أكثر وقفًا للنظر مما كان عليه بعد تلك الأسانيد؛ فالذي يحاول اكتناهَ مكافحٍ — بدلًا من نحت تمثال له — يظلُّ دَهِشًا أمام تلك الحياة التي هي نسيجٌ من نضالٍ مستمرٍّ ونصرٍ عارضٍ وحِرصٍ دائم وعدم قناعةٍ مستمرة، ومن حكمةٍ في أكثر الأزمان وخطأٍ في بعض الأحيان، ومن عبقرية حتى في العَمَاية والضلال.