الفصل العاشر
رجلٌ قلقٌ حادُّ الصوت غيرُ عسكريٍّ مختالٌ غافلٌ مشمول بلطف الله، فذلك هو أمر فردريك وِلْهلم الرابع الذي كان يُلقَّب بالراقص على الحبل، والذي لم يكن دَوره بين الشعب والعرش غيرَ دور الماجن، هو روائيٌّ غيرُ جليٍّ، ولكن مع تصوُّره في البداءة بخبثٍ إمكانَ حلِّه جميعَ المعضلات، وإمكانَ توجيهه الدولَ الشرقية ودولة فرنسة إلى العمل مع الحِلف المقدس وتأسيسِه الوحدة الألمانية وخدمتِه الرجعية والحرية معًا، وهو يقول بعد افتتاح اللَّنْدتاغ الأول متظاهرًا بالديمقراطية ومنجزًا عهدَ والده: «إنكم ستقضون على العمل في نهاية الأمر لا ريبَ!» وهو يُضيع الفرص عندما يجب عليه أن يُعطيَ بسخاء، وهو يجهل روحَ العصر جهلًا تامًّا، وهو عنيدٌ غطريس، وهو يعتقد قدرتَه على الحكم بنفسه، وتدلُّ هذه العلائمُ على ارتباك نفسيٍّ فيه، ولم ينشَب هذا المرض أن بدا لكلِّ ذي عينَين، وإن تُرِك يؤذي بلادَه مدة عشرين سنة قبل أن يُعلَن اختلالُ عقله رسميًّا، وهو يعطي الأمة آلة موسيقية، بيدَ أنه يهدِّد جميع من يجرءون على العزف عليها، وفيما هو يقول: «أرحِّب بكم أجملَ ترحيب.» تراه يُحرِّم على كل إنسان أن يدنوَ منه، وهو آخِر ملوك بروسية، وأحد هؤلاء الملوك الذين يستطيع الواحد منهم أن يقول: «هنالك أمورٌ لا يقدر على معرفتها غيرُ الملِك.»
والآن تأخذُ المعضلةُ ذاتُ الحدَّين حُكمَها، ويودُّ النائب الشابُّ نَيل مقعد في المجلس بأيِّ ثمن كان، وإلا فأين يَعرِض قوتَه وذكاءَه؟ فإذا أراد انعقادَ المجلس في دورات سنوية وجب عليه أن يصوِّت مع مَن يمقتُهم من الأحرار، وماذا يصنع إذن؟ إن من مخادعة الملك ضغْطَه في هذا السبيل؛ ولذا رأى بسمارك تعليق المسألة، ويبحث في معضلة اليهود فيفضِّل بسمارك أن يتغيَّب لما بينه وبين الحكومة من اختلاف في ذلك، ويبدو مع ذلك وهو لِما كان من ظهوره رئيسًا لأقصى اليمين من بعض الوجوه يتكلم ضدَّ «الهُراء الإنسانيِّ المزعج» الصادرِ عن أصحاب الشمال والقائلِ بمساواة جميع رعايا الملك.
تلك هي لهجةُ الملوك والوزراء المطلَقين، ولو عبَّر جدُّ بسمارك — مِنْكِن — عن نفسه على ذلك الوجه ما وجد لَومًا من ملوكه، ولو لم يُرَبِّ الشيخُ مِنْكِن ابنتَه وفقَ مبادئ التقدُّم ما حاولتْ هذه الابنة أن تَنقلَ هذه المبادئَ إلى ابنها، ومن المحتمل أن يصير بسمارك الشابُّ من الأحرار خلافًا لأمِّه غير المحبوبة لديه لو تلقَّت هذه الأمُّ من أبيها مبادئَ رجعية، والذي لا مِراء فيه أن كان ذلك الرجل، الذي يَحسُد ميرابو وبيل في فَتائه والذي يعتريه وَجدٌ من شِعر بايرون، ويُعجَب بإنكلترة في شبابه، يقتحِم بتربيته وارتيابه الطبيعيِّ فروقَ العروق أكثر من اقتحامه فروقَ الطبقات، وهو عندما جهر بالفروق الطبقية للمرة الأولى مؤكِّدًا لم يكن متأثِّرا بالبياتية ما دامت البياتية غيرَ ذات أثر في سياسته الحاضرة والقادمة، ومن الممكن مع ذلك أن يكون قد صنع ذلك مراعاةً للبِياتيِّين، وآيةُ ذلك أنه دافع قبل سنة عن مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة خلافًا للرئيس فون غِرْلاخ، فسَرَّه اليوم أن يَسُرَّ زمرة البِياتيِّين، ولم يُحسَب حسابُ اليسوعية في ذلك، وإنما فعل عن لا شعورٍ تقريبًا ما يقرِّب به بين معتقداته وغاياته، شأنُ العاشقَين اللذَين يبحث كلٌّ منهما عن الآخر فيكون من الطبيعيِّ أن يلتقيَا؛ فالحقُّ أن أوتوفون بسمارك كان قطبًا سياسيًّا.
وبعد خمسِ دقائق يدعو طبقات المجتمع الدنيا إلى الشهادة فيقول: «إذا ما تصوَّرْت أنني ملزمٌ بالإطاعة ليهوديٍّ، ممثلًا لصاحب الجلالة المقدَّسة الملك، وجدتُني مرهقًا مُهانًا في أعماق نفسي، وأُشاطر هذا الشعور أدنى طبقات الشعب ولا أخجل من أن أكون بجانبها في ذلك.» ولكنه لم يُرِد قط أن يُطيع أحدًا من ممثلي الملك — يهوديًّا كان أو نصرانيًّا — ولم يفعل غيرَ قَسْر قدرته الحيويَّة عندما رأى نفسَه ملزمةً بإطاعة الملك ذاته حين تمثيله له.
ولا يَخفُّ ذلك العُجب الجافُّ قليلًا إلا حين ملاقاة خطيبته أو حين تفكيره فيها، وهي إذا كانت مريضة لم يُبالِ بجميع نصارى رينفيلد المتوكِّلين على الله ولم يُطِق قولًا عن الطب، وهو يُصِرُّ عن استعمال الأدوية متذرِّعًا عن مزَحٍ بأن الربَّ هو الذي أعطاها، وهي وقتَ شفائها تقابل بين حياتها الهادئة وحياته الممتعة التي تتبيَّنها من رسائله ومما تقرأه عنها في الصحف.
وهي تكتب إليه قائلةً: «عندما أتعقَّب بأفكاري مجرى حياتِك الراهنة منتقلةً من مسرَّة إلى مسرَّة لديك، وفي أثناء ما لا حدَّ له من الضوضاء والاضطراب، يساورُني القلقُ فأضع إصبعي على فمي، وأضعُ يدي على فؤادي، وأدعو لك هادئةً، أخشى أن يجعلوك كثير الزهو، فتزدري رِينفيلْدَنا الوضيعةَ في نهاية الأمر.» وهي تسْتر تحت مثل هذه العبارات هولًا حقيقيًّا في بعض الأحيان، وهي تختم كتابها بالكلمة الفاجعة الساخرة: «حقًّا إنك يا أوتو، ذو دمٍ حامٍ إلى الغاية!»
ويكون العُرس بعد الخطبة بستة أشهر، وتُقدِّم صديقة إليها منديل الزفاف الموشَّى بوردةٍ بيضاءَ وفقَ لغة الأزهار التي تعرفها تلك البيئة، وفيما كان العريسُ جالسًا حول المائدة شاربًا غيرَ قليل من رحيق الشنبانية أمسك منديلَ حنَّة، وتقع عينُه اليانعة الواقعية وغير الروائية على الوردة الرمزية فيحرُقها بسيغاره قبل أن تتمكن العروسُ من صدِّه عن ذلك، وبهذا يُريد أن يقول: «هنا ينتهي أمرُ جان بول مع تصوف الصبيَّة.»
ويا للألفة التي آل إليها بسمارك المغامر! والحقُّ أن بسمارك إذا ما ساح وحده أو مع زوجه، وجب أن يَتمَّ له كلُّ شيءٍ على ما يُرام، غيرَ ناظر إلى ما يقتضيه ذلك من نفقات، والآن إذ يعرب بسمارك وهو راجع من شهر عسله أن يُقسِّم المجموع إلى سبعة وخمسين، وأن يختم تقريرَه الأول بقصة ثَوره وبقراته الستِّ، نُبصر وضعَه نفسَه في آفاق ضيِّقة مع تفتُّح آفاق واسعة له.