الفصل السابع
في ذات يومٍ من يوليو وبعد شهرين من وصول السفير الجديد بسمارك إلى سان بطرسبرغ، يَجول هذا السفير راكبًا في ميدان للترويض حارٍّ، ثم يرجع إلى منزله غيرَ لابسٍ معطفًا، فيشعر بألمٍ في ساقَيه، ويستدعي طبيبًا ألمانيًّا فيضع هذا الطبيب لزقةً على ساقه اليسرى، ويشتدُّ وجعُه في الليل فيخلعُ هذه اللزقة، وفي الغد يُبصر أحدَ عروقه في حالٍ يُرثَى لها، فيزيد غضبًا لعجزه عن تعيين أيِّ الرجلَين هو «السامُّ»: آلطبيب أم الصيدلي؟ ويرى جراحيٌّ روسيٌّ مشهور أن الضرورة تقضي ببتر الساق، ويسأل المريض: «أيكون البتر فوق الركبة أم تحتها؟» ويُشير الطبيب إلى فوقها ويرفض بسمارك ذلك، ويُبحر إلى ألمانية مع مرضه.
وينتظر الوصيُّ على العرش موتَ أخيه، ويساير في دَور الانتظار شلِينِتْز كرئيس للوزارة، ويتكلم بسمارك عن شلِينِتْز كنديم متوكل على أُوغُوستا، ويُتمُّ وِلْهلم المهزأة بدعوة شلِينِتْز وبسمارك إلى مؤتمر كأنه يودُّ إدارة سباقٍ بين الفريقين، ويُطلَب من بسمارك شرْحُ برنامجه فيُصرُّ على رأيه أيام حربِ القِرم في أن النمسة ضعيفةٌ وأن بروسية قويةٌ وأن روسية صديقةٌ وأن بروسية هي كالدجاجة التي لا تَجرؤ على مجاوزة الخط الطباشيري السحري المرسوم على الأرض.
ثم يأمر الوصيُّ على العرش شلِينِتْز بالكلام فيذكِّره شلِينِتْز بوصية أبيه التي هي «حبل لا يَفتأ يهزُّ فؤادَه» والتي وُضِعت ضدَّ باريس ولمصلحة آل هابِسْبُرغ، ويختم شلِينِتْز كلامَه فينطق وِلْهلم من فَوره بخطبته المعدَّة مقدَّمًا — كما هو واضحٌ — والقائلة إنه ينحاز إلى هذه التقاليد القديمة، ثمَّ يفضُّ الجلسة، وأُوغُوستا هي التي رسمتْ تلك الرواية، وذلك لإِطْلاعها الرجعيِّين على خطَر المناوبات، ويرى بسمارك أن أُوغُوستا لم تكن آنئذٍ متأثرةً كثيرًا بالمقاصد الإيجابية تأثُّرَها بنفورها من روسية، ومن نابليون الثالث، «وبنفورها مني؛ لاستقلالي في الرأي ولرفضي — في غير مرة — أن أقدِّم أفكار هذه الأميرة إلى زوجها على أنها خاصة بي».
وليست أُوغُوستا وحدَها هي التي أقصَتْه عن السلطة في سنة ١٨٦٠، بل نشأ هذا عن برنامجه الألماني قبلَ كلِّ شيء. ومما أسفرت عنه الحرب في السنة الماضية أن ثارت المشاعر القومية بين الأحرار كما ثارت بين أبطال مبدأ سنة ١٨٤٨، فتُبصر عدَّة خُطَب ومهرجانات وإخاءات كما في تلك السنة الثورية، ويريد المتقدِّمون من رجال الدولة أن يُعقَد حِلف مع النمسة في مقابل السيادة على ألمانية؛ أي ما يؤدي إلى بقاء الجامعة الألمانية، ويريد بسمارك أن يَنسف هذه الجامعة لعَدِّهِ إيَّاها «عاهةً لا تُشفَى بغير الحديد والنار، عاجلًا كان ذلك أو آجلًا، فلنتَّخِذ العلاج الشافي في الوقت المناسب.» وهكذا يكتب السفير إلى رئيس الوزراء، بالأبيض والأسود «مع الحديد والنار»، وهكذا لا يرى السفير إمكانَ بناء ألمانية الموحَّدة بغير هذه الوسيلة، ويُضيف السفير إلى ذلك قولَه: «لا أودُّ أن أُشاهِد كلمة ألمانية مكتوبةً على علَمِنا بدلًا من كلمة بروسية ما لم يَغدُ اتحادنا مع بقية البلد أوثقَ وأفيدَ، ويُضيع ذلك فتونَه إذا ما انتحلناه قبل الأوان.»
ويظهر كالنمر المتأهِّب للوثوب فلا يمنعه من فريسته سوى القضبان، ويغدو غيرَ مكترث لأُلهيَّاته الماضية، ولا يرى أحدًا، ولا يخرج للصيد، ولا يحصر ذهنَه في غير السؤال الكبير: «متى أقبض على زمام السلطة؟» ذلك هو بسمارك الحقيقي، ذلك هو بسمارك الخالص أكثر من بسمارك في كتبه إلى زوجه حيث يمثِّل دورَ النصرانيِّ المعذَّب.
ثم يموت الملك المجنون فردريك وِلْهلم في أوائل سنة ١٨٦١، ويُنادَى بالأمير وِلْهلم ملكًا، ووِلْهلم هذا قد انتظر أكثر من ثلاثين عامًا، والآن يصل إلى الثالثة والستين من سِنِيه، فيبدو كلُّ شيء مرتبكًا له، وهو يبلغ من إزعاج الأحرار له بحملتهم على خططه الجديدة حول الجيش ومن إعيائه بجدال زوجه وابنه؛ ما يُفكِّر معه أن يتنزل عن العرش لابنه فردريك الذي كان في الثلاثين من عمره، ويرتجف جميع المحافظين — أي جميع رجال البلاط — لما يَرونه من إسراع فردريك عند وقوع ذلك إلى معاهدة الأحرار بتأثير زوجته الإنكليزية، وكان ألْبرخت فون رون ظهيرَ الملك الأول وقتئذٍ، وكان هذا العضُد المعِين جنديًّا صادقًا فيسمو على جميع الحاشية بعلوِّ شرفِه، وكان شهمًا هُمامًا رزينًا متواضعًا تقيًّا أنوفًا من المظاهر والهتافات مبرَّأً من الغيرة ممتازًا عائشًا وفقَ شعاره: «اصنَعْ ما يجب واحتمل ما يقتضي»، وهذا هو الرجل الذي يَصهر سلاحَ بروسية، وهذا الرجل، مع شديد مَقْته للحرب، شبَّ مع من ينظرون إلى الأمور بعين الجُندية، فيفكِّر بها، وكان الملك الجديدُ عسكريًّا أيضًا، ويدعو هذا الملك حين كان وصيًّا على العرش رون ليُعيدَ تنظيم الجيش، ويُذكِّر رون وِلْهلم بأجداده، وينصح رون وِلْهلم عند التتويج بأن يسير على غِرار أجداده المطلَقين فيطالب رعاياه بيمين الولاء، ويقاوم الوزراء الآخرون الحائرون ذلك، ويعرف رون رجلًا واحدًا حازمًا يصلح لمنصب شلِينِتْز، يعرف رون رجلًا يمكنه أن يُصِرَّ بحزم على يمين الولاء تلك مع القدرة على إصلاح الجيش حتى في دولة دستورية حين الاعتراك، يَعرف رون بسمارك.
ويُفسَّر هذا الرفض الناقصُ وهذا الأسلوبُ الضارع بالعناد أكثر مما بالمرض؛ فهو من حسن الصحة ما يُفيق معه من نومه في منتصف الليل ليذهب إلى صَيد الدجاج البري؛ ولذا نجد صحته من الأسلحة التي يتذرَّع بها في النضال السياسي، والحقُّ أن بسمارك يُبصر من خلال التباس تلك الدعوة غير الرسمية أن ذلك يجعلُه في وضْع غير مناسب، ويجيء إلى برلين في نهاية الأمر، ويرى أن عدوَّته القديمة أُوغُوستا كسبت الشوط، فقد أذعَن الملك راضيًا بتتويجٍ بسيطٍ «كان قد أمر بإعداد حُلَلِه في شهر فبراير، فصار الملك — كما روَى رون — خاضعًا للملكة وتوابعها أكثر مما في أيِّ وقتٍ كان، فإذا لم يشتدَّ الملك نشاطًا ضاع كلُّ شيء وغدَونا تحت نير البرلمانية والجمهورية.»
«لا يمكن بروسية أن ترضى بأن تكون تحت الوصاية في ألمانية، وللحكومة الاتحادية من السلطان البالغ ما ليس للحكومات التي تتألف منها؛ لِما لها من النفوذ العظيم في الأمور المشتركة بينها. ويُبلَغ هذا الهدفُ على ما يحتمل بتمثيل الألمان القوميِّ لدى الدول التي تتألف منها الجامعة، فتكون بذلك موازنةٌ لميول الأُسَر المالكة التي تقوم سياستُها على الانفصال، والشعب إذا مُثِّل في جميع الدول الألمانية تعذَّر عَدُّ مثل هذا النظام أمرًا ثوريًّا. وقد يُضمن الانسجام والبقاء لمثل هذا النظام التمثيلي عند انتخاب أعضائه من مجالس اللَّنْدتاغ، لا من الشعب رأسًا. وتُفسِّح الخصوماتُ الثانوية في مجالس الدولة مجالًا لعمل رجالِ الدولة الأكثر اكتراثًا لمصالح الألمان العامة.» ولكلِّ دولة أن تحافظ على سلطانها الخاصِّ في داخلها، ولا أملَ في الوصول إلى ذلك النظام بالبندِشْتاغ الراهن ما دامت النمسةُ معارضةً له، «وقد يكون عمليًّا أكثرَ من سواه أن يُصارَ، كما وقع في أمر الاتحاد الجمركي، إلى إقامة نُظُم قومية من طراز آخر»، ولا بدَّ من إعلان هذه الخطط؛ «ليكونَ لها ما يجب من الأثر المضاعف، فيهدأَ — من جهةٍ — بالُ أمراء الألمان حول دائرة خططنا ويعرفوا أننا لا نهدف إلى الضمِّ، وإنما نريد موافقةَ الجميع، ويُزال من جهةٍ أخرى قلقُ الشعب بأن يُحمَل على الاعتقاد بأن بروسية تسعى إلى ارتقاء ألمانية الذي لا يُنتهَى إليه بالبنْدِشْتاغ العتيد».
وإذا أُنعم النظر في هذه الآراء حول البرلمان الجمركيِّ المؤدي إلى الرَّيْشتاغ ذات يوم، ثم رُجع البصر إلى ما ألقاه بسمارك من الخُطَب وكتَبَه من الرسائل سنة ١٨٤٨ أُدرك أمرُ تحوُّلِه من رجل حزب إلى رجل دولة، وبسمارك هو الذي يريد اليوم تحقيقَ مبدأ الثورة؛ أي تحقيق الوحدة الألمانية التي كان يُقاومها فيما مضى؛ لما تنطوي عليه من أصل ثوري، «وكلُّ واحد منَّا يودُّ الوحدة الألمانية، ولكنني لا أُريدها بهذا الدستور» هذا ما صرَّح به بسمارك، وبسمارك وإن كان راغبًا عن هذا الدستور اليوم، يقول به كعامل أساسي، وبسمارك يرى الزمان قد مرَّ على أصله فصار من الشرعية «ما لا يُعدُّ معه ثوريًّا» أجلْ، إنه يُصرِّح معترفًا بضرورة اشتراك الألمان في حكومة ألمانية، ولكن ذلك هو لموازنة منافسة الأمراء!
وتُكتب الوثيقة المذكورة آنفًا بأسلوب قضائي، وتجد مثلَ هذا التحول بأقوى مما تقدم، وبأدلَّ على طريقة بسمارك من ذلك في الكتاب الذي أرسله بسمارك إلى صديقٍ له في ذلك الوقت ضدَّ برنامج المحافظين؛ فقد جاء فيه: «بلغْنا المرحلة التي تُصبح فيها سيادةُ أُمراء الألمان الطاغية وغير الشرعية وغير التاريخية؛ معشوقةَ حزب المحافظين، مع أن أولئك الأمراء يتخذون وضْعنا الاتحاديَّ قاعدةً يتلهَّون فوقها كذوي السلطان في أوروبة. ولا أدري لمَ نتقهقر فزَعًا وهلَعًا من مبدأ التمثيل الشعبي في مجلس الجامعة أو مجلس الاتحاد الجمركي. فمن الممكن إيجاد مجلس قومي محافظ مع نَيل شُكر الأحرار.»
وتمضي عشر سنين على ذلك القول فيفتتح بسمارك الرَّيْشتاغ الألماني الأول.