الفصل العشرون
«عاد الوضعُ غيرَ ما كان عليه في شهر سبتمبر، فإذا ما زِلتُم تقولون: إننا لا نُسَلم حجرًا واحدًا من حصوننا عُدَّ البحثُ في الأمور لغوًا»، هذه هي الكلمة الأولى التي خاطب بسمارك بها جول فافر عندما زاره هذا الأخيرُ في آخر شهر يناير للمرة الثانية؛ أي عندما كان الألمان يحاصرون باريس منذ ثلاثة أشهر. ويضيف بسمارك إلى ذلك قوله: «إنك تَشيبُ — يا جناب الوزير — أكثرَ مما كنتَ عليه حينما رأيتُك في المرة الأولى، ومهما يكن الأمر فقد وصلْت متأخِّرًا، فوراء الباب هنالك ينتظر سفير نابليون، فسأفاوضه … ولِمَ أفاوضُك؟ ولِمَ أُعطي جمهوريتكم مظهرًا شرعيًّا؟ لم تُؤلَّف جمهوريتكم من غير شرذمة قليلين من المَرَدة، ولو عاد إمبراطورُكم لحُقَّ له أن يقتلكم رميًا بالرصاص كخائنين.»
فافِر: «يؤدي هذا إلى الفوضى وإلى الثورة.»
وتمضي خمسُ دقائق فيُتَّفق على التنزل والغرامة الحربية مبدئيًّا، ويَعقُب الغداء ذلك، ويَنظر الجميع إلى طعام رسول العاصمة الجائعة، ويُبحَث في المقدِّمات ويَعرِض بسمارك سغاير فيرفض الفرنسيُّ.
ويقول القطب السياسيُّ الألمانيُّ: «أنت مخطئٌ؛ فالأفضلُ التدخين عند البدء بحديث يلوح اشتدادُهُ، ولا تجد مدخِّنًا يريد رمْيَ سيغاره، والمدخِّن يجتنب كلَّ حركة بدنية عنيفة، والتدخينُ يَصقُل أذهاننا، وأدخنةُ التبغ الزُّرق التي تتصاعد من سغايرنا تَسْحرنا فتجعلنا أكثر مجاملةً، والأعيُن تُبصِر، والأيدي تَعمل، والرائحةُ تَسُرُّ والناس يشعرون بسعادة عند التدخين.» ويمضي بضع دقائقَ على قوله هذا فيلتهب غيظًا حول موضوع غاريبالدي، فيُقدِّم الكونت الفرنسيُّ — الذي كان رفيقًا لفافِر فروى ذلك الحديث — سيغارًا إليه وهو يتبسَّم.
ويعترف الفرنسيون لبسمارك بتمام نُبُوغه وكمال لُطْفه، أجلْ إنه يُلاعب الفرنسيين كما يلاعب الهرُّ الفارَ، غير أنه يبدو للحضور بأُسلوب غُوليٍّ فَتْنًا لخصومه الذين لا يقلُّ رغبةً عنهم في السِّلم، ولو كان مفاوضًا لأُناس من الإنكليز لاختلف أسلوبُه عن ذلك لا ريب، ويقابل تيارُ بسمارك بعدئذٍ ويُجيد تِيار الكلام ويطلب بسمارك ستة مليارات، ويصرخ تِيار قائلًا «هذا عيبٌ!» ويبدأ بسمارك الكلام باللغة الألمانية في الحال ويقول إن عليه أن يطلب حضور ترجمان، ويقول في ذلك: «إن معرفتي لغتكم هي من الضعف ما لا أستطيع معه أن أفهم ألفاظَ مسيو تيار الأخيرةَ.» ثمَّ يتشاوران ويتفاوضان ويداومان على النقاش، ويتكلم بسمارك بالفرنسية مجدَّدًا.
ويقول فافِر: «لقد أبصرتُ في بسمارك رجلًا سياسيًّا أسمى من كلِّ ما يمكن الإنسان أن يتصوره من مدلول هذه الكلمة، وتدلُّ سيماه على أنه لا يبالي بغير الموجود وعلى أنه لا يبحث عن غير الحلول العمليَّة … ويتقبَّل كلَّ مؤثرٍ مهيِّجٍ فلا يملك صولتَه دائمًا، وكنت دَهِشًا لما يُبديه من حِلْم أحيانًا ومن قسوة في أحيانٍ أخرى … وهو لم يخدعني قطُّ، وهو يؤذيني ويُثيرُني بقسوته في الغالب، ولكنني أجدُه في الأمور الصغيرة والكبيرة مستقيمًا مدقِّقًا.» ويُعدُّ هذا الحكم الصادرُ عن عدوٍّ أعظمَ من كلِّ مدحٍ نُفح به بسمارك.
ويَعوق المفاوضاتِ ما يقعُ بين الملك والقوَّاد من طويل مشورات، ويَعرض أناسٌ كثيرون غير رسميين ما يَعنُّ لهم من نُصْح، وتبدو أُوغُوستا في طليعة هؤلاء، ويقول بسمارك: «أعرف هذه المكايدَ الكريهة، ويكتب الملك إلى أُوغُوستا رسالة مطوَّلة وفقَ طلبي فلا تُجيب عنها من فورها!»
ويريد بسمارك أن يفرض على باريس مائتي مليون تعويضًا لأمراء الألمان، الذين هم حلفاء بروسية في الوقت الحاضر، مما ابتُزَّ منهم في سنة ١٨٦٦، فيرفض الملكُ ذلك، وإذا عَدوتَ بسمارك أبصرتَ كلَّ واحد يُصرُّ على تسليم القلاع، ويوافقُ بسمارك في نهاية الأمر على المطالبة بالألزاس مع بلفور وبقسم من اللورين مع مِيتز، ويوافق بسمارك؛ لأن مولتكه يؤكد أن ذلك التنزل ضروريٌّ لسلامة ألمانية، ويطالب بسمارك بستة مليارات غرامةً وبدخول الألمان باريس، ويُنقص بسمارك هذا المبلغ إلى خمسة مليارات ليكون مناسبًا للمبلغ الذي دفعه أهل بروسية عن كلِّ شخص غرامة في سنة ١٨٠٧، وذلك تبعًا لحساب بِلِيشْرُودِر الذي استدعاه بسمارك لهذا السبب، ويُخيِّر بسمارك العدوَّ بين تسليم بِلْفور والموافقة على دخول باريس فيختار الفرنسيُّ إنقاذ ذلك الحصن بقبول العارَ خلافًا للخُلُق الفرنسيِّ المعهود.
وفيما كان الجميع في حبور كان بسمارك غيرَ مرتاح لذلك الضمِّ، وقد قال لوليِّ العهد: «لم يَحفِزْني إلى الإصرار على ضمِّ ميتز غيرُ داعي الجنود، وهذا إلى ما أشعرني به الملك من استعداده لإدامة الحرب في سبيل فتح ذلك الحصن.» وكتب بسمارك يقول لزوجه: «لقد نِلْنا أكثر مما أراه مفيدًا من حيث حسابي الشخصي السياسي … وعلى أن أُراعيَ ما يَصدُر عن الأعلى والأدنى من أصواتٍ تدلُّ على قِصَر النظر، وقد أخذنا ميتز مع عناصرَ يعسر هضمها إلى الغاية.»
ويتنفس بسمارك الصُّعَداء بعد أن سُوِّيَت الأمور مع تِيار وفافِر. وبسمارك كان في الأيام الأخيرة القليلة يُعاني ألمًا عصبيًّا شديدًا فشُفيَ الآن، ويذهب بسمارك إلى رَدْهة ضُبَّاط الحرس ويُدَندن بنغَم الصائد، ويدعو بسمارك في المساء وزيرَ بافارية وبِلِيشْرُودِر إلى العشاء معه رمزًا إلى الوحدة والمالية، فلمَّا انصرفَا طلب ما تيسر من الموسيقى بعد طويلِ حرمانٍ، وكان نشيدُ هوهنفربرغ أولَ شيء رجا من كودل أن يُشنِّف الآذان به.
ويأتي تِيار بعد يوم للإمضاء، ويتحوَّلُ إلى مؤرخ رصين، ويَرمُق الغالبَ، ويقول: «نحن الذين صنعوا لكم وَحْدتكم مع ذلك.»
ويُصيب السهم هدفَه، وينظر بسمارك إلى ذلك العلَّامة الفرنسيِّ بدهاءٍ، ولا يقول له غير كلمة: «ربما».
وما يبدو في ألمانية من تقدُّم قومي مستندٍ إلى ما بين ألمانية وفرنسة من عداوة دوليَّة، بعد ضربٍ بالمدافعِ ونزاعٍ بالبراهين؛ فأمرٌ بادٍ لكلِّ ذي عينين، ولا يمكن أوفَرَ الفريقين المتحاربين حظًّا أن يُنكر هذا، وكان تيار — وهو أسنُّ من بسمارك كثيرًا — بارعًا أيضًا، ولم يُرِدْ بسمارك الألمانيُّ أن يكون فظًّا تجاه تيار الفرنسيِّ كما أنه لم يُرِدْ أن يفترضه هذا الفرنسيُّ ناقصَ البصيرة، وأقلُّ من هذا رغبةُ بسمارك في وضْع نفسه رهنًا بين يدي تيار باعترافٍ يستطيع تيارُ أن يُلوِّح به من فوق منبر مجلس النواب الفرنسيِّ فيما بعد كتاج فخرٍ جديدٍ غير منتظر.
ويُبصر بسمارك جميعَ هذا بأقلَّ من لمْح البصر، ويَزِنُ بسمارك هذا ويُقدِّره، فيعرف كيف يتخلَّص من المعضلة، فيُجيبُ عن ذلك بعبقريته قائلًا: «رُبما».
وقال الملك وِلْهِلْم الذي كان ضابطًا في الجيش قبل كلِّ شيء: «وما الذي يُغريني بمثل هذا اللقب الذي أكون به كمَن يَلهو لابسًا ثيابَ التنكُّر في حفلة رقْص؟» فلم يَسَعْ بسمارك إلا أن يُجيبَ عن هذا ماجنًا: «لا ترى — يا صاحب الجلالة — أن تَبقَى مجرَّدًا إلى الأبد، أيْ رئاسةً!»
وقال الملك المتواضع لابنه في عيد ميلاده: «إن أبغضَ شيءٍ إليَّ وأثقلَه عليَّ هو أمر اللقب، ولا يَسعُني إلا أن أذكر أنَّ توحيد ألمانية على مقياسٍ واسعٍ كان أهمَّ مقاصد صاحب الجلالة أخي الملك الراحل، ولا يَسعُني إلا أن أحمدَ الله على أنه رفَض ذلك التاج الورقيَّ عندما عُرِض عليه! … وعليَّ أن أرى، على الرغم من كلِّ شيء، وذلك ببصري البروسيِّ، تواريَ ذلك اللقب الذي كان شاهدًا على ما بُلغ من شأوٍ بعيد في ميدان المجد، أمام لقبٍ آخر ظلَّ خصمًا لبروسية مدة قرن … فالأقدار تأتمر بي.»
وكان شارلمان قد شعر منذ ألف سنة بمثل شعور وِلْهِلْم العتيد، وكان من المباغتة أن توَّجَه البابا مع رغبته عن التاج، فقال بعد ذلك: «لو كنت أعلم مقدَّمًا عَزْمَ البابا ما دخلت الكنيسة على الرغم من الاحتفال العظيم الذي أُقيم فيها.»
والواقعيُّ بسمارك قاوم مبدأَ «صنع إمبراطور» في البداءة، وبسمارك في شهر أكتوبر كلَّم وليَّ العهد عن روعة البلاط البروسيِّ القديم، ولكن بسمارك صار يتحمَّس للمبدأ الإمبراطوريِّ رويدًا رويدًا معترفًا بأن اللقب الإمبراطوريَّ عنصرٌ نافعٌ للوحدة والمركزية.
وكان معظمُ البيوت الألمانية يقول بإقامة إمبراطورية، شأنُ دوك بادن الأكبر، وشأنُ وليِّ العهد قبل كلِّ إنسان، وعن وليِّ العهد يقول فريتاغ الذي كان يصاحبُهُ في ذلك الحين صُحبةَ ودادٍ فيحادثه كثيرًا: «كان وليُّ العهد يرى تجهيزَه هو وزوجته بتاجٍ جديد وبسلاح جديد على جانبٍ عظيمٍ من الجدِّ، وأقصد بهذا أنه كان أولَ مبشِّر بالنظام الألمانيِّ الجديد، وأنه كان الباعثَ الرئيس على إقامته.» ووليُّ العهد فردريك هو الذي عَمِلَ عند افتتاح الرَّيشتاغ الأول على إدخال الكرسيِّ القديم الخاصِّ بتتويج أباطرة السكسون إلى الاحتفال الحديث، موجبًا بذلك عجَبَ النواب.
ويظفر بسمارك بالسائس الأكبر الكونت هُولِنْشتَايْن، وهل تَحبَط خططُ بسمارك بعد جُهده؛ لأن ملكًا يرغب عن التاج الإمبراطوريِّ، ولأن ملكًا آخرَ يرغب عن عَرْض التاج الإمبراطوريِّ؟ هو يكتب ثلاث رسائل تُعَدُّ من أروعِ ما خَطَّه يَراعُه «إذ ذاك وهناك على مائدة الطعام بعد أن نُظِّفت، وذلك على ورقٍ ليس أحسنَ من ورق النشَّاف إلا قليلًا».
ويُبيِّنُ بسمارك للرجل البسيط الملك لويس أنه لا يُسمَح لملك بروسية بأن يزاول نفوذًا في بافارية، وأن إمبراطور ألمانية ليس جارًا لبافارية، بل هو ابنٌ لها، وأن الملك لويس لا يَمنح امتيازًا لسوى إمبراطور ألمانية لا لملك بروسية، وإذا كان هذا البرهانُ غيرَ مُقنِع سُمِعَ لبسمارك ما هو أقوى منه، أفلا يمكن أن يكون هنالك نسبٌ بين ِآل فيتلسباخ وآلِ بسمارك؟ أجل! لمَّا يمضِ ثلاثُمائة سنةٍ على وجود هذا النسب! ويضَع بسمارك كتابًا ثانيًا في غِلاف ذلك الكتاب يَشكر فيه للملك «ذلك اللطفَ البالغ الذي عامل به آلُهُ البافاريون أجداديَ في أكثر من جيل حينما كان آلُهُ يملكون مارش برانْدبُرغ!»
وإليك إذن برهانًا ملكيًّا وبرهانًا بشريًّا! وإذا ما كتَب الملكُ لويس فماذا يكون جوابُهُ؟ إذا جاء اقتراحُهُ مخالفًا لما أشار به بسمارك وإذا أتى ما يَمَسُّ عصَب آل وِلْهِلْم ضاع كلُّ شيء ما انتظر ملكُ بروسية وسيلةً للرفض، وعند بسمارك أن وِلْهِلْم «ليس راغبًا عن إظهار أفضلية آله أمام الأُسَر المالكة الأخرى … وهو أكثر عنايةً بتوكيد نفوذ التاج البروسيِّ من الحمل على الاعتراف باللقب الإمبراطوريِّ».
وكان الجمعُ يَحتفلُ هنالك بعيد ميلاد إحدى الأميرات، ويتلقَّى أميرٌ بافاريٌّ «أمرًا، غيرَ مُحبَّب إليه طبعًا، بأن يُقدِّم الكتابَ إلى الملك قبل العشاء ببضع دقائق»، «وهل الكتابُ رسميٌّ؟ فعلى بسمارك أن يقرأه قبل سواه؛ لأن ذلك من أعمال منصبه»، وبعد العشاء يُسلِّم الملكُ وِلْهِلْم الكتابَ إلى بسمارك ويأمرُهُ بأن يقرأَه بصوتٍ عالٍ لنفسه ولفردريك، ويتلو بسمارك الكتاب الذي هو من إنشائه بجدٍّ، وماذا يكون قولُ المرسَل إليه؟ لم يرَ ولهلم أن يُداريَ شعور المرسِل الغائب، ولا غريبَ هنالك، فيَصرخ هذا الملك الشيخُ غاضبًا قائلًا: «أتاني هذا الكتاب في وقت غير ملائم!» ويَروي فردريك أن الملك «فقد صوابَه وخارت قواه مما احتواه هذا الكتاب».
ثمَّ يصرف وِلْهِلْم فردريك وبسمارك من غير أن يدور في خَلَده أمرُ المؤامرة، ويشعر وليُّ العهد في خارج الغرفة بنفاذ رغبته كما يلوح فيصافح بسمارك ويُسجِّل وقت المساء في يوميته قولَه: «اليوم تمَّ أمْرُ الإمبراطور والإمبراطورية بما لا يُنقَض، والآن انتهى الدورُ المرهوب الذي لم يكن فيه إمبراطورٌ، وفي هذا اللقب النبيل ضمانٌ كافٍ.»
ويُبدي الإمبراطور مقاومةً سلبيَّةً في البداءة، ولا يجرؤُ أحدٌ على مخاطبته في أمر التاج الجديد؛ لزهده فيه، ولكن كلَّ شيءٍ كان مُعَدًّا، والآن يمكن الأمةَ أن تقول: «آمين»، ويُمثَّل الفصل الثاني من المهزأة في الرَّيشتاغ، فيؤذَن إلى أحد النواب في السؤال عن إمتاع الشعب بعاهلٍ عالٍ، وهنالك «يقرأ دِلْبروك بصوت جهير رسالة ملك بافارية، فكأنه أخرج تاجَ ألمانية الإمبراطوريَّ الشقيَّ من جيب سرواله ملفوفًا بجريدة»، وعن هذا يقول بسمارك: «أَجَلْ، إن هذه الأغنية الإمبراطورية الصغيرة كانت تقتضي مديرًا أكثر براعةً وتمثيلًا أعظم تأثيرًا.»
ويُدْعَى ثلاثون نائبًا من الرَّيشتاغ إلى فِرْسَاي، لا لعَرْض التاج الإمبراطوري، بل لالتماس قبوله، ويُبدي اللَّنْدتاغُ البافاريُّ ميلًا إلى عدمِ الموافقة على المعاهدة، ويَصبُّ الملك وِلْهِلْم غَضَبَه على «الوفد الإمبراطوري» فلَمَّا وصَل هذا الوفد مساءً صرَّح الملكُ بأنه لا يقابلُه ما لم يُقدِّم جميعُ الأمراء إليه طلبًا رسميًّا خطيًّا، «وذلك خشيه أن يلوح أمر إقامة الإمبراطور والإمبراطورية صادرًا عن الرَّيشتاغ أكثر من صدوره عن الأمراء».
ويروي وليُّ العهد أن رجالًا من البلاط تساءلوا جهرًا: «لماذا جاء هؤلاء إلى هنا؟» ويكتب رئيس الشرطة في المقرِّ العامِّ ستِيبِر إلى زوجه قائلًا: «يبدو الفتور على حزب البلاط والحزب العسكريِّ، وأما أنا فإنني أُمَثِّل الشعب الألمانيَّ هنا.» وستِيبِرُ هذا إذ كان شيوعيًّا في غابر الأزمان حُقَّ له أن يُضيف إلى ذلك كلمةَ: «يا لها من أوقات عجيبة!»
ولم يبقَ لتمام الأمر غيرُ مقابلة ممثلي الرَّيشتاغ، ولكن الأمراء والقوَّاد لم يُقرِّروا الحضور إلا قبل الاحتفال بساعة واحدة، فيُصلَح المسرح بدائرة الشرطة في أثناء ذلك، ويقول وليُّ العهد متلهِّفًا: «إن من المؤسف ألَّا تُستعملَ المِرقاةُ المرمرية الرائعة في هذا النهار.» ويُلْقِي الفاضلُ سيمسون خطبة، ومن المحتمل أن يكون قد ذكَر ما نطَق به منذ إحدى وعشرين سنةً من كلمة أمام أخي وِلْهِلْم، الملكِ الراحل، حين عرَض ذلك التاج عليه فقوبل بالفرض فأثار هذا دهشتَه، ثمَّ تلا سِيمسُون طلبًا مشتملًا على القول: «إن ريشتاغ شمال ألمانية يلتمس — متفقًا مع أمراء ألمانية — أن تتفضل جلالتُكم فتبارك الوحدة الألمانية بقبول التاج الإمبراطوريِّ الألمانيِّ.»
وفي تلك الأيام — حين إقامة الإمبراطورية — يُقبَضُ على بِيبِل ولِيبْكنِخْت بتهمة الخيانة العُظمى، فهما قد جَهَرَا بانتقاد الدستور الجديد، وهما قد رَفَضَا الموافقة مع ستةٍ آخرين على قروض جديدة لحرب فتوح، وكان هدَف وَقْفِهما إبعادَ الزعماء الاشتراكيين من المعركة الانتخابية.
وكان على العاهل الشائب أن يمثِّلَ الفصلَ الثالثَ الذي هو أصعبُ الفصول؛ ففي اليوم الثامن عشر من يناير أصدر ناظرُ القصر الدعوةَ الآتية، وهي: «سيُحتفل بالتولية في ردهة المرايا من قصْر فِرساي وقت الظهر، وستُقامُ صلاةٌ فور الإعلان»، وتُكتب هذه الدعوة بلغة ألمانية سقيمة، ولا يُريدُ الملكُ أن يعترفَ بها، والملكُ قبل يومٍ رفض أن يكون «إمبراطورًا ألمانيًّا» مُصرِّحًا بأن من مقاصده أن يكون «إمبراطورَ ألمانية» أو لا يكونَ إمبراطورًا أبدًا.
ويحاول بسمارك عبثًا أن يُقنِع الملك بأن هذا ينطوي على ادِّعاء بالسيادة، ويَذكُر بسمارك له مثالَ الإمبراطور الروسيِّ الذي لا يُلقَّب بإمبراطور روسية، ويجادل الملك في هذا الزَّعم قائلًا: إن ذلك خطأ في الترجمة، ويُطلعه بسمارك على تاليرٍ لُقِّب فردريك فيه بالملك البروسي لا بملك بروسية، ثمَّ يرجع بسمارك إلى نصِّ كتابه الخاصِّ الذي نسخه ملكُ بافارية ليُرسله إلى ملك بروسية، ويتكلم عن الفرق بين الأباطرة والملوك والأمراء الناخبين والدوكات الأعظمين، ويُذكِّره بسمارك بالسرادق الذي اجتمع فيه ملكٌ بروسيٌّ بإمبراطور، ويستعدُّ بسمارك ليُثبت لولهلم — بأمثلة تاريخية مستفيضة — أن احتفال الغد لا يتضمن ارتقاءَ عرشٍ، ويزداد الملك الشيخُ غضبًا فيَصرُخ قائلًا: «لا أبالي بما كانت الأمور عليه في الماضي، ولي أن أقول: كيف يجب أن تكون عليه اليوم، وكان للأمراء الناخبين حقُّ التقدم على أمراء بروسية دومًا، ويكون الأمر كذلك فيما بعد!»
وفي سنة ١٨٤٨ رغِب وِلْهِلْم في الاعتزال؛ إنقاذًا لأخيه، وفي سنة ١٨٦٢ رغب ولهلم في الاعتزال؛ إنقاذًا لشرفه في النضال حول الجيش، والآن في سنة ١٨٧١ أراد الاعتزال للمرة الثالثة متنزِّلًا عن العرش «تاركًا كلَّ شيء لفريتز»؛ وذلك لأن جميعَ عواطفه مع بروسية، وذلك لأنه يرى ببصيرته ما يُخشَى من أُبَّهة اللقب الجديد.
لم أكُ لأُزعج نفسي بالتدابير الحربية، ولم أَكُ لأَعرف أين الرايات، وأراد هؤلاء السادة إجلاسي على عرشٍ فنَهَيت عن ذلك، وأردت أن أظلَّ في الاحتفال واقفًا بين الأمراء أمام الهيكل، ولكنني أبصرت رفْع أعلامي وراياتي فذهبت إليها بحكم الطبع لمَا يجب من وجودي بجانبها، وكانت هذه الأعلام والرايات من الكثرة ما عَسُرَ معه على الأمراء أن يجدوا مكانًا لهم فاضطُرُّوا إلى الوقوف تحتي، وهنالك جعلتُهم أوَّلَ الصاعدين. وممَّا سَرَّني أن جعلتُ خلفي راياتِ فرقة الحرس الأولى، وهي الفرقة التي التحقتُ بها عند انتسابي إلى الجيش، ورايةَ فرقتي الخاصة المؤلفة من رُماة القنابل، وراياتِ كتيبة الرُّدَفاء التي كنت قائدَها الأول لطويلِ زمن، وهكذا حالت الرايات دون الوقوف أمام الهيكل فأقبَلُ هنالك عهدي الجديدَ الثقيل، وكلُّ ما يؤسفني هو أن كانت رايات كتائب الحرس بأسْرها غيرَ موجودة في ذلك المكان!
وبعد أن دحَر الهيكلُ العرشَ، وبعد أن دحَرت الراياتُ الهيكلَ، وبعد أن دعا الإمبراطورُ الجديد أبناءَ عمِّه من ذوي التيجان ليقفوا على مستواه، وبعد أن فُصِل الإمبراطور الجديد عن أصحاب التيجان هؤلاء بالأعلام لم يرَ القسِّيس أن يتلوَ دعاءً مختصرًا كما كان قد أُمر، بل أتَى بوعظٍ حول لويس الرابع عشر وبخُطبة حول اليوم الثامن عشر من يناير فأغضب بسمارك بما ينمُّ عليه هذا اليوم من «الوثنية البروسية الأثرية» ثمَّ تقدَّمَ المستشارُ بسمارك وتلا البيان الذي بُدئ ﺑ «نحن وِلْهِلْم، ملك بروسية بنعمة الله، بعد أن دعَانَا أمراءُ ألمانية ومُدُنُها الحرَّة بالإجماع إلى تحديد مقام الإمبراطورية الذي غَدَا شاغرًا منذ أكثر من ستين سنة وأن نحملَ عِبْأَه، نُبلِّغكم أننا نَعُدُّ من الواجب علينا تجاه جميع الوطن أن نُلبِّيَ دعوةَ أمراء ألمانية الحلفاء ودعوةَ مُدُنها الحرة فنَقبل اللقبَ الألمانيَّ الإمبراطوريَّ.» وهذا البيانُ موجَّهٌ «إلى الشعب الألمانيِّ»، ولم يَعْدُ الشعبُ فيه حدَّ المستمع، ولم يكن شأن الشعب فيه غيرَ سلبيٍّ، ولم يُذكَر الرَّيشتاغ فيه قط، وهكذا يُذاع في أواخر القرن التاسع عشر بيانٌ رسميٌّ على العالم قائلٌ: إن أمراء ألمانية اختاروا إمبراطورًا كما كانوا يصنعون في القرون الوسطى.
«وبسمارك عندما نطَق بالكلمات الأُولى، كان صدرُهُ يلهثُ هياجًا، وكان شاحبَ اللون، وكانت أُذُناه خاليتَين من الدم فتبدوان شفَّافتَين، وبسمارك قد لفَظ بالجُمَل الأولى»، وهذه الكلمة هي من شهادة طبيب كان حاضرًا ذلك الاحتفال، ومن المحتمل أن كان المستشار بسمارك كثيرَ الهيجان بمجاوزته تلك الزاويةَ الخطرة، ووليُّ العهد مع ذلك يروي خلافَ ذلك فيقول إن بسمارك «بدا رجلَ جدٍّ فلم يَظهرْ عليه أثرٌ للحماسة ولا للكآبة.» ويقول فردريك مُعقِّبًا الهتاف الذي عَقَب البيانَ: «كانت تلك الساعة مُثيرةً إلى الغاية، وقد ركعتُ أمام الإمبراطور وقَبَّلْتُ يدَه فأنهضني وعانقني بوَجْدٍ عظيم، ولا أَقدر على وصْفِ حالي النفسية.» ووليُّ العهد يلاحظ مع ذلك ما كان لعمله من أثر فيقول: «حتى إن حملة الرايات أَبْدَوا وَجْدًا صادقًا.»
ويقابل بسمارك الإهانةَ رابطَ الجأش، ويكتفي بتسجيلها لعدم تأثيرها في العلاقات السياسية، ويقولُ بعد أيام قليلة: «عادت الصِّلات بيننا إلى ما كانت عليه بالتدريج.» ونداوم قليلًا على الكلام عن الملك حول ذلك اللقب الرفيع الذي ما فتئَ بسمارك يستعمله فنقولُ إن الملك رَضِيَ باللقب الإمبراطوريِّ الذي غُرِز فيه، ويَجِد الملكُ ما يُعزِّيه بدرجة الكفاية في الإساءة التي عامل بها بسمارك حينما نُوديَ به إمبراطورًا، ومِن عادة الملك إعادةُ الوثائق منتفعًا بالغلاف الذي يأخذُها فيه، ويُنجز الملكُ عملَه في ذلك المساء — كما في كلِّ يوم — ويقرأ الملكُ على الغلاف جملةَ «إلى صاحب الجلالة الإمبراطور، من مستشار الجامعة.» ويمحو الملك كلمة «الجامعة» ويضع كلمةَ «الإمبراطورية» في مكانها.
وهكذا تبدأُ الإمبراطوريةُ الألمانيةُ عملَها باحتراز واقتصاد وعدم فِخار.