الفصل التاسع
والفاصلةُ بين إطلاق المثاليِّ لناره وقذيفةِ الواقعيِّ على إخوانه من الألمان خمسة أسابيع، «والتعويض»، هذا ما صاحتْ به باريس حتى قبل أن يتحرَّك الجيش الألمانيُّ، ويخامر فؤادَ نابليون الثالثِ ندمٌ على سياسته تجاه حَمَلات تِيار العنيفة، ويمكن أنه ظلَّ مؤمنًا بالوعد الزائف الذي نقله الإيطاليُّ إليه من بسمارك، «ولو نِيط بي الأمر لوددت — على ما يحتمل — أن أخون بعض الخيانة وصولًا إلى غاية جميلة فأُقطِع فرنسة جزءًا من بلاد الرَّين ومن جنوب الموزيل ما دمتُ بروسيًّا أكثرَ من أن أكون ألمانيًّا، ولكن الملك لا يأذن لي في ذلك كما ترون»، وفي تلك الأسابيع يمزح بسمارك فيُشبِّه نفسَه بمروِّض الأُسود ويُشبِّه نابليون الثالثَ بالإنكليزي «الذي يقف أمام قفص الأُسود في كلِّ مساء منتظرًا بدمٍ باردٍ حِلَّ الوقت الذي تَفترس فيه هذه الوحوشُ مروِّضَها.»
وتَمضي سنتان أو ثلاثُ سنوات فيُدهَش الملك من كشْف تمَّ فيؤكِّد له بسمارك دِقَّتَه «حتى عند ظهور سياستي غيرَ ملائمةٍ لهم، والواقع أنني لا أستطيع أن أُحبِط سياسة نابليون إلا بإسماعي بِنيدِيتِّي والطلاينة استعدادي للابتعاد عن سبيل الفضيلة، وعكسُ هذا وضعي تجاه مولاي الرءوف الذي لا بدَّ له من كبير وقتٍ لإقناعه، وتعرفون — يا صاحب الجلالة — أنني لم أحاول صُنْعَ شيءٍ من ذلك، ولكن مما يفيدنا أن نحمل الفرنسيين على اعتقادهم محاولتي ذلك».
وفي تلك الأسابيع الأخيرة يحاول كلُّ إنسان أن يحمل الملك على الإعراض عن بسمارك، وتتراكم لدى الملك كتبُ التحذير من قِبَل أمناء سرِّه السابقين، ويتطرَّف بِتمان هولويغ، وهو الذي أبدى حفيدُه لحفيد الملك مثلَ نُصحه ذاتَ يوم قادم، فيجادل حتى في صدْق بروسية بسمارك، فيقول: «يتعذر كلُّ تفاهُم ما بقيَ هذا الرجل بجانب جلالتكم، وما ظلَّ موضعَ ثقة جلالتِكم، وما غدَتْ جميعُ الدول غيرَ واثقة بجلالتكم نتيجةً لأفعاله، أوشكتِ الساعة أن تدُقَّ، فإذا ما أُلقيَ بزهر النرد فات الوقت.» وما كان كاتب ذلك الكتاب ليعرفَ أن الساعةَ دقَّت، وما كان الملكُ ليعرفَ أنه منساق، والواقع أن النمسويين عندما دعَوا أعيانَ هُولْشتَاين في أول يونيو استطاع بسمارك أن يتَّهمَهم بأنهم نقضوا العهد وأن يُثير بذلك غضب الملك ولهلم! ويقول هذا الملكُ لأمير من أمراء الكنيسة أتى ليُحذِّرَه: «إن النمسة تتذرع دومًا بالغدر والكذب والخداع، ودعوتُ الله أن يُوفِّقَني لِما يُريد، ووضعتُ شرفَ بروسية نُصبَ عينيَّ، وسرتُ وفقَ ضميري!» والحقُّ أن هذا الملكَ الطيب يعتقد ما يقول، على حين يستلهم بِتمان هولويغ إله الألمان ذلك، فينتهي إلى أن الشرفَ الألمانيَّ لُوِّث، وعلى حين يستلهم رجالُ شواطئ الدانوب ذلك الإله بشعائرَ مختلفةٍ عن شعائر أولئك قليلًا داعين إياه أن يحفظ شَرَف آل هابسبرغ.
حتى إن بسمارك — الذي أعياه العمل — يستفتح الكتابَ المقدس فيقع بصرُه على المزمور التاسع حيث يقرأ: «أفرحُ وأبتهج بك، أُرنِّم لاسمِكَ أيها العليُّ، عند رجوع أعدائي إلى خلْفٍ يسقطون ويَهلكون من أمام وجهك؛ لأنك أقمتَ حقِّي ودعواي، جلستَ على الكرسيِّ قاضيًا عادلًا»، ولم تكن حَنَّة لتُدهَش من شعور زوجها بهذه الكلمات، ﺑ «سكينةٍ في فؤاده فيمتلئ أملًا».
حتى إن كودل الذي روَى ذلك لم يسأل في نفسه — كما يلوح — عن سَير مِنْسدورف في بَلْهوسبلاتز وعن سَير بوست فوق رصيف بروهلشن على ذلك المنهاج، فيفتحان تلك الصفحة من التوراة ويفسِّران تلك الكلمة بما يعتقدان به أن الله معهما.
ولم يلاحظ أحدٌ من أولئك أن ذلك النصرانيَّ الذي تقمَّصتْ فيه الفروسية والموت والشيطان كان — وقتما يَستلهِم الربَّ — يفاوض قائدًا مَجَريًّا في إمكان مقاتلة فرقة هنغارية لملك المجَر، وأن ذلك النصرانيَّ بسمارك أقنع مولاه الملك وِلْهِلْم بأن يستصوب هذه المؤامرة مع ثائري سنة ١٨٤٨.
وبينما كان الجيشُ البروسيُّ يستولى على بوهيمية كان بسمارك يُحرِّض التشِيكيِّين على الخيانة العظمى، ويُذيع بسمارك منشورًا يخاطب فيه: «أهلَ مملكة بوهيمية المجيدة» فيُوَكِّد لهؤلاء الأهالي أنه عند النصر «يكون الوقت من الملاءمة ما يُحقِّق فيه البوهيميون والمورافيُّون أمانِيَّهم القومية كما اتَّفق للمجر».
وينحاز معظمُ أمراء الألمان إلى النمسة في ذلك الحين، وتنفصل بروسية عن الجامعة الألمانية، ويُوَجَّه إنذار إلى أولياء الأمر في هِس وناسُّو وهانوفر وسكسونية أُعطُوا فيه مُهلة أربع وعشرين ساعة للتفكير، ويدعو بسمارك في تلك الأيام صِحافيًّا باريسيًّا إلى الغداء مع عدم معرفته إياه سابقًا، ويحادثُه مليًّا ويمازحُه ويناقشُه في مذكِّرات باريس، ويتخذ من الوضْع المُطمئن ما يُسرع معه الضيف إلى وَصْف ذلك في برقية يُرسلها إلى باريس في ذلك المساء، وفي ليلة الإنذار يتنزَّه بسمارك وسفير إنكلترة في حديقة وزارة الخارجية، ويتكلم بسمارك معه عن أتِّيلا فيلوح أنه اكتشفه في ذلك الوقت لألمانية، «والخلاصة أن أَتِّيلا كان رجلًا أعظمَ من مستر جون برايت في مجلس نوابكم!» ويَحِلُّ منتصفُ الليل، وينظر بسمارك إلى ساعته فيقول: «الآن تدخل كتائبُنا هانوفر وهِس، ويَدخل الكفاحُ دورًا جدِّيًّا، ويحتمل أن تُهزَم بروسية، فثِقوا بأننا سنُقاتل ببسالة، ولا أرجع إذا ما غُلِبنا فسأُقتل في آخر هجوم، ولا يموت الإنسان سوى مرة واحدة، والموتُ خيرٌ من الغَلَب.»
ولم ينشُد بسمارك حُظوة لدى الشعب، واليوم يمكن بسمارك أن يَزدريَها هادئًا، واليوم يبحث بسمارك عن أساس مكين لحلِّ النزاع، فيرى أن يُصار إلى انتخابات جديدة، وتمرُّ ثلاثةُ أيام على إطلاق هذه القذيفة فيدعو إليه اثنين من زعماء المعارضة، ويأتي الآن لزيارة عدوِّه بسمارك تويستِن الذي اتُّهم أمام القضاء بتحريض من بسمارك من أجل خُطبة في المجلس النيابيِّ، ونرى في عمل تويستِن هذا دليلًا على حِسِّ الطاعة لدى البروسيِّ عندما يحيق الخطر بالبلاد، وإن تُرك ينتظر عدَّة ساعات، ويَعرض بسمارك الوضعَ عليه ثم على أُونْرُوه الذي هو من الأحرار، ويُكلِّم أُونْرُوه في الحديقة في ليلة صيف باردة لِما ليس لدى بسمارك من ساعات فراغ في النهار، ويُشير أُونْرُوه إلى خُلوِّ البيان من أيِّ ذِكْرٍ للرجوع إلى حكومة دُستورية، وهنالك يَهيجُ بسمارك فيقول: «يظن الناس أنني قادر على كلِّ شيء! يواجهني من المصاعب ما لا يتصوره غيرُ القليل! لا أستطيعُ إقناعَ الملك بأن يصنع كلَّ شيءٍ أُحبُّه! قَبِلنا ذلك فقال الملك: إن البيان سيِّئٌ سوء الدستور! يمكن أن يُؤخَذ بعض كتائبي بعد الحرب إذن! لا أفعل ذلك!»
ويعدو ذلك حَدَّ الذريعة؛ وذلك لأن الصراحة الهائجة التي كلَّم بها بسمارك هذا الخصمَ وهذا اللاملكيَّ عن الملك؛ تدلُّ على ما يجب عليه أن يكافح به الملك.
وتدلُّ هذه الأجوبة التي نُطق بها كالبركان على اندفاع السبَّاح الذي كاد يغرق في الماء، والذي يُهِمُّ الآن هو الوصول إلى أقصى شاطئ، وفي هذا سِرُّ اقتضاب عباراته، ويُسلِّم الملكَ ثلاث مرات في نصف الساعة تلك، ويعلم بسمارك جيدًا أن أُونروه سيقصُّ ذلك على زملائه في الصباح، ويعرف بسمارك مصيره عند الهزيمة، وتنزُّلِ الملك عن العرش، فلما كلَّمه وليُّ العهد عن احتمال الانكسار جاوبه عن ذلك بصولة: «وماذا يُهمُّني شنقي إذا ما ربط الجلَّاد بالحبل عرشكم بألمانية الحديثة ربطًا وثيقًا؟»
ويَبقى بسمارك واقفًا بين القنابل المتساقطة، ويَضرَع بسمارك إلى القائد — على غير جدوى — أن يجعل الملك خارج خطِّ النار؛ فما كان جواب رون إلا قولَه إن الملك يمكنُه أن يذهب راكبًا حيث أراد، «والقادة إذ كانوا فريسةَ الخُرافة القائلة إنه لا ينبغي لهم — جنودًا — أن يذكروا للملك أمرَ الخطر، وإني لِما كان من عدِّي قائدًا، أرسلوني إليه، وقد تمرَّغتْ في الدم، وبالقرب منه، مُفرَزَةٌ مؤلفة من عشرة مُدرَّعين وخمسةَ عشرَ حِصانًا»، ويدفع حِصانه نحو الملك ويقول له: «إذا ما أصابتْكَ — يا صاحب الجلالة — قذيفةٌ هنا فسقطْتَ زال كلُّ سرور بالنصر، فأتوسَّل إليك أن تتفضل فتغادر ميدان القتال!» ويسيرُ الملك ببطوء نحو الشمال ويمرُّ من طريق قاطعة لأُخدودٍ، ويتوارى من بنادق العدو وراء سلسلة من الأكمات، وكان الملك في السبعين من عمره، ولم يحدث أن شاهد معركة منذ خمسين عامًا، ولا جرم أن بسمارك ساورتْه مشاعرُ مختلفةٌ حينما حرَّض الملك على الخروج من خطِّ الخطر، فمن الراجح أن يكون قد تمثَّل له تهيُّب الملك الراحل فردريك وِلْهِلْم، وأن يكون قد فكَّر في الرجل الذي يخلُفُ وِلْهِلْم إذا ما قُتل، وأن يكون قد فكَّر في الله أيضًا، وعن الملك وبعد المعركة كتَب يقول لزوجته هادئًا متجمِّلًا: «ولكنني أُفضِّل ذلك على أن أراه مُفرِطًا في الحذَر.»
وفيما كانت عزائمُ العدوِّ تنحلُّ ذهب بسمارك إلى مولْتكِه وسأله: «أتعرف طول المنديل الذي أمسكْنا طرَفَه؟»
مُولتكِه: «لا أعرف ذلك تمامًا، وإنما أمسكنا ثلاثةَ فيالق، ومن المحتمل أن يكون ذلك جميعَ جيش العدوِّ.»
ويُنال نصرٌ حاسم، ويُلخِّص ضابطٌ مرافق قضيةَ بسمارك تلخيصًا رائعًا بقوله: «إنك — يا صاحب الفخامة — رجلٌ عظيمٌ، فلو تأخَّر وليُّ العهد لكنتَ أكبرَ الفجرة!» ولم يَضِق صدرُ بسمارك بهذه الكلمة مع إحساسه، بل ضحك كثيرًا.