الفصل السابع عشر
«سأُكافِحُ ما بقيتْ عندي قوة!» هذا ما قاله المستشار البالغ من العمر اثنتين وسبعين سنةً مهدِّدًا الرَّيشتاغ الذي انتصب مقاومًا لإرادته.
استقرَّت السِّلمُ بينه وبين اثنين من أعدائه، وهو لم يسترضِ حزبَ الوسط إلا مقدارًا فمقدارًا، مستردًّا معظمَ تدابيره ضدَّ أعضاء هذا الحزب، خاتمًا النضالَ، منذرًا الرَّيشتاغ بلُطف حيث يقول: «إننا نضعُ أسلحتنا في مستودع الأسلحة، ولكن على ألَّا تكون بعيدةً منَّا.» وفي شتاء سنة ١٨٧٩، وللمرة الثانية يبدو فِينْدهُورْست في ردهة بسمارك البرلمانية فيُرحَّب به أجملُ ترحيب، ويكتب البابا الجديد إلى الإمبراطور وإلى بسمارك أيضًا، وبعد بضع سنين يجعل البابا لوثر العصريَّ من فُرسان يسوع؛ أي يُنعم عليه بالوسام الأكبر مع الصليب والشعار المالطي محتويًا ذلك كله كتاباتٍ لاتينيةً، ويتجهم بسمارك، وتقول صحيفة كِلادِّيراداتْش: «ذهب بوتكامر إلى رومة ليرجوَ من الحَبر الأعظم أن يؤثِّر في بسمارك وصولًا إلى قبول التهجية الجديدة.»
وما كان من مسالمة المحافظين فتدبيرٌ انتهازيٌّ على حدٍّ سويٍّ، وهو أمرٌ مرتبطٌ في مسالمة حزب الوسط، وكانت انتخاباتُ سنة ١٨٧٧ قد أسفرتْ عن فوز المحافظين وخُسران الأحرار الوطنيين، فساعدَ بسمارك على انفصال كُلٍّ من هذَين الحزبين عن الآخر، وأراد بسمارك أن يكتسب السياسيَّ المِطواع نسبيًّا بِنِّيغْسِن فيجعله وزيرًا، قاصدًا إفراد لاسكر العنيد، بيدَ أن بِنِّيغْسِن أبصرَ أنه لا يكون غيرَ آلة مسخَّرة لمقاصد بسمارك، فرأى ألا يجازف بمقامه فاشترط أن يشترك اثنان من أعضاء حزبه في الوزارة معه، ويُلغَى البرنامج لهذا الشرط، ويُعرِض بسمارك عن بِنِّيغْسِن ولا يريد أن يسمع عنه قولًا مع أنه ودَّ أن يكون زميلًا له في الوزارة، ويقولُ بسمارك: «لا أستطيع أن أصنع شيئًا مع بِنِّيغْسِن وميكويل اللذَين ينساقان مع الرأي العامِّ انسياقًا تامًّا، وهما ليسَا أفضل من أحد تلاميذ الصفِّ الرابع!»
إِنَّ حرية المبادلة مثالٌ عالٍ جديرٌ بهُيام الألمان الوهميِّ، وقد تُبلَغ هذه الحرية في المستقبل، وأهتدي بالعلم إلى حدٍّ كما في أمور الحياة الأخرى، ولم يَحُلَّ علمُ الطب هذه الألغاز، وتُطبَّق مثل هذه الملاحظة على شئون الدولة، وتجعلني مبادئ العلم المجردة فاترًا، وأحكُم في الأمور بتجربة الحياة اليومية، والآن أشعرُ بأننا جعلْنا تعريفَتنا منخفضة، فصِرْنا في حال نزيف، فيجب أن نطعِّم الجسم الألماني بدمٍ جديد.
ولا يزال بسمارك يستعمل كلمة «أشعُرُ» كما كان يفعل منذ خمس وعشرين سنة، وهو يعارض العلمَ بالتجربة، ويَعُدُّ كلَّ ما هو ذهنيٌّ أوهامًا، ويريد بسمارك في الحقيقة أن ينزع من الرَّيشتاغ حقَّ مراقبة الميزانية، واليوم يودُّ بسمارك — كما في الماضي — أن يجمع للدولة ما يمكن من المال بضريبة الدخل، فذلك كلُّه برنامجٌ محافظٌ!
وتقع الانتخابات بعد سنتين، ويُعطِي الناخبون جوابَهم، ويُنتخب ما يزيد على مائة من الأحرار، وينال حزبُ الوسط مائة كرسي، ويتعاهد الحزبان على معارضة كلِّ تغيير في السياسة الاقتصادية، وتكون الأكثريةُ ضدَّ المستشار! ويقول غوستاف فريتاغ في كتابٍ خاصٍّ دبَّجه يَرَاعه في ذلك الدور: «إن الانتخابات التي تمَّت هي عند بسمارك نفسه وعند الشعب وعند العالم الخارجيِّ دليلٌ على أن جبروته ليس مطلقًا على الرغم من سِمَته التي وسم بها الأمة والتي تسوق إلى نهاية، وقد خسر كثيرٌ من حِيَله تأثيرَه، والآن يدرك الشعب ماذا تنطوي عليه روحُه الروائيةُ من أسد وذئب وثعلب، وأخيرًا ومع الزمن أخذ الألمانُ يعرفون أن هذا الرجل الذي عزَوْا إليه كلَّ عظمة وصلاح على أسلوبهم لا يتَّصف بجميع صفات رجل القلب، لقد حلَّ وقتُ اعتزالِه، ولكنه عظيمٌ، جسيم، فهيم!»
تلك هي الحالُ التي كانت عليها النفوسُ حينما بدأ بسمارك يكافح معظمَ الأمة بعد تأسيس الرَّيخ بعشر سنين وبعد أول الصدام بعشرين عامًا، وصار على بسمارك في كلِّ مشروع جديد أن يكون صاحبًا لأكثرية جديدة، وصار بسمارك مضطرًّا إلى تحويل أسلوب المحالفات في المجلس كما يصنع في سياسته الخارجية، وصار بسمارك يصبُّ اللعنات على كلِّ معارضةٍ مهما كان نوعها، وصار بسمارك يَعُدُّ حزب الوسط والألزاسيين والبولونيين والاشتراكيين أعداءً للإمبراطورية!
والآن عندما يصعد هذا المكافح في المنبر يبدو مجدَّد الشباب، فيقول في سنة ١٨٨٠: «عشتُ وأحببتُ وجاهدتُ، فعُدتُ لا أشعر بنفور من الحياة الهادئة، والأمرُ الوحيد الذي يُمسكني في منصبي هو إرادة الإمبراطور الذي لا أقدِر على تركه بعد أن طعَن في السنِّ كثيرًا»، ويمضي عام فتكون نتيجةُ الانتخابات معاكسةً له فيقول: «سأموت مناضلًا إذا أراد الله، وقد أموت في هذا المكان إذا جاء أجلي، ويعدو الحصان الأصيل إلى أن يَهلِك، وكنت أفكر في الانزواء ذات حين، ومن المفيد أن أنبئكم بأنني عدلتُ عن كلِّ فكرٍ من هذا النوع، فأنا حيث أنا، وسأظلُّ حيث أنا! وإرادةُ الإمبراطور وحدها هي التي تستطيع أن تُنزلني من فوق السرج، والذي يقنعني بالبقاء حيث أنا حتى النهاية هو أن أتبيَّن أولئك الذين يُسَرُّون من اعتزالي، من أجل ذلك عزمت على خدمة بلادي إلى آخر رمقٍ من حياتي.»
وفي العام القادم يقول: «وما الذي يجعلُني أتمسك بمنصبي إن لم يكن إخلاصي له؟ ولا يحُفُّ بالمنصب كبيرُ لذة، وفي الأيام الأولى كنت أقوم بالواجب طائعًا مولَعًا آمِلًا، ولمَّا يُحقَّقْ معظم أمانيَّ، وقد كنت حَسَن الصحة، والآن أراني مريضًا، وقد كنت شابًّا، والآن أراني شائبًا، وما الذي يُمسكني هنا؟ وهل تظنُّون أنني أحبُّ الوقوف هنا كالبُوم بين الغِرْبان التي تأتي دومًا لتلطم هذا الطيرَ المسكين وتطعنه بمناقيرها من غير أن يتمكَّن من الدفاع عن نفسه تجاه الشتائم والإهانات التي تُوجَّه إليه؟ وإذا ما تفضَّل العاهل فأذِن لي في الانصراف سُرِرتُ بتوديعكم إلى الأبد أيها السادة!»
وفي انتخابات سنة ١٨٨١ ينال الاشتراكيون الديمقراطيون مقاعدَ على الرغم من القانون اللااشتراكيِّ، وفي زمن الوزير بوتكامر جُعلت كبريات المدن خاضعةً للأحكام العسكرية، وفي ليبسيغ يُحكم على زعماء الاشتراكيين بالسجن مع الأشغال الشاقة لنشرهم صُحُفًا ممنوعة، ويُنجَزُ الوعد بوضع اشتراع عن العمل مع ذلك، ويعقب قانونَ تعويض العمَّال الذي كان فاتحة لسلسة من القوانين الحامية للعمل، فوصفه أحدُ أنصار الحكومة بانْبِرْجِر بالوهميِّ، قانون التأمين ضدَّ المرض، ثمَّ قانون التقاعُد عن عجز أو شيبة لسنة ١٨٨٨. وتُعَدُّ هذه خُطًا نحو الاشتراكية الحكومية التي رسم بسمارك خطوطها قبل محادثته لاسَّال بزمن طويل.
وليست فكرةُ وضعِ قوانين لحماية العمال بروح نظامٍ اشتراكيٍّ حكوميٍّ من مبتكرات بسمارك؛ فقد سبقه إليها نابليون الثالث وغيرُه، وإنما كان بسمارك أولَ مَن نادى بها في الإمبراطورية الألمانية، وبسمارك هو القائل: «حَلَّ الوقت الذي نحقق فيه ما في رغائب الاشتراكيين من أقسام معقولة مقبولة في نظام الدولة الحالي.» وبسمارك نطَق بهذه الكلمة سنة ١٨٧١ في حديث مع وزير التجارة، وتمضي عشرُ سنين على ذلك فيقول المستشار لبوش متنبِّئًا: «يجب على الدولة أن تتبنَّى الأمر لسهولة جمعها المالَ الضروريَّ، ولا ينبغي للدولة أن تُمِدَّ العمال بهذا المال كصدقةٍ، بل تأديةً لحقِّ العمال في عَون الدولة عندما لا يقدرون — عن حسن نيَّة — على العمل. ولِمَ يُحصَر أمرُ منْح الرواتب فيمن يصبح عاجزًا عن العمل من الموظفين وجنود الجيش دون جنود العمل؟ سيُعمل بهذه الفكرة في غضون الزمن، ومن المحتمل أن تنهارَ سياستُنا ذات مرة، ولكن الاشتراكية ستشقُّ طريقها مع ذلك، وسيكون الحكم قبضةَ من يعتنقون هذه الأفكار.»
وهكذا يُبصِر بسمارك المستقبلَ عند هدوئه الفلسفيِّ، ولكن بسمارك إذا ما كشف عن حوافزه ظهر أنها لم تعْدُ حدَّ قديم خِططه وحساباته التي تبدو قاسيةً حينما يُبرزها كأُسسٍ «لنصرانيته العملية»، «ومَن يعلم أنه ينال راتبًا في مشيبه يكنْ راضيًا سهلَ الطاعة، فانظروا إلى الفرق بين خادمٍ عاديٍّ وخادم في المستشارية أو البلاط تجدوا هذا أكثر لطفًا وإطاعةً من ذلك لِما يعتمد عليه من راتب تقاعد، وليس من الغلاء في شيءٍ أن ينال المحرومون طيبَ العيشِ راتبَ تقاعُد مهما كثُرَ فيصبحوا راضين، وهذا توظيف رابحٌ حتى لنا، ما دمنا نجتنب به نشوبَ ثورة تبتلع مالًا أكثر من ذلك بدرجات»، وبسمارك بعد تلك القِحَة قال من فوق المنبر مجدَّدًا «حتى إن أفقر الناس له كرامة الإنسان …»
وبسمارك لسوء فهمِه معنى الحركة الاشتراكية تمامًا؛ لم يَكسب شيئًا بتدابيره الاشتراكية الحكومية، وتزيد الأصواتُ الحُمر حتى تُعَدَّ بالملايين، وفضلًا عن ذلك فإن القانونَ الاستثنائيَّ المضادَّ للاشتراكية كان يُجدَّد فيما بين الانتخابات من فترات، وذلك على حين كانت النماذج النصرانيةُ العملية المذكورة آنفًا تحتلُّ مكانها في مجموعة القوانين، وفي سنة ١٨٨٧ تُريد الحكومة وضْعَ نصٍّ قانونيٍّ قائلٍ بأن من يُحكَم عليه وفقَ ذلك القانون يُحرَم حقوقَه المدنية، فيرفض الرَّيشتاغ هذا الحرمان.
وفي أثناء تلك المنازعات الداخلية والمصادمات الخارجية يبلغ الإمبراطور وِلْهِلْم التسعينَ من سِنِيه، وتبدو خاتمتُه قريبةَ الوقوع، ويُحتفَل في شهر مارس سنة ١٨٨٧ بعيد ميلاده، فيسأل كلُّ إنسان: «وإلى متى؟ وماذا يحدث بعد ذلك؟» ويبدأ الملأُ بالقول همسًا إن وليَّ العهد مريضٌ وإن لم يسطِع الكلام في احتفال عيد الميلاد ذلك إلا بصوت أَبَحَّ، ويمضي شهران فيقول العالَم إن الذي يَخلُف الإمبراطورَ الشيخَ عاهلٌ شاب.
وتزيد دقَّاتُ قلب بسمارك، ويشعر بسمارك بأن حُكْم القدَر واقعٌ لا ريب فيه، وبأنه سيقع تبدُّلٌ لم يحدث مثلُه منذ ربيع سنة ١٨٦١ حين مات فردريك وِلْهِلْم، والآن تسأل أوروبة عن حوادث صحة الإمبراطور كلما خرَج للنزهة، ولا أحدَ يُجازف بتجديد حِلفٍ، ويحُفُّ بعمل المستشار الماهر طائفةٌ من الحذَر والخوف والوهم فيهُزُّه ذلك، ويسأل اللورد سالِسْبُري عن كون محاباة الأمير وِلْهِلْم لروسية ستجعل منه كارهًا لإنكلترة، ويُسَرُّ القيصر بإلقائه السمعَ إلى ابن خاله وِلْهِلْم على حين يُسِرُّ وِلْهِلْم هذا إليه بالعداوة لإنكلترة، ويبدو الوضعُ مضطربًا حينما زار القيصر إسكندر برلين في أواخر سنة ١٨٨٧، فيظهر إمكانُ اشتعال الحرب في الحين بعد الحين.
ويشير بسمارك إلى العاهل الشائب بما يجب أن يدور عليه حديثُه مع القيصر، فعلى وِلْهِلْم أن يُوضِح بأن الحرب القادمةَ تَفرُق بين الثورة والملكية، فإذا تمَّ النصر فيها لفرنسة دَنَتْ ألمانية من الثورة، فهل يريد القيصر وبلاد الروس هذا؟ وهل يهدف القيصر إلى تهديد ملوك أوروبة الشرقية بمحالفته فرنسة؟ إذا ما كُسِرت النمسة قامت على أنقاضها عدَّة جمهوريات، وظهرت في البلقان عدَّة جمهوريات أيضًا، فأسفرت هذه التغييرات عن خُسران روسية، وعلى العاهل أن يجتنب شَهْر الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ وذلك لأن الشعوب في أيامنا تَعُدُّ ملوكَها مسئولين عما تُصابُ به من هزيمة كما حدث في فرنسة بعد حرب سنة ١٨٧٠، حتى في ألمانية يزيد احتمالُ قيام نظامٍ جمهوريٍّ فيها عند الهزيمة، وهنالك يتفق فوضويُّو فرنسة واشتراكيُّو ألمانية وثوريُّو روسية، واليوم ليست الحروبُ حروبَ وزارات، وإنما الأمر هو رفعُ العَلَم الأحمر ضدَّ قُوَى القانون والنظام.
ويُكرِّر العاهلُ الشيخُ تلك العباراتِ عدَّة أيام ليحفظها على ظهر القلب، وقد صاغها بسمارك في قالَب ملائم لنفسية الإمبراطور وِلْهِلْم والقيصر إسكندر، ويُذعَر وِلْهِلْم بحُلْمٍ رآه في منامه؛ فقد أبصر القيصرَ واقفًا وحده في المحطة من غير أن يخفَّ أحدٌ إلى استقباله، ولم يفتأ وِلْهِلْم يروي حُلْمَه هذا لمَن يريد أن يسمع، ومهما يكن الأمر فقد اجتمع العاهلان اجتماعَ ودادٍ وتبادلَا عباراتِ صداقة، وسار على غرارهما وزراؤهما الذين أمضَوا معاهدةً.
ولا تتوارى دولةٌ كالنمسة، ولكننا إذا تركناها وشأنَها غَدَتْ غريبةً عنَّا ومدَّتْ يدها إلى عدو صديق عادت لا تعتمد على صداقته، وغايةُ القول هي أننا إذا أردنا ألا نبقى منعزلين وجَب علينا أن نجعل لأنفسنا صديقًا صادقًا … وإذا نظرتَ إلى عدد الجنود وجدتَ الآخرين قادرين على مباراتنا كميةً، ولكنهم لا يستطيعون منافستَنا كيفيةً، وإذا بحثتَ عن البسالة لم تَرَ فرقًا فيها بين الأمم المتمدنة؛ فالروس والفرنسيون يحاربون بشجاعة كما يحارب الألمان …
ولا أحدَ يفكِّر في استعمال جهازنا القوي الذي ينمو به الجيشُ الألمانيُّ لمقصدٍ هجوميٍّ، وإذا ظهرتُ اليوم أمامكم فقلت لكم بعد النظر إلى تغيُّر الأحوال: إننا مُهدَّدون تهديدًا جدِّيًّا من قِبَل فرنسة وروسية؛ كان ذلك على أساس كوننا سنُهاجَم، وإنني أعتقد كدِبْلُمِيٍّ — وأستند في رأيي إلى التقارير العسكرية — أن الخير لنا في الهجوم كتدبيرٍ دفاعيٍّ، وأن علينا أن نُنزِل الضربة حالًا؛ ولذا أطلب منكم اعتمادَ مليارٍ ونصف مليار، وإذا كنت قد خاطبتُكم بمثل ذلك أيها السادة فإنني لا أدري هل تحملون لي من الثقة الكافية ما توافقون به على رغائبي، ذلك ما لا آملُه! ولكنكم إذا فعلتُم ذلك لم أكتفِ بذلك.
وإذا أردنا في ألمانية أن نقوم بحرب بما لدينا من قُوًى قومية وجب أن تكون هذه الحربُ حربَ شعب … وقد يمكن القيامُ بحربٍ ليست وليدةَ مبادرة شعبية، وقد يمكن القيام بحرب يراها أولياء الأمور ضرورية فيُوضِحوا وجهَ لزومها، ولكنَّ حربًا كهذه تعوزُها الحماسةُ والصَّولة منذ البداءة، ولا جرمَ أن كلَّ جنديٍّ يعتقد أنه أفضل من العدوِّ، وهو لا يكون جنديًّا نافعًا ما لم يُرِد الحرب ويؤمن بالنصر، ونعتقد اعتقادًا جازمًا أن النصر سيكون حليف قضيتنا العادلة، وذلك كاعتقاد كلِّ ضابط يكون في معسكره بعد تناوُل قدحِه الثالث من رحيق الشنبانية، إن لم يَفُقْ وثوقُنا هذا …
وما يَصدر عن الصحافة الأجنبية من تهديد فحماقةٌ لا تُصدَّق، ويُعَدُّ كلُّ بلدٍ مسئولًا ذات يومٍ عن النوافذ التي تُحطِّمها صُحُفه، وستُقدَّم يومًا ما قائمةُ الحساب من قِبَل البلد المتبرِّم، ويَسهُل استهواؤنا بالمحبة وحسن الشعور، ولا يؤثر فينا بالوعيد، ونحن الألمان نخاف الله، ولا نخشى في العالم أحدًا سوى الله، وتقوى الله هي التي تدفعنا إلى نِشدان السِّلم وصِيانه.
وهو أقلُّ اكتراثًا لقرب موت ابنه مما لمصير بلده، وهو مضطربٌ حول تعليم حفيده، وكيف تُتَّخذ الخُطَا الضروريةُ في سبيل ذلك التعليم من غير أن تقضيَ على العليل؟ ويكتب العاهل الشيخ في عيد ميلاد سنة ١٨٨٧ آخرَ كتاب إلى بسمارك، وإلى هذا الكتاب يُضيف وثيقةً يرفع فيها هربرت بسمارك إلى مرتبة سفير، «قاصدًا أن تنقلوا إلى ابنكم هذه المسرَّة التي لا أضنُّ بها عليكم، والذي أرى أنَّ هذه البهجةَ مشتركةٌ بينكم وبين ابنكم وبيني … الشاكر لكم: وِلْهِلْم.»
ووقت الظهر ينعَى بسماركُ الإمبراطورَ إلى الرَّيشتاغ رسميًّا، وتخنقُه العَبراتُ غير مرةٍ في أثناء بيانه القصير، ومن قوله: «التمستُ من صاحب الجلالة أن يكتفيَ بالحروف الأولى من اسمه حين التوقيع، ولكنه أفاد أنه لا يزال من القوة ما يستطيع معه أن يُمضيَ باسمه الكامل؛ ولذا تَحمِل هذه الوثيقةُ التاريخية التي هي أمامي آخرَ إمضاءٍ له، ولا ينبغي لي في هذا المكان الرسميِّ أن أسترسل في بيان مشاعري الشخصية، ولا يُفيد هذا ما دام مثلُ الأحاسيس التي تواثبني حيًّا في قلب كلِّ ألمانيٍّ، وليس من النافع أن يُعرَب عنها إذن، ولا يخامرني ريبٌ في أن ما فيه من شجاعة بطلٍ وحسِّ شرفٍ وإخلاصِ عملٍ وصدقِ جهادٍ في سبيل الوطن سيظلُّ تراث أمتنا الذي لا يندرس.» وما كاد الخطيب يُتمُّ كلمته حتى غطَّى بيديه وجهَه.
ومن ثَمَّ ترى كيف أنجز بسمارك عمله الرسميَّ، وكيف ظلَّ وفيًّا لنفسه حتى في تلك الساعة، وكيف أنه لم يَسلكْ سبيل عرْض عواطفه مع عدم وَجَله من إظهارها، وكيف أنه كان حريصًا على اجتناب كلِّ انطلاق مع الحسرات رحمةً بنفسه ونفس سامعيه، وكيف أنه عرَض آخر توقيع لوِلْهِلْم كرمزٍ بدلًا من الكلام حول الإمبراطورية، وكيف أنه تفادَى من النطق بلفظ زائد فلم يَنعت العاهلَ الراحل بالعظيم ولا بالمنصور ولا بالحَذِر ولا بالحكيم، بل وصفَه بالشجاعة والإقدام والنشاط فقط؛ أي بما يَصدر عن رجل ناضج يرى إظهار ما يلائمُ قلبه المضطرب الأبيَّ في تلك الساعات.
وتشترك العاصمة والأمة الألمانية وأوروبة وجميع البلدان الأجنبية في تشييع العاهل، فلمَّا مرَّ الموكبُ من شارع أنتردن لندن (تحت الزيزفون)، وفي وسط الصمت، دوَّى صوتٌ ملخِّصٌ في كلمتين ساخرتين لسَير هذا الأمير المحيِّر، فقد صرَخ رجلٌ من بين الشجر بقوله: «يأتي لِهْمِن إلى هنا!» وباسم لِهْمِن المستعار كان الأميرُ وِلْهِلْم قد فرَّ إلى لندن منذ أربعين عامًا حين كان العصاة في مثل ذلك اليوم من شهر مارس، وحين كانت الرياح تَخفق فوق شجر الزيزفون ذلك، ينادون بسقوط الأمير الرامي بالرصاص! وفي تلك الأيام كان وليُّ العهد وِلْهِلْم مختبئًا في جزيرة الأطواس، ولم تُرِدْ زوجُه أن تدلَّ على مكان استتاره حتى الشريف الشُّونْهاوْزِني «بسمارك»، وفي ذلك الحين يُعرَفُ خبرَ هروب وِلْهِلْم، وتُعرَف قصةُ جواز سفره الزائف، فتُنظَم القصائد الساخرة حول لِهْمِن ويسير بها أهلُ برلين مغرِّدين، وقد قرأ بسماركُ هذه القصائدَ آنئذٍ — لا ريب.
ولا عجبَ إذا ما سمع بسمارك ذلك الصوت الصادر من بين الزيزفون، وفيمَ فكَّر حينما كان وراءَ النعش؟ وكان جالسًا في العربة بجانبه غريبًا عنه متلفِّفًا في فروته مولتكه الذي كان شيخًا في التسعين من عمره، وكان رون ميِّتًا، ومَن كان هنالك أداةَ وصلٍ بغابر الأزمان؟ لا أحد، فلا ترى من أولئك ضابطًا ولا وزيرًا، ولا نديمًا يستحقُّ الذكر، وكانت أوغوستا على قيدِ الحياة، ولكنها لَزِمَت بيتها لشيبتها، وما كنت تُبصِر من لابسي البِزَّات الرسمية سوى أناس من حديثي السنِّ، ولا سيَّما ذلك الحفيد الذي يبدو وحده خلف الجثمان رأسًا، وكان الإمبراطور الجديد مضطجعًا على سرير موته في القصر، وقد أصبح شهودُ بروسية القديمة من الهالكين.
وبسمارك آخرهم.