تذييل
بقلم د. عادل مصطفى
العربية في أزمة؛ يجفوها أهلها ويهجرها بنوها، ولا يكاد يتقنها سدنتها وأحبارها.
العربية على فراش المرض، تعاني من تضخم في القواعد والأصول، وفقرٍ في المصطلح، وعجزٍ عن مواكبة الجديد ومجاراة العصر.
الداء واضحٌ للعيان، ولم يعد بالإمكان إخفاؤه، فبئس الدواء إنكار المرض، وبئس الحل إنكار المشكلة.
وقد رأيت الناس في هذا الأمر واحدًا من اثنين: إما كاره للعربية بطبيعته ومستصعب بها وراغب في أن يسمع نعيها في أسرع وقت، وإما متزمِّت يريد أن يحنطها كما هي ويقف بها حيث وقف الأسلاف منذ أكثر من ألف عام، وفي الكتاب الذي بين يديك يخط الدكتور سليمان جبران طريقًا ثالثًا أكثر واقعيةً وحصافةً ونبلًا.
هذا الحزب الثاني، حزب الغلاة الغيورين المحافظين، ليس بعيدًا في مآله عن الأول: يوشك تنطُّعُهم القائم على أساسٍ مغلوطٍ ومصادراتٍ باطلة أن يترك مركب اللغة يغرق بحمله، وتوشك العربية في قبضتهم المتشنِّجة أن تموت اختناقًا.
ينسى المحافظون، هواة قُلْ ولا تَقُلْ، أن اللغة ليست كيانًا كلسيًّا نهائيًّا، إنما اللغة في سيولةٍ دائمة، وفي تحوِّلٍ دائب وإن كان بطيئًا لا يكاد يدرك إلا بمَرِّ العقود أو القرون. علوم اللغة كانت تقعيدًا للغة في لحظةٍ زمنيةٍ معينة، وفي لحظة أخرى ينبغي أن تكون هناك علومٌ أخرى.
(١) العربية لا هي عاجزة ولا معجزة
وجه الأمر أن كفاح الإنسان على الأرض بدأ منذ ملايين السنين، كما تدلنا علوم الأنثروبولوجيا والجيولوجيا، وأن اللغة ظاهرةٌ اجتماعية نشأت على رسلها كنتيجةٍ حتميةٍ للحياة في جماعةٍ أفرادها يجدون أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ وسيلةٍ للتواصل والتعبير وتبادل الأفكار والخواطر، اللغة ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تظهر بظهور المجتمع وتتأثر بعاداته وتقاليده وطرائق سلوكه وتفكيره، وتخضع لسنن التطور الذي يخضع لها المجتمع، فترتقي بارتقائه وتنحط بانحطاطه.
(٢) الترادف، غنًى أم ثرثرة؟
في مقالة «الترادف: غنًى أم ثرثرة؟» تجد تحليلًا عميقًا لنشأة الترادف في اللغة العربية واتساع مداه، ونقدًا سديدًا لأثره وجدواه، وأود أن أفيض بعض الشيء فيما أشار إليه المؤلف باقتضاب وهو يعرض لأسباب نشأة الترادف المفرط في اللغة العربية، أفيض في ذلك لا لشيء إلا لأنه يلقي الضوء أيضًا على نشأة العربية الفصحى بصفة عامة: إن من أسباب الترادف عملية جمع المادة اللغوية على أيدي قدماء النحاة.
(٣) تصحيح الصحيح
يوشك هواة قل ولا تقل أن يغادروا الناس وهي لا تقول ولا تقول.
في فصل «تصحيح الصحيح» يعرض المؤلف لصنيع المحافظين هواة «قل ولا تقل»، الذين يؤذون العربية من حيث يريدون أن يصلحوها، يتكلف هؤلاء تَسقُّط الأخطاء ويجعلون منه حرفةً تذكرنا بتصيد الساحرات في القرون الوسطى، يتناسى هؤلاء ظاهرة التطور اللغوي والتحول الدلالي، ويعرضون الاستخدام الجديد على المحك القديم — المحك الخطأ، فاللغة هي، ببساطة، ما يقوله الناس، وما يقوله الناس يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وتبدل الأحوال والأوضاع.
حين يشيع خطأٌ لغوي شيوعًا تامًّا، وتختلف عليه حقبٌ وعقود، يتحول عنصره وتتبدل صفته، ويغدو قاعدةً «بوضع اليد»، لها علينا كل ما للقاعدة من حقوق، على أن باطن الأمر أعمق من ذلك: فما كان لهذا الخطأ أن يشيع كل الشيوع وينتشر كل الانتشار ويلقى كل القبول لو لم يكن يقدم للغة خدمة ما، ويفي للفكر بحاجةٍ ما، ويملأ فراغًا اتصاليًّا كان شاغرًا قبله، ومن الخسران أن نضحي به ونفقد خدماته بدعوى الأخطاء الشائعة وحجة قل ولا تقل.
يقول لك الزِّمِّيت لا تقل «هام» وقل «مهم»، أو لو كانت «مهم» ثقيلة الظل بل مضحكةً في بعض السياقات؟ ثم تُحقِّق في الأمر علميًّا فتجد أن لا خطأ هناك ولا خطية: فهناك فعلان «همَّ» و«أهمَّ» والاثنان بمعنى أحزن وأقلق، فتكون «هامٌّ» و«مهمٌّ» (اسما الفاعل) كلتاهما صحيحة.
(٤) على هامش التجديد والتقييد
في هذا الفصل الذي يعد الفصل الرئيسي في الكتاب يقدم المؤلف خطراتٍ ثاقبةً وتطبيقاتٍ حيةً لأفكاره النظرية، ونماذج لما يجب أن يكون عليه العمل العلمي اللغوي كحارسٍ للمسار وضابطٍ لإيقاع التحول، وعاصمٍ للغة من الجمود والتحجر، ومن التنكس أيضًا والتحلل والميوعة، أنت هنا بإزاء لغويٍّ خبير، باقعةٍ حجة، محنَّكٍ مجرب، عرك اللغة وسبر أغوارها وأفنى في درسها وتدريسها زهرة العمر، يرفدك بتحليلاتٍ موضوعيةٍ عميقة، وتخريجاتٍ أمينةٍ سديدة، بعيدةٍ عن خواطر الهواة الذين يتجرءون على اللغة ولم يمتلكوا أدواتها، فتفضحهم عجمتهم وترد عليهم ركاكتهم ذاتها وتكفي خصومهم الرد، وتجرح كل ما قيل منهم وكل ما سيقال. أنت، باختصار، أمام حَكمٍ من بيت اللغة، وشاهدٍ من أهلها.
(٥) دفاع عن اللغة العامية (المحكية)
لعله أهم مقالات الكتاب، أو المقال المفتاح؛ لأنه يفتح لنا الطريق إلى الإصلاح اللغوي الواقعي، مؤلمٌ هو في قراءته، لأنه يفتح جرحًا أيضًا، بل خراجًا لا مفر من فتحه قبل أن نتحدث عن أي إصلاح لغوي حقيقي.
نحن شعبٌ معطوبٌ لغويًّا قبل أي عطب آخر، فالطبيعي في كل المجتمعات الناطقة أن تكون الفصحى والعامية امتدادًا ومتصلًا واحدًا فردًا، يتدرج من اللغة اليومية البسيطة إلى اللغة الرسمية المركبة تدرُّجًا سلسًا لا خلجان فيه ولا صدوع ولا فجوات، بحيث إن الطفل ليدرس في معهده تلك اللغة نفسها التي يتحدث بها في الطريق، ويقرأ ويكتب باللغة نفسها التي يدهش بها ويضحك، ويحلم بها ويحب، أما نحن فذِهْننا منفصمٌ مشطورٌ بين لغتين بينهما قطيعةٌ تاريخيةٌ وثأرٌ قديم، إن بين عاميتنا وفصحانا هوةً فاغرة، بحيث يصح أنهما لغتان منفصلتان، وأننا في واقع الحال شعب «ثنائي اللغة»، غير أنها ثنائيةٌ هوليةٌ شائهة: عاميتها هي المركبة المتطورة الحية الجريئة، وفصحاها هي الهزيلة الضامرة الذابلة المنطوية، وهي بهذا الوضع المقلوب ثنائية إفقارٍ لا إثراء، ربما لذلك لا نبدع ولا نضيف، ولا نعرف لذة العمق وعزاءه، ربما لذلك نبغض لغتنا ونضحك منها، ونطرب لكل أعجمي ألْكن، وننبطح لكي أجنبي أشقر، ونوشك أن نكفر بلغتنا ونعتنق لغة غيرنا ونكبرها ونتنفج بها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، هذا هو العطب الصميم، ولا أحسبنا تقوم لنا قائمة ما لم نقتحم هذه المشكلة ونرَ فيها رأيًا.
(٦) وصفة للإصلاح اللغوي
قلت: إنَّ مقال «دفاع عن اللُّغة المحكية» يفتح لنا طريق الإصلاح اللغوي الواقعي، فليأذن لي الدكتور سليمان أن أنطلق من مقاله إلى ما أظنه الإصلاح الحقيقي الحصيف. تتلخص وصفتي في كلمة واحدة: «الاستعمال»، فإن استزدتَني قلت «والاستعمال»، فما الخطب؟
سنسلِّم، مرحليًّا، بثنائية اللغة، وعلينا أثناء سيرنا على درب العربية الجديدة أن نطاوع الضغطين: الخارجي (ضغط اللغة الأجنبية — الإنجليزية بخاصة)، والداخلي (ضغط اللغة المحكية — العامية)، أن نهادن، مرحليًّا، ونعترف بسلطان هاتين اللغتين ونتعامل معهما بودٍّ، ونسترفدهما بحيث تقترب لغتنا العربية من الثنتين وتفيد من مزاياهما، تأخذ عنهما وتستوعب وتتمثل، ثم تحيل إلى كيانها وبنيتها، مثلما فعلت على مر العصور السابقة على سيبويه والخليل. علينا أن نُقرِّب الفصحى من المحكية (في الصحافة والإذاعة والفضائيات كالجزيرة، والإنترنت، وبقية الوسائط)، وأن نقرب المحكية من الفصحى، كما يحدث تلقائيًّا مع انتشار التعليم والثقافة، وكما يحدث حين نشجع الأدب المحكي الذي يماس الفصحى ولا يكاد يختلف عنها اختلافًا نوعيًّا (مثل أغنيات أحمد رامي في السابق، وأشعار ماجد يوسف في الحاضر).
شيئًا فشيئًا ستنمو الفصحى وتنتعش، ولا تزال تذوب العامية في بطن الفصحى الجديدة حتى تتقلص الفجوة الفاصلة بينهما وتصبح الفصحى الجديدة لغةً محكية لا تفارق اللسان، تصبح «لغة حية».
(٧) هل العربية لغة صعبة؟
لعل السؤال الصحيح في هذا المقام هو: هل هي صعوبة مجانية؟ صعوبةٌ بلا مقابل؟! الحق أنها إن كانت صعبةً فإنما هي الصعوبة الناشئة عن الثراء كما يقول د. مفيد أبو مراد، «والواقع أن العربية غنية جدًّا بفضل مؤهلاتٍ للغنى اللامحدود، أشهرها أربعة:
الكاتب بالعربية كالعازف على البيانو: لديه أكثر من اعتبارٍ يراعيه في الوقت الواحد وأكثر من إصبعٍ ينقرها في ذات اللحظة! إنه لأمرٌ عسيرٌ وخطةٌ صعبة، ولكنها صعوبة الثراء، صعوبة الجمال.
وحركات الكتابة صعوبة بلا ريب، ولكنا نعلم أنه بالنسبة للقارئ المتمرس لا لزوم للتحريك في أغلب الكلام، وأما لغير المتمرس فإن تقنيات الطباعة الحديثة قد حلت هذه المشكلة المزمنة من حيث لا نحتسب. العربية لغةٌ تكتب على ثلاثة أسطر، وتقرأ مثلما تكتب (بمراعاة قواعد بسيطة) بدقةٍ تامة وكمالٍ عجيب.
-
غياب خاصية اللصق الأفقي (التركيب أو إدخال الضمائم — البادئة واللاحقة أو البوادئ واللواحق)، وهي خاصية مهمة في لغة العلم والفكر.
-
عدم وجود كلمة تربط المضاف بالمضاف إليه، الأمر الذي يورث لبسًا.
-
عدم السماح بأكثر من مضافٍ للمضاف إليه الواحد،١٨ وهو عثرةٌ بلا ضرورة.
-
تعذر النسبة إلى التسميات المركبة الطويلة …
إلى غير ذلك من العيوب وأوجه القصور التي ينبغي أن نتناولها بالإصلاح والتعديل، ونجعل منها مادةً للتجديد اللغوي ومضمارًا للسعي الإصلاحي الحثيث، والتي يعرض هذا الكتاب لنماذج طليعيةٍ مهمةٍ منها.
لا أتوقع ولا أنتظر أن يلبي شيوخنا المحافظون نداء التجديد، ومن يدري لعل وجود حزبهم الغيور المحافظ أن يخدم مسيرة التجديد ويعصمها من الميل والشطط!
٧ / ٤ / ٢٠٠٩
-
«التوسع» Extension أي اتساع معنى الكلمة وامتدادها لتشمل ما لم تكن تشمله في الماضي، من ذلك أن كلمة Virtue (الفضيلة) كانت في اللاتينية صفة ذكورية، فاتسع معناها الآن لتشمل كلا الجنسين.
-
«التضييق» Narrowing أي تقلص نطاق المعنى واقتصاره على شيء بعينه من بين أشياء كان يشملها في الماضي. من ذلك أن كلمة Mete في الإنجليزية القديمة كانت تشير إلى الطعام أو الغذاء بصفة عامة، وقد ضاق معناها الآن ليخص صنفًا واحدًا فقط من الطعام.
-
«التحول» Shift أي انتقال الكلمة من مجموعة من الأحوال إلى أخرى، من ذلك أن كلمتي «ملاحة» و«ميناء»، كانتا مقصورتين في الماضي على مجال السفن أو المجال البحري والنهري، وقد انتقلتا الآن إلى المجال الجوي، بل والبري.
-
«الاستعمال المجازي» Figurative Use وهو تحول في المعنى قائم على مماثلة أو تشابه بين الأشياء، من ذلك أن كلمة Crane (كركي)، وهو طائر طويل العنق، تستعمل الآن لتعني الرافعة أيضًا.
-
«الانحدار الدلالي» أو «الانحطاط الدلالي» Semantic Deterioration («الزراية» Pejoration) وهو تغيرٌ يلحق بمعنى اللفظة فيكسبها دلالةً سلبية، مثال ذلك ما حدث لكلمة Notorious التي كانت في الأصل تعني «مشهور» ثم انحدرت دلالتها وصارت تعني «مُشَهَّر، أي مشهور بشيءٍ قبيح».
-
وتقابل الانحدار الدلالي ظاهرة «التحسن (الدلالي)» أو «الارتقاء (الدلالي)» Amelioration حيث تكتسب اللفظة دلالةً إيجابية أو يزايلها ما كان لها في الأصل من دلالة سلبية، مثال ذلك كلمة Minister (وزير) فقد كانت قديمًا تعني «خادم» (ولا تزال تستعمل كفعلٍ بمعنى يسعف أو يعين أو يقدم خدمة)، وكذلك كلمة Nice (لطيف) فقد كانت قديمًا تعني «غبي أو أحمق». وهناك أمثلةٌ أخرى كثيرة يخطئها الحصر، ومن الأمثلة الحية الطريفة ما حدث لكلمة «الزمالك» كاسمٍ لأرقى أحياء القاهرة وهي في الأصل جمع «الزملك» أي العشة الحقيرة! (تحسن، ارتقاء)، وفي المقابل ما حدث لكلمة «بولاق» كاسمٍ لحيٍّ شعبي متواضع بالقاهرة فهي في الأصل تعبيرٌ فرنسي يعني «البحيرة الجميلة» (انحدار، زراية).